الفصل الخامس
كانت دكان الخياطة على بضع خطوات من قهوة البورس، وصاحبتها امرأة أوروبية قد انتقلت إلى محل آخر، وهي حيَّة إلى اليوم الحاضر. وقد وجد فؤاد وسعيد الدكان مفتوحة، والبنات يتأهبن للرحيل، فالواحدة منهن تضع عملها على كرسي أو تحته لتكمله في الغد، وتلبس الأخرى ثوبها، وتكبس الثالثة على برنيطتها، وهكذا حتى يصدر لهن الإذن بالانصراف، فجعل فؤاد وسعيد يترقبان خروجهنَّ، ودارت بينهما المحاورة الآتية:
قال فؤاد: أتفكر أن تكلم صاحبتك الشقراء حين تخرج؟
قال سعيد: ألغير هذا الشأن حضرنا؟
قال فؤاد: تكلمها وليس لك بها معرفة واتصال؟
قال سعيد: أتعرَّف بها والأمر هيِّن.
قال فؤاد: تتعرَّف بها في الطريق.
قال سعيد: وأي حرجٍ من ذلك، أمرك واللهِ عجيب، فكأنك قد رُبيت في عزلة الجبال، لا تعلم من أمور المدن شيئًا.
قال فؤاد: لا يليق أن تُكلِّمها البتة في الطريق، والرأي عندي إن كان لا بدَّ من تعرُّفك بها أن تدخل إلى الدكان بحجة أن تشتري برنيطة أو شيئًا آخر فذلك أليق وأجمل.
قال سعيد: تريد أن تُضحك البنات عليَّ، كأنك تزعم أنه يفوتهن العلم بغايات الرجال، ويعدو خاطرهن أسلوبك الذي أشرت إليه. كلَّا، فالأفضل أن أُكلِّمها على حدة فلا يدري بنا أحد، دعني وشأني، وانظر كيف أتدخل وأبلغ الغاية، وتكون البنت بين يديَّ وطوع إرادتي قبل أن ترد طرفك إليك.
ثم إنَّ سعيدًا لم يتم كلامه حتى خرجت تلك الفتاة الشقراء تخطر وتتهادى، متصنعة في حركاتها، متلبقة في إشارتها، ومرت من أمام سعيد، فلحظته بطرف الإغواء كأنها تستدعيه، وسارت الهوينا تهتز معاطفها يمينًا وشمالًا.
فقال سعيد وقد أشرق وجهه حبورًا: أرأيت كيف أشارت إليَّ باتباعها وغازلتني بسحر عينيها؟ فأنا الآن أفصل عنك وغدًا تأتيك أخباري، ثم إنه انطلق وراء محبوبته، يقتفي أثر خطواتها مبتهجًا مسرورًا. ولم تكن برهة من الزمان حتى خرجت عفيفة، وهي الفتاة التي شغف بها فؤاد، وكانت لابسة ثيابًا سوداء، وعلى وجهها علامة البؤس والحزن، فجعل فؤاد يتأمل معاني حسنها البديع وجميل قوامها حتى مرت من أمامه، فلم تلتفت إليه، وأسرعت في سيرها فتبعها على بُعد قريب منها حتى انتهت إلى عطفة الطريق شمالًا في الشارع المعروف بشارع الباب الشرقي، فجعلت تُعجل في سيرها أحيانًا وتُبطئ أحيانًا لأفكار كانت تخالجها، فتبدو منها الحركات بحسب تأثير فواعلها، ثم سارت يمينًا في شارع البواكي حتى انتهت إلى الصيدلية النمسوية، وقفتْ قليلًا تتفرس، وبعد التردد دخلت إليها، فتقدم فؤاد قريبًا من واجهة الدكان ليُبصر ما يكون من أمرها، رآها قد دنت من شابٍّ مرتفع القامة، واقف وراء مائدة مستطيلة، وجعلت تكلمه همسًا خفيًّا، وأبصر وجه ذاك الشاب تغيَّر وجبينه قد تقطب، وأجابها