الفصل السابع عشر
قد علم الناظر في هذه القصة كيف استعمل خليل الدهاء والخداع ليُوهم غانمًا أنه مخلص النيَّة سليم القصد، فيقوم وصيًّا على فتاة سليمة القلب نقيَّة، قد فتنه حُسْنها الفائق، فشرهت نفسه الخبيثة إلى اجتناء لذة منها محرمة، وتكون البنت بين يديه أسيرة لا يسأل عنها أحد، وليس لها معين ولا ناصر. ولكن التقادير تجري بمشيئة الرحمن، فإنه بينما كانت عوامل الشر والمكر جارية في الفندق الشرقي للكيد على فؤاد، وتحويل حبه الطاهر السليم وغرامه العذري إلى دعارة وفسق وأشنع جناية، جرى في المنزل الخلوي في مصر العتيقة مظهر آخر مخالف شكلًا ووصفًا بعوامل الصداقة وخالص الوداد بين فؤاد ومحبوبته، فعلى القارئ أن يتبعنا في النظر إلى نهاية القصة؛ ليعلم لأي فريق يكون الغلب وكيف يكون المنقلب.
كان من عادة فؤاد الحضور إلى منزل عفيفة كل يوم ليزورها، فتجلس بقرب نافذة المنزل كل يوم نحو الساعة الثالثة بعد الظهر منتظرة قدومه، غير أنها لشدة اضطراب الأفكار عندها في ذلك اليوم جاءت قبل أوانها، فوجهت أنظارها إلى الطريق التي يمر فيها حبيبها، وكانت تكشف الساعة من حين إلى حين وتعد الدقائق، وكلما رأت إنسانًا على بُعدٍ حسبته فؤادًا حتى يقترب منها فيخيب أملها ويتكدر بالها.
ثم إن الساعة قرعت ثلاثًا فرأت خيالًا مطلقًا عنان جواده فتبينته فإذا فؤاد قد جاء مسرعًا، فتهللت لرؤيته، وهرعت إلى الباب لاستقباله، فنزل عن جواده، وبعد أن سلَّمه إلى الخادم تقدَّم نحوها، وجعل يده على يدها مصافحًا وقال لها: أسعدت يا حبيبتي مساءً وصباحًا، الله يعلم مبلغ اشتياقي إليك، أنت بهجة نفسي ومسرة قلبي، وكل يوم لا أراك فيه يضيق صدري، وكل ساعة في البعد عنك مقدارها ألف عامٍ، وألف عام بقُربك كلحظ البصر قصير، لا أحرمني الله من هذا الوجه النضير.
فاحمرَّ وجه عفيفة من هذا الكلام بعد أن كان اصفرَّ، فقالت له تجاربه: ما بالك تخاطبني بهذه العبارات التي لم أسمعها قبلُ منك؟ وما قصتك؟ فأنت تنظر إليَّ نظر الملهوف، ولم يكن ذلك عندك مألوفًا؟
قال فؤاد: إن قلبي مسرور، ويكاد أن يطير حبورًا.
قالت: يا عجبًا من اختلاف الرأي وتقلُّب الأحوال! رأيتك أمس مهمومًا مضطرب البال، ورأيتني مسرورة محبورة، وفي هذا اليوم أراك مبتهجًا متهللًا، وأراني حزينة شديدة الجزع والاضطراب، فهيا بنا إلى الكشك لتقص عليَّ الخبر على هينة؛ إذ لا يوافق الوقوف مديدًا هنا، وأخاف عليك من العيون الناظرة.
قال: ما يهمني أن أختفي أو يظهر الناس على شأني، وسواء عندي أن يراني جميع الخلائق، فقد انقضت أيام الكتمان والخفاء، وأقبلت أيام البِشْرِ والظهور.
فزادت حيرة عفيفة، وأخذت بيد فؤاد، فمشت به إلى داخل الجنينة، وكان الفرح قد حبس لسانهما، فلم يتكلما حتى وصلا إلى الكشك، فقال فؤاد لها: تتعجبين يا عفيفة من رؤيتي فرحًا مسرورًا في هذا اليوم، وتنظريني كذلك فلا تشاركيني في فرحي، بل تقيمين بعكس ذلك مكتئبةً مكدرةً جزعًا وبأسًا.
