الفصل السادس
نهض في الغد همام إلى منزل شقيقته أم فؤاد واسمها سيدة، وكان حضوره قبل الظهر بنصف ساعة، فدخل قاعة الاستقبال، وجلس على كرسي مكسو بقطيفة حمراء من عادته الجلوس عليه في كل مرة يجيء، ثم أوقد كبريتًا فأشعل سيجارة، وتناول جرنالًا ليقرأه وجده على طاولة وسط المكان منتظرًا قدوم شقيقته، وكانت الحجرة مُزينةً مزخرفةً بالصور والتماثيل الدينية الدالة على تقوى ربة المنزل وعبادتها، وكان همام لا يعتقد بالديانات، ويعبث بأخته ضاحكًا عليها بجعلها الصور في حجرة الاستقبال، وهي أولى بالمعابد والمساجد. وبينما هو جالس يتأمل سمع صوت قادمٍ فأبصر فإذا هي شقيقته سيدة قد أقبلت، وكانت تناهز الخمسين سنًّا، وعليها الملابس الفاخرة المتقنة، دخلت وفي يدها كتاب مُذهَّب له قفل فضي، ولم تكن متبرجة بحلاها وأزهارها شأن النساء الجاهلات المجاوزات الأربعين سنًّا المكثرات من التبرج وأسباب الزينة وصباغ الوجه زعمًا بأنهن يرددن بالصباغ والزينة ما محت الأيام من محاسنهن أيام الشباب، فيعرِّضن بذلك أنفسهن للسخرية والاحتقار بدلًا من الإكرام والاحترام الواجبين للطاعنات سنًّا. وكانت ممتلئة الجسم طلقة الوجه، عليها لوائح الهيبة والكرامة، تقدمت فحيَّاها همام بالسلام، وبادرها بقوله: نفعنا الله ببركة صلواتك، إنك إن لم يخطئ حذري آتية من الصلاة، والدليل الكتاب الذي في يدك.
فلم تجاوبه شقيقته بشيء ما على قوله، وهبت مسرعة تفتح نوافذ الحجرة معربدة من رائحة الدخان تقول: قطعها الله من عادة رديئة تمسَّك بها أهل هذا الزمان في التدخين، فلا نراهم يستطيعون الإقلاع عنها، وقد جعلها الشبان — لجهلهم — من علامات التظرف والتمدن، والبالغون قد زعموا أنها من الضروريات لحفظ الصحة، وساء ما يزعمون. ثم إنها التفتت إلى همام تقول له: ما من شيء أشد كرهًا من شم رائحة دخانك!
فقال همام مبتسمًا: تجدين دخاني كريهًا، وقلَّ أن تجدين مثل السجائر التي أدخنها، فإن لم تصدقي ذلك، فاسألي فؤادًا ابنك.
قالت: الظاهر أنك علَّمته التدخين، فأصبح مثلك أو يزيد عليك، وبئس العادة عودته.
قال: بيني وبينه مراحل حتى يعرف التدخين مثلي، وأي سوء ترين في هذه العادة؟ فوالله إني لا أخشى أن يكتسب فؤاد بإرشاداتك صفات التخنث التي لا تليق إلا بالنساء.
قالت: من المعلوم عندي أنك لا تستحسن تربيتي لاختلاف المبادئ عندي وعندك وعدم موافقتها لعاداتك، فسواء كنت مصيبة في رأيي أو مخطئة فإني والدة فؤاد، ولا يلومني أحد إن حملته على اتباع الطريق الأفضل، وأظنه الصراط المستقيم.
قال: لن أعارضك في تربيته، وأعلم حقَّ العلم أن من المفروض على الوالدة تربية الأولاد والعناية بهم وتعليمهم وتهذيبهم، فقد قيل: الابن سر أبيه وصورة والدته، فإن كانت مهذبةً عاقلةً اكتسب تهذيبًا وعقلًا، ونشأ على الفضائل وعاش سعيدًا، وإن كانت ذميمة الأخلاق سيئة السيرة انتقلت رذائلها وعيوبها فيه، وعاش تعيسًا مخفقًا. فالأم عندي أساس السعادة والشقاوة، ولكني أرى الواجب الاعتدال في التربية، فإن التطرف في كل شيء مُضرٌّ.