برفض طلبها، فألحَّت عليه وتضرعت فأبى وكلفها بالخروج، فانصرفت ورأسها منكس إلى الأرض، واشتدت على وجهها أمارات الحزن فاستطردت المسير، فتفرس فؤاد أن الفتاة قد التمست شيئًا من السموم المحظور بيعها، وإلا فكيف امتنع الصيدلي عن تلبيتها. وبينما كان يُجيل هذه الخواطر في رأسه تلفت فلم يُبصر الفتاة، فجعل يهرول يمنة ويسارًا مُفتِّشًا عليها حتى رآها قد دخلت صيدلية أخرى عنوانها الصيدلية السويسرية، كانت على بُعد خطوات قليلة من الصيدلية الأولى على رأس الطريق المؤدية إلى شارع العتبة الخضرا، وكان في الصيدلية شاب لطيف حسن الوجه جالسًا على كرسي يُطالع كتابًا، فلما أبصر الفتاة داخلة عليه وقف لها، وسألها بكل تأدب عما تريد، فلما أجابته انقبض وجهه كما انقبض وجه زميله في الصيدلية الأولى، وقال للفتاة بكل حشمة وبشاشة: إنه لا يستطيع إجابة سؤالها، فألحت في طلبها فامتنع وخرجت من الصيدلية فتبعها وهو يعتذر بقوله: أتأسف لكوني لا أستطيع قضاء حاجتك، فإن ما تطلبين ممنوع بيعه بأوامر مشدَّدة من الحكومة، فلا يمكننا مخالفتها إلا بتعريض أنفسنا لمسئولية كبرى وعقوبة جسيمة.
وقد سمع فؤاد كلام الصيدلي فتحيَّر وقال في نفسه: أستغرب واللهِ أمر هذه الفتاة، أي علاقة بين ما تطلبه وبين الحكومة؟ فلا بدَّ أن أستجلي الأمر وأكتشف السر.
وجعلت عفيفة تسرع في سيرها أكثر من الأول، فمشت محاذية محل الضابطة القديم، ثم وقفت كأنها تبغي العود على عقبها، فوقف فؤاد ناظرًا إليها، وأحسَّ بعاطفة سرية تقوده، فإذا الفتاة قد أخذت تسعى بعد وقوفها برهة، فتبعها فعطفت سيرًا على يمينها في الطريق المؤدية إلى جهة الموسكي المعروفة بشارع الجوهري، وظلت سائرة حتى انتهت إلى صيدلية ثالثة قريبة من شارع الموسكي إلى جهة الشمال عنوانها الصيدلية الفرنسية، فوقفت على بابها تشاور نفسها في الدخول، فبادر فؤاد بحجة أنه يشتري حبوبًا للسعال، فدخل الصيدلية وفي نفسه أن يسمع كلام الفتاة وما تطلبه. وكان في الصيدلية ثلاثة أشخاص يظهر أن أحدهم صاحبها وأن الاثنين الآخرين من عماله، فأحدهما واقف وراء التختة ويسد بالفلين والشمع الأحمر القناني، والثاني جالس بقرب مكتب بين يديه الدفاتر، يكتب ويحسب، وكان صاحب الصيدلية مُضطجِعًا على كرسي، وقد غلب عليه النعاس، فبينما نهض الغلام لقضاء حاجة فؤاد دخلت عفيفة متقدمة نحو الشاب الجالس على مكتبه، وكلمته بصوت منخفض، فنظر إليها الشاب مندهشًا، وقد سقط القلم من يديه وقال لها: تطلبين الزرنيخ وليس في يدك رخصة من طبيب؟ فسمع فؤاد الخطاب، والتفت إلى عفيفة وتفرَّس بها، وصادف أن سقطت قنينة من يد الغلام فاستيقظ صاحب الصيدلية من هجعته، ونهض من كرسيه يُكلِّف الغلام بالإسراع في الخدمة وأن ينتبه.
