الفصل الثالث
ندع همامًا ورفيقيه عائدين إلى الفندق، ونُحدِّث القارئ بما جرى من الحديث بين غانم وشقيقته.
بخروج همام وفؤاد جلست كريمة شقيقة غانم على كرسي، وجعلت تنظر إلى أخيها منتظرة منه المجابرة، وأن يترحب بها ويبش في وجهها ويفرح بمقابلتها بعد طول فراقها وغيبتها؛ فخاب ظنها وضاع الأمل، فإن أخاها كان يرمقها شزرًا، ويلحظها بعين الغضب والانزعاج وفكره مضطرب اضطراب البخيل من سؤال المسكين، فكأنه قد خشي أن تكون زيارتها لطلب صدقة، فانتظر أن تُبادره بالكلام، فإذا بها لبثت صامتةً، فلما طال على ذلك الأمد قال لها مغاضبًا: تكلمي فإنه لا يليق قضاء الوقت سكوتًا والأصحاب في انتظاري خارجًا … أخبريني باختصار عما ترغبين مني.
فانقبض قلب الشقيقة عند سماعها هذا الكلام الخشن، وعَظُمَ الأمر عليها، فأطرقت في الأرض، وأذرفت الدموع الساخنة.
فقال غانم: أجئت تبكين وتندبين؟ تكلَّمي ما الذي حضرت بشأنه؟ أجئت تصنعين مأتمًا؟ فإني أعلم براعتك في التصنع، ما الداعي لحضورك في هذا المكان؟
قالت وقد رفعت رأسها، وتأثرت من جفوة أخيها: كنت أظن نفسي قبل أن أقابلك أشقى خلق الله، وأن تعاستي بلغت النهاية، فإذا التعاسة لا نهاية لها، وما كنت — واللهِ — لأتوقع منك أن تقابلني بالإعراض أو أسمع من فيك هذه الألفاظ الموجعة بعد فراق السنين الطويلة، وأنا شقيقتك من أبيك وأمك، وأنت سند العائلة وكبيرها ورأسها، وإليك وجهت آمالي، وجعلت اتكالي عليك، أفتحرمني من مجابرتك ولا تواسيني بلطفك ورحمتك، وقد جئت أشكو إليك أحزاني وما أنهكني من الشقاء والعناء؟! فارحم ضعفي، واجبر كسري، ولا تُعرض بوجهك عني في أوان الشدة، وتفضَّل بالإصغاء إلى أمري، فإنه وحقِّك لذو شأن عظيم يستوجب أن لا تُعاملني من أجله بالقساوة. نعم، إنَّا افترقنا على كدر وحقدت عليَّ بسبب زواجي بخليل، وكان الحق، وقد اعترفتُ بخطئي، وعرفت مقدار جرمي بمخالفة أوامرك، فأي إنسان لا يُخطئ؟ هذه كثير من السنوات صرفتها في التعب والأوصاب، فكانت كفَّارة عما جنيت، فأرجوك يا حبيبي أن تصفح عني وترثي لحالي، فالرأفة واجبة لمثلي، وقد رثى لحالي الأجانب، وشفقوا عليَّ، وحزنوا لحزني، وأنت أخي وشقيق روحي تُعرض عني وتصم أذنيك عن سماع شكواي ونِدايَ حين آتيك طالبة إحسانك وإسعافك.
فاسودَّ وجه غانم، وتقطَّب جبينه لسماعه كلمة الإحسان والإسعاف، فقال في نفسه: هذا واللهِ ما كنت أخشاه.
فتفرَّست أخته فيه الكدر، فقالت له: الله يا أخي، هوِّن عليك، فلا تقطب وجهك، وتحول نظرك عني، أي ذنبٍ جنيت حتى …؟!
قال غانم وقد اشتدَّ به الغضب: أي ذنبٍ جنيت؟! أبلغت بك الوقاحة حتى أتيتِ التمويه وتجاهلت حتى كأنك لا تعرفين شيئًا؟ أم كان مرادكِ تكديري بحضورك إلى هذا المكان، وأنا في صُحبة الإخوان، قد اجتمعنا لمسألة مهمة، فجئتنا على غفلة لتُقلقي الأفكار، وزدت على ذلك أنك لبست هذه الثياب الرثَّة التي لا يلبسها الخدم، أما كان من الواجب عليك على الأقل أن تلبسي ثيابًا لائقة، وتحفظي مقامي، ولا تضعي من قدري أمام صحبي وخلاني؟
قالت كريمة وقد تبسَّمت: وحقِّك يا أخي هذه أفخر الثياب عندي قد لبستها، ويشهد الله أن ليس عندي أحسن منها.