قالت: أتحسب المبالغة في حُسْنِ التربية تطرفًا؟
قال: الإفراط والتفريط رذيلتان؛ لأنهما خروج عن الاعتدال، ولكن لكل شيء حدود معلومة لا يجوز تجاوزها، فؤاد ابنك قد بلغ السابعة والعشرين من عمره، وأنت لا تزالين تعاملينه كابن اثنتي عشرة، فتنهينه عن معاشرات الناس، وتعلمينه كثرة الصلاة والصوم والعبادة والحياء، وهي صفات جديرة بالنساء لا بالرجال، ولتفهمي قولي، أضرب لك مثلًا البارود، فهو في حد ذاته نافع مفيد، وكذلك الأسلحة النارية فلو جعلناه في البندقية بمقدار يزيد على اللازم تفجرت وتفرقعت ولم تتحمله، وهكذا نتيجة المبالغة والتطرف في سائر الأمور.
قالت: أي نسبة بين السلاح الناري وتربية فؤاد؟
قال: النسبة واضحة، ووجه الشبه ظاهر، فكما أن العيار الناري لا يتحمل البارود إلا بقدر معلوم وبقانون، فكذلك الإنسان لا يمكنه أن يحمل من الفضائل فوق طاقته وزيادة عن استعداده، وأنتِ قد أفعمتِ قلب فؤاد بالمواعظ الدينية والإرشادات التي ربما كانت تناسبه في حداثة السن فأما الآن فتضر به، والواجب أن توسعي عليه في الحرية مخافة أن يشتد الضغط عليه، وتقوده طبيعة سنه إلى خلع العذار والاسترسال في الغوايات، فينبذ إرشاداتك ونصائحك ظهريًّا، وتخيب آمالك، وتضيع أتعابك.
قالت: الظاهر أنك لرغبتك في منفعته ومنع حدوث الثورة فيه أبقيته في الأمس معك إلى الساعة الواحدة بعد نصف الليل وقاسمته اللهو والانشراح وأضفته إلى مائدتك الشهية، وقدمت بين يديه أصناف المأكول والمشروب حتى أضعت رُشده وحجاه.
قال: أغاب فؤاد حتى الساعة الواحدة بعد نصف الليل، إذن أخطأ والله فيه ظني، فهي علامة حسنة فيه.
قالت: دع مزاحك، فأنت تعلم تربيتي لفؤاد، وأني عودته على الترتيب والنظام في الأكل والشرب والذهاب والإياب وسائر الأعمال، فكان من الواجب عليك أن تراعي ضميري، ولا تُخرج فتاي عن هذه العادات الجميلة.
قال: ولعلك زعمتني مسئولًا عن تأخره في الحضور إلى البيت كعادته؟
قالت: بالضرورة، فإنه كان في رفقتك.
قال: كان برفقتي إلى الساعة التاسعة من الليل، وأكل الطعام، ثم خرج مع سعيد بن غانم، فلم أعلم إلى أين، وخرجت أنا مع غانم.
قالت: أين صَرَفَ وقته؟ فقد — واللهِ — أشغلت بالي، فإنه أتى إلى البيت بعد نصف الليل بساعة، وخرج في هذا اليوم باكرًا على خلاف عادته، بعد أن كان يقضي صباحه بالمطالعة والتصوير، فلم يُطالع اليوم ولم يُصوِّر.
قال: دخل ابنك في طور جديد، وتحققت أفكاري، فاعلمي أن الذي دفعه إلى ذلك هو شدة تضييقك عليه، فقد صحَّ قول القائل:
ثم إنه جعل يُكلِّمها على الفضيلة بقوله: إنها ما كانت وسطًا بين طرفي التفريط والإفراط، فهي إن زادت عن قدرها أو نقصت عنه أصبحت رذيلة، فأنتِ قد ربيت غلامك تربية تليق بأهل النسك والزهد والعبادة، وهو بالفطرة بعيد عن ذلك، فلا تعجبي إن نبذ أقوالك ظهريًّا، فلقد نبهتك فلم تذعني لقولي، ولم تنتبهي.