وتقدَّم نحو عفيفة يسألها عن مطلوبها، فأجاب الشاب الجالس على المكتب أنها تطلب زرنيخًا، فقال صاحب الصيدلية: أي زرنيخ … البوتاس أو الصودا أو النشادر؟ فهذا الدواء موصوف لمعالجة الأمراض الجلدية ولتحسين البشرة، وتستعمله النساء دهانًا لتحسين الوجه وتنعيمه.
قالت وقد احمرَّ وجهها خجلًا: ليس بي مرض، ولا حاجة لي في دهان وجهي.
قال الصيدلي: لم يكن معنايَ أنك تطلبين الزرنيخ لنفسك، فقد أغناك الله عنه بجمالك الرايق. أين روشتة الطبيب لأنظر؟
قال الشاب: ليس معها كتابة من طبيب.
قال الصيدلي: لا نستطيع أن نبيع مطلوبك بدون أمر الطبيب، وخصوصًا لمن كان في سنِّك. فما تبغين من هذا الدواء؟ قالت: في بيتنا فيران كثيرة تأكل المتاع، وقد وصفوا لنا الزرنيخ لقتلها. قال: عندنا حبوب جاهزة لإتلافها أعطيك منها ما يلزم. قالت: أفضل أن أركِّبها بنفسي.
قال وقد أوجس من كلامها شرًّا: أخشى أن تكون في رأسك مكيدة، وليست مسألة فئران في البيت تهلكينها، وإن كان لا بدَّ لك من هذا الدواء، فليحضر والدك أو خلافه يستلمه.
قالت: أبي تُوفي وليس لي أهل.
قال: تُوفي أبوك وليس لك أهل، وترغبين أن أبيع لك زرنيخًا، وهو من شر السموم القاتلة؟! كلا، هذا مستحيل، ولا بدَّ أن يكون في الأمر سرٌّ خفي، فأخبريني أين أنت مقيمة؟
فرفعت الفتاة رأسها، وقد انقشعت قليلًا غياهب الهواجس من عقلها فأجابت قائلة: ما يعنيك من معرفة محل إقامتي وأن تسألني هذا السؤال؟
قال: بل يعنيني ذلك ويهمني جدًّا، وفي قلبي محل للريب من فتاة مثلك وفي سنك تسير وحدها في الشوارع ليلًا تبتاع سمومًا لسوء نية وخبث قصد، فاعلمي أننا مسئولون عن بيع العقاقير السامة، فمن الواجب عليَّ معرفة اسمك وعائلتك ومحل إقامتك، فإن لَبَّيْتِ الطلب فبه وإلا استعملت الطرق الأخرى. فنظرت إليه عفيفة بعين الازدراء والاحتقار والنقمة، ثم ولَّت بوجهها معرضة عنه، وسارت نحو الباب تبغي الخروج، فأشار الصيدلي لأحد غلمانه بأن يمنعها عن الخروج، وأمر غلامًا آخر بأن يستدعي أحد رجال البوليس، فتقدم الغلام الأول ليقبض على ساعدها، ويحجز عليها …
فتعرَّض له فؤاد ودفعه بعنف إلى داخل الصيدلية، والتفت إلى الفتاة يُكلِّمها قائلًا: لك الأمان، اذهبي بسلام.
ثم التفت إلى الصيدلي وقال: لا أُنكر عليك امتناعك عن بيع الزرنيخ للفتاة، إنما أراك قد جاوزت حقوق الوظيفة وواجبات المهنة، فصنعتك بيع العقاقير لا إجراء التحقيقات.
وكانت عفيفة لا تزال واقفة عند الباب، فرجع إليها فؤاد يُخاطبها بقوله: أنت حرة في قيامك وذهابك، فلحظته الفتاة شاكرة وانطلقت مسرعة كالطير يفلت من القفص.
فغضب الصيدلي وغلمانه، وتعجبوا من تصرف فؤاد وانتصاره لفتاة حلت نفسها محل الشبهة، وقصدت قتل النفس تعمدًا، فقال له فؤاد: وهل ظهر على وجهها أنها تقصد تسميم أحد، فسعيت في أذيتها، وهي لا تريد إلا تسميم نفسها؟ ألم تر أمارة اليأس والقنوط عليها؟ ثم إنه جعل على التختة ريالًا ثمن الدواء الذي اشتراه، وخرج مسرعًا يعدو على أثر الفتاة.