فرأى غانم أن الإسهاب في هذا الموضوع يجرُّ إلى أمور يرغب أن يتجنبها، فصرف الحديث إلى موضوع آخر، وقال لأخته: كان من الواجب عليك أن تقابليني في الفندق الذي نزلت فيه لا أن تحضري إلى هذا المحل.
قالت: ذهبت خمس مرات إلى فندقك فلم أجدك، فسألت الخدم فقالوا لي: إنك لا تحضر إلا قليلًا.
قال: كيف علمت الفندق الذي نزلت فيه؟ ألعل عندك جواسيس يسعون في أثري؟
قالت: أعلمني بحضورك رجل من معارف زوجي، وكان ذلك بطريق الصدفة.
قال: رأينا حضرة زوجك خليل، فإنه لم يحضر لزيارتنا والسلام علينا، فكأنه بسلامته يضن علينا بهذا الشرف، وبالحق فإنني ممنون من غيبته ومسرور أن لا أراه.
قالت: ولعل سرورك أن لا تراني أيضًا، فإني أرى حضوري قد كدرك، فوالله ما جئتك إلا للضرورة القصوى، فإن عطفت عليَّ أعرتني سمعك قليلًا؛ لأعرض عليك الغاية من حضوري.
فتضاجر غانم من هذه المحاورة، وحار في أمره، وأشفق أن تكون نتيجة هذه المقابلة اغترام صدقة يدفعها إلى أخته؛ فقاطعها بالكلام قائلًا: علمت السبب في حضورك بدون أن تتكلمي، إنك جئت تخبريني بسوء أحوالك، وأنَّ زوجك بدَّد أموالك، فأصبحت وإياه صفر اليدين، لا تملكين شيئًا، ومرادك أن أنعم عليك بشيء تعيشين به، وأُسلفك نقودًا لتفتحي لزوجك دكانًا يبيع فيه ويشتري، ويتخذها له معاشًا، فارفعي هذا الأمل من قلبك، واعلمي أن مسعاك خائب، فلا تُكلِّفي نفسك العناء والشرح الطويل، ولتعلمي أني لا أريد أن أعرف زوجك، ولا أعطيه أو أن يعطيه أحد خلافي مليمًا واحدًا، فقد علم الجميع بسوء أخلاقه وفساد سيرته وإسرافه وقلة أمانته. وهذا كلامي إليك بصريح العبارة، فلا تطمعي مني شيئًا، وقد أفهمتك أني لا أتدخل في أمره، وتذكري أني لم أرضه لك بعلًا، ومنعتك عنه فلم تمتنعي، ونصحتك فلم تقبلي النصيحة، فالذنب ذنبك، تحملين عواقبه؛ لتعلمي نتيجة العناد، وتكوني عبرة للآخرين.
قالت: قد اعترفت لك يا أخي بخطيئتي، والله يرحم الخاطئين، وأي ذنبٍ في الكون لا يغفره الله للتائبين! فارحمني يرحمك الله، وأشفق عليَّ إني حزينة مسكينة.
قال: إني لا أشفق على من يجلب على نفسه الشقاء ولا ألتفت إليه، فلو أنك سمعت نصيحتي لدفعتِ عن نفسك النكد، وكنت في ألف خير، فلم تُقاسي ما أنت فيه الآن من العناء والبلاء. وبعد، أفإنك وإن كنت في ضيق يُوجب الأسف عليك، فإني أيضًا في مركز صعب لإعسار الأحوال، فإن أملاكي قليلة الإيراد، والمحصولات متأخرة، وجميع أشغالي في تقلُّبٍ، وعليَّ ديون كثيرة ونفقات جسيمة، وما أرى أمامي غير الخراب والدمار، فلا أستطيع أن أُحسِن إليك بشيء.
