الفصل التاسع
ندع فؤادًا سائرًا في سبيله إلى منزل عفيفة، ونُخبر بما جرى له من الأمور بعد إنقاذه الفتاة من الغرق وعودته إلى بيته، فقد كان لشدة اضطرابه لم يذق نومًا، وظل ليله هاجعًا كأنه على شوك القتاد، تخطر على باله حوادث تلك الليلة، من حين شاهد عفيفة في دكان الخياطة واقتفائه أثرها، وإنقاذها من يد الصيدلي، إلى حين إنقاذها من الغرق وإيصالها إلى بيتها. فكانت كل هذه الحوادث تجول في خاطره، فتهزه وتحرم جفنيه لذيذ الكرى، ولو أن رجلًا غيره شهد هذه الأحوال، فربما لم يندهش لها كثيرًا غير أن ما نشأ عليه فؤاد من التربية، واعتزاله الناس جعله يضطرب لأقل أمر يراه، فكيف لأمور خطيرة كهذه؟ وكان فؤاد من بلوغه سن الرشد مُطيعًا لوالدته سميعًا لقولها، فلم يكن بعيدًا أنه يتزوج ابتغاء مرضاة أمه بسعدى وهو لا يحبها، على أن عيشه كان منغصًا، ونفسه منقبضة من أخبار هذا الزواج، وقد لحظ ذلك خاله همام حين أدب مأدبته في الفندق الشرقي إكرامًا لغانم وابنه سعيد، إذ لبث فؤاد — كما تقدم القول — واجمًا لا يفوه بكلمة. وقد زاد كراهة الفتى في الزواج ما سمعه من سعيد من القول الشنيع على شقيقته سعدى، وذكره عيوبها الخِلقية والخُلقية، وقد غالبته طبيعته، فلم يرَ وجهًا للاستراحة إلا بالمجاهرة في مخالفة أمه كما ظهر للمطالع الناظر في الفصول السابقة، وعلى أن هذا الفتى لم يكن يتخلص من بلية إلا ليقع في شرٍّ منها، ولم يكن اقتفاؤه أثر بنت جميلة أنقذها من الموت غرقًا ليذهب بلا أثر، فالنساء الحِسَان نكد في الدنيا على من يُقاربهنَّ، فلا يسلم من غوائلهن أحد سواء صنع معهن خيرًا أو شرًّا — كما سيظهر فيما يلي من الحديث — ولما لاح الفجر لبس فؤاد ثيابه وخرج من البيت وهو لا يعلم كيف يتجه، ولم يكن من عادته الخروج باكرًا، وكان ذلك داعيًا لاستغراب والدته — كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في سياق الحديث الذي دار بين غانم وشقيقته — وجعل فؤاد يسير على غير هدى هائمًا على وجهه في الشوارع، تقيمه الأفكار وتقعده حتى وصل إلى مخزن الخياطة فأبصره مُغلقًا، فتعجب ثم سقط عجبه إذ تذكَّر أن ذلك اليوم الأحد ينقطع الناس عن العمل فيه طلبًا للاستراحة، فمضى قاصدًا درب الجنينة إلى منزل الفتاة، فلما اقترب منه جعل يتروح آتيًا رائحًا من أول الطريق إلى آخره ناظرًا إلى الدور الأعلى من البيت، حيث شاهد في الأمس المرأة ناظرة من الشباك، وحدَّث نفسه برؤية وجه عفيفة، فخاب ظنه وطال عليه الزمان، فهمَّ أن يقرع الباب، ولكنه تذكَّر أن الوقت بكور، لا يليق الدخول فيه على الناس ولا سيما الفقراء منهم، وكان من مبادئه التأدب واحترام العادات وإكرام المساكين ومواساة أهل الحاجة ولا سيما الذين يُخني عليهم الزمان فيسقطهم من ذروة العز إلى حضيض البؤس والهوان، فقفل راجعًا على عقبه مُحدِّثًا نفسه بالرجوع للزيارة بعد الظهر معتقدًا أن الواجب عليه مقابلة والدة عفيفة ليُخبرها بما كان من أمر ابنتها في الأمس، فقد كان يخشى أن لا تعدل الفتاة عن غيها، وأنها تصر على قتل نفسها، فرأى أن يُحيط أهلها علمًا بذلك ليتداركوا الأمر وفي الوقت سعة، وكان في نفسه شوق شديد لمعرفة أسباب يأس هذه الفتاة المنكودة.
