الفصل الرابع
دخل همام وفؤاد وسعيد، فاعتذر إليهم غانم عن التأخير بسبب حديثه مع شقيقته، ثم جلسوا للطعام، وقد جاعوا فأكلوا باشتهاء.
وكان غانم على بخله أكولًا يلتهم الطعام، كلما قُدِّمت إليه صحيفة ابتلع ما فيها شاكرًا فضل همام على دعوته، ولو أن الحديث الذي حصل بين غانم وبين شقيقته حصل لغيره لانقطعت قابليته، ولكن غانم كان على طبع لا تُؤثِّر فيه الفواعل، ولا تعمل العوامل ولو بلغت ما بلغت من الشدة، غير عامل البخل وخوف النفقة، وهي الآن على همام صاحب الدعوة، فمن أجل ذلك كان ناعم البال منشرحًا يتناول طعامه بكل اشتهاء، فيا ليت كان قلبه سويًّا كمعدته!
وكان سعيد يحذو حذو أبيه، فلا يتخلَّف عن الأكل على كثرة الألوان، حتى كأن معدته بئر لا تمتلئ.
وقام همام بواجبات الدعوة وإكرام المدعوين، يسكب لهم الخمر في الكاسات البلورية، ويلاطفهم بالحديث والمنادمة.
وكانت شهوة الشرب عند سعيد بقدر شهوة الأكل، فجعل يتناول الكاسات من يد همام يحسوها على عجل، ويرجع إلى أكله كأنه لم يذق طعامًا منذ يومين أو ثلاثة!
وكان فؤاد صامتًا غارقًا في بحر الهواجس والأفكار، ولا يأكل إلا قليلًا، ولا يتعاطى الخمر، فإنما قد حضر حضور افتخار لإكرام المدعوين، فلم يرق ذلك في عين همام، وقد أشار إليه خاله ونبَّهه ليأكل ويتكلم فلم يفعل.
ولما انتهوا من طعامهم أحضر الخادم القهوة، وأخرج همام من جيبه علبة سجائر من أفخر ما يدخن، وقدَّمها بين أيدي غانم وابنه سعيد، فتناول غانم أكثر من النصف وقال لهمام: تعذرني أني أخذت أكثر من واحدة، فإني مواعد على زيارة في هذه الليلة، ولا يتبشر لي الذهاب إلى دكان تاجر الدخان عميلي لأشتري منه ما يلزمني، وفضلًَا عن ذلك فإن سجائرك تعجبني؛ لأنك لا تشتري إلا من الصنف الأعلى، وأنا أقنع بأقل شيء؛ وذلك لأننا معشر الرجال المتزوجين نتعب ونشقى ونسعى في أثر الرزق آناء الليل وأطراف النهار، فلا نبلغه إلا بشق الأنفس، فتأكله النفقة على البيوت المعلقة بأعناقنا، ولا يعلم مقدار ما نعاني من المشاق إلا المتزوجون، وأما العازبون مثلك فيجهلون ذلك، فلا تلمني أن رأيتني مقترًا على نفسي في النفقة.
ثم إن غانم التفت إلى فؤاد وقال: إني أعجب منه كيف لم يَفُهْ بكلمة طول مدة العشاء؟ ولعله تكدر من معاشرتنا، فلم يَرُقْ حضورنا في عينيه أو ضايقه حجز حريته عليه.
فجعل همام يُنبِّه ابن أخته، ويحثه بالإشارة على ملاطفة المدعوين ومسامرتهم، فلم ينتبه فؤاد لهذه الإشارة كأنه في سبات النوم لا يسمع ولا يرى.
فتكدر من ذلك همام، وساءه عدم اكتراث ابن أخته بأهل خطيبته، فكان يصر على أسنانه، ويعَض على شفتيه من الغضب فلا يتكلم.
ثم إن غانمًا نهض لينصرف، فخرج همام معه، وانطلق فؤاد مع سعيد يتنزهان في حديقة الأزبكية.
