الفصل الخامس عشر
انطلق في ثاني يوم همام إلى الفندق الشرقي في أول النهار، فسأل مستفهمًا عن غانم، فأُجيب أنه قدم من السفر، وأنه على أهبة الخروج، فجعل همام يتمشى على الرصيف حتى خرج، فصافحه وسلَّم عليه سلام الأحباء المشتاقين، ثم سأل غانم همامًا عن ابنه سعيد، فأجابه همام: إنه في صحة جيدة، ويزورني من حين إلى حين.
قال غانم: ما أكتمك الحقيقة، فهذا الولد قد أتعب سري وحمَّلني النكد، فلا شك أنه إذا استمر على سلوكه المذموم قصَّر أجلي وأماتني كمدًا وغمًّا، فقد بدَّد ثروته، وفي نفسه أن يُبدِّد ثروتي، فوالله لن أترك له قرشًا واحدًا من أموالي يتمتع به بعد مماتي.
قال همام: للشباب حقوق يستوفيها، ويجب على الوالد أن يكون واسع الأناة بصيرًا حكيمًا في تربية الأبناء، فلا يصح حرمانه إياهم من ميراثهم لمخالفتهم رأيه وطريقته.
قال غانم: إن سعيدًا أسرف إلى درجة لم يسبقه إليها سابق، فلست أرجو الخير منه، ولذلك صممت على حرمانه من الميراث، وأن أجعل جميع الأملاك والأرزاق لسعدى ابنتي، بحيث تبلغ ثروتها مبلغًا جسيمًا فتتزوج برجل حسيب شريف عظيم المقام، والخاطبون كثيرون يهتمون رضاها والزواج بها.
قال همام: كيف صحتها؟
قال غانم: اعتراها من بضعة شهور داء الجُدري، فشُفيت منه بعناية الله، غير أنه تخلف في وجهها تجاويف سوداء بقدر حبة العدس، فترى وجهها أحمر اللون.
قال همام: إن احمرار اللون لا شيء يُذكر، والحمد لله على سلامتها، إن السلامة غنيمة.
قال غانم: على أنَّ سعدى ابنتي الوحيدة، فتراها دائمًا مكدَّرة، وقلت لها: إن آثار الجُدري لا تمنع الراغبين على التماس الزواج بها، ولا سيما حين يعلمون أن لها خالة في بلاد الشام تُوفيت فخلَّفت لها ثروة وافرة، فضلًا عن ثروتها الموروثة عن أمها.
قال همام: وهل أحضرتها معك؟
قال غانم: أحضرتها وجعلتها في الدير عند الراهبات لتستأنس بهن، وقد أشفقت أن أجعلها معي في الفندق فتضجر وتسأم الوحدة، ولا سيما أني مضطرب الفكر في دعوى لي في المحاكم، أتت عليها سنوات كثيرة فما انتهت، وقد كابدت التعب الكثير فيها حتى أصبحت ألوم نفسي على أني أقمتها، وتناجيت بأن أتنازل عن حقي، وأُبرِّئ ذمة خصمي من الدَّيْن المعقود لي، ورأيت ذلك خيرًا من شكايته إلى المحاكم واحتمال هذا العذاب، ولانشغال بالي في هذه الدعوى لا يُمكنني الانتباه إلى ابنتي، فجعلتها عند الراهبات ابتغاء أُنسها وتسليتها.
قال همام: أخطأت أيَّما خطأ بجعلك سعدى في الدير، فإن ذلك يزيد كدرها ووحشتها، فالرأي عندي أن تجعلها عند شقيقتي أم فؤاد تقضي مدة إقامتها في القاهرة بأنس وحبور، فتخرج معها إلى المتنزهات في كل يوم، فلا تضجر ولا تسأم.
قال غانم: حبذا الرأي لو أن الأمر ممكن، وعلى كل حال فإني ممنون لك حافظ معروفك، ثم نظر في ساعته وقال: أزف الوقت، فلا بدَّ لي من مفارقتك الآن والنظر في دعوايَ.
قال همام: يمكن تأجيل دعواك إلى غد، فاجعل هذا اليوم للراحة، فإني أدعوك لمناولة الطعام معي في الجنينة، وعند العصر نذهب إلى النزهة في شبرا.
فلم يُجب غانم دعوة همام خلافًا لعادته، وربما كانت هذه الدعوة هي الأولى التي رفضها غانم في حياته كلها، فأجاب في اعتذاره بقوله: نُبقي دعوتك إلى وقت آخر، فإني الآن مضطر لمقابلة رئيس محكمة الاستئناف؛ لأشرح له عن تفاصيل دعوايَ لعله ينظر في صرفها وقضائها على حسب المراد.