فقال صاحب الصيدلية: إن الفتاة مختلة الشعور، والشاب معتوه دفع الريال ثمن الدواء ولم يأخذه، وجعل فؤاد يلتفت يمينًا وشمالًا ليرى الفتاة، فإذا هي آخر الطريق المؤدية إلى تياترو الأوبرا الخديوية، فتبعها وقد توجهت من شارع التياترو إلى شارع المغربي المجاور للفندق المعروف ﺑ (نيو أوتيل) بالإنجليزية أو الفندق الجديد، وكان يسرع في السير مثلها، ويقول في نفسه: إن لهذه الفتاة شأنًا عجيبًا ونبأً غريبًا، وهي حديثة السن تشكو تصاريف الزمن، وقد طلبت السم لتُميت نفسها في تجرعه، فالظاهر أنها عاشقة، كلفت بهوى رجل فتركها، فابتغت من اليأس قتل نفسها لأجله، وإلا فما الباعث يا تُرى لها على هذه الجرأة والإقدام على مثل هذا الأمر المنكر؟! ولتفطر قلب فؤاد عليها من الحزن عزم على أن يتبعها أيان ذهبت ليعلم حقيقة الخبر ويمنعها عن قتل نفسها. وكانت الفتاة سائرة لا تدري بأمر فؤاد أنه يقتفي أثرها، وكانت كلما تقدمت في السير تزداد اضطرابًا وحزنًا حتى وصلت إلى منتهى الشارع، فعرجت شمالًا إلى شارع مصر العتيقة قريبًا من نمرة ٢٤ وهي لا تلتفت إلى جهة ما، فلو رآها راءٍ على هذه الحال لجزم بأنها مجنونة هائمة على وجهها في شارع الإسماعيلية، ضالة عن الطريق، فظل فؤاد يتبعها إلى رأس الشارع المؤدي إلى كوبري قصر النيل، وهنالك حديقتان صغيرتان مستديرتان في وسط كل منهما بحيرة جميلة مزدانة بالأزهار والنبات، يُحيط بهما سياج من الحديد، فجلست من التعب على رصيف إحدى الحديقتين تطلب لنفسها راحة، وتقول: قرَّب الله يومًا أبلغ فيه الراحة الدائمة وألحق بوالدي. وبعد أن جلست قليلًا من الزمن استأنفت المسير، وقالت تناجي نفسها: لا يسوغ لي صرف الوقت سُدى وأبي ينتظرني، وأنا مشتاقة إلى رؤياه … فتبعها فؤاد حتى أدركت كوبري قصر النيل، فرآها وهي تنظر إلى المياه الجارية من تحته خائفة من سكون الليل وهيبته، وقد سارت فوق الكوبري ملتفتة يمينًا وشمالًا تقيس العلو، ثم توجهت مستقيمًا، ثم عرجت يمينًا، ثم قعدت، قاومت، ثم وقفت في محل مرتفع على شاطئ تجري من تحته المياه في عمق عظيم، وكان في قرب المحل شجرة من النخيل اختبأ فؤاد في ظلها كي لا تراه الفتاة.