وكانت الليلة مُقمرة، ينجلي في سمائها البدر في تمامه مرسلًا أشعته الفضية على سندس خضرة الحديقة؛ فيتلألأ بهاءً وإشراقًا، وكأن البحيرة لجين نقي تتموج فيها أشعة القمر الساطعة، وتتحرك الأغصان بمرور النسيم اللطيف المحيي القلوب المنعش الأجسام.
وكان حول البحيرة جماعة المتنزهين والنساء يتمايسن بالقدود اللطيفة، فيُخجلن البدور السوافر والأنجم الزهرية، وكانت الموسيقى العسكرية تصدح بألحانها الشجية فتأخذ أصواتها بمجامع القلوب، والمغنون في القهاوي يوقعون على الآلات الأدوار الجديدة، والناس حولهم جلوس يرددون أصوات الاستحسان، وغير ذلك من المطارف التي جمعتها حديقة الأزبكية، وكان سعيد في تلك الليلة قد أكثر من الشراب فجعل يُعربد ويمزح ويقهقه كالسكارى.
وبعد أن قضى فؤاد برهة من الزمان يتنزه في الحديقة دائرًا حول البركة، استأذن لينصرف فمنعه سعيد بقوله: أنت الليلة معي، لن أُفارقك، ولن أدعك تذهب في هذا الوقت، والمكان زاهي الحظ جميل، فلنغتنم الصفو ولنُمتِّع القلوب بسماع الآلات، وإن شئت نُمتِّع النواظر بمشاهدة النساء الحِسان المتنزهات، فلعلنا نجد بينهن صيدًا شهيًّا نتفكه به بعد الطعام الفاخر الذي أكلناه في دعوة خالك، فأنت الآن في رفقتي، فلا تخف إنما قد استغربت أمرك إذ رأيتك تأكل أكل الأطفال وتشرب شربهم، وأنت حيي خجول كالبنات العذارى، وهذا ليس من شأن الشبان، وجئت الآن تطلب الانصراف كأنك تخشى طارقًا إن غبت عن منزلك فلم ترجع إليه في ميقاتك، فما الذي يُعكِّر عليك؟ أيكون السبب في انشغال بالك وحبك العزلة عن الناس عشقك لأختي سعدى التي ستكون قريبًا زوجتك؟ وإن شاء الله كان اسمها مقارنًا مسماها، فتجد في قربها السعود، فإنها سترث من أبيها أملاكًا واسعة تتمتع بها، وقد بلغني أنك محب للمال راغب في تعجيل اقترانك بها، ولأجل مرضاة خاطرها تحرم نفسك من الطيبات، وتمتنع عن الحضور في مجامع الناس ومجالس أُنسهم وطربهم لتُحسن خطيبتك فيك الظن، فلا تنسب إليك شيئًا من الباطل والعيب.
قال فؤاد: أخطأ ظنك يا صاحبي، فلا عتب عليك فيما تقول، إنما العتب على الخمرة التي أنطقتك بالقول السخيف، فأنت معذور.
قال سعيد: تستعمل المصانعة في حضوري، فبالله دع ذلك إلى مجلس شقيقتي وخاطبني بحرية، فإن التكلف يقبض الصدور، ويدفع أسباب المباسطة والانشراح، ولك العهد عليَّ أني لا أُخبر أختي بشيء.
قال فؤاد: الرأي عندي أنك تنصرف إلى منزلك، فالنوم أنفع لك، وهو الدواء الشافي لسُكْرك، ومتى صحوت غدًا تكلمني على هدى، وتذاكرني الحديث الذي تبتغيه.
قال سعيد: رأيتني أكثرتُ شرب الخمر، فزعمت أني سكرت وما أنا بسكران، فإني وحقِّك معتاد على شرب أضعاف ما شربته في هذه الليلة، فلا يحصل لي أقل انزعاج، ولا خرجتُ البتة عن صوابي ورُشدي، وأنا الآن أُكلِّمك على انتباه، فلا تسلك معي سبيل المكاتمة، ودع التقوى والتصاون إلى وقت آخر، وتظاهر بما شئت أن تتظاهر من الورع والفضيلة في مجلس أختي؛ لاستجلاب خاطرها ورضاها.