قالت: ما يليق هذا القول بك يا أخي، لا تجحد نعمة الله عليك، فأنت في نعمة سابغة، وفضل الله عميم وكرمه عظيم.
قال: وبفرض أني بعد كل التعب الذي تجشمته والمشقات التي كابدتها قدرت أن أجمع شيئًا من المال أنفقه على نفسي في الكبر، وأبقيه لأولادي من بعدي، أفيكون من العدل أني أُبدده، أو أتبرع به على زوجك الفاسد الطوية القبيح السيرة؟ وهل يفعل هذا الفعل إلا كل أبلهٍ معتوهٍ ليس في رأسه ذرة من العقل؟ نعم، أُكلَّف بأمرك وأمر ابنتك لو كنتِ أرملة، ولكنك في عهد زوجك وهو الملزوم بك، فما يعنيني من أمره وأمرك شيء. وليكن في علمك أني جمعت المال اليسير الذي عندي بغاية التعب والصعوبة، فما يلومني أحد إن حافظت عليه، فلم أضيعه هبة أو أبذله إلى من لا يعرف قيمته. والحمد لله أني من العقلاء، أصون نفسي عن فعل أفعال المجانين الجاهلين، فاقطعي الأمل، ولا تُكلِّفي نفسك التعب ومضض السؤال.
فوقع هذا الكلام في نفس كريمة وقع الحسام، ولا سيما عند إشارته إلى أنه لا يُسأل بأمرها إلا بعد وفاة زوجها، فسالت العَبْرة من عينيها، وقالت: زدتني يا أخي حُزنًا على حزني ولم تشفق عليَّ، وأنا في حالة الفقر المدقع من زمان طويل محرومة من كل هناء وراحة، صابرة على البلوى حمولة موجعة القلب، أتمنى الموت وفراق هذه الدنيا التماسًا لراحتي في الأخرى … فاعلم يا أخي أني لم أحضر لأطلب منك مالًا، فالمولى يزيدك عزًّا وغنى، وإنما مطلوبي شيء أعز من المال.
قال: أي شيء أعز منه غير الروح، وما أظن أنك حضرت لتطلبيها؟!
قالت: محبتك يا عزيزي أغلى من كل شيء، وأثمن من كل نفيس في العالم، وأعز من روحي إليَّ.
قال: إن كان ما تطلبين محبتي، فهي مبذولة لك غير ممنوعة.
وكان غانم حين سمع كلام أخته تهلل وجهه، وقرَّ عينًا بما سمع، وانشرح لانحصار الطلب في أمر ليس له قيمة واعتبار عنده، ولا يُكلف شيئًا.
قالت كريمة: إن صدق قولك، فدعني أختبرك، واسمع قصتي: إنني متألمة وبي مرض يُلازمني من عدة أشهر، وهو يزداد يومًا عن يوم، وقد شعرتُ بدنو أجلي وانصرام أيامي.
فأظهر غانم لأخته الحنو، وقال لها: بالله أن تصرفي عنك هذه الأوهام، فإنه لا يليق مثل هذا التصور بامرأة عاقلة مثلك، وأنت صحيحة الجسم، وليست نحالتك دليلًا على المرض، فإني مثلك ناحل، وعافيتي جيدة، وليست بسطة الجسم دليلًا على الصحة وقوة البنية. تذكَّري أن امرأتي المرحومة كانت سمينة، فلم يحفظها سمنها من القضاء المنزل، فتُوفيت في الرابعة والأربعين من عمرها، وبقيت حيًّا بعدها، فمن ذلك تعلمين أن تصوراتك محض أوهامٍ وأضغاث أحلامٍ.
قالت: ليست رغبتي من الموت ولا أسفي على حياة هذه الدنيا، وأنا لا أرجو منها شيئًا، وإنما أعلمني الطبيب أني مصابة بداء في القلب يجعل صاحبه في خطر دائم من النكسة، وهكذا فإني أشعر بانحطاط كلي في قوتي، وضعف جسمي لم أكن أعلمه قبل اليوم.
قال: كل هذه أوهام باطلة، فاصرفيها عن خاطرك.