قالت: الحق لك أن تلومني عن تقصيري في الشكر وتأدية الواجب لمحبتك وإحسانك، فتصرفي حقيقةً كتصرف الأحداث لا يتروون ولا يعقلون، فقد عادت مساورة الأفكار وخيالات الخوف والحزن وتصورات اليأس والقنوط.
قال: أحمد الله، لم يبق إلا قليل لتزول ويصفو البال بانقشاع هموم الغموم، وتُنقَلين من حالٍ إلى حالٍ.
قالت: أخذني الله إن فهمت شيئًا مما تقول.
فجعل فؤاد يُخبرها تفصيلًا عما جرى بينه وبين والدته من الحديث في شأنها وقبول حضورها عندها وانشراحها عنها صدرًا وما تكن لها من النوايا الحسنة.
فقالت له عفيفة: أتظن أن والدتك محسنة بي الظن فلا تحتقرني وتعيب عليَّ انقطاعي إليك؟
قال: أتحتقرك وأنت مثال الطهارة وعنوان الفضيلة والعفاف؟
قالت: أنت تعلم يا فؤاد ما عندي من الشهامة وعزة النفس ونفوري عن موقف الذل والإهانة المُعدَّة للسفلة الأدنياء، المعتادة خدودهم على اللطم، الذين يحملون الذلة صابرين … فوالله إني لأرجف كالطير المذبوح وأخاف أن أُرشق بسهام اللوم، فيتقطع فؤادي تقطيعًا، وأسكن رمسي قبل الأوان، وخير عندي أن أعيش معذبة فقيرة طليقة الجناحين من أن أُقيم في جنة الفردوس في ذُلٍّ وإهانة.
قال: أؤكد لك يا عفيفة أن لك مقامًا محفوظًا عند أمي، وأنها تعزك وتعتبرك حق الاعتبار، وقد أخبرتها عنك فاشتاقت إلى رؤيتك، وشعرت بميل وانعطاف نحوك، وسوف تحققين الأمر بنفسك فتعلمين أني أقول الصدق.
قالت: لا بدَّ أن تكون قد وصفتني بالأوصاف الجميلة فأجبتني والدتك، فإذا رأتني مجردة مما وصفت كرهتني لا محالة، وانقلب رضاها سخطًا وغضبًا.
قال: وصفتك بلا مبالغة، فلم أطنب، ولم أقل إلا الحقيقة، ولم أذكر إلا ما رأيته فيك.
قالت: ماذا رأيت فيَّ يستحق المديح والوصف؟
فقال لها فؤاد وقد خفق جنانه ورجف صوته بفعل الغرام: كل أوصافك جميلة، وأنت مظهر اللطف والظرف، ومعدن الطهارة والعفاف، وعلى وجهك علامة البهاء والجلال، جعلك الرحمن فتنة للعالمين وبهجة للناظرين، فيك يحسن غزل الشعراء، وبفضلك يتباهي الفضلاء، يا ذات الجمال الفريدة في المحاسن، يا ملكة القلوب.
فتبسمت عفيفة من سماع هذا الإطراء وقالت: لا فُضَّ فوك، ما أبدعك في الغلو، وأقدرك على الوصف! فكان الواجب عليك أن تلتزم الصمت، فلا تخبر والدتك بما ليس موجودًا، ولا هو من الحقيقة في شيء.
قال: أنصتي إليَّ يا حبيبتي، فنار حبك تستعر في قلبي من خمسة أشهر، فلا يدري بها أحد، وهي في كل يوم تزيد سعيرًا كلما زدتك نظرًا وأقمت معك، حتى كاد جسمي يذوب ومهجتي تتقطع ابتغاء حفظ العهد الذي أخذته على نفسي أمام والدتك، وقد زجرت النفس وغالبتها فلم تبد مني حركة تترجم عن شديد غرامي بك، ولكنني خفت أن يقضي عليَّ الأسى بالكتمان شهيدًا في حبك، وفي قلبي الحسرات والآلام، فأخبرت والدتي بوجدي وغرامي فرقَّت لحالي وطيَّبت نفسي بالوعد الجميل، فلم يعد بَعدُ مانع لإظهار المكتوم، فاعلمي أن قلبي نقي لم يدخله حبٌّ غير حبك، فأنت مليكته وحبيبته وغاية مناه وقصده.