قال فؤاد: وهمت يا صاحبي، فأفعالي مُنطبقة على أقوالي، فلا أقول شيئًا إلا ومصداقه في قلبي ويقيني، ولك أن تحكم في طباع أختك، فأنت أعلم بها مني، وليس لك أن تعلم طباعي وتحكم لي أو عليَّ في أمر تجهله.
قال سعيد: أؤكد لك يا فؤاد أني أعزك فوق ما أعز أختي وأفضلك بالتهذيب والأدب والرقة حالة كونها على الأخلاق المنافية لذلك.
قال فؤاد: تحكم على أختك بالكبرياء وقلة الأدب والتهذيب إن كان يصدق قولك؟
قال سعيد: ما كلمتك والله إلا عارفًا، غير راجم طعنًا فيها، وفي استطاعتي أن أُبرهن لك على قولي لولا خشيتي نقل حديثي إليها، فيقوم بينها وبيني النزاع، فتضربني وأضربها وتنتف شعري، وتخمش وجهي، أو تسمل إحدى عينيَّ بأظافرها.
قال فؤاد: مَن يُصدِّق قولك وأنت أقدر منها، والنساء أضعف من الرجال عمومًا؟
قال سعيد: إن قدرت الخبيثة فعلت، وإن لم تفعل فليس من عدم الإرادة.
قال فؤاد: شيء عجيب، كنت أظنها وديعة هينة الطباع، وأنت تُخبرني بالعكس.
قال سعيد: خدعتك كما خدعتها أنت بتقواك وأدبك وحيائك، وما أخبرتك بهذا إلا لتحاذر حين زواجك بها أن تسمل عينيك بأظافرها الطويلة.
فقلق فؤاد لسماع هذا القول، ومع علمه بأن سعدى دميمة الوجه مجردة من الذكاء والمعارف، كان يظنها هينة الطباع رقيقة الجانب لطيفة المعاشرة وديعة النفس — كما هي الحال عند النساء المجردات من المحاسن الظاهرية — وجعل يتفكر في أمره، كيف يمتنع ويخالف رأي والدته إن صدق كون سعدى على هذه الصفات القبيحة.
فلحظ سعيد اضطراب خاطر فؤاد وانفعاله من كلامه، فأراد أن يتدارك ما فرط منه فيصلح الخطأ فقال: إن ما أبديته من القول على أختي سعدى مزاح، فلا تحله محل الجد، واعلم أنها حسنة السيرة طيبة السريرة، إن تزوجت بها كنت في سرور وحبور.
قال فؤاد: وحياتك إني لم أخف على عيني سملًا، ولا أرهبني طول أظافرها.
قال سعيد: لا تعر قولي جانب الصحة، فهي مباسطة ومجون، وإن شئت فهيا بنا للخروج فقد غلب النوم عليَّ، وإني أحب مجاراتك ومرافقتك.
فجالت الخواطر في رأس فؤاد، وكان في الابتداء راغبًا عن الخروج، فأصبح الآن بعد سماع كلام سعيد راغبًا فيه، مريدًا ملازمة سعيد ومصاحبته ابتغاء استطلاع أحوال سعدى وخوافي أمرها، فالتمس منه أن يقيم معه إلى آخر الليل.
قال سعيد: قد سألتني من دقيقتين أن أنصرف وأنت الآن تطلب إقامتي، فلي الحق في ملامتك.
قال فؤاد: لم يحن وقت الرقاد، ونحن في أول الليل، وقد قلت: إنك لا تسكر من شرب كأسين، فأخذت قولك على وجهه.
قال سعيد: هوَّم النعاس في رأسي، فلا أستطيع السهر، ولو عيرتني فاسمح لي بالانصراف، وإن شاء الله قابلتك غدًا وكلمتك مديدًا عن سعدى وخلافها.