قالت: بل هي حقيقة أعلمها حق العلم، والإنسان أدرى بنفسه وحاله من غيره، حتى إني الآن من برهة وجيزة أصابني الصرع، فظننت أن ساعتي الأخيرة قد دنت الأجل، ويا ليت ذلك قد تمَّ لأرتاح من العذاب وأخلص من مصائب هذه الدنيا وأكدارها، وإني لأتمنى الموت، وأُرحب به لولا شفقتي على ابنتي وحشاشتي وقرة عيني.
وهنا تنهدت كريمة، وزفرت زفرة المتأوِّه، وأذرفت الدموع، وقالت: إنما قلبي على بنتي وشفقتي عليها لا على نفسي، فقد لزمت التعاسة هذه المسكينة منذ يوم وُلدت؛ فعاشت ذليلة يتيمة من أبيها الكريم الفاضل ووا لهفي عليها، كيف تكون حالها حين تفقد أيضًا والدتها؟!
فعاود غانم انشغال البال والقلق عند سماعه هذا الكلام، فقال لأخته: أي شيء تخافين على ابنتك، فهي تقيم من بعدك في حِجْر زوجك خليل؟
فارتعشت عند ذلك فرائص كريمة، وقالت: هيهات هيهات أن تجد لها سندًا عنده، وهي بعد مماتي تكون غريبة، فلا تبقى علاقة أو قرابة بينه وبينها.
قال: إن لم يكن هو القيِّم عليها، فإن أهالي زوجك الأول يهتمون بأمرها.
قالت: يا ليت لزوجي أهل في قيد الحياة، ولكن قد توفاهم الله جميعًا لتمام نحسها وتعاستها، فليس لها راحمٌ ولا ناصرٌ.
فاضطرب خاطر غانم وعلم أن الكلام موجَّه إليه في الوصاية على الابنة اليتيمة.
فقال: ما أعلم كيف يؤول أمر الأيتام، فالله يبعث رزقهم ويتولَّى أمرهم.
قالت: إني لا أجد لي في الكون ناصرًا إلا رجلًا أثق به، وأجعله وصيًّا على ابنتي بعد مماتي. إنه عضدي المتين وسندي المكين، ومحط رجائي، واعتمادي واتكالي عليه ثابت، ألا وهو أنت يا أخي وعزيزي المحبوب الشفوق، فإليك أعهد أمر ابنتي اليتيمة.
فانخطف لون غانم واضطرب جَنَانُهُ، وأراد أن يتكلم فانعقد لسانه، ورجفت أركانه، فلم يكن برهة من الزمن حتى عادت أخته إلى الكلام، فقالت: أوصيك خيرًا بتلك اليتيمة، وأستحلفك أن تنظر إليها بعين الشفقة والرأفة، فمن أجلها حضرت إليك غير طالبة منك إحسانًا، وإنما سألتك أن تكون كفيلًا لها بعد وفاتي تجعلها في حضانتك، وتوسع لها محلًّا في منزلك، وتسندها وتعضدها، فهي على الأخلاق اللطيفة والصفات المحمودة، ولا شك أنها تجد السعادة عندك بعد مقاساتها مُرَّ الشدائد عندي، وأخاف عليها أن يصيبها مكروه، وأمَّا منزلك فواسع رحيب، فإن شئت جعلتها كأبنائك، وإن شئت فهي من إحدى جواريك.
فغلبت طبيعة البخل على عقل غانم، وتأمل في النفقة التي يغترمها في الوصاية على ابنة أخته، فقال: تتكلمين كأنك على فراش النزاع ومفارقة الحياة الدنيا، وأنت — بحمد الله — صحيحة الجسم، لو سألنا الأطباء عني وعنك، واتبعنا القواعد العمومية في مسائل الطب والأجسام لرأيتني أقرب منك إلى الوفاة؛ لكوني أكبر منك بستِّ سنوات، وفضلًا عن ذلك فالنساء على الغالب يعشن فوق ما يعيش الرجال، فلا محل لرهبتك ولا صحة لتصورك وتوهمك وتنغيص عيشك بدون موجب، والاهتمام بشأن ابنتك قبل الأوان، والواجب عليك أن تكوني حزومة، وتُجانبي هذه الأفكار وتطرحيها، ولو كان في قولك مسوغ لأجبتك بالإيجاب، ولكنني لا أرى داعيًا إلى ذلك.