وقد تصوَّر أنها تكون قد أحبَّت رجلًا فهجرها، فسعت في قتل نفسها اختناقًا بأسفكسيا الغرق تخلصًا من عذاب الحب وبلوى الفراق. وعند انتصاف النهار نهض فؤاد إلى منزل الفتاة فرأى الباب مفتوحًا، فدخل وصعد على سلم عالٍ، وانتهى إلى الدور الأعلى فقرع الباب بلطافة، فانفتح له، فوجد فسحة وبابًا آخر مفتوحًا فدخله، ورأى امرأةً جالسةً على كرسي قريبًا من الشباك وعلى وجهها الكدر وفي لونها الشحوب، وكانت الحجرة قليلة الأثاث حقيرة، فتمعن في المرأة فإذا هي شقيقة غانم التي رآها في الأمس في الفندق الشرقي فلما أبصرته عرفته، وتذكرت أنه الفتى الذي اعتنى بأمرها عندما أصابها الإغماء، فهمَّت أن تقف إجلالًا له وإكرامًا، فمنعها عن ذلك فؤاد وقال لها: أرجوك أن تستريحي فلا تُزعجي نفسك.
فشكرته على تفضله، وقالت له ببداهة: حضرت لفضلك لمقابلة زوجي؟
فتذكَّر فؤاد أن الرجل الذي سمع القول عليه في الأمس هو زوجها، وأن عفيفة ابنتها من زوجها الأول، فقال لها: مرادي أن أكلمك بنفسك، وليس لي حديث عن زوجك، وربما تستغربين أني حضرت إليك على غير معرفة بيننا سابقة، فقد جرَّأني على ذلك معرفتي بغانم أخيك.
قالت كريمة: من قِبَله حضرت إليَّ؟
قال: كلا، إنما قادني إليك أمر مهم لا يعلمه جنابه، ثم إنه صمت قليلًا ورجع يُحدِّثها قائلًا: لك ابنة اسمها عفيفة شابة، لا تزيد في العمر على الثامنة عشرة؟
قالت: نعم، وما مفاد سؤالك؟
قال: والفتاة جميلة مؤدبة لطيفة؟
قالت: هي كذلك لنكد الطالع، فالجمال يزيد المساكين بؤسًا على بؤس إن كانوا من أهل التقى والصيانة.
قال: اعلمي يا سيدتي ولا تستغربي قولي أن ابنتك في حال تستدعي الانتباه ومزيد الالتفات، وأرى من الواجب عليَّ إخبارك بأسباب ذلك، ولو أحزنك قولي وزادك همًّا على همٍّ، وضاعف منك الآلام والأكدار.
قالت: قد بلغت بأكداري النهاية، فقُل ما شئت أن تقول ولا تخشَ بأسًا.
قال: إن ابنتك في شدةٍ تجهلين مقدارها، وفي حالٍ من البأس لا تتصورينها.
قالت: بالله أن تخفض الصوت قليلًا فهي نائمة في الحجرة الثانية، وأخشى أن تفيق فتسمع حديثنا، وفي النوم راحة من تعب وتسرية من كرب وأحزان ولو بعض حين.
قال: راحة النوم ساعة تفضلها الراحة الدائمة.
قالت: أفي غير الموت الراحة الدائمة؟
قال: قد يعتاد العقل على التصور المزعج واليأس والقنوط، فينشأ فيه بغض الحياة فيطلب الموت، فإن لم يجده سعى إليه بالأقدام ركضًا.
قالت: تخبرني بما أنا بصيرة فيه، فلئن لم أسعَ إلى الموت فهو إليَّ ساعٍ.
قال: لعلك قد توهمت أن الإشارة إليك، كلا، فتوجيه الكلام إلى ابنتك، فاعلمي أنها لكراهتها الحياة حاولت قتل نفسها في الأمس.
فلما سمعت كريمة هذا الخطاب ضجت صراخًا، ولطمت يديها على صدرها، ثم أكبت على الأرض مغشيًّا عليها، فأيقظت الصيحة الفتاة، فهبت من سريرها مجفلةً، فأبصرت والدتها كريمة على الأرض لا حراك لها، فانطرحت عليها ولم تنتبه لفؤاد. وجعل فؤاد ينظر إليهما وقد عراهما الجمود حتى أصبحتا كالأموات، فتقطع صدره لهذا المنظر الرائع، وأثَّر عليه ما رأى من الحنو وسلامة الضمير ولطف الحس وروعة مشهد التعاسة والشقاء، فدمعت عيناه وتولاه ضيق الصدر، فنهض من مكانه متنحيًا إذ لم يستطع رؤيتهما مديدًا على هذه الحالة، ثم بعد قليل من الدقائق فاقت عفيفة من روعتها، ثم أفاقت والدتها فتعانقتا، وقالت عفيفة لأمها: يا أماه سمعت صراخك، فقمت من نومي مذعورة، أظن عمي زوجك خليلًا عاد إليك؟
قالت: وما عليَّ من عودته، وأنا لا أخشاه.