وكان فؤاد شديد الرغبة في استطلاع حقيقة قول سعيد على شقيقته سعدى، واستغرب أن يسمع حديثًا كهذا منه مع أن العادة أن أهل العروسة لا يُبلِّغون عنها إلا كل حسن، ويخفون شوائبها ومعائبها، فوقع في نفس فؤاد من كلام سعيد أن سعدى على سوء الأخلاق وذميم الطباع، وأنه إنما أنطقه السكر فألح خطابه وقال له: إن كان لا بدَّ من توجهك للرقاد فلنشرب كأسًا أخيرة من الكونياك ثم ننصرف، وشراب الكونياك موصوف بخاصيته في هضم الطعام وللنوم والاستراحة.
قال سعيد: أصبت، فالكونياك من خاصيته أيضًا التنبيه وإصلاح ما أفسد النبيذ، فاخرج بنا إلى قهوة البورس فإن مشروبها جيد موصوف.
فانطلق الصاحبان معًا، وقد انطلت الدسيسة على سعيد فلم يُدرك الغاية، وانتهيا إلى القهوة، وجلسا يتحادثان، وأحضر الخادم لهما زجاجة كونياك فشربا، وأكثر فؤاد من العُزومة على سعيد في الشرب، فأجاب هذا دعوته، وجعل يتناول الكأس بعد الكأس حتى فرغت الزجاجة، فنادى فؤاد الخادم ليحضر أخرى، وكان قد أخذ السُّكْر في رأس سعيد كل مأخذٍ، فاستخفه الطرب، وجعل يعبث ويضحك، وعند ذلك سأله فؤاد قائلًا: أمن أمد بعيد فارقت سعدى شقيقتك؟
قال سعيد: أراك جاعلًا سعدى شقيقتي محور الحديث فلا بأس في ذلك، املأ الكأس لي أولًا، فإني أرى الكونياك باردًا خفيفًا لا يروي الظمأ.
فملأ له فؤاد وهو يقول: تتعجب مني كيف أسألك عن شقيقتك، وهي ستكون عمَّا قليل زوجة لي، والحديث عنها يسرُّني.
قال سعيد: والله يا صاحبي إني أرى حالتك كحالها، أنت ترغب في سماع أخبارها بقدر رغبتها في سماع أخبارك.
قال فؤاد: أي شيء تحبه من أخباري وتنشرح لسماعه؟
قال سعيد: لك عليَّ قول الصدق لغير رياء، إن شقيقتي لا تسأل عن مزاياك الحميدة وأدبك وحشمتك وذكائك ولطفك ودعتك ورقة جانبك، فإنها متكبرة لا تحتفل بهذه الصفات، وإنما تتحدث في شرف أصلك ونسبك بما جُبلت عليه من حب الفخفخة والعظمة، وقد بلغتها المفاوضات الحاصلة في شأن زواجك بها، فجعلت تنظر إلينا بعين الاحتقار كأننا أوضع منها أصلًا، وقال محتدًّا: ولا شك أن ذلك من قصر العقل وقلة التمييز.
وكان سعيد قد شرب كأسه، فسكب له فؤاد، وهو يقول في نفسه: رحم الله عاصر الشراب، فأقف في هذه الليلة على طباع وأخلاق مخطوبتي، وأعلم الحقيقة المكتومة، ثم إنه ناول سعيد الكأس ليشربها، فقال والكأس في يده: ليتك يا فؤاد كنت حاضرًا فترى حركاتها، وتسمع حديثها عند تعريفها بذكرك وافتخارها بنسبك، وأنها ستكون لك زوجة، فتبدو منها إشارات الطرب، وتهتز كما يهتز الأحداث عندما يُعطَون ألعوبة أو شيئًا من الحلويات، فيكون نصيبها مني أني أعبث بها بما أوتيت من الإدراك فأوبخها على حديثها لو أنها تسمع تأنيبًا، وأكرر عليها القول فتجاوبني بالشتم وتهينني فأشاتمها وتشاتمني، ويقع بيننا النزاع، فلا تلمني إن قلت لك الحق، ولا تعتب عليَّ إن رأيتني لا أحبها؛ إذ لا شيء فيها يُحَب.