قالت: ما العمل إذن؟
قال: كان من الواجب عليك أن تبعديه عن التشبع وشدة التمسك في الدين، وترشديه إلى ما فيه خيره وصلاحه ودفع الضرر عنه، وأن تطلقي له شيئًا من الحرية ليتصرف حسب طبيعته، فتلك هي الدرجة الوسطى، وهي الفضيلة اللازمة. أما كثرة التشديد على الأولاد وحجز حريتهم تمامًا فأدعى إلى الضرر ولا يجدي الوالدين نفعًا، ومن المعلوم أن الأبناء يتلقون الآداب والأخلاق عن آبائهم وأمهاتهم، فإن رأوا في سيرتهم الصلاح كانوا صلاحًا، ولم يُخش َعليهم بأس من إطلاق الحرية لهم، فإن المثال الحسن يُؤثِّر على ضميرهم، فيصبحون قادرين على كف شهواتهم، ويجدون في أنفسهم زاجرًا عن الشرور، أما التضييق عليهم فقد يكون سببًا لخروجهم عن الصراط المستقيم، وداعيًا لهلاكهم كمثل الآلة البخارية يشتد عليها ضغط البخار فتنسحق.
قالت: لله درك، ما أبرعك في التمثيل والتشبيه! شبَّهت في الحين فؤادًا بعيار ناري ثم بآلة بخارية، فبماذا تمثله أيضًا؟
قال: دعاني إلى ذلك سياق الكلام، فما أقول شيئًا عنه بعد هذا، إنما أُذكِّرك بأمر زواجه بسعدى ابنة غانم.
قالت: تكلم … هل أنت مبارك هذا الزواج؟
قال: أباركه، وإنما الرأي إلى فؤاد، وهو يكره عائلة غانم من كبيرها إلى صغيرها، ويمقت على الأخص ابنته سعدى.
قالت: إذن قد ضاع تعبنا سدى، وخابت مساعينا، فقد كان فؤاد في الواقع كارهًا مصاهرة هذه العائلة، فانقاد من حين قريب إلى الرأي الذي عرضته عليه، فلم أعلم كيف اختلف الآن وعاد إلى نفوره الأول.
قال: كنت عزمت أن لا أنقل إليك حديثه لئلا تتكدري، ولكني رأيت من اللازم أن أخبرك به لتكوني على بصيرة من أمره، فقد جرى الكلام بيني وبينه أمس، فسمعته يقول على سعدى: إنها قبيحة الشكل، قليلة العقل، ثقيلة الروح، لا يجد في نفسه ميلًا إليها، وأسهب في ذمِّها وعيبها، وبلغ النهاية في التشنيع.
قالت: أخاف إذن أن يكون قد قابل غانمًا وسعيدًا ابنه بكل برود.
قال: وأي برود! فقد التزم السكون فلم يُكلِّم أحدًا، وكثيرًا ما أومأت إليه بيدي وبعيني ليتكلم، فلم يفعل حتى خجلت واللهِ، وتكدرت كدرًا فائقًا، وحدَّثت نفسي أن أُعنِّفه، ولكنني ملكت ثورة الغضب، وجئت لزيارتك ومقابلته لأوبخه على تصرفه وقلة إيناسه وتجمله بحضرة الضيوف.
قالت: بل الأوفق أن تعاتبه بلطف وتجاريه على أفكاره وإلا أفلت من يدنا.
قال: إذن خاطبيه بنفسك في هذا الأمر، فإنني لا أضمن أن أملك نفسي من الحدة.
قالت: لا بأس فأنا أُكلمه، ولا أُخفي عليك أني صرت أخشى عدم نجاح مساعينا في زواجه بسعدى، وليته كان عاقلًا ليعلم أن الفائدة العظمى عائدة عليه، فإن سعدى غنية جدًّا، ورثت من أمها شيئًا كثيرًا، دَخْلها سنويًّا فوق ألف جنيه فضلًا عن ميراثها من أبيها.
قال: أظننت أن غانمًا يُحاسبها على الذمة، ويُؤدي إليها حقوقها تمامًا مع «الفوائد»؟ فهو إن أوصل إليها رأس المال فتلك منَّة عظيمة منه.
قالت: لئن لم يفعل ذلك باختياره ورضاه، فهو ليفعله برغم إرادته ويكلف بمحاسبة بنته على آخر مليم.