قال همام: يا عجبًا من هذا الاتفاق الغريب، فإن الرئيس من أعز أصحابي فإن شئت توجهت معك إليه للتوصية بك.
قال غانم: إن كان لك به معرفة فقم بنا إليه من الحال، ثم نعود إلى دعوتك.
قال همام: إن ذهبنا إليه في هذا الوقت لن نجده، وأرى المناسب لنجاح عملك أن تحضر إلى منزل شقيقتي سيدة، فإن لها معرفة جيدة معه، وهو يقضي السهرات على الغالب عندها، فيتيسر لك مقابلته كأنها بالصدفة، فتكلمه مليًّا عن دعواك، وأنا وشقيقتي نساعدك على بلوغ الأرب.
قال غانم: وهلا ترى شقيقتك مانعًا من التوسط في هذه المسألة؟
قال همام: لا مانع يمنع، وسوف تختبر الأمر بنفسك.
قال غانم: الأمر إليك، واستدعى همام عربة فركباها ذهابًا إلى منزل سيدة أم فؤاد.
وما سارت بهما العربة بعض خطوات، وإذا بعربة مقفلة كانت واقفة على بُعدٍ قليلٍ من باب الفندق سارت في أثر عربتهما وصائحًا يقول للسائق: اتَّبع العربة التي أمامك، وقف حيث تقف، وكان المتكلم خليلًا.
فلما وصل همام وغانم إلى منزل سيدة استقبلتهما بغاية الإكرام والترحيب، وكان همام قد تخلف إلى الوراء يغامز أخته على غانم، كأنه يقول لها: قد أحضرته فتممي الأمر، ثم تقدَّم فقال لها بصوت عالٍ: أسعدني الحظ في هذا اليوم بمقابلة صديقي وعزيزي غانم، فقد جمعتني وإياه الصدفة، وهو خارج من فندقه فأحضرته إليك، ولولا هذه المقابلة التي أتاحها الله لسافر من العاصمة قبل أن نراه؛ لاضطراب باله وانشغال فكره بدعوى له في المحاكم سوف يُخبرك عنها بنفسه.
قالت: إن كان الأمر إليَّ، فإني أبذل كل خدمة مُستطاعة، ثم التفتت إلى غانم تسأله عن صحة ابنته سعدى وهل حضرت معه؟
قال غانم: أحضرتها معي، وهي بحمد الله بخير تدعو لكِ.
قالت: ولماذا لم تحضرها إليَّ فإني متشوقة لرؤياها، ويعلم الله أني أُحبها حبًّا شديدًا، وهي عندي بمنزلة ولدي فؤاد، أين هي الآن؟
قال: في الدير عند معلماتها.
فانقبض وجه سيدة عند سماع هذا القول لعلمها أن المعلمات يسعين في أمور الزواج، فخشيت أن يسعين في تزويجها بغير فؤاد إن طال مكوثها في الدير، فقالت لغانم: قد أخطأت في جعلك سعدى في الدير كأنك تبغي سجنها والتضييق عليها، وكان الحري بك أن تفرجها على القاهرة، فتقضي مدة إقامتها حبورًا وانشراحًا ولك الأصحاب الكثيرون، فلو خرجت في كل يوم إلى منزل واحد منهم وجدت في معرفة الناس أُنسًا، وتجعلني ممنونة لو تحضرها إليَّ فإني مشتاقة إليها أرغب في مقابلتها والأُنس بمجلسها.
قال: أود أن أجعلها نزيلة عندك ما أقمت في القاهرة، ولكن الظروف لا تسمح بذلك، فحضرتك تذكرين أنه حصل حديث بشأن زواج سعدى بفؤاد ولم يتم الأمر، فلو أحضرتها إليك خرجت عن حدود اللياقة، وخالفت الأصول المتبعة.
فنظرت سيدة إلى همام كأنما تقول له: هذا صاحبك افتتح الحديث، فعليك بالجواب.
قال همام: لا يُستدل من عدم إتمام الأمر العدول عنه.
قال غانم: لا يكون استئناف الكلام من أهل الخطيب.
قال همام: ما دام الحديث جرى بيننا إلى هذا الموضوع، فلا مانع من تقرير الأمر نهائيًّا الآن.
قالت سيدة: إني على رأي شقيقي.
قال غانم: لا أرى مانعًا من اتصال نسبنا بنسبكم.
قال همام: نحن على اتفاق، فأختي راغبة في هذا الزواج وأنت ترضاه وأنا أتمناه، فالأمر مقرر ومن الآن نعتبر فؤادًا خطيبًا لسعدى.
قال غانم: كنت أود والله لو أني أسمع كلام فؤاد في الحضرة، فإني كنت توسمت فيه عدم الميل إلى مصاهرتنا.
