الفصل الرابع عشر
لبثت سيدة في مكانها بعد خروج أخيها وبالها مضطرب وفي النفس انقباض، وقد حارت من معاكسة الزمان لها، فاستدعت الخادم وقالت: إن جاء أحد يسأل عني فأخبره أني غائبة، ولا تُدخل عليَّ غير ابني فؤاد، وقد صادف أن ابنها فؤادًا غاب تلك الليلة، فلم يحضر في ميعاده فزاد قلقها، وجعلت ترجم الظنون، واستولت عليها الأفكار واضطراب البال حتى قرعت الساعة إحدى عشرة، فجاء الخادم بخبر قدوم فؤاد، فسكن اضطرابها قليلًا، فلما دخل عليها بادرته بالعتاب قائلة: لماذا تأخرت يا ولدي عن ميعادك؟ فقد أقلقت بالي وكدرت راحتي، أخبرني أين كنت؟ وماذا عملت؟
قال: ذهبت مع بعض الخلان إلى النزهة، فلم يُمكنِّي مفارقتهم.
قالت: من علَّمك الكذب يا فؤاد، وأنت تُخفي عني الحقيقة، وتقص عليَّ القصص الملفقة، وهذه أول مرَّة سمعتك تنطق بالكذب، فوالله إني لأفضل لنفسي الموت من أن أراك متخلقًا بهذه الأطوار، ولا شيء عندي مثل الكذب يشين صاحبه، ويضع من مقداره، ويجعله سخرية بين الناس، فوصيتي إليك يا ولدي العزيز أن تجتنبه، وبعد فإني قابلت خالك همامًا، فقص عليَّ قصتك تمامًا، ولم يكتم عني شيئًا.
قال فؤاد: إن خالي لا يعلم قصتي، فإن شئت رويت لك الحقيقة.
قالت: ما أجدني في حاجة إلى قصتك، وقد عرفت كل شيء والفضل لخالك بأنه أخبرني عمَّا وقع لك، فقد خدمك خدمة تُذكر، يجب عليك شكرها مدى الدوام.
قال: أشكره معروفه حين أعرفه.
قالت: أخبرني عنك بأنك قد اتَّخذت صاحبة.
قال: لا أعلم المعنى الذي يقصده بالمصاحبة، فإن كانت المرافقة البسيطة والمحبة الخالصة المنزهة عن الشوائب والعيب فقد أصاب وله المنة والفضل، وإن كان العكس فالرواية مختلفة والملام باطل وبعيد عن الحق. نعم، إن الفتاة مالكة قلبي ومستولية على عقلي وروحي، وكان في عزيمتي أن أخبرك عنها، وحاولت مرارًا كثيرة أن أتكلم، فكنت أفتح فمي فيقف الكلام عند شفتيَّ، فأطبقه مخافة أن أكدرك، وأمَّا الآن وقد علمت ببعض الشيء، فلا مانع من أن أعترف لك بالحقيقة تمامًا. ثم إن فؤادًا جعل يقص على والدته قصته من البداية إلى النهاية؛ أي من وقت معرفة عفيفة إلى انتهاء المشاجرة التي وقعت بينه وبين خليل في القرافة.
وكانت أمه تسمع حديثه منزعجة، وأفكارها تشتغل في استنباط الحيل للتفريق بينه وبين محبوبته، وفي نفسها الأمل بنجاح تدبيرها، فقالت له: أثَّر عليَّ يا فؤاد حديثك جدًّا، وأرى قصتك غريبة للغاية، ولا شك أن خالك لم يصب في قوله، وقد توهم على غير صحة أنك ترافق امرأةً فاسدة الأخلاق من بنات الهوى، فساءني الأمر كثيرًا، أمَّا الآن وقد علمت الحقيقة، وأيقنت أن رفيقتك مهذبة حسنة الأخلاق جيدة التربية، فقد انشرح صدري وزال كدري.
فابتهج قلب فؤاد من كلام والدته، فجعل يشكرها ويُثني عليها، ويتأسف كيف لم يُخبرها بقصته قبل الآن، وكان كلما ذكر اسم عفيفة يُطنب في الوصف والمديح.
فقالت له سيدة: صفها بما شئت، فقل: إنها جديرة بالكمالات الإنسانية، وإنها ملك كريم، ولكنها أحلَّت نفسها محل الظنون، فكيف تنفي الريبة عنها إن رجمها الناس بالظنون؟! فقد يصعب عليهم التصديق مثلًا بأن شابًّا في سنِّك يرافق فتاة بلغت الثامنة عشرة من العمر، يصرف معها الأوقات الطويلة، وهو ملتزم جانب الأدب والطهارة، فإن كنت مخلصًا لها يقينًا، ويهمك حفظ شرفها وصون عرضها من اللوم، فعليك أن تُخرجها من محل الريبة.
قال: يعلم الله أنها عندي بمعزة الروح أحافظ على شرفها محافظتي على شرفي، فأرجوك يا أماه أن تعاونيني في الأمر الذي تستحسنينه.
قالت: اجعلني ولية عليها، آخذها في ضمانتي وحمايتي؛ فتنقطع الألسن عن اللوم، وتسقط الحبيبة في أعينهم.
فلما سمع فؤاد هذا القول أشرق وجهه فقال لأمه: جزاك الله خيرًا، فهذا ما كنت أريد أن أطلبه منك، قد قلدتيني نعمة أحفظها ما بقيت حيًّا.
قالت: إن ما ذكرت لهذه الفتاة من المناقب الجليلة والمزايا الجميلة أمال قلبي إليها قبل رؤيتها، فعليك أن تحضرها إليَّ غدًا أجعلها كابنتي في بيتي، أكرم مثواها وأرفع منزلتها، وهكذا يسلم عرضها من اللوم، ويُحفظ شرفك بين الناس من الأذى، ثم نهضت إلى حجرتها، وهي تؤكد عليه بإحضار الفتاة في الغد.
فانفصل عنها فؤاد مُقِّبلًا يديها شاكرًا لطفها بقوله: جعلتِني أماه غريق بحر أفضالك، فأنت قدوة الأمهات الصالحات، ومنك يتعلمن الرقة والحنان، فلك العهد عليَّ باتباع شورك وامتثال نصيحتك والسعي في مرضاتك، وأرى تمام سعادتي بسماعك تقولين لي: هنَّاك الله بعفيفة، وتكونين قد أحببتها ورضيتها لي زوجة.
فدخلت سيدة إلى حجرتها، واتكأت على مقعد شاخصة إلى العُلا، وتنفست الصعداء وقالت مستغفرة: اللهم عفوًا عمَّا أتيت في هذا اليوم من المنكر، فقد كذبت على فؤاد وخدعته بقولي: إني راضية عن عفيفة، وإني أحبها وأشتاق رؤياها، والأمر بالعكس، والغاية أني أريد أن أُفرِّق بينهما، ولكنه لسلامة قلبه وصفاء نيته انخدع لقولي، واعتقد بخلوص طويتي، فأنت أيها العالم بخفايا القلوب اغفر لي خطيئتي، وتجاوز عمَّا اقترفت، فقد قيل: إن نُبل الغاية يُبرر الوسيلة، وغايتي حميدة ألا وهي سعادة ولدي بزواجه بسعدى الفتاة الغنية وبُعده عن عفيفة، لأبعد عنه الشقاوة والتعاسة، ثم أنشدت هذين البيتين قائلة: