الفصل السادس عشر
بوصول غانم إلى حجرته في الفندق جلس أمام تختة يكتب، فانفتح الباب عليه بغير استئذان، ودخل خليل وجلس غير مسلم، فتكدر غانم من مشاهدته حالة كونه قد خاصمه مديدًا، واستغرب من مجيئه، فظل محدقًا إليه النظر صامتًا مبهوتًا.
فقال خليل: تعجبت من زيارتي، فأصغ إليَّ سمعًا لأحدثك بما يزيل عنك العجب، قد كان بيني وبينك خصام لديد، وأتى علينا سبع سنوات فلا تُكلِّمني ولا أُكلمك، واشتد الخلاف بيننا حتى أصبحنا كأننا أعداء ألداء، ولكن الدهر أبو العجب يُحدث أسبابًا تُقرِّب البعيد وتُبعد القريب، وتجمع بين الأخصام لملاقاة حادثة ودفع نازلة، فيتركون خصومتهم جانبًا للمعاونة على الشدة الطارئة، وقد جئتك مخبرًا عن أمر جليل، فأنصت إليَّ وأعرني السمع.
فظن غانم أن خليلًا في مضايقة مالية، جاء يطلب مساعدة، فبادر بقوله: إن كنت تقصد أن تقترض مني نقودًا، فأرح نفسك من الأمل الكاذب ولا تتعب، فليس عندي قرش أسلفه لك أو لغيرك.
فتبسم خليل ثم قال: سكِّن الروح ولا تجزع، فإني لم أحضر لطلب نقود منك على سبيل السلفة والإحسان.
قال غانم: لعل مرامك تكليفي بقضاء حاجة لك، فالجواب لا أستطيع شيئًا، وليس عندي وقت أقطعه في مصالح الغير.
قال خليل: لم أحضر لهذه الغاية.
قال غانم: إن لم يكن حضورك لطلب سلفة أو لتكليفي بقضاء حاجة، فلأي شيء حضرت؟
قال خليل: حضرت لأخبرك عن أمر مهم جدًّا هو في غاية الغرابة والفظاعة أجارنا الله منه. فارتاع غانم من سماع هذا القول، فقال له خليل: إنك عند حضورك إلى القاهرة لم يخطر في بالك تزويج ابنتك بفؤاد، ثم عند خروجك من الفندق في هذا اليوم قابلت همامًا، وكان ينتظرك على رصيف الفندق انتظار مقصودًا، لا على سبيل الصدفة كما أخبرك، ثم توجهتما إلى منزل سيدة، فقضيتما عندها نصف ساعة من الزمان وخرجتما معًا، وقبل الانفصال تواعدتما على أمل الطعام في لوكاندة حديقة الأزبكية، كل هذا علمته، فإن كان في قولي اختلاف أفدني.
فاستغرب غانم كيف علم خليل هذه الأمور، فقال ناهضًا: مَن أطلعك على ذلك؟ ألعلك تعلم الغيب أو لك جاسوس يسرق الأخبار؟
فاستتبع خليل الكلام قائلًا: وقد دار الحديث عند سيدة على أمر زواج فؤاد بسعدى، واجتمع الرأي عليه، وأنت لم تكن — كما سبق القول — عازمًا على ذلك، فتغيرت أفكارك بين لحظة عين وأختها.
قال غانم: أنا حرٌّ أفعل ما أشاء.
قال خليل: لا أعلم إذا كنت حرًّا تأتي ما تشاء أو مقيدًا بضرورة الأحوال.
قال غانم: من يا تُرى يعارضني أو يخالفني عن أي فعل شئت؟
قال خليل: أنا أعارضك وأنا أمنع هذا الزواج.
قال غانم: أظنك يا رجل معتوهًا لا تعي شيئًا من القول.
قال خليل: بل إني رجل عاقل أتحرى ما أقول جيدًا.
قال غانم: كيف تستطيع منعي عن فعل ما أريد؟
قال خليل: بل يمنعك علمك بأن هذا الخطيب الذي اخترته لابنتك لا يليق لها، فهو شرير قبيح السيرة ذميم الأخلاق.