قال همام: جرت العادة أن يُعقد للخطيبين في غيبتهما، وأنا الضامن لقبول ابن أختي، فكن ضامنًا من جهتك لقبول سعدى.
قال غانم: قبلت الضمان لسعدى، فهي لا تُخالفني بشيء.
قال همام: وكذلك فؤاد فإنه ممتثل رأيي وشوري.
وهنا تصافح الجميع بالأيدي دلالة على تمام العقد وتبادلوا أجمل التهاني والدعاء بالسعادة والإقبال، واتفقوا على الاجتماع في اليوم الثاني لتقرير يوم الاحتفال بالفرح.
وبعد أن فرغوا من الكلام في أمر الزواج قال غانم: نرجع لأمر الدعوة التي لي أمام المحاكم، فكيف الرأي فيها أيها العزيز همام؟
فالتفت همام إلى شقيقته وأخبرها بالحديث الذي دار بينه وبين غانم في هذا الشأن، فقالت: إن رئيس المحكمة صاحبنا، وفي هذه الليلة يسهر عندنا، فإن رأيت يا أخي ورأى صاحبنا غانم أن تحضرا فتقابلانه وتكلمانه بكل ما يلزم، فلكما عليَّ المساعدة في القول والتوصية.
قال: قضيتي مهمة جدًّا إن خسرتها خسرت جانبًا عظيمًا من ثروتي، أعقبه نقصان في ثروة ابنتي، فإني عزمت على أن أُوصي لها بكل أموالي.
قالت سيدة: كُن مطمئن البال، فلن يضيع عليك قرش واحد، فرئيس المحكمة صديق لنا حميم، ولنا به معرفة واتصال من قديم الزمان، فلا يتأخر عن مساعدتنا ونوال المرام.
وبعد أن طال أمر الحديث في الدعوى، وقرَّ الرأي على الحضور إلى السهرة لمقابلة رئيس المحكمة، نهض همام وغانم للانصراف، فشيعتهما سيدة إلى الباب مثنيةً على غانم مؤكدةً عليه بإحضار ابنته سعدى إليها.
فلما انصرف رجعت إلى حجرتها مسرورة بنجاح مسعاها، وقد أيقنت بقرب العقد لابنها على سعدى، فيصبح غنيًّا سعيدًا بهذا الزواج، فلم يكن عندها همٌّ غير الاستعجال في إقامة الأفراح، وكذلك قد كان غانم مسرورًا باتصال نسبه بنسب شريفٍ؛ ليحصل بذلك على الوجاهة والنفوذ، وينفتح له باب الدخول على كبراء القوم وأمرائهم؛ فيتخذ ذلك سبيلًا لقضاء دعاويه الكثيرة، فجعل يقول لهمام وهو خارج برفقته: إن من المناسب التعجيل في إقامة الأفراح، فذلك خير من الإمهال.
وقد ظهر للناظر في هذه القصة كيف أن سيدة وغانمًا أبرما الزواج لابنيهما بدون أن يعلم الابنان، ولا ريب أن أهل الذوق في هذا العصر لا يحبذون هذا العمل ويعيبونه ويعتبرونه ظلمًا واستبدادًا منافيين لمبادئ الحرية والتمدن، على أن الوالدين قد راعيا المصلحة الشخصية، فلم يكترثا برضاء العروسين، وهل ينطبق هذا الزواج على مشربهما، ويجلب لهما الراحة والسعادة، فسيدة لم تنظر في إبرامه إلا لتحصيل الثروة والغناء لابنها، وغانم إلى ما يناله من الوجاهة والنفوذ. وهكذا فقد قربا مستقبل ابنيهما قربانًا على مائدة المصالح الشخصية، ولم يفكرا أنهما بذلك يجلبان التعاسة والشقاء لفؤاد وسعدى، فمن المقرر أن لا راحة ولا سعادة في الكون لرجل يتزوج بامرأة على غير ميل أو تبادل حب، فمن الجور أن يتدخل أحد في زواج بإكراه، فإنه بما يفعل يكون قد سعى إلى الشر وإيجاد العداوة بين شخصين بريئين، لولا الزواج لم يتعاديا، فالعاقلون من الأهل والأصحاب يحجمون عن مثل هذا التدخل، ويدعون الشبان والشابات يختارون من يناسبهم للزواج على مودة وائتلاف، والحمد لله أن هذه العادة — أي إكراه الأولاد على الزواج بمن يختاره الآباء — قد أخذت بالاضمحلال شيئًا فشيئًا بفضل الترقي والحضارة العصرية.
وقبل أن يفترق همام وغانم اتَّفقا على أكل الطعام مساءً في لوكاندة الجنينة، ثم يذهبان إلى السهرة عند سيدة، وانطلق كلٌّ إلى حال سبيله: غانم إلى الفندق الشرقي، وهمام إلى منزله.