وكانت عفيفة مستغرقة في بحار الأفكار غير متنبهة لأحد، وكانت الليلة مقمرة والبدر في تمامه يسطع بأنواره البهية على المياه الجارية، ويتألق بضيائه كالفضة النقية تتماوج موجًا خفيفًا، فتقدمت عفيفة حتى أصبحت على قيد خطوة من النهر، ونزعت عن رأسها النقاب، فأخجلت بطلعتها البدر الساطع فوقها، ثم أرخت شعرها فانسدل على الكتفين، وجثت على الركبتين رافعةً إلى العُلا رأسها تضرع وتُصلي، وكان الوقت ساكنًا والنسيم عليلًا، يُحرِّك بلطافةٍ شعرَها المسترسل، فلو أن ناظرًا نظر إليها خاشعة راكعة شاخصة إلى السماء، رافعة يديها في الضراعة، تناجي ربها صاحب العزة والملكوت، وتأمل بهجة المكان وهيبة الليل لاندهش من ذلك المنظر، وخرَّ خاشعًا مثلها لعزة ذي الجلال، وظن الفتاة ملكًا هبط من السموات العُلا يسبح على الأرض، ويتلو آيات العبادة لربه، وقد أثَّر هذا المنظر على فؤاد أشد التأثير، فرجفت أركانه، وتوجَّس أن الفتاة تريد بنفسها شرًّا، ورآها بعد عشر دقائق قد نهضت، وأضاء وجهها، كأنما الصلاة أزالت عنه ما غشيه من أكدار الهواجس والأفكار، فأنارته وزينته بأبهى زينة التقى والوقار. ثم رآها وقد مدت يدها على جيبها، فأخرجت علبة صغيرة ذهبية قبلتها مرارًا كثيرة والدموع تتساقط من عينيها، ثم أعادتها إلى جيبها، وضفرت بيدها شعرها ضفيرتين ربطتهما على عنقها، وحلَّت شريطة سوداء فربطت ثوبها من أسفل ركبتيها صيانة للأدب والحشمة، وتقدمت قليلًا تنظر في الماء فراعها المنظر وتولاها الجزع، وكان البدر قد احتجب وراء سحابة فأظلم المكان، فتربَّصت الفتاة انجلاء السحابة وتجلي البدر اللامع، وأرسلت بصرها إلى العُلا، وهي لا تُبدي حراكًا. وكان فؤاد يُراقبها فلا يتحرك من مكانه، وفي قلبه الاضطراب الشديد والجزع الذي لا مزيد عليه، فلما انقشعت السحابة، وأضاء البدر بنوره، سمع عفيفة تستغيث بأسماء الله العظيمة، ثم صرخت قائلة: «ربي ارحمني … بين يديك أستودع روحي يا أرحم الراحمين» … وهمَّت أن تزج نفسها في اليم، فهبَّ فؤاد من مكانه كالبرق، وقبض على طرف ثوبها قبل أن تندفع، فصاحت مرعوبة، ووقعت على الأرض مغشيًّا عليها، فنزع الفتى سترته، فجعلها بساطًا أضجعها عليه، وحلَّ شعرها المربوط على عنقها والرباط المعقود على ركبتها، وانتظر أن تفيق من إغمائها ليرجع بها من ذلك المكان، وطال عليها الأمد فلم تفق، فانحدر إلى النهر، وبلَّ منديله بمائه، وجعل يرش على وجهها، ويمسح جبينها، فانتعشت قليلًا، وفتحت عينيها، ونطقت بغير رشد، ثم تلفتت إلى ما حولها، فكأنها لم تُبصر شيئًا، فعلم فؤاد أنها في بحرين من شدة الأوهام والخيالات، وأنها لم تملك حواسها، واستمرت كذلك حتى سمعها تهتف قائلة: أبي أبي … ألست بين يديك؟ وبسطت ذراعيها كأنها تريد معانقة فؤاد ظنًّا منها أنه والدها المحبوب.
فقال لها فؤاد وقد اضطرب جنانه: التزمي السكون إن شئت رؤيا والدك، واجمعي أفكارك وحواسك وقوتك.
فأطاعت الفتاة كلامه كأنها في حلم، وجعلت يدها على جبينها لتجمع أفكارها بعد الشتات. وجعل الفتى يُلاطفها، ويتجمَّل في خطابها، ويمسح وجهها بالماء، وهي أثناء ذلك لا تهتدي رشدًا تصدر منها الحركات على غير انتظام، وتنطق بلا وعي، ثم قالت: أسمع صوتًا لطيفًا يشبه صوت والدي، ولعله غير بعيد عني، ليحضر قريبًا إليَّ، فأستغني به عن سائر الكون.
فقال فؤاد في نفسه متوجعًا للفتاة: يا لها من تعيسة فاقدة السعادة! أنقذتها من الموت، فهل أنقذها من الجنون؟ فإني أراها تختلج اختلاجًا، وتبدو حركاتها بلا ترتيب كحركات معتل الشعور.