قال غانم: قولك هذا افتراء، ولا يصدقه أحد.
قال خليل: بل هي الحقيقة أرويها بلا كذب، وإن شئت أقمتُ الدليل عليها.
فجعل غانم يهز رأسه استهزاء. فاستأنف خليل الحديث فقال له: إن المحبة القديمة التي كانت بيننا قبل اختصامنا لم يزعزعها كرور الزمان، فقد قاطعتك مديدًا حتى رأيتك الآن على شفا الهبوط في هذه المصائب، فهزتني الحمية إلى إغاثتك، ومد يد المساعدة إليك، فاعلم أن فؤادًا على الأخلاق الذميمة التي وصفتها، وليس قولي افتراء، بل هو الصدق بعينه، وأنا أبسط لك تمهيدًا من القول قبل الخوض في ذكر ما جئتك بصدده، فأقول: إني من يوم زواجي بشقيقتك المرحومة رغمًا عن إرادتك، وقعت في مصائب جسيمة، وحملت أغلاطًا كثيرة يعلم الله أني ندمت عليها، ولا ينفع الندم شيئًا، وتأسفت كل الأسف، فأي إنسان يحيا ولا يُخطئ، أو أي رجل غير الله معصوم في هذا الكون الفاني! وقد اعترفت بخطيئتي، واستغفرت الله عن سوء معاملتي شقيقتك، فتراني أتأوه مترحمًا عليها كلما خطرت على بالي، أو تذكرت ما كابدته من العناء والشقاء بسببي، فإقراري بذنبي يمحوه، وكفاني عذابًا وخز الضمير وأني شقي متعوس.
فقاطعه غانم بقوله: لعلك جئت تتلو عليَّ صلاة الندامة، فاتلُها على غيري، وحدِّث عن مرادك بلا تمويه، فإني لست ممن ينخدع بزخرف القول كالأغرار، وأنا أعلم أحوالك، ولي خبرة بطويتك وأطوارك، فلا تزعمن أني أصدقك حين تتكلم لتوهمني أن نعمة الله هبطت على قلبك القاسي فألانته، وفاضت روحه القديسة على نفسك الشريرة الخبيثة فأصلحتها، فدع المراء عنك ولا تنطق بالمحال، وتكلم بالصدق، وأخبرني عن سبب حقدك على فؤاد وعن جلية الأمر.
قال خليل: رويدك قليلًا، واسمع الخبر مني، فلن أُخفي عنك شيئًا، ودعني الآن أعترف بجنايتي، فقد أخطأت بحق شقيقتك المرحومة، فتراني لشدة الحزن أكاد أفارق الدنيا، وأنا في كل يوم بكدر مزيد.
قال غانم: رجعت إلى كلامك الأول لتوهمني أنك شديد الأسف والحزن على امرأتك، وتزعم أني أصدق ذلك على علمي بمكرك وطمعك وسوء أخلاقك وخبث سريرتك، وبعد؛ فلو فرضت أن قولك حقيقي لا ريب فيه، وأن النعمة الإلهية شملتك وقدستك، فتبت إلى الله بقلب خاشع، وندمت على ما فرط منك وبدر من البوادر والذنوب، فهل كنت مكلفًا باستماع توبتك كأن لي وقتًا أضيعه لسماع المراء، وفي الجملة فامرأتك قد توفيت وبليت عظامها، فلو صدقنا بتوبتك وندامتك على ما اقترفت من الذنوب لم يكن ذلك ليعيد لها الحياة من بعد هجعة القبر.
قال خليل وفي صوته أنة الحزن والأسف: أواه أواه … رحم الله الفائتين، فقد ماتت المسكينة أسى وكمدًا كما قضى الرحمن سبحانه ولا مرد لقضائه، ذهبت — رحمها الله — من دار الفناء إلى دار البقاء، وخلفتني أقاسي الهموم، وأتجرع البلوى آسفًا على فقدها متفطر الكبد، وهيهات أن يرجع ما فات، فليس لي غير الصلاة والخشوع كفارة عن ذنبي أن يقبل الله صلاتي عليها، وإجلالي ذكرها في كل آنٍ ومكان.
قال غانم: ما أرى والله إلا أن تعانق الرهبانية أو تلزم العزلة في جبل كالناسكين الزاهدين في الدنيا؛ فذلك خير تكفير عما اقترفت من الكبائر وما اجتنيت من الآثام العظيمة؛ ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا.
قال خليل: كلا، فالتكفير عن الذنوب والسيئات والقيام بالأعمال الصالحات خير من النسك والعزلة، فأنا أستغفر الله سبحانه مولي النعم، ومزيل النقم، فامرأتي قد توفاها الرحمن فلا يفيدها أسفي عليها، بل رأيت الأنفع والأجدر بي أن أبذل مزيد استطاعتي والعناية الفائقة لتعهد شأن الشخص الوحيد الذي حصرت فيها محبتها مدة حياتها وهي ابنتها عفيفة، فإليها وجهت أنظاري وجعلت أيامي إلى آخر نسمة من حياتي وقفًا على خدمتها، لعل الله يغفر لي ذنبي الذي جنيته على أمها.
فانذهل غانم لدى سماع هذا القول وجحظت عيناه، وحدق إلى خليل متفرسًا به، ثم قال متعجبًا: أعفيفة حية؟!
قال خليل: نعم هي حية صحيحة الجسم سليمة، وكنت ظننتها قد ماتت كما ظن غيري، فرأيتها في الأمس، فعلمت فساد ظني.
فانقبض وجه غانم، وتصور أن الفتاة لا تلبث أن تحضر إليه فتجشمه نفقة هو في غنى عنها، فجعل يكثر من السؤال مستفهمًا عنها، وكان خليل يجاوبه مؤكدًا صحة الخبر، ثم سأله غانم: أين كانت من وقت وفاة والدتها؟
فقال له خليل بصوت مرتعش: كانت في حوزة رجل فاسق فاسد النية ذميم الطباع.
فاقشعر غانم وسأل عن الرجل: مَن عسى أن يكون؟
فأجابه خليل بقوله: ألم تعرفه؟ هو الخطيب الذي أعددته لابنتك سعدى ورضيته لك صهرًا عنيدًا، وبالغت في إكرامه وتبجيله، ووصفته بالصفات الكمالية، هو فؤاد بعينه خاطف ابنة شقيقتك وفاتنها، وملبسكم عارًا لا يُمحى مدى الزمان.
قال غانم وقد ارتاع: كبرت — واللهِ إنها لتهمةٌ — مثلُ هذه.
قال خليل: نعم إنها لتهمة عظيمة وفظيعة، فوالله لم يدفعني على ثقلها سوى أسفي على امرأتي المرحومة ورغبتي في حفظ شرف أهلها، فاعلم أني من نحو خمسة أشهر قبل وفاتها بليلة واحدة رأيت فؤادًا مصاحبًا عفيفة بعد نصف الليل آتيًا معها إلى المنزل الذي كنا فيه، وحضر في اليوم التالي لزيارتنا، فأقام برهة من الوقت، وتوفيت امرأتي فاختفت على أثر وفاتها ابنتها عفيفة، وقد اجتهدت كثيرًا وبحثت عنها مديدًا فلم أقف لها على أثر، وحسبت أنها قد انتحرت حتى كان يوم أمس الغابر، فرأيتها في القرافة قيامًا فوق ضريح والدتها، ورأيت فؤادًا واقفًا إلى جانبها.
قال غانم: أذهلتني والله، هل أنت تقول الصدق؟
قال: إن لم تصدقني فسل ابنك سعيدًا، وسل صاحبك همامًا، وسل فؤادًا نفسه ينبئوك جميعًا بما أنا قائل، ولا أظنهم يكتمون عنك الحقيقة.
قال غانم: أتزعم أن فؤادًا هو الذي اختطف البنت وأقام معها كل هذه المدة؟
قال خليل: نعم، ولا وجه للريبة في ذلك.
قال غانم: وهل كان ذلك برضاء البنت واختيارها أو كانت مرغومة؟
قال خليل: حاشا لله أن أرمي عفيفة بريبة، فهي نقية القلب مصونة، قد نشأت على أحسن تربية وأجمل الأخلاق الموروثة عن أمها والأدب وسلامة الضمير، فكيف أظن بها سوءًا وأتوهم أنها تكون قد اتبعت فاتنها فغويت بغيِّه وضلت بضلاله إلا أن تكون مكرهة مرغومة، وهي ولا حول لها ولا قوة؟!
فأخذ غانم يهز رأسه مستعظمًا هول الأمر وفظاعته ويقول: أي فعل أقبح من فعل هذا الرجل، فقد خطف الفتاة بعد وفاة أمها في غفلة الرقباء، فهي لعمري جريمة تستوجب شديد العقوبة، ثم جعل يتمشى رائحًا وآتيًا يمينًا وشمالًا ويقول: يا للفظاعة ويا للبلاء العظيم!
قال خليل: هلا زلت مصرًّا على تزويجه بابنتك بعد هذا الذي سمعته عليه؟
قال غانم: إن ثبت قولك فُسخ العقد، ولا أكتفي بذلك حتى أجرّ الجاني أمام المحاكم الجنائية لتقتص منه.
وكان خليل في أثناء ذلك يزداد انبساطًا وانشراحًا، كلما اشتد غانم غيظًا واستشاطة، ثم قال له: جزاك الله خيرًا عن حميتك، إنك لجدير بالثناء والشكر المزيد على ما بدا من اهتمامك، فتلك شيمة الكرام، والكريم من يأبى الضيم وتعاف نفسه الذل، فإن لم يكن في إمكانك رد فائت، فلا أقل من أن تنتقم من العتل الزنيم والفاجر اللئيم جزاءً وفاقًا على ما جنت يداه.
قال غانم: ما الرأي عندك، وما يجب أن نصنع؟
فابتدأ خليل في جوابه، وإذا بسعيد قد دخل من فوره: أتيتك يا أبي ببشرى، عفيفة ابنة عمتي كريمة حية، وقد رأيتها بعيني أمس.
فلما سمع غانم كلام ابنه أيقن بصدق الخبر، وذهب الشك من قلبه فقال: لا حاجة لي إلى برهان، فسواء اختطف فؤاد عفيفة قهرًا وفتنها أو استرضاها فلا بدَّ من مقاطعته، فلا يبقى بيني وبينه علاقات، وقد شان عرضه، فلست أرضى به لنا نسيبًا فنلبس عائلتنا العار والذل حين ينكشف الأمر ويظهر المكتوم، فعلينا قبل الانتقال من هذا المكان أن ننظر في التدبير الواجب إتيانه في هذا الشأن.
فللعاقل أن يتدبر أحوال هذا الكون، فقد رأى الناظر في هذه القصة كيف أن سعدى لخلوها من الجمال أورثت والدها التعب والنصب، وكان زواجها عسيرًا إلا أن يُنفق والدها النفقات الجسيمة لهذا الغرض … وكيف أن عفيفة على جمالها أورثت قلب ذويها التعب والخوف في كل حين عليها من الأعين الفاتنة، فالبنات على سائر الأحوال مصائب ونكبات على أهلهن سواء كن موسرات أو فقيرات، جميلات أو دميمات، ولعل هذا هو السبب في كره أبناء الشرق الإناث وتفضيلهم الذكور عليهن.
ثم التفت إلى خليل وقال له: سألتك فلم تُجبني عمَّا يجب أن نُدبِّره، لعل عندك رأيًا سديدًا في الأمر؟
قال خليل: مصلحتنا واحدة تهمنا جميعًا، فعفيفة ابنة أختك وابنة عمة سعيد وابنة امرأتي، فالنسبة توجب على كل واحد منَّا إبداء الرأي، فليبتدئ في الكلام أصغرنا سنًّا.