قالت: لك يا أخي أولاد، وأنت تعلم مقدار حنو الوالدين وعطفهم على أولادهم، وشدَّة اهتمامهم بأمرهم، وكل رجائي عندك أن تُسكِّن حرقتي، وتُريح بالي، وتُخبرني هل تجد ابنتي من يتولَّى أمرها بعد وفاتي؟
فحار غانم في أمره، وجعل يضرب أخماسًا في أسداس، ويتدبَّر كيف يتخلص من هذه الورطة التي وقع فيها، فرأى أن يُوافق أخته، فلا يُخالفها في النظر، وأن يَعِدَها بما شاءت لتسكين بالها، وناهيك من وعد البخيل، فقال لها: إن حصل الأمر الذي تخشينه، وقدَّر الله أن يحين أجلك قبل أجلي فلك العهد عليَّ أن لا أهمل شأن ابنتك، وأن أعتني بها، وأبذل لها الجهد في الخدمة، فتكون مرتاحة مطمئنة مقيمة عندي كالابنة في بيت أبيها، فسكِّني الخاطر ولا تجزعي، والله سبحانه يرحم كل ضعيف.
فأشرق جبين كريمة عند سماع هذا القول، وانتعش فؤادها فقالت: تعدني يا أخي بأنك تجعل عفيفة ابنتي في منزلك، وتتولى أمرها والحفاظ عليها؟
قال: نعم، أعدُكِ بذلك، وأُشهد الله على نفسي، وأجتهد في صلاح أمرها، وتزويجها برجل كفؤ لها تقيم بالراحة والسعادة عنده، وأتعهد نفقتها، وإن احتاج الأمر إلى جهاز لم أتأخر عن ذلك.
فتهلل وجه كريمة، وقالت من فرط حبورها: حفظك الله يا أخي وأنعم عليك، فسامحني واصفح عني، وتجاوز عن خطيئتي حين رجمت فيك الظنون، وأنت واسع النظر، وألتمس منك الإقالة فليست تخفى عليك أعذاري.
قال: غفر الله لكِ ولا بأس عليك، إنما الناس صناديق مقفلة مفاتيحها التجارب، فقد يتظاهر كثيرون بالاستقامة والكرم والعفاف وهم خبثاء ماكرون، ويظن المرء في قومه سوءًا وهم صُلَّاحٌ مستقيمون، وينسب إليهم من المفاسد والرذائل ما هم عنه بمعزل، وربما ظهر لك مني الجفاء والغلظة والخشونة فكانت الحال بالعكس، فقري عينًا وطيبي نفسًا وسكِّني البال، واعلمي أني ما دمت حيًّا باذل جهدي والعناية في شأن ابنتك إن كنت ترغبين مني فوق هذا، وقد أجبت سؤالك فاصرفي عنك الأكدار، والآن فقد مضى الوقت علينا والأصحاب في انتظاري، ولا ريب أني ضايقتهم بطول الحديث معك.
فتقدَّمت كريمة إلى أخيها، وأقبلت على يده تُقبِّلها ودموعها منسكبة على الخدين وقالت: إني مقصرة عن شكر جميلك، أوليتني نعمة لا أستحقها، وفرَّحت قلبي فرَّح الله قلبك، وجعل أوقاتك سعودًا وسرورًا، وجزاك الله خيرًا، فقد أنقذت ابنتي من مخالب الجوع والعار، وفتحت لها باب السعادة والراحة، فآخر رجائي عندك يا عزيزي أنك تُعجِّل معروفك، ولا تُؤخِّره إلى وفاتي، وكن بي وبابنتي رءوفًا، واجعلها منذ الآن في منزلك، ليهدأ بالي وتصفو أفكاري، وأقابل الموت مطمئنة محبورة.
