الفصل الثامن عشر
كان من عادة سيدة والدة فؤاد أن تعقد مجلسًا للسهرة ليلة واحدة في الأسبوع، فيجتمع عندها الأدباء والكبراء وأهل الذوق والمحاضرة، وصادف أن اليوم الذي عزم فيه فؤاد على إحضار عفيفة إلى منزل والدته كان يوم الاجتماع يتوارد القوم فيه من الساعة الثامنة، فلا ينصرفون إلا في الساعة الحادية عشرة. فيتردون بالثياب الفاخرة المُعدَّة للمقابلات والزيارات، فتقابلهم سيدة بغاية اللطف والإيناس وتبالغ في إكرامهم، فيخرجون منشرحين واعدين الأنفس بالعود في السهرة التالية، غير أن سيدة كانت في هذه الليلة على خلاف عادتها مضطربة البال نظرها مرسل دائمًا إلى جهة الباب، وكان الباعث على اضطرابها تخلف أخيها همام وصاحبه غانم عن الحضور حسب الوعد، فاشتدت في رأسها الهواجس والأفكار، ووقع في نفسها أن قد حدث حادث فوق العادة أوجب تأخير حضورهما، واستمرت هكذا حتى الساعة العاشرة، إذ رأت همامًا مقبلًا، فنهضت لاستقباله ظانة أنه يصحب معه غانمًا، فخاب الأمل إذ رأت أخاها وحده فسألته عن رفيقه فقال: إن له نبأ غريبًا، أقصه عليك بعد انصراف الناس، فانظري في مؤانستهم حتى يكونوا قد ذهبوا.
وعند الساعة الحادية عشرة انفرط عقد السهرة، فانصرف الحاضرون أولًا فأولًا، وبعد مُضي نصف ساعة من الزمان خلا المحل لهمام وشقيقته فسألته عن الخبر، وروحها من الانتظار تكاد أن تزهق، وقد خالت السهرة خالدة بطولها والليل سرمديًّا.
فقال همام: تعلمين يا أختي أني وعدت غانمًا على أكل الطعام معه في هذه الليلة، فذهبت إلى الفندق الشرقي لأصحبه، فأبلغني الخدم أنه قد خرج، فقصدت لوكاندة حديقة الأزبكية، وهو المكان الذي اتفقنا على أكل طعامنا فيه، فانتظرته زيادة على نصف ساعة فلما لم يحضر، توجهت ثانية إلى الفندق الشرقي سائلًا عنه فلم أجده، فرجعت إلى لوكاندة الحديقة، وتعشيت وحدي وقد كدرني غيابه، وأنت تعلمين أنفتي ممن يخلف في وعده، فلو لم تكن مقابلة غانم في هذه الليلة تهمك لما سألت عنه، وقد جعلت أتناول الطعام على هينة معللًا نفسي بحضوره حتى يئست من مقابلته، فقمت إلى منزلي للبس ثيابي والحضور إليك، فسلمني الخادم كتابًا بإمضاء غانم، قرأته فعلمت السبب في غيابه، وهذا هو الكتاب فاطلعي عليه.
حضرة المكرم السيد همام، إن من الأفعال الفظيعة التي تنفر الطباع منها، ويستقبحها عامة الناس وخاصتهم اختطاف البنات الأبكار القاصرات الكريمات الأصل المتهذبات الناشئات على التقوى، ولا سيما إذ كان الخاطف من سراة القوم المدَّعين الشرف، وما من وقاحة هي أبلغ من التماس معسر زواجًا بابنة غنية طمعًا في اغتنام المال الكثير، فلو اجتمع الأمران فذلك أعجب العجب، وقد عنيت فؤادًا ابن شقيقتك سيدة، فإنه أراد أن يوقع في شَرَكِهِ ابنتين إحداهما فقيرة نجت من مكايده والأخرى غنية فتحت الحوادث عين أهلها، فأمنت الوقوع في فخه، وبما أن فؤادًا يرغب بطبيعته الاشتهار، فإني ومن يلوذ بي رهن لمساعدته، فنذيع اسمه، ونشهر فعله في الجرائد، ينقلها البعيد عن القريب، وننشر الأحكام التي تصدر من محاكم الجنايات، ولا أرى بعد هذا وجوبًا لأعلمك بانقطاع العلاقات بيننا، وإني في حلٍّ من وعدي بمقابلتك في هذه الليلة، فلا تنتظرني، والسلام.