قال سعيد: إني عندما اطلعت على الحادثة ارتعدت فرائصي، وتصورت فؤادًا كأقبح إنسان في الكون، ولكن زال هذا التصور مني شيئًا فشيئًا حتى لم يبق منه أثر، فالرأي عندي صرف النظر عن كل ما مضى واتباع وجه واحد يجمع بين المصالح والشرط في تمامه قبول فؤاد.
قال خليل: ما هو الوجه الذي تعنيه؟
قال سعيد: هو زواجه بعفيفة.
فانقبض وجه خليل، وانقلبت سحنته عند سماع الجواب، وجعل يهز رأسه مستهزئًا.
فاستأنف سعيد الكلام بقوله: نعم إنها الطريقة الوحيدة للتوفيق بين الأغراض، ولو أني أودُّ وأفضل زواجه بأختي، ولكن الظروف تمنع، فلو تزوج بعفيفة لم يخرج عن مناسبتنا والاتصال بعائلتنا.
قال غانم: أنت على غير هدي؛ كأنك تعتقد أن فؤادًا يقبل الزواج بعفيفة، وهو اتخذها له صاحبة لا امرأة، وفضلًا عن ذلك فإنه لا يعقل أنه يتزوج بفتاة فقيرة الحال.
قال سعيد: يمكننا مداركة الأمر، فنحن — بحمد الله — موسرون، ولو تبرعنا على عفيفة بجهاز نفيس فيحفظ شرفنا من ذل العار، ولا أظن أن فؤادًا يمتنع عن الزواج بها عند ذلك.
قال غانم: نحِّ رأيك الفاسد، أتريد أن نتبرع على هذه الابنة الشقية بمالنا؟! كأنك قد أضعت عقلك وضللت وفقدت رُشدك، أفلا يكفيك ما أسرفت من المال المجموع حتى جئت تزيد الطين بلة، وتشير بتوزيع المال على من لا يستحقونه؟!
وكان كلام غانم بحدة شديدة أداه إلى الطعن بعفيفة وعيب سيرتها ووصفها بالأوصاف الشائنة، فقد قال لابنه في جملة ما قال: تشور علينا ببذل مالنا إلى ابنة شقية فاجرة قليلة الشرف فاقدة العفاف، إلى ابنة قبلت بالرضاء والاختيار مرافقة فتى شرير فاجر مثلها تقيم معه الأشهر الطوال المتوالية على فسق ودعارة، فما — واللهِ — كنت أظن الجهل يقودك إلى هذا الجنون المركب.
فساء هذا الكلام خليلًا، فإنه كان يُحب عفيفة، ويكبر عليه سماع القذف بها، ولكنه كظم الغيظ وقال لسعيد مختالًا: الحق مع والدك، فالشبان الذين على وتيرة فؤاد يتخذون البنات للمرافقة لا للزواج على الحلال، وفي ظني أن فؤادًا يأبى التزوج بعفيفة، ولو دفعتم إليه ما استطعتم من الجهاز والمال، فشأنه افتضاح البنات وتركهن وقد قضى وطرًا.
قال غانم: بالحق نطقت، فدعنا من قول سعيد وأفدنا عن رأيك.
قال: ينحصر رأيي في كلمة واحدة هي كلمة الانتقام.
قال غانم: الصواب عند قولك، لا ريب أن همامًا وأخته سيدة عبثا بي، إذ خاطباني بزواج فؤاد بسعدى وهما يعلمان من أموره ما يعلمان.
قال خليل: قد عرفا ولا شك كل هذه الأمور، وقد رأيت همامًا في القرافة عندما أبصرت عفيفة مع فؤاد فوق ضريح الأم.