ثم إنه شرب الكأس وقدمها لفؤاد فملأها، وجعلها على المائدة أمامه وقال: وأخبرك على سبيل المباسطة بما حصل بيني وبينها وأنا في حداثة السن، فقد كنَّا كلانا كالعدو مع عدوه لا نتفق، والخصام مستمر بيني وبينها، فكنت أقوى جسمًا منها، وهي أشد مكرًا مني وخبثًا، ومن مكيدتها أنها لا تُقلِّم أظافرها حتى إذا وقع بيني وبينها خلاف هجمت عليَّ وهشمتني، فما تنفصل عني إلا وقد خمشت وجهي وشوَّهتني، وقد نبهتها كثيرًا لتقطع أظافرها التي هي أشبه شيء بالمخالب أو بأسنان مسنونة فلم تفعل، فبينما كانت تنازعني يومًا من الأيام، وثَبَتْ عليَّ وثبة الأسد الضاري، وخمشت وجهي بأظافرها حتى سال الدم منه، وشعرتُ بألم لا مزيد عليه، فكنت من شدة الغيظ لا أهتدي، فبادرتها بضربة عنيفة على رأسها، ولكنها أفلتت مني، وأسرعتُ وراءها فلم أدركها؛ لشدة عدوها، فتناولت حجرًا صغيرًا رجمتها به بمنتهى عزمي وقوتي فأصاب وجنتها، وقلع لها ضرسًا من الأضراس، وبقي أثر الجرح في وجهي ظاهرًا مدة شهرين، وكادت تُشوِّه خلقتي.
قال فؤاد: لله درك ما أشد بأسك وانتقامك! أنت على الوصية بأن تعتدي على مَن اعتدى عليك، وعلى مذهب النبي موسى بمعاملة الناس بالمثل.
قال سعيد: عاملتها كما عاملتني، هشمتْ وجهي، وكسرتُ ضرسها، فعدوان بعدوان. وقد كان لهذه الحادثة شأن كبير بيني وبينها، وترتب على ذلك العداوة الخالدة، فتراني حاقدًا عليها، وتراها ساعية في الانتقام مني، وكلانا محاذر من الآخر.
قال فؤاد: لم أشاهد لها سنًّا مفقودة، فالظاهر أن قد نبت لها ضرس جديدة، إذ كنتما في حداثة السن أثناء تلك المشاجرة.
قال سعيد: كان عمرها في ذلك الحين ست عشرة سنة، ولا تنبت الأسنان في هذا الدور من أدوار الحياة على أن والدي صنع لها سنًّا صناعية عوضًا عن المفقودة، فلا تستطيع أن تميزها عن الطبيعية إلا بشدة بياضها إن دققت النظر.
فعندما سمع فؤاد ذلك تعجب واهتزَّ مقشعرًّا، فاستتبع سعيد الكلام قائلًا: وقد جاء تركيب السن في غاية الإحكام بحيث يستحيل الفرق بينها وبين بقية الأسنان، وهي في الفك الأعلى وبعد زواجك تتذكر قولي، وتخبر شقيقتي بحديثي، فترى كيف تغضب وتصخب، وربما أخذتني على كلامي، وأكون قد أخطأت بما أخبرتك، إذ كان الواجب عليَّ السكوت، ولكن الحق عليها لا عليَّ إذ نصبت لي العداوة، فلا بدَّ أن أنتقم منها، ولست أنتقم إلا بالحق.
فاستغرب فؤاد من هذا الأمر، وكان يقول في نفسه: أود أن يعلم خالي همام بهذه الحادثة، فلعله يقنعني بأن قلع الأضراس من المحاسن في المرأة.