ثم إنها نطقت كأنها تُناجي أباها بقولها: أبي أنت في السماء، وأنا مقبلة إليك مُبرَّأة من العيب والريب، والناس يقولون: إنَّ مَن يقتل نفسه يُصبح في الهالكين، لقد ضلوا سبيلًا، إنما ملكوت السموات للمساكين الحزانى، وأنا منهم أقضي أيامي حزينة مسكينة ومعذبة ومحرومة. ثم جعلت رأسها بين يديها، وأذرفت الدموع الساخنة، وقد أفاقت من صرعتها قليلًا، وخشي فؤاد أن يعاودها الإغماء من شدة البكاء، فاجتهد في ملاطفتها وتعزيتها وتسكين خاطرها، فانتبهت شيئًا فشيئًا، ثم انتصبت واقفة تنظر إلى ما حولها قائلة: أين أنا؟ من أحضرني هنا؟ مَن هذا الشاب؟ أين أبي؟
فقال لها فؤاد: سكِّني البال، أنت في أمان، وأنا صديقك وبين يديك.
قالت: ليس لي صديق ولا رفيق، أخبرني أين نحن، الوقت ليل وقلبي مضطرب خوفًا؟
قال: لا تخافي شيئًا، إنك في رفقة صديق أمين مخلص، لا يبغي بك شرًّا، ثم إنه قادها من يدها نحو الكوبري رجوعًا إلى المدينة، فارتعدت فرائصها من رؤية الماء، فسكَّن فؤاد خاطرها، ومشى بها حتى انتهت إلى الكوبري، فأجلسها قليلًا على حافة رصيف الشارع لتملك بعض الراحة، فإن قدميها لم تستطيعا ثباتًا من شدة الرجفة، ولبث فؤاد محتارًا كيف يُوصل الفتاة إلى بيتها وهو لا يعرفه والمسافة بعيدة، والعربات معدومة في مثل هذه الساعة من الليل، فبعد أن استراحت قليلًا استأنفت السير، وهي متكئة عليه حتى وصلا الحديقة الصغيرة التي جلست عليها الفتاة قبل حين قريب، فخطر في باله أن يدعها هنالك قليلًا وأن يذهب في طلب عربة، ولكنه أشفق أن تعاودها الأفكار في أثناء غيبته فتقتل نفسها، فرأى الصواب أن يُقيم معها حتى تكون قد استراحت، وتمر عربة فيجعلها فيها. ولتوسط المكان جملة شوارع كان المحتمل أن يرى عربة خلوًا من الركاب، فأقام في مكانه ينتظرها. وكانت عفيفة تقول من حين إلى حين: يا عجبًا! ماذا جرى؟ ماذا عملت؟ وكم الساعة الآن؟ ومن جاء بي إلى هذا المكان البعيد؟ كيف أني مقيمة خارجًا عن بيتي في هذا الوقت؟ وما حال والدتي وهي لا تراني؟ قالت: أرجوك يا سيدي أن ترافقني في الطريق إلى بيت أمي، فإني لا أُبالي بالتعب، واسمح لي أن أتوكأ عليك، وأنت صاحب الفضل والمعروف، وبينما هي تتكلم مرت عربة من أعلى شارع مصر العتيقة المعروف بشارع ٢٤، فاستبشر فؤاد برؤياها، فما لبثت أن دنت منها، فأومأ إلى السائق يستوقفه، وأجلس عفيفة في العربة بعد أن امتنعت وأبت إلا التوجه ماشية على القدمين، وجلس فؤاد إلى جانبها، وأمر السائق أن يسير إلى جهة الأزبكية قريبًا من قهوة البورس لظنه أن محل إقامة الفتاة قريب من هنالك، فسارت العربة.
وجعلت عفيفة تنظر حينًا بعد حين إلى الفتى متعجبة مستغربة حتى قالت له أخيرًا: أخال يا سيدي أني رأيتك، ولكنني لا أتذكر المكان ولا الزمان.