قال غانم: أصبت ولا ريب فيما تقول، فأبن عن أفكارك، وكيف تنتقم من ذلك الوغد الزنيم؟
قال خليل: لو أن الإهانة لحقتني رأسًا لتدبرت الأمر بنفسي، ولم أستعن بأحد، ولكنها لحقتنا جميعًا، وكانت الجناية علينا عظيمة، ألبستنا أيَّما عار، فأرى أن نكيل لفؤاد بكيله، ونسعى في هدم شرفه وفضيحة اسمه برفع أمره إلى محكمة جنائية؛ فتناله العقوبة التي يستحقها، ثم أريق دمه هدرًا، فنغسل به ما لحقنا من العار والشنار.
قال خليل: نقيم عليه إذن دعوى في شأنه.
قال غانم: ومن الضروري أيضًا مطالبته بحقوق مدنية على أني أخشى إبطال دعوانا، فيُحكم علينا بالمصاريف والرسوم والتضمينات، فيكون الحمل باهظًا على عنقنا.
قال خليل: من المستحيل أن تخسر الدعوى، فنجاحها مؤكد عندي.
قال غانم: وباسم مَن نرفعها؟ فوالله إني خائف وَجِلٌ من العاقبة.
قال خليل: لو كانت امرأتي في قيد الحياة لرفعت الدعوى باسمها، وقمت نائبًا عنها، ولكن تُوفيت، فلم يبق لي علاقة قانونية أو صفة أهلية بالنظر إلى ابنتها، والله يعلم مقدار معزتي لهذه الفتاة، فهي لي بمنزلة الولد. على أنني غريب عنها في سائر الأحوال، وليس لي صلة قانونية لأرفع الدعوى باسمى، فالصفة لك وحدك في رفعها؛ لكونك أقرب الأنسباء إليها، وأنت كبير العائلة.
قال غانم: أنت تهزأ بي كأنما تظن أن ليس لي شغل غير شغل الدعاوى، فوالله إني لأعجز عن القيام بدعوى واحدة فتراني بسببها مضطربًا دائمًا قلقًا ومنزعجًا، فكيف تكون حالتي إن تعددت الدعاوى؟ ألم تكفني أشغالي الخصوصية حتى أهتم بأشغال بنت منحوسة خيبها الله وسائر النساء معها؟
فانشرح خاطر خليل بامتناع غانم عن إقامة الدعوى باسمه وقال: لا تؤاخذني، فقد برح من بالي أنك مهتم بقضيتك الخصوصية، وفي الواقع أن أشغالك جسيمة تمنعك النظر في قضية ذات شأن عظيم كقضية اغتصاب فؤاد عفيفة.
قال غانم: أنت تعلم أن قضيتي جسيمة يزيد مقدارها على مائتي ألف فرنك، فلو أهملتها أقل إهمال عرَّضتها للضياع، فلذلك لا يمكنني الاهتمام بغيرها، فوالله لن يوازي شرف نساء الكون عندي نصف هذا المبلغ.
فتبسم خليل احتقارًا وقال في نفسه: تبًّا لهذا الرجل، ما أشدّ بخله ودناءة نفسه. ثم كلَّمه قائلًا: نعم، فالصواب أن تهتم في قضيتك فلها المقام الأول، وإن رأيت أن نقيم الدعوى باسم ابنك سعيد فهو لا شاغل يشغله، وله الصفة التي لك والفتاة ابنة عمته.
فعارض سعيد قائلًا: لا والله إني لن أقيم دعوى على فؤاد، فهو صديقي وصاحبي والرأي عندي ما ابتديته أولًا، وهو ترويج زواجه بعفيفة وقد خالفتماني، فرفعت يدي من المسألة، فاصنعا ما تبغيان.
فأشرق وجه خليل عند سماع قول سعيد، إذ جاء الأمر على ما يروم ويبغي، وهو أن يرفع الدعوى باسمه، فقال: وهل من الصواب تحمل الأذى وانتهاك العرض وترك الجاني يمرح في غَيِّه وفجوره، لا خوف عليه ولا هو يحزن؟
قال غانم: وما المانع من إقامة الدعوى باسمك، وأنت تهتم فيها بنفسك؟
قال خليل: والله إني أود ذلك ابتغاء التخفيف عنك، وأن أقوم بخدمة تُذكر، ولكني — كما قدمت القول — قد عدمت الصفة بوفاة امرأتي، وانقطعت كل علاقة بيني وبين ابنتها، فليس لي وجه قانوني للتدخل في هذا الأمر.