فلما قرأت سيدة هذا الكلام صاحت صيحة الحزن مولولة قائلة: ويلي يا مصيبتي، لم يعد في الأمر شك، وهذا الخط خط غانم أعرفه، والتوقيع باسمه، يا ربي ما هذه النكبة؟ ما هذه النائبة؟ تبًّا لدهر خئون يجرع أهله الغصص، ويجلب عليهم نوازل لم تكن في حسبان! كيف العمل يا أخي؟ أتظن أن الرجل يجعل الوعيد يقينًا مفعولًا، ويرفع القضية إلى المحاكم؟
قال همام: إنه جدير بأعظم من ذلك لشدة لؤمه وحسده وفظاظة طباعه، وليس من البعيد إقامة الدعوى على فؤاد بأنه اختطف عفيفة ابنة شقيقته، وأنها فتاة قاصرة، فيلتمس معاقبة الجاني بحسب القانون.
قالت سيدة وهي ترتعش، وما تفعل المحكمة؟
قال: تنظر في الشكوى، فإن وجدت وجه ثبوت أمرت بالقبض على فؤاد، وباشرت التحقيق.
فصرخت سيدة قائلةً: ويلاه، ما هذه المصيبة التي لم تكن على بالٍ! يقبضون على فؤاد ويجعلونه في السجن يحاكمونه محاكمة الأشرار العاتين السارقين بسبب ابنة من العواهر؟! لا كانت ولا رحم الله عائلة غانم، ولعن كل منسوب إليها.
قال همام: إنك لفي غلط جسيم، فلو كانت الفتاة من المومسات العواهر لجاء الأمر هينًا سهلًا، ووجدنا له تدبيرًا، ولكنها من عائلة معتبرة، كان والدها من أماثل الرجال، قضى حياته في خدمة الحكومة بالاستقامة والشرف، وخالها غانم من الأغنياء الموسرين، معدود الخاطر، مسموع الكلمة، فلو ثبت أقل وجه من وجوه الجناية على ابنك حقَّت عليه العقوبة كأحقر سفلة القوم.
قالت: لا صحة للجناية المنسوبة إليه، وليست هي على شيء من الحقيقة، ولم يحصل الخطف البتة.
قال همام: هذا اعتقادي، فقد كنت في الأمس بالقرافة، فرأيت عفيفة تُسلِّم نفسها إليه برضائها وقبولها وبغير إكراه، على أن الصعوبة أن تقنع قضاة المحكمة بذلك، فإنه قد اتخذوا عادة لهم معاملة كبار القوم بالقسوة والصرامة رياء؛ للإيهام بأنهم مستقيمو الرأي، أفكارهم حرة، لا يحابون ولا يخافون بالقضاء في الحق لومة لائم، فسيان عندهم الحكم حقًّا أو ضلالًا، فكل قصدهم تحصيل الشهرة ولو موهومة، وأضاف: إن المسألة أضاعت رشدي، وأقلقت بالي، فلا أعلم ماذا أصنع.
ثم إنها قرعت الجرس الصغير، وكان على مائدة أمامها، فجاء الخادم فقالت له: يجب عليك أن تخبرني بحضور فؤاد بدون تأخير.
فقال الخادم: سمعًا وطاعة.