فقال لها فؤاد: لا تُجهدي النفس في التفكير، فإنه يلزمك الاستراحة واطمئنان البال، وجعل يُواسيها بالقول الجميل ويُلاطفها، ويُعزِّي قلبها المحزون متوجعًا لها ولوالدتها ولانشغال بالها. ثم جعل يُخبرها عن قصته وكيف تتبع أثرها من وقت خروجها من مخزن الخياطة ودخولها إلى الصيدليات الواحدة بعد الأخرى، وكيف أنقذها من كيد الصيدلي، وتبعها إلى كوبري قصر النيل، وأنقذها من الغرق، وكان في أثناء ذلك يتلطف في عتابها ويلومها على فعلها قائلًا: إن الكون مخلوق للشقاء والتعب، ولا بدَّ لكل خليقة في حمل ما قسم لها مولاها من الأتعاب والأوصاب بصبر وطيبة خاطر، ولا يليق بأحد معارضة الله في أحكامه، وكل مصيبة — وإن عظمت — فوقها مصائب أعظم. وقد تهون على المرء أتعابه حين يُقابلها بأتعاب غيره، وليس على البسيطة مستريح خالٍ من الهم والتعب، وإن الأحزان في الكون أكثر من الأفراح، سُنَّة الله في خلقه، فعلى العاقل البصير أن يكون حمولًا غير جزوع، مُتجلِّدًا لملاقاة الأهوال بالعزم والحزم لتهون عليه مصائبه. وقال: أنت أيتها السيدة نبيهة، وعليك دلائل الذكاء، فيلزمك التصبر على الشدائد، فلكل أمر نهاية، ولا يدوم في الكون فرح ولا ترح، فأشفقي على والدتك، وتأملي مقدار ما تأسى عليك وتجزع حين يبلغها وصول أقل ضرر إليك، فتعروها الأكدار والأشجان، وتكثُر أحزانها وأوجاعها، وربما قضت وجدًا عليك، وسكنت الرمس قبل الأوان، وتكونين أنت السبب في ذلك والخطيئة مضاعفة، وكانت العربة تسير مسرعة سير السحاب، وعفيفة تُصغي إلى كلام الفتى، وقلبها يخفق إلى أن وصلا أمام دكان الخياطة، فقال لها فؤاد: وصلنا إلى محل عملك فأين منزلك لأُوصلك إليه؟
قالت: تفضَّلت يا سيدي بالمعروف، فلا تتعب سرك، وأنا لك ممنونة، دعني أذهب إلى منزلي وحدي فإني أعرف الطريق.
قال: بل أمضى معك، فلا أدعك تذهبين وحدك في مثل هذه الساعة.
قالت: بل نفترق هنا، فلا يراك أحد برفقتي، بالله أن تجيب طلبي فالطريق مأمونة، ولا خوف عليَّ من شيء ما.
قال: لا يمكن ذلك، ولا بدَّ أن أُسلمك إلى والدتك وإلا لم يسكن لي بال، ولا يقر لي فكر. فلما رأت عفيفة أن لا سبيل إلى مخالفته انقادت له، فنزلا من العربة وسارا من وراء دار البوسطة في الشارع المعروف بشارع البواكي، وانتقلا إلى الشارع المعروف بشارع المجلس القديم، واستمرَّا سائرين إلى شارع درب الجنينة، ومرَّا تحت القنطرة المقابلة للطريق، ثم عرجا شمالًا بعض خطوات، ووقفت الفتاة فسلَّمت على فؤاد مصافحة بيدها، وقرعت الباب، ففُتح لها ثم أُغلق في دخولها. وكان قد رفع فؤاد بصره إلى فوق فرأى امرأة تنظر من إحدى نوافذ الدور الثاني، فلم تبرح حتى دخلت عليها الفتاة، فعرف المنزل جيِّدًا، وانطلق في حال سبيله، وكان منزله قريبًا يشرف على ميدان التياترو، فمشى تنازعه الأفكار مُتعجِّبًا من هول ما سمع ورأى في تلك الليلة.