قالت عفيفة: لا تخشينه وهو إن عاد أعدمك الحياة.
قالت: لئن خشيت الموت فليس ذلك حرصًا على حياتي، فوالله لم أصرخ إلا جزعًا عليك، إذ بلغني أنك أقدمت على قتل نفسك عمدًا في الأمس لولا عناية الله قد وَقَتْكِ، ولطفه قد حماك.
فخفق جَنان عفيفة رقةً وحنوًّا، وتلفتت فرأت فؤادًا، فعبست في وجهه واجمة وقالت: عداك الصواب يا رجل، جئت تخبر امرأة حزينة بما يزيد حزنها وتفجعها، ولا تخشى الله أن تزيد علتها فتهلك أسى وتفطرًا.
قال: أجبت داعي الذمة فأخبرت بما رأيت، ولأنت أحرى بدفع الهموم وصرف الأكدار عن والدتك، فأقسمي بين يديها ألا تعودي إلى مثل فعلك المنكر في الأمس الغابر، تَعُد إليها الحياة، وتزل عن قلبها الغمة، فهي إنما جزعت عليك وروِّعت بسببك.
فوقعت هذه الملامة في نفس الفتاة، وعلمت أنها الخاطئة، فجثت على الركبتين تُقبِّل يدي والدتها، وقالت بصوت مرتجف حزنًا واضطرابًا: عفوًا يا أماه عمَّا جنيت، فوالله لم يدعُني إلى محاولة قتل نفسي سوى جزعي عليك مما تقاسين بسببي من الأتعاب، وتكابدين من الآلام المبرحة، وإني أشهد على نفسي بالوهن وقلة العزم وفتور الهمة عن مقاومة الهموم ومغالبة الأكدار، فقد عميت بصيرتي، وفقدت صوابي ورُشْدِي، وساورتني الأفكار المزعجة، فأجدني في كل حين أتصور والدي يُناديني للقياه بين الأموات، فأضطرب وأبغي الموت شوقًا إلى رؤياه، فسامحيني يا أماه، سامحيني بحق والدي المرحوم، وتجاوزي عن خطيئتي، واصفحي عما جلبت لك من الأكدار، وارحميني يرحمك الله. فهيَّجت الفتاة وجد أمها فانهمر الدمع من عينيها، ودار بينهما حديث يصدع الأكباد، نغفله ابتغاء الاختصار، وشفقة على القلوب الرقيقة. ثم إن كريمة التفتت إلى فؤاد تعتذر إليه بقولها: عفوًا كريمًا سيدي، فقد استقبلناك كما لا يليق بمقامك، وقد أوليتنا جميلًا لا نستطيع القيام بحق شكره، وفضلك مقيم لا يبرح تذكاره من فكري ما دمت حية، والله عالم بذات الصدور، سبحانه يُولي الإحسان من يستحقه، ولا يضيع أجر المحسنين.
قال فؤاد: لا فضل لي في شيء، فقد قمت بفرض أوجبته الإنسانية عليَّ، وغاية ما أرجوه أن أخدمك خدمة تَصْرِف عنك الأحزان.
قالت: عرفت مكارم أخلاقك أيَّها السيد الأمثل، قدَّرنا الله على مكافأتك.
ثم إنها التفتت إلى ابنتها عفيفة وقالت لها: لا تنسي أن عليك عملًا تتمينه في هذا اليوم. فأجابتها عفيفة وهي تمسح الدموع: نعم عليَّ شغل وعدت بإنجازه إلى غد صباحًا، وليس عندي وقت كافٍ لإتمامه.
قال فؤاد: وهذا يوم الأحد حرام الشغل فيه، وهو يوم مقرر للراحة.