ثم قالت لأخيها: إن أمر فؤاد غريب، فقد خرج بعد الظهر قبل حضورك عندي مع غانم، وها قد انتصف الليل ولم يحضر، فأفكاري من جهته، اللهم نجنا من كل مصيبة، اللهم افرج همي ولا تعاملني بخطيئتي، وأرح سري بفضلك وإحسانك، وأزح ظلمات هذه الكروب.
قال همام: إن في تصاريف الزمان لعبرة للوالدين الذين يشددون المضايقة على أولادهم ويقترون عليهم، حتى إذا بلغوا أشُدَّهم خلعوا الطاعة، واندفعوا وراء أهوائهم، واسترسلوا في الغوايات، وأتوا كل منكر، فيجلبون لأنفسهم ويلًا وثبورًا ولوالديهم مزيد الشقاء والعناء، فلو أن الآباء عاملوهم بتؤدة وحلم، ومنحوهم شيئًا من الحرية بقدر ما يلزم لسِنِّهم؛ لوقوهم العثار وحفظوهم من الوقوع في مهاوي الفساد والضلالات، وكفوا أنفسهم العناء في الكبر، ثم من خصوص فؤاد أني لا أرتاب بإمكان إصلاح أمره وهدايته إلى الصراط المستقيم.
قالت: لست يا أخي خبيرة بطباعه وتقلب أهوائه، فهو يصبو إلى المحاسن الفكرية، ويولع بالتصورات والغزل الشعري حبًّا بالأدب لا بطبيعة الفساد وشهوة المعاصي، فقد نشأ على مبادئ شريفة جميلة، وعنده حياء تام وذمة نقية، ولم يكن كالشبان الأغرار المجردين من حسن السجايا والكمالات، ولقد أخبرني بقصته مع الفتاة من الأول إلى الآخر، فما وجدته مخطئًا في تصوره أو ملومًا في سيرته، والدليل على مقدار شهامته أنه أقام معها كل هذه المدة، فلم يَحِدْ عن سنة الشرف والعفاف محافظًا غيورًا عليها كالشقيق على شقيقته، شفوقًا كالوالدة على ولدها، فهل تجد مثل هذه الأخلاق في شبان هذا الأوان؟
فقال همام ضاحكًا: أصدَّقت قصته؟
قالت: صدَّقتها، إذ لا شك عندي في قوله، فهو ما ينطق إلا بالصدق، ولي الثقة في روايته.
قال: أمَّا عني فإني يصعب عليَّ جدًّا أن أصدِّق قولًا على شاب في سنِّه يرافق فتاة جميلة، ويخلو بها الشهور الطويلة خلوًّا من رقيب وعاذل، فلا يخرج عن العفاف والصيانة، فهذا واحد المستحيلات، ثم لو فرضنا الأمر صحيحًا لاعتبره الناس عنوان التغفل والبله.
قالت: إنَّ فاسد الأخلاق يعتبر من ليس على شاكلته أبله أحمق، وبخلاف ذلك العقلاء المثقفون أصحاب المبادئ الصحيحة، فإنهم يحبون مقام كل همام أبي النفس، فيحمدون صنيع فؤاد، وأنت تذكر يا أخي أني صرفت العمر في تربيته وتثقيفه وتأصيل النبالة والشهامة فيه، فهو بعيد عن أخلاق أهل هذا الزمان الفاسدين الغاوين الطامحين إلى الشهوة، يرون المرأة فيفتنونها ويبذلونها مزيد الجهد تقربًا من أهل البيوت المصونة للإغواء والإفساد، وأبى الله أن يكون فؤاد على هذا المذام، فوالله إني لأعلم من نفسي أنه أقام خمسة أشهر مع عفيفة فاتخذها شقيقة لا رفيقة، والتزم الأدب والصيانة.
قال: إذن مثله مثل إسحاق عليه السلام في حب رفقته.