فاحمرَّ وجه عفيفة خجلًا، وكانت وجنتاها تلتهب كجذوة نار تُضيء ما حولها وتحرق قلوب الناظرين، وكانت متشحة بثياب سوداء تزيدها بهاءً وإشراقًا، فعقد الحياء لسانها فأمالت رأسها على صدر فؤاد وانهملت من عينيها الدموع كالدر المتساقط على الوجنتين، فحنَّ إليها فؤاد، وانحنى يُقبِّلها في جبهتها، فأعرضت عنه نافرة، فأنشد بلسان حال قول القائل:
وكانت هذه أول قُبلة قطفها فؤاد من رياض جبين محبوبته بعد طول الزمان والاجتماع المديد، وحينئذ طرق أذنيهما صوت هائل كزئير الأسد فارتعدا ونهضا مذعورين، وتقدما نحو باب الكشك لينظرا، فأبصرا رجلًا متسلقًا على حائط الحديقة، فتفرَّسا فيه، فإذا هو خليل أقام رأسه فوق السور، وفي وجهه الصفرة، وعيناه جاحظتان، وحركاته تنذر بالتهديد والتهويل، فلما رأته عفيفة عرا وجهها الشحوب من الخوف، ورجفت أركانها، فوقعت بين يدي فؤاد، فسندها ثم جعلها على مقعد، وخرج لينظر خليلًا فلم يجده، فعاد إليها وأخذها من يدها قيامًا إلى المنزل، وكان يخاطبها فلم تُجبه بكلمة؛ لأن الخوف ربط لسانها، ثم إنه أدخلها إلى حجرتها في المنزل، ووقف على بابه ليكشف خليلًا فلم يره، فزاد باله اضطرابًا، وقال في نفسه: لم يختفِ الرجل إلا ليعود، فسور الحديقة يستطيع أن يصعد عليه بسهولة، فربما جاء وتكون عفيفة وحدها، فيحصل من الأمور ما يعلم الله، ولا شك أنها تموت خوفًا، ولا يستطيع البستاني المدافعة عنها إذا دخل الرجل مدججًا بالسلاح الكامل، فمن اللازم أن أبقى هنا، وعندما يُصبح الصباح أذهب بها إلى والدتي. وبينما كان يناجي نفسه بهذه الخواطر إذا بعفيفة قد حضرت حاملة بيدها علبة سوداء صغيرة وقالت له: أرأيت، فإني لم أحتج إلى وقت طويل لأتهيأ أو أتأهب للخروج، فقد لبست برنيطتي، وحملت ثروتي بيدي وهي هذه العلبة، وفيها رسم والدتي ووالدي وبعض كتابات بخط يديهما، فذلك جملة ما أملك من متاع الدنيا، وقد اتخذتك لي حاميًا، فكفيتك عناء التجهيز.
قال فؤاد: تأهبتِ للذهاب، وأنا لا أرى لزومًا لذلك الآن.
قالت: أتمكث هنا بعد أن رأيته بعينك؟
قال: رأيته ورأيت على وجهك الاضطراب، ولكنه لا يستطيع شيئًا، ولا يمكنه الدخول إلينا.
قالت: أنت في خطأ، فدخوله علينا من أسهل الأمور.
قال: إن حدَّثته نفسه بذلك فيعلم كيف أستقبله، ولعله لا يخفى عليه ما أصنع.
قالت: نحن في غنى عن العناء بالذهاب من هذا المكان، فإن مجرد التفكير باحتمال حضوره يُفقدني رُشْدي.