فما فرغت كريمة من قولها حتى انقلب وجه أخيها، وتبدَّلت بشاشته غضبًا، وتولاه الذهول والدهشة، فجعل يروغ كالثعلب في فخِّه، وحار في أمره كيف يفعل، فلما رأت تغيُّرِه وتبيَّنت السخط فيه اضطربت وعلا وجهها الشحوب، قالت: إني أشعر برجوع المرض، وأخشى أن يغتالني الألم ويُعجِّل عليَّ الوفاة على غفلة، فتشاهد ابنتي نزاعي، فتموت جزعًا على أنها لطيفة المزاج والشعور، ضعيفة الجسم، حديثة السن، لا تقوى على احتمال المشهد المُحزِن، فأكرر الرجاء وألتمس منك يا أخي العزيز الحنون أن تُبادر إلى البر، فلا تنتظر آخر ساعة من حياتي لإنجاز وعدك وإتمام مقاصدك النبيلة، ونواياك الجميلة، فاجعل ابنتي في حرزك، واكفِها الكرب والعذاب، ولا تدعها تتجرع مرارة الكأس ومكابدة ما لا تطيقه من الروعة والأسى، ودعني أموت ذاكرة فضلك داعيةً لك بطول البقاء والإقبال، إن أعظُمي في قبرها تُثني عليك، وقد شهدت أنك تحبني، فانقل محبة الوالدة إلى الابنة، واجعل عفيفة بمعزة أولادك، فتلك أعظم مجابرة وتعزية لي قبل حلول رمسي.
فاشتدت حيرة غانم وتنبَّه إلى غلطه، كيف قادته سماحته الموهومة إلى حيث لا يحب الوصول، فقد كان كل قصده الوعد لا الوفاء، ولكن ساقه الحديث إلى ما لا يشتهي، وغلبت عليه طبيعة البخل، فانقلبت سحنته، وأجهد قريحته ليرى كيف يتخلص من أخته وابنتها، فقال: غمض عليَّ ما تقولين فلم أفهم مرادك، أترين أن تُجبريني على فعل ما لا يليق، ولا يحتمل وقوعه من ذي لُبٍّ؟ ترغبين أني أفرق الأم عن ابنتها عند قرب الوفاة؟ أفي الكون أفظع من هذا العمل الذي تشمئز منه النفوس الأبية، وتكرهه الطباع الإنسانية، وتحرِّمه النواميس الإلهية والطبيعية؟ وبفرض التسليم بأنك على آخر رمق من الحياة كما تدَّعِين، أيستلزم ذلك مفارقتك ابنتك ولو دقيقة واحدة؟ إذ الواجب أن تلازمك ليلًا ونهارًا، وتجلس على فراشك، وتغمض بيديها عينيك، وتتلقى آخر نسمة من فيك، فهذه فروض مقدسة يقوم بها البنون، وعلى ظني فإني لو رضيت بأن أجعل ابنتك عفيفة عندي، فهي تأبى أن تُفارقك لحظة ما دُمتِ في قيد الحياة.
فسكبت كريمة الدموع الساخنة، وقالت لأخيها: أظننت يا شقيقي أني راضية بمفارقة ابنتي بخاطري؟ كلا ثم كلا … وحبك الصادق إنها سلوتي الوحيدة في الدنيا وتعزيتي، بل حياتي وروحي، ولكن الأمر خطير والأسباب عظيمة والله يعلم مقدارها.
قال: ما تلك الأسباب؟
قالت: لا أستطيع بيانها، فأعفني من ذلك.
قال: مَن لي بعلم الغيب؟
قالت: سيان بوحي وكتماني، فلست طالبة منك غير النعمة التي وعدت بها.
قال: تطلبين مفارقة ابنتك والانفصال عنها قبل وفاتك ولا تُبيِّنين الأسباب؟
قالت: بحقك يا أخي لا تزِدْ أحزاني وأشجاني، وأن تعفيني من ذكر أمور تُقطِّع كبدي، وهي أمرُّ من الموت عندي، فمصائب هذا العالم كثيرة وبلاياه وفيرة، وقد لا يجوز للإنسان أن يُصرِّح ببعضها فتُوارى بموته، والأسباب التي تريد الاطلاع عليها من ضمن المصائب التي لا يجوز البوح بها، ويلزم أن تموت بموت صاحبها.
قال: تتكلمين بالأحاجي والمعميات والألغاز كأن لي وقتًا أُضيعه في التفكير في حل الرموز، أخبريني باختصار عن الأسباب الداعية لافتراقك عن ابنتك. ثم قال لها وقد ضاق صدره: إن لم يُخطئ حذري فإن خليلًا زوجك يُسيء معاملتك ومعاملتها، ويتصرف تصرف الأنذال الأخساء، فترغبين خلاص ابنتك من جوره، تلك أمور معتادة تحدث غالبًا عندما تتزوج أرملة ولها أولاد من زوجها الأول.