قال: إنه يحاولها، وأبواب الشرع واسعة، والدعاوى تستغرق الزمن المديد، وتستهلك شيئًا كثيرًا للمصروف والتكاليف، ولقد عرفت أشخاصًا كثيرين ظهرت عليه الاستقامة والعفة فأقيموا أوصياء على تركات القاصرين، فغرَّهم الطمع فاتَّجروا بأموال التركة، فأصابوا المكاسب العميمة والأرباح الجسيمة، فلم يحاسبوا الوارثين إلا على رأس المال بعد خصم رسوم أتعابهم، ولم يتحرجوا من شيء، ولم يستطع أحد خطابهم أو الانتقاد عليهم، وعلى سائر الأحوال فأولئك قوم أقرب من غيرهم، وأقرب ذمة ممن يهضمون أموال التركة من أصلها، ويدَّعون الإفلاس أو يتخذون الحيل والأساليب لأكل الأموال حرامًا.
قالت: تظن غانمًا يُقدِم على أفعال كهذه؟
قال: لا يبعد ذلك عليه، إنما المناسب أن لا نخوض في هذا الموضوع لئلا يعدل الرجل عن مصاهرتنا، فإن من كان على شاكلته بخيلًا لجدير بأن يأبى زواج ابنته فرارًا من محاسبتها، فمال سعدى كله في حوزته يتصرف فيه كيف يشاء، فلو تنبَّه لزواجها، وأنه يلتزم بدفع ميراثها إليها ومحاسبتها على الأرباح لتعلل وامتنع بالضرورة عن تزويجها، ولو كان خطيبها من أعظم الناس فضلًا وعلمًا وجاهًا.
قالت: وحقِّك إني أكره هذا الرجل، وأرى أخلاقه ذميمة، ولكن مصلحة فؤاد تُجبرني على رعاية خاطره.
قال: وأنا كذلك، لو أن فؤادًا يحفظ لنا هذا الجميل، ويقدر أتعابنا قدرها.
قالت: يأتي يوم يذكر فيه جميل صنعي واهتمامي بشأنه، ولكن ما العمل في طمع غانم الأشعبي ودناءة أخلاقه؟
قال: ليس في ذلك ما يُوجب الاهتمام الزائد، فقد يشره في مال ابنته لطبيعة البخل التي فيه والطمع الزائد، ولكن ميراثه سيفضي بالضرورة إليها عاجلًا كان أو آجلًا مضافًا إليه الأرباح والفوائد، فلا خوف على الدرهم يضيع في كفه، فهو لا يخرج منها ولو ثقبناها بمسمار.
قالت: إن البخلاء يعمرون مديدًا، فأخشى أن يعيش غانم ثلاثين سنة أيضًا، فلا يموت إلا بعد موت البنين والأحفاد، وعلى كل حال فالصواب برأيك عدم التكلم في هذا الموضوع حتى يكون قد تمَّ الأمر، فإن فؤادًا هو الغانم في هذا الزواج، ولا بأس من تساهله في الطلب. ثم إن سيدة قرَّبت كرسيها من أخيها وقالت له بطلاقة وجه وتجمل: خُضنا في سيرة فؤاد، وقدحنا فيه وما قصَّرنا، وربما كان بريئًا، وهو الآن سيحضر لقُرب أوان الغداء، فنسأله عمَّا جرى في الأمس ونأكل الطعام سوية.
قال: أكلت طعامي على عادتي قبل الظهر بساعة، فإني لا أحب تقديم ميعاد أكلي ولا تأخيره.
قالت: نسقيك من نبيذنا المعتق، فإنك تُحب الخمرة.
قال: أشرب وأتناول شيئًا من التفاح في أثره مزة، فاستدعت أخته الخادم ليُحضر زجاجة مختومة، وصحنًا من التفاح، وكبريتًا للسيجارة، فاستغرب همام من هذه العناية الفائقة.
فقال لها: يظهر من تجملك غير المعتاد أن في نفسك حاجات، فأخبريني بغير تكلف عمَّا ترغبين، كنت تحافظين على نبيذك القديم محافظة غانم على الدرهم أن يضيع من يده، وكنت تكرهين رائحة الدخان كرهك العمى وإبليس اللعين، وأنت الآن تجودين بالنبيذ المعتق المختوم، ولا تشمئزين من التدخين، فما سر المسألة؟ وما هذا التجمل؟ فوالله إني لأرى في نفسك حاجة تسألينها!
قالت: تأتي المزاح في كل حين فلا تعدل عنه، سبحان الله!