قالت كريمة: ليس للمساكين أيام راحة، إنما الراحة للسعداء والأعياد لهم وحدهم، وراحة المساكين بالأشغال، وبالاجتهاد سعادتهم ونفي همومهم وإبعاد أحزانهم وتشريد أفكارهم المزعجة وما يخالج قلوبهم من النكد، ثم التفتت إلى ابنتها تأمرها بالانصراف وإنجاز عملها وتسليمه حسب الوعد.
فتقدمت عفيفة تُقبِّل يديها، وسلَّمت على فؤاد باحترام وقالت له: لو زرتنا أيها السيد فلك الفضل العظيم إن كان يطمع أمثالنا بمثل هذا الشرف، ولنا الفخر بأنك ستصبح نسيبًا قريبًا لنا.
قال فؤاد: كيف علمتم بأني سأتزوج قريبًا بالسيدة سعدى ابنة غانم؟
قالت كريمة: علمنا ذلك في وقت قريب، على أنني أرغب أيها الشاب الأريب أن أتحدث معك في أمر ذي شأن لا يوافق أن يطلع عليه الغير، ولأجل هذا السبب صرفت ابنتي كما رأيت، فأرجوك أن تقترب مني فلا تسمع عفيفة حديثنا.
قال فؤاد: لبيك، وأدنى كرسيه منها.
فشرعت كريمة في خطابه وقالت: ربما استغربت مني السؤال ورأيته خارقًا، فأرى من الضروري قبل الشروع في الحديث أن أبسط لك الأسباب التي حملتني على ذلك، فقد جمعتني وإياك الأقدار للمرة الثانية، وتوسمت في طلعتك من المروءة وكرم الأخلاق ما ملأني ثقة بك وأطمعني بجودك، كأن لي سابق معرفة بشخصك الكريم وقديم عهد بالصداقة، وكفى لتحقيق ظني ما فعلت بالأمس إذ أنقذت ابنتي من الهلاك غرقًا، ولي عندك منَّة أخرى ألتمسها من جودك وإحسانك، فلا تلمنا أيها السيد إن قصَّرنا بشكر جميلك، فالمساكين يعجزون عن مكافأة أهل الفضل، وليس لهم إلا الدعاء لهم بطول البقاء ودوام السعادة والخير، ولي إدلال على حضرتك يُجَرِّئُنِي على تقديم توسلي إليك أنك ستتزوج قريبًا بابنة أخي غانم، فيتصل نسبنا بنسبك الرفيع، وإن كنت من الشهرة والشرف فوقنا كثيرًا، فمكارم أخلاقك وجميل صفاتك أعظم وأرفع، فما تجد في ملابسة الفقراء عارًا.
قال فؤاد: إن تمَّ زواجي بابنة أخيك أو لم يتم، فإني لك محب مخلص قائم بفائق اعتبارك ومزيد إكرامك، وأنا لا يمنعني القيام بقضاء حاجاتك عدم زواجي بابنة أخيك، فأنا على الحالين مجيب طلبك. وكان قد رأى فؤاد أن يُجاري كريمة على خطابها فأوهمها الرغبة في زواجه بسعدى ابنة أخيها لتفيض في الحديث الذي توسَّم أنه يتعلق بعفيفة.
قالت كريمة: أنقذت يا سيدي ابنتي من الموت، وعمَّا قليل ستصبح لنا قريبًا، أمران يجعلاني أتجاسر بالتثقيل عليك، وأنت أفضل من يعذر، لمن يبُح الناس بأسرارهم إن لم يبوحوا للأهل والمحبين والأنسباء؟!
قال فؤاد: لكِ أخ تلقين إليه أسرارك.