قالت: لم يكن هذا هو السبب.
قال: لا سبب غيره، وإن أخفيته عني، فإني لا أستغرب صدور الأمور الشائنة من زوجك الذي أعلم له من الأخلاق وسوء الطباع ما أعلم.
فكانت كريمة كلما لفظ أخوها اسم خليل — زوجها — تضطرب وتنقبض، فقالت: بحقك يا أخي أن تدع ذكره.
قال غانم: أعلم أنك واسعة الخُلُق صبورة، فيجب عليك أن تحملي المصيبة بشكر وتصبري على بلواك، وتكتمي الأمر عن كل واحد، ولتعلمي أني لا أنظر فيما لا يعنيني، ولا أدخل في عداوة زوجك وأكدار أغناني الله عنها.
قالت: أنسيت وعدك الآن لي؟
قال: كان وعدي مشروطًا.
قالت: والشرط وفاتي.
قال: أسأل الله أن يتوفاني قبلكِ.
قالت: إذن ترفض التماسي، ولا تقبل ابنتي عندك.
قال: محلها عندكِ لا عندي.
قالت: عندي تعيش في التعاسة وبالشقاء تموت.
قال: ما قدَّر الله كان، وما لم يُقدِّر لم يكن، ولم يُسمع البتة في الغابرين أن الحزن أمات صاحبه.
قالت: قد تكون ابنتي على خطر رائع وريب هائل إن أقامت في بيت زوجي وعذاب يهون دونه الموت الزؤام.
وهنا خرت كريمة على الأرض راكعة، وانسكب الدمع من عينيها، وقالت مستعطفة: أحلفك يا أخي بالمرحوم والدي والمرحومة والدتي، وأقسم عليك بالديانة والشرف وبأولادك الأعزاء وبابنتك أن تسمع مقالي، فالمقام جليل، أسأل الله أن لا تقف فيه وقفتي هذه، فتلتمس ما أنا ملتمسة منك الآن.
فانحنى غانم قليلًا ليُنهض شقيقته من ركعتها وقال: اعلمي أننا في فندق عمومي لا في ملعب تياترو وتشخيص روايات.
فنهضت كريمة بانكسار وتألم عناء شديد، وفي عينيها الجمود، تنظر إلى أخيها نظرة الغائب عن رشده أو كالأبله المعتوه.
فقال لها غانم: تستحلفيني بالأيمان وشرف ابنتي فأجاوبك أن مصلحتها تحملني على رفض التماسك، ولتعلمي أن في قلبي الشفقة عليك، ولكن مبادئي المقدسة تحكم عليَّ بأن أجفوك، ولعلك تتذكرين أني بعد وفاة زوجتي لم أفكر في زواج، وأني آليت على نفسي ألا تدخل بيتي امرأة بعدها، وحاش أن أكون قد حقدت على النساء من أجل ريب رأيته في زوجتي، فلن أذكرها إلا بخير، واحترام الأموات عندي سُنَّة مقدسة، ولكني تذكرت كثرة النفقات التي كنت أغترمها لمرضاتها، والنفقة الكثيرة مكروهة عند الرجل العاقل، ولا غلط أعظم من غلط من يزعم أن المرأة لازمة بمنزل الرجل لترتيبه وتدبير أحواله، فالأمر بالعكس إذ رأيت النساء من بلايا الكون ومصائبه، وعلة الشرور ومصدر كل ضرر، ولذلك فإني أطلب من الله لأحبابي ألا يذوقوا يومًا ولا ساعةً ما ذقته من الكدر في حياة زوجتي المرحومة بسبب إسرافها وإنفاقها بغير حساب، وخصوصًا عندما كنت أرى الخياطة تُقدِّم حسابًا بمطلوبها أو التاجر كشفًا ببضاعته التي باعها، فأدفع الثمن وروحي من الكدر تكاد أن تزهق، ثم إنه بأسباب النساء تكثر الزيارات والمقابلات وتستمر الولائم، وتتواصل السهرات، وجميع هذا يحتاج إلى النفقات الباهظة والمصاريف الفادحة. فيكف تكون حالة الرجل وهو يرى جَنَى غرسه مبدَّدًا وثمرة أعماله ضائعة؟! فوالله ليس من مصيبة لرجل عاقل حازم تعدل هذه المصيبة، ولو لم تدارك المنية المرحومة عاجلًا لهلكت غمًّا وحزنًا وكنت في الغابرين. وأكرر القول: إني لا أريد قذفًا بها ولا حقدًا عليها، فالله يشهد أني حزنت كثيرًا على فقدها، وغفرت لها ما أسرفت، وسألت الله أن يُسامحها، وإنما أردت تذكيرك بخبرها، وأني أقسمت على نفسي ألا أُدخل النساء في بيتي قطعًا لأسباب السرف والتبذير، وهو يمين مقدس عندي أحافظ عليه إلى مماتي، وفي هذا كفاية إن كنت تفهمين الإشارة.