قال: أتذكرين أنك لم تسمحي لي بالتدخين إلا مرتين في حياتي، فأول مرة بعد وفاة زوجك حين طلبت مني خمسمائة جنيه على سبيل السلفة، فلم ترجعيها إلى الآن، وثاني مرة حين سألتني أن أهدي فؤادًا حصانًا عربيًّا من جياد الخيل، فهل خطر الآن في بالك أن تسأليني هدية أخرى أغترمها؟
قالت: ما أشد حذقك وأبلغ إدراكك، وكأنك تقرأ في الضمير، وتعلم غيب القلوب، فلا سبيل لكتمان شيء عنك، فالذي أخبرك الآن عنه لم يكن من مجرد فكري، وإنما قد سمعته من غانم في أثناء محادثتي معه في الأمس، فقد قال لي: إنه لعلمه بمحبتك لفؤاد وحنوك عليه حنو الوالد الشفوق على ولده، وبالنظر لخلوك من الأهل والأقارب، ولمناسبة العقد لابنته عليه أن تجعله وريثك الوحيد؛ ليصبح غنيًّا مثريًا، فلا يتكل على ثروة امرأته.
قال: ومن أدراه أني أقيد نفسي في حياتي، فلا أتصرف بمالي كيف أشاء؟! أما والله فهذه نهاية السماجة وغاية الطمع الأشعبي، ولقد كنت عازمًا على تقديم هدية فاخرة برسم هذا الزواج، فعدلت الآن عن ذلك مكتفيًا بالرضا والدعاء والبركة.
قالت: أي شيء يكدرك أو يُوجب الزعل؟ أليست العادة عند المتقدمين في السن أنهم يوصون لأقاربهم بميراثهم؟
فاستشاط همام غضبًا عند سماع ذلك، وقال لأخته: تزعمين أني طعنت في السن، وأصبحت هرمًا ولا تقبلني النساء ومحرومًا من زهرات الدنيا، لقد ضللتِ، فهذا عزيز أحد أصحابي كان أكبر مني سنًّا وأقل مقامًا ووجاهة، قد تزوج بامرأة غنية لا تزيد على الثلاثين سنة، أفيصعب عليَّ أن أتزوج بامرأة مثلها أو أحسن منها؟
قالت: لا ريب عندي فيما تقول، ولكنني سمعتك تقول كثيرًا: إنك لا ترغب في الزواج مخافة حجز حريتك والارتباط بالعيال، فتجاسرت أن أخاطبك بهذا الشأن.
قال: نعم، إني لا أميل إلى الزواج، ولكن الإنسان متقلب في رأيه، فقد أجد في نفسي ميلًا واحتياجًا إليه.
قالت: وقد قال لي غانم كلامًا آخر أحب أن أقُصَّه عليك لغرابته، وهو أنه بلغه عزمك على وضع مالك في أحد البنوك، فتستولي على مبلغ مقرر في السنة، وتستمر كذلك إلى آخر حياتك، وإذا توفيت بعد زمان مديد يبقى المال للبنك.
قال: ما أزال على هذا العزم، وهي طريقة مناسبة للخلو من الشواغل والهموم، وبه التأمين من كل خطر وعطب على المال.
قالت: فكلامه إذن صحيح، ومرادك قطع الميراث عن ابن أختك.
قال: أكنت مكلفًا بابن أختي؟! وهل يحملني أحد على التوصية له بمالي، وأنا حرٌّ إن شئت ورثته وإن شئت منعته، وما لأحد عليَّ من سؤال؟
قالت: كنت أظنك على غير هذه الشعائر، وأحسب أنك تحب فؤادًا، فظهر أنك لا تحب غير نفسك.
قال: إن أحببت نفسي فقد صنعت مثلك، فلا عتب عليَّ ولا عيب، أنت تسعين في زواج فتاك لمصلحتك لا حبًّا به، حتى إذا تمَّ الأمر تصرفت في ثروة امرأته كيف شئت، وأقمت في بحبوحة العيش والرغد، ووجدت ما يكفيك لحفظ مركزك بين ترائبك، وإتيان أسباب الترف والمباهاة، إذ إن إيرادك السنوي حاليًّا لا يزيد على مائتين وخمسين جنيهًا، وهو قليل في جنب ما تنفقين.
قالت: لم يكن حسباني أنك ترميني بسوء الظن، وتتهمني بما اتهمت قذفًا وافتراءً.
وبينما هي تتكلم دخل فؤاد فقطعت الحديث، وأشارت إلى همام بالكف عن الخطاب في هذا الموضوع.