ثم إن سعيدًا تناول الكأس وشربها وقدمها إلى فؤاد فملأها وجعلها أمامه وأردف بقوله: وقد كان قلعي ضرسها سببًا للنزاع والخصام المستمر بيني وبينها حتى إن والدي حقد عليَّ أيضًا، وكان لكرهه الإنفاق واغترام المصاريف قد أبى أن يصنع لها سنًّا عوضًا عن المفقودة؛ لاعتقاده أنه لا يُغيِّر في محاسن الوجه نقصان سن من الأسنان، ولا يعوق عن الأكل، ولكن أختي جعلت تُعكِّر عليه وتلازم النوح والبكاء حتى رقَّ لها، فاشترى السن المصنوعة، وتراه إلى الآن كلما رآها يتذكر الخسارة التي اغترمها وفي قلبه الأسف والحسرة.
قال فؤاد: فَقْدُ الأسنان مصيبةٌ عظيمةٌ عند النساء، فأختك سعدى معذورة بما تكدرت، فبالله أن تخبرني هلَّا فيها شيء صناعي غير سنها؟
قال سعيد: شعرها صناعي أيضًا، وهي تُعيِّرني بلون شعري أنه مائل إلى الحمرة، وذلك أفضل من الشعر الصناعي على كل حال.
قال فؤاد: لله درك، ما أبرعك ناقدًا تعرف الخفايا!
فتناول سعيد الكأس وشربها وهو يضحك، فجعل فؤاد يضحك مثله ويقول: شرط الأصحاب على بعضهم المشاركة ورفع الكلفة والتصنع، وأن لا يكتموا شيئًا من هواجس أفكارهم، فأخبرني عما يجول في خلدك.
قال سعيد: ضحكتُ من أمرٍ خَطَرَ في بالي، وأخشى أن أُخبرك به فتتكدر.
قال فؤاد: معاذ الله أن يُكدرني سماع حديثك، وأنا أُسَرُّ سرورًا فائقًا به، وأجده في غاية الظرف واللطافة.
قال سعيد: أرجوك أن تُعفيني هذه المرة من الكلام.
قال فؤاد: واللهِ ما أحب أن أثقل عليك في السؤال، ولكنني أتلذذ بسماع أقوالك، فإنك تروي بأجمل تعبير وألطف إشارة، وفيك تمام الظرف والمؤانسة.
قال سعيد: تتملقني لأُطلعك على كل شيء فمحبة وكرامة، ولكنني لا أجد بُدًّا من كتمان ما ورد في خاطري مخافة أن يبلغ أختي سعدى حديثي وتنزعج له، ويدفعها الغضب، فتنشب فيَّ أظافرها، وتسمل عيني الواحدة أو تفقأهما معًا، ولا تُلام على ذلك، ومن العادة أن لا يستهزئ أحد بالعيوب الطبيعية في الجسم، وفوق ذلك فإنه لا يصح وقوع هذا الأمر بين الأخ وأخته.
فرأى فؤاد أن استجلاء الأمر يحتاج إلى حُسن السياسة والبداهة، فقال لسعيد يخاتله: لا أخالفك في الرأي، وأراك على مذهب شقيقتك في المكاتمة وستر العيوب، فأنت تعاملها بمثل ما تُعاملك، وتُخفي عيوبها كما تُخفي عيوبك.
قال سعيد: وأي عيب تجده فيَّ؟
قال فؤاد: لا يليق بنا الخوض في هذا الموضوع، ونحن عما قليل سنصبح أهلًا، ومرادي أن تكون دائمًا أبدًا مسرورًا منى، ولعلمي أنك بصير رزين، ما أراك تهتم بتشويه قليل في الجسم لا يستحق الذكر.
فتكدر سعيد من سماع هذا الكلام، واشتغل باله، فقال: بل أريد أن أعلم ما أشرت إليه.
قال فؤاد: تذكر يوم توجَّهنا معًا لزيارة سعدى شقيقتك في المدرسة، إذ قادتني من يدي بعيدًا عنك، وجعلت تهمس في أذني كلامًا خفيًّا، بينما أنت واقف وأبوك تخاطبان المعلمة؟
قال سعيد: أذكر ذلك.