قالت: أعجمَ عليَّ يا أخي كلامك فما فهمته.
قال: كلَّمتُكِ بالعربية وهي لغة تعلمينها، ونتيجة قولي وخلاصته: أني لا أقبل في منزلي امرأةً ولا بنتًا، وهذا الشرط فرضته على نفسي من نحو عشر سنوات فحفظته، فلا يسعني الإخلال به البتة، ولشدة حفظي عليه أجريته على ابنتي فأبعدتها من منزلي، وجعلتها في المدرسة تقيم مع ترائبها نائمة قائمة فلا تخرج حتى لم يبق في منزلي أثر جنس النساء … ومتى خرجت ابنتي فإلى بيت زوجها تدخل لا إلى بيتي، وكذلك فقد أعلمت ابني سعيدًا أنه يخرج من منزلي حين يتزوج، فأبقى وحدي بعيدًا عن النساء خاليًا من الهموم، فكيف يمكنني أن أقبل ابنتك في منزلي وقد أبعدتُ عنه أبنائي؟!
قالت كريمة: تجفوني هكذا يا أخي، فلا يبقى في قلبك محل لرحمةٍ ولا تشفق على شقيقتك المسكينة؟!
قال: ليس الأمر بوسعي، ولن أحنث في اليمين، فدعي اللجاجة، إنها لا تفيد شيئًا.
وكان كلام غانم بصوت جافٍ يُقطِّع الأكباد تقطيع الحسامِ الهامَ، فانفطر قلب أخته، وتمزَّقت أحشاؤها، وعلمت أنَّ تذللها بين يديه لا يُفيد شيئًا، فتجلَّدت لبلواها، وقالت وهي تنظر إليه واجمة حاقدة: تمتع بظلمك قليلًا، ها أنا خارجة عنك، أذهب فلا تراني بعد هذا يا قاسي القلب يا عديم الشفقة والرحمة، تهيأ فسيبلغك عما قليل نبأ — واللهِ — فظيع لم تدفعه وأنت مقتدر، فلعلك تندم وتُبكِّت الضمير، ولن ينفع التبكيت شيئًا، وقد قُضي الأمر ونفذ السهم … أُفارق هذه الدنيا ساخطةً عليك لاعنةً اسمك داعيةً بتقطيع قلبك الصخري إن كان لك قلب، وهذا وداعي الأخير إليك لا وداع بعده، ولا لقاء إلا في الآخرة يوم يُنصب الميزان، فتُحاسب على ما جفوت وعتوت وتجردت من الإنسانية، وتخلَّقت بالأخلاق الذميمة، وتكالبت في محبة المال تجمعه، وضننت به أن تنفقه في سبيله؛ لتدفع عني وعن ابنتي وعنك العار والشنار. إن ذلك اليوم لرهيب، أجيء مطالبةً وابنتي بالعرض المهتوك، وأرفع وإياها الأيدي للانتقام منك يا ظالم.
وهناك انقطع صوت كريمة، فخرجت مسرعة، وهي لا تبصر ما حولها كفاقدة الشعور.
أما غانم فلم يُجاوبها بكلمة، ولم ينتقل من مكانه، ولم يتأثَّر مما سمع كالوحش الذي ليس له قلب، وقال في نفسه وهي خارجة: إنها مجنونة، وليس على المجانين حرجٌ.
ثم نادى الخادم ليدعو همامًا، وقد طال عليه الانتظار.