قالت: شبِّهه بمن شئت، فالمؤكد عندي أن من شبَّ على حب الفضيلة كان بعيدًا عن الزلل، فلا يأتي الأمور المنكرة، وحسبي ما أنا عالمة من أخلاق ابني، فقد تكلمت عن هدى وخبرة، والله شهيد على قولي.
وبينما سيدة تُخاطب همامًا بهذا الخطاب دخل الخادم مخبرًا بقدوم فؤاد مع سيدة متردية بملابس سوداء، فابتهجت سيدة بحضوره، ثم هتفت فورًا بغير تدبر: أجاءت تلك اللعينة معه؟ قطع الله خبرها بين البنات، إنها كانت سبب التعب والعذاب ووقوع المشاكل والأخطار، فوالله لأنتقمنَّ منها وأذيقنَّها أليم العذاب.
وما زالت سيدة تحتدم حتى وصل فؤاد، فالتزمت السكوت وكظمت الغيظ، وتقدم نحوها فؤاد ويده بيد عفيفة فقدَّمها مبتسمًا، والفتاة خافضة رأسها حياء، وقدُّها يخطر كالغصن، فقبلتهما وقبلاها، ثم إنها قالت لعفيفة: مرحبًا بك يا عفيفة، كانت أمُّك من أعز صواحبي، وكنت كل مرة أنزل فيها إلى الإسكندرية أزورها فتحسن وفادتي، وأقضي الوقت رغدًا برفقتها، وقد تجدد الشوق بي إليها برؤياك، فأهلًا وسهلًا بك، ولك عندي من الرعاية والإكرام ما يجب.
فانشرح صدر فؤاد من سماع جميل كلام أمه، وأجابت عفيفة بقولها: لك الفضل يا سيدتي والجميل الفائق بما أوليتني من النعمة، وأنا العاجزة عن القيام بواجب الشكر.
قالت سيدة: دعي الشكر والتجمل، فإني لم أفعل بعض الواجب عليَّ، وتمام السرور عندي أني أكون لك بمنزلة الوالدة، وأنت لي بمنزلة الولد تحبيني وأحبك، وعندما نطقت سيدة بهذا الكلام أقبلت على عفيفة تقبلها في جبينها رياءً كما حدثتها نفاقًا، وكان همام ناظرًا إلى الفتاة مبهوتًا من حسنها الرائق وجمالها البديع.
فلما رأى أخته تقبلها قال في نفسه: قُبلة يوداس اللعين من ألفٍ — من قبلُ — من السنين، ثم إنه تقدم نحو عفيفة وقال لها: أيَّتها الفتاة المليحة إني مسرور بمشاهدتك، وأتمنى لك من صميم قلبي الهناء والسعادة، وأن تقيمي عندنا في الرحب والسعة، وإن سمحت لي بتقبيل يدك كما قبلت يد شقيقتي فلا يهولنك تقدم سني وبياض شعري. قال هذا ودنا منها ليفعل، فأبعدت يدها وأمالت رأسها فقبلها في جبينها قائلًا: قبلت هذه المعاوضة، وإن كنت أودُّ ألا تمُني عليَّ إلا بقبلة يدك.
قال فؤاد: أليست قبلة الجبهة أفضل من قبلة اليد؟
قال همام: لو أنها لم تسمح إلا بقبلة يدها كما طلبت منها لكانت تركتني حائرًا واهمًا، فالشابات قلَّما يأذنَّ لشابٍّ بتقبيل يديهن، ولكنهن لا ينفرون من الكهول والطاعنين في السنِّ، وهكذا سمحت لي بقبلة جبهتها بطيبة نفس، فكأنما شهدت لي بزوال زمن الصبا وقدوم نذر الكبر.
وطال بينهم الحديث في مواضع شتى دائرة على قطب المحبة والوداد، فابتهج قلب فؤاد، وطاب المقام لعفيفة، وانجبر خاطرها بمواساة آل ذلك البيت، فصارت تعتبر نفسها واحدة منهم.