قالت: ليس لي سند من أخٍ ولا زوج، وأنا في هذا الكون وحيدة ليس لي سند، وعلى عاتقي ابنة هي سلوتي من الدنيا وعذابي فيها، وقد التزمت الصبر مديدًا حتى آن الأوان لأتكلم وأكشف النقاب عن وجه ضمير، وأفتح كنوز أسراري والحال داعية، وفي الكتمان ذنب أحمله وإثم لا يُغتفر. ثم إنها سكتت لتستريح قليلًا، ثم قالت: لا ريب أن تكون قد قلت في نفسك إذ رأيتني لأول مرة هذه المرأة مسكينة موجعة، لو أن في إمكانك العلم بمقدار أوجاعي وأحزاني، وإذ دخلت إلى هذه الحجرة فلا بدَّ أن تكون قد قلت أيضًا هذا مكان الشقاوة والتعاسة، لو يخطر على بالك أن عندي من النوائب ما لا يستطاع وصفًا، فاعلم أن في البيت ثلاثة أشخاص قد اجتمعوا الواحد إلى جنب الآخر: ملكٌ كريمٌ هي ابنتي عفيفة، وامرأة متعوسة على مشارف الموت هي أنا، وذئب كاسر شرير هو زوجي خليل. وهنا انقطعت كريمة عن الكلام، وجعلت يدها على قلبها كمن يشعر بألمٍ، ثم قالت: إن في حياتي التي قضيتها لعِبْرَة للنساء القليلات البصر، العديمات الفهم، اللواتي يتزوجن برجال أصغر منهن سنًّا، فلقد تزوجت بزوجي الأول، وليس بيني وبينه في السن تفاوت، فعشنا بأرغد عيش وأهنأ بال وأتم وفاق، وكانت فيه — رحمه الله — صفات جميلة ومحاسن، لو ذكرتها ولو تدبرتها بعد وفاته؛ للَزَمَني أن أقاطع الرجال فلا أتزوج بعده، ولكن غلب نحس سعدي فخطفت المنية روح ذلك الزوج المحبوب، وهذه ابنتي تلبس السواد حدادًا عليه من تسع سنوات، وكان يلزمني أن أفعل فعلها، فقد أخطأت وكابدت جزاء خطيئتي، ولا أطيل عليك الشرح في إخبارك عن تبديد ثروتي التي ورثتها وسقوطي السريع من بحبوحة اليسر ومراحه إلى مضايق العسر وعذابه، والتزام ابنتي العمل الجهيد للقيام بأودنا ومعيشتنا، فهي تشتغل فلا تقطع عن عملها آناء الليل وأطراف النهار، وقد أنهكها التعب حتى أصبحت كالخيال كما رأيتها، فلو طال المدى عليها وهي على هذه الحالة هلكت لا محالة، وفضلًا عن ذلك فإنها لا تأمن كيد خبيث يريد بها شرًّا، وهي في مخزن خياطة تتعامل مع الشبان الفنانين والسفهاء من كل قوم.
قال فؤاد: في الحقيقة إنها عُرضة للأنظار، فحرام أن تكون في هذه الخدمة.
قالت كريمة: لست أُحدثك عن أوجاعنا الناشئة عن الفقر، ولا أذكر لك ما أُقاسي من الآلام والأحزان بسبب هذه الحالة، فقد كنت حمولة صبورة لا أعتبر الآلام بشيء، وإنما كان أعظم النكد عليَّ نكران الجميل وخيانة زوجي لي بعد أن قرَّبت على مائدة حبه حياتي وجميع ما أملك، فهذا الزوج أصغر مني بعشر سنوات، وربما يرى البعض أنه معذور بسوء تصرفه معي لتفاوت السن بيني وبينه، ولو شكوت أمري إلى الناس لأوسعوني لومًا وتعنيفًا بما جلبت من التعاسة لنفسي بيدي، وقد جال في خاطري أن أنتحر — كما همَّت أن تفعل ابنتي بالأمس في نفسها — فما صرفني عن ذلك إلا حبي لها، وخوفي عليها أن تقيم في خطر بعدي، وكنت أتمنى الموت، وأجد قربه لذيذًا بقدر ما كنت أكره الحياة وأجدها مُرَّة، فلولا شفقتي على ابنتي لرحلت عن هذه الدار، ولكنني كتمت أمري وصبرت على أوجاعي وأوصابي، وفي كل يوم لي بلاء جديد، وقلبي يتقطع حُزْنًا إذ أرى عفيفة منهوكة القوى لا يطمئن لجنبها مضجع، فأجد بالموت لي ولها راحة، وكثيرًا ما حدثت نفسي بأن أوقد فحمًا فنختنق كلانا بالأسفكسيا، فمنعني عن ذلك خوفي أن أراها تتعذب قبل موتها.
قال فؤاد: والله إنها لحالة تستوجب مزيدًا من الأسف.
قالت: ليست حالتي هي التي تستوجب الأسف، وإنما حالة ابنتي هي المريعة، وقد وصلنا الآن إلى النبأ الهائل، فأرجوك تنصت إليه وتتدبَّره.
وهنا دخلت عفيفة مذعورة تقول: ها هو صاعد على السلم، قد عرفته من مشيته.
فاضطربت الأم كاضطراب ابنتها، وقالت لفؤاد: هذا زوجي قد حضر الآن، فلا أعلم ماذا يصنع إذ يراك هنا.