قال فؤاد: وتذكر أنك كنت لابسًا ثوبًا جديدًا تخطر فيه كالبدر الساطع، فقد أخذت أختك تضحك عليك لعيب يسير وجدته فيك، وزعمت أنه يُذهب بلياقة ملبوسك وإتقانه.
قال سعيد: أفرغت صبري، أخبرني عما رأت فيَّ من العيب أختي.
قال فؤاد: لست أُخفي عنك شيئًا، فإن شرط الصاحب على الصاحب الإخلاص، فاعلم أن أختك قبضت على يدي وهي تبتسم مشيرة إلى حذائك، وقالت ساخرة منك: انظر إلى قَدَمي أخي ما أغلظهما كخفي بعير، ما كان يليق لبس الأحذية المتقنة بالأقدام الغليظة هكذا.
قال سعيد وقد احمرَّ وجهه كدرًا وخجلًا: تقول أختي عليَّ هذا الكلام، وتُعيِّرني بكبر قدمي، وفي قدمها الواحدة ستة أصابع بدلًا من خمسة!
فقال فؤاد متعجبًا: ألها ستة أصابع في القدم؟
قال سعيد: نعم، في القدم الشمال، وكنت عزمت على أن أكتمك الأمر شفقة عليها، فزالت من قلبي الشفقة إذ أراها تعيبني، فسترى أينا يغلب صاحبه، واعلم أن أختي لرغبتها في إخفاء هذا التشويه تحب أن تترك نصف ثروتها لمن يُذهبه عنها.
قال فؤاد: والله ما أراك إلا مازحًا.
قال سعيد: لا أمزح، واللهِ هو أمر عاينته بنفسي، وستُعاينه حين تتزوج بأختي، وقد رأيتها تنوح وتبكي كثيرًا، وأبي يسليها بقوله: لا تزعلي فزيادة إصبع في الرجال أو النقصان لا يضر إذ لا يزيد في ثمن الأحذية.
وسكب سعيد ما بقي من الكونياك في كأسه، وقد أفرغ القنينة واتكأ على كرسيه كمن يبغي الرقاد.
وكان فؤاد يقول في نفسه: شكرًا لك أيها الكونياك، لولاك لم أعلم شيئًا مما علمت، ولولاك لسقطت في هوةٍ لا خلاص منها إلا بانقضاء العمر، مصائب قد اجتمعت، فشعر اصطناعي، وسن مفقودة، وإصبع زائد في القدم، ووجه دميم، وأخلاق قبيحة ذميمة، معائب ندر اجتماعها في الشخص الواحد، شكرًا لك ولله درك أيها الكونياك، ما أعظم سلطانك على العقل، وأقدرك على كشف الحقائق، فعليَّ أن أخبر خالي ووالدتي بجميع ما سمعت؛ لأعلم كيف يكون الرأي عندهما، وكيف تكون حجتهما في قلب هذه المعائب محاسن في المرأة.
ثم إن سعيدًا قال وعيناه مغمضتان من شدة السُّكْرِ: سقيتني يا فؤاد كثيرًا، فأنا الآن لا أملك قوة للقيام، ودارت الخمرة في رأسي، فلا أعلم أين نحن، أحجرتي بعيدة عني؟
قال فؤاد: كلا، إنها على بُعد خطوات قليلة.
قال سعيد: ادفع ثمن المشروب واخرج بنا، فلعل دكان الخياطة مفتوح بعد لأشاهد البنت الشقراء التي سلبت عقلي، وأضاعت رُشْدِي.
قال فؤاد: أراك بها هائمًا وَلِهًا.
قال سعيد: ادفع الثمن ولا تتأخر قبل أن تقفل الدكان، فهذه ليلة الأحد والخياطات يتأخرن عن الميعاد نظرًا لكثرة الشغل، فخطر في بال فؤاد جمال غادته الهيفاء التي رآها في جملة البنات الخياطات، فدفع ثمن المشروب، وانطلق وصاحبه سعيد إلى جهة الدكان.