قال غانم: أما من طريقةٍ لإزالة هذا المانع؟
قال خليل: من جدَّ وجد، والطريقة التي أراها أن يُنصب وصي شرعي للفتاة.
قال غانم: ما الفائدة من نصب الوصي وهي لا تملك شيئًا؟
قال خليل: إن الوصاية لا تنحصر في تدبير أموال القاصرين، بل تتناول الملاحظة الأدبية، فلو انتُدبت الوصاية قامت لي صفة، فاستغنيت عن تكليفكم بأقل شيء كان.
قال غانم: وما يمنعك أن تكون وصيًّا عليها بذلك؟
قال خليل: يمنعني كونك أحق مني فيها، وبعد: فإني أخاف التبعة والأكدار التي تلازمها.
قال غانم: وأي تبعة في ذلك وعفيفة لا تملك شيئًا؟ فالمقصود من وصايتك عليها تحصيل الصفة القانونية لك لتقيم الدعوى على فؤاد.
وقد كان هذا كله بغية خليل، فإنه كان — كما تقدَّم القول — كلفًا بعفيفة مضنى بهواها، وكانت امرأته قد لحظت ذلك فلامته وعنَّفته، فلم يرتدع ولم يسمع التعنيف، ولخوفها من شره وأذاه وأنه يصول يومًا بعد وفاتها على ابنتها جعلتها في حرز فؤاد لتنقذها من الفضيحة والعار، فلو أُقيم خليل وصيًّا شرعيًّا عليها أصبحت في يمينه يتصرف فيها كيف شاء، ويبلغ فيها مراده الخبيث، فكان لتمام خبثه يكتم حبوره، فلا يرتاب السامع في إخلاصه.
ثم إنه قال لغانم: ما يحملني على قبول الوصاية إلا كرهي فؤادًا إن رفعت يدك عن الوصاية على البنت.
قال غانم: حبَّذا الاهتمام بذلك لولا كثرة أشغالي، فعذري واضح للجميع، وعلى كل حال فلو قبلت أنت الوصاية، فكأنما قبلتها بذاتي إذ كلانا واحد.
قال خليل: لا بأس فإني أتولى النظر في هذه المسألة وأحمل مشاقها، ولكنما يجب تقرير الوصاية على يد مجلس العائلة.
قال غانم: نحن في مقام ثلاثة لتحرير محضر يؤذن بنصبك وصيًّا على عفيفة وذلك كافٍ.
قال خليل: لا يكون هذا القرار نافذ المفعول إلا بترئيس أحد قضاة المحكمة، واستدعاء شاهدين من العدول يشتركون جميعًا في العمل. وكان خليل قد اعتمد على أحد القضاة وشاهدين من معارفه لإتمام غرضه ونوال إربه، فقال لغانم: قد أزف الوقت، فمن المناسب الاجتماع غدًا فأكون قد أحضرت القاضي والشهود.
قال غانم: حسن، وبعد تقرير الوصاية لك على عفيفة تباشر الدعوى على فؤاد جنائيًّا.
قال خليل: وهو كذلك، ومتى صدر الحكم عليه بما يقضيه القانون على مرتكبي مثل هذه الجنايات، أنقذ الكون من شره، وأزيل ما لحقنا من العار والفضيحة.
وبعد أن قال هذا، نهض للخروج فرافقه سعيد إلى خارج الفندق، وقال له: إنني أعرف منزل عفيفة.
فقال له سعيد: نذهب معًا إليها، فاستدعيا عربة، ونهضا قاصدين مصر العتيقة، وبقي غانم في حجرته يكتب المكاتيب المتعلقة بأشغاله.