قال فؤاد: طمني البال، فلا خوف عليك ولا عليَّ، فإن عربد أخبرته بأني خطيب ابنة أخيك فيسكن.
ثم إن عفيفة دنت من فؤاد وكلمته بصوت منخفض قائلة: لي حديث أسره إليك، فمتى نزلت اقرع باب الدور الأسفل فإني في انتظارك. وخرجت، فدخل على أثر خروجها زوج أمها، وكان طويل القامة، شديد البنية، جميل الصورة، يُناهز الأربعين سنًّا، وكان لجمال صورته في صباه يُنادوه بيوسف لحُسْنِه، على أنه كان قبيح السيرة، شرس الأخلاق، شديد الطمع، فاسقًا شريرًا، لو تفرَّس الإنسان فيه لرأى دلائل المكر والخبث على وجهه. دخل هذا الرجل إلى البيت فرمى بنظرة على ما حوله، وجعل يُحملق بفؤاد بعد أن سلَّم سلام المغاضب ينظر شزرًا. فقال له فؤاد وهو يرد عليه السلام: لعلك سيدي استغربت زيارتي على غير معرفة حتى تعلم السبب فيسقط استغرابك، فأنا خطيب السيدة سعدى كريمة غانم شقيق زوجتك المحترمة.
قال خليل: بلغني هذا الأمر، ونِعْمَ الزواج يجلب لك الغنى والمال الكثير تتمتع به في حياتك، فاشمأز فؤاد من سماع هذا القول، ولكنه التزم السكوت قطعًا لأسباب النزاع، فاستتبع خليل بقوله: أي علاقة بين زواجك وبين زيارتك؟
قال: أليس من العادة تعرُّف الرجل بأهل امرأته؟
قال خليل: نعم، ولكن العادة أيضًا ألا يحضر الرجل وحده، فكان من الواجب عليك الحضور برفقة والد خطيبتك فيُقدمنا إليك ويُعرفنا بك على قُبح سحنته، وبعدُ فقد أحسن أنه لم يحضر وإلا كان يومه أسود، أستقبله برميه من هذه النافذة.
فغضب فؤاد وكظم الغيظ وقال: علمت بأن بينك وبين غانم نفورًا، فجئت لعلي أتمكن من إصلاح ذات البين.
قال خليل ساخرًا متهكمًا: شكرًا لفضلك، فالله إني أراك كالثعبان تدخل للإفساد والإغواء لا للإصلاح وتأليف الشمل، فلو كنت صادقًا في قولك، وكان عزمك على الزواج بابنة غانم أكيدًا فأخبره بالعداوة والحقد عليه حتى الممات إن زعم أن عداوتي يسيرة يتهاون بها، ولي الآن كلام يخصك فلا يناسب أن أُلقيه على مسمع من امرأتي فتنزعج، فتعالَ اتبعني. ثم إنه سار نحو الباب وقال: لتعلم أني زوج كريمة وابنتها عفيفة في عصمتي، وقد راقبت حركاتك وعلمت أنك رافقت بالأمس الفتاة إلى البيت فنبهتك لترتدع، فإن أصررت على عنادك لقيت ما لا يرضيك، وفي هذا القول كفاية. وعندما قال ذلك تركه على السلم، وأغلق الباب عليه ودخل مغاضبًا على امرأته يسألها عن عفيفة، فقالت: هي في حجرتها، فتقدَّم إلى باب الحجرة فوجده مُغلقًا، فجعل يُنادي الفتاة باسمها، فلما لم تُجبه قالت له كريمة: دعها، فلعلها نائمة، واتركها تسترح قليلًا وتستقل من التعب. فلم يُصغِ خليل إلى هذا الكلام، واستمر يُنادي ويضرب على الباب، ثم ذهب إلى الحجرة الأخرى وقبض على قضيب من حديد فلما رأته كريمة قادمًا وفي يده القضيب، وثبت على القدمين مرتاعة مرتعدة، وقالت: ويك، ماذا تصنع، لعلك تبغي قتلها؟ وأرادت أن تمنعه فدفعها على الأرض وجعل يطرق الباب بالقضيب فكسر قفل الباب، ودخل فلم يجد أحدًا، فخرج يصخب ويلعن ويقول: أين الخائنة؟ أين توجهت؟
قالت كريمة: لا أعلم.
قال: هل رأت فؤادًا؟
قالت: كلا.
قال: أنت تعلمين مقرها