قال: ما ظننت أنه يبلغ بك الخوف هذا المبلغ، ولا أعلم كيف وقعت رهبة هذا الرجل في قلبك حتى تجزعي منه كل هذا الجزع، أمن سلطة له عليك؟ بل كان هو الأجدر أن يرتعش أمامك، فإن نظرة واحدة منك كافية لإلقائه صريعًا بين الأقدام، إن كنت تتذكرين يوم القرافة إذ زجرته ولحظته شزرًا فكاد يهوي إلى الأرض وهنًا، فأين منك القوة التي يتغلب بها الصالحون على جماعة الأشرار؟!
قالت: كنت في القرافة بقرب لحد والدتي، فشعرت أنها تمُدني بالمساعدة والقوة، فاشتد بها أزري وقويت عزيمتي، أمَّا الآن فإني لبُعدها عني لا أجد قوة، وأراني كالطفلة الصغيرة لا حول لي، وفي قلبي الخوف والجزع.
قال: تخافينه وأنا معك؟
قالت: إن وجودك معي يزيدني خوفًا، فلو كنت وحدي لكان جزعي مقصورًا على نفسي، ولكني الآن أخشى عليَّ وعليك.
ثم إن فؤادًا اجتهد في تسكين خاطرها وتهدئة روعها بلا فائدة، فكانت تقول له: إن الأطفال أكثر مني شجاعة وقوة، وأراني ضعيفة العقل فاقدة العزم أحتاج إلى مساعدة من ينصرني، فلا أستطيع صرف الليل في هذا المكان، ولم يبقَ لي أمن للإقامة فيه بعد اهتداء هذا الشرير إلينا، فلو سمعت صرير باب ينفتح أو هزيز شجرة أو أقل حركة من داخل أو من خارج لظننت أن الوافد علينا خليل، فانظر مقدار روعتي والوقت نهار والشمس لم تغب، فكيف تكون حالتي عند هجوم الليل علينا بجيشه المدلهم؟ فوالله إني لأحس من نفسي بفقد الشعور وفقد الحياة، وتراني من مجرد الوهم والتصور أرتعش، فلو رأيت خليلًا صاعدًا متسلقًا سور البستان مرة أخرى؛ لألقيت نفسي من هذه النافذة على علوها الشاهق فمتُّ لحيني، فعلى سائر الأحوال ما أرى أمامي هنا غير الخيال وفقد الشعور والهلاك أشنع موتة، فإن أهمك أمري ورغبت في حياتي فأنقذني من هذا المكان، ولك المنة الجزيلة.
قال: ما يحسن منك هذا التصور، فقد أزعجتني، وبعد: ولو أن ما تقولين غير معقول فإني أجيب طلبك وأصحبك معي إلى منزل والدتي، فاصرفي عنك الكدر وسكِّني البال.
فأشرق وجه عفيفة عند سماع هذا الكلام وقالت: ذهب الهمُّ عن قلبي لا عدمتك، وزال الجزع وشعرت بالراحة، أذهب الله عن قلبك كل الخوف، فهيَّا بنا للخروج حالًا.
فنادى فؤاد الخادم لينطلق ويحضر عربة، ثم قال لعفيفة: نمكث هنا إلى الساعة الحادية عشرة حتى يكون قد انصرف الناس من السهرة عند والدتي.
قالت: لا بأس.
وجلسا يتحدثان حديث الشوق والمحبة مع رعاية الأدب والصيانة، ولما اقتربت الساعة من الحادية عشرة نادى فؤاد البستاني وقال: ربما يحضر هذه الليلة رجل.
فقاطع البستاني عليه الحديث وقال: إن دخل لم يخرج إلا محمَّلًا على الأوتاد، فهذه بندقيتي معي، فكن في اطمئنان.
قال فؤاد: إياك أن تفعل شيئًا من ذلك، فليس الرجل من اللصوص، ويغمني أن يُقال عني: إني خفت فأغريت غلامي بقتله، بل دعه يفعل ما يشاء، واحضر في الصباح إليَّ مخبرًا عمَّا يكون قد حصل.
قال الخادم: سمعًا وطاعة.
وأخذ فؤاد بيد عفيفة منطلقًا نحو باب الجنينة، فوجد العربة تنتظرهما، فركباها قيامًا إلى القاهرة إلى منزل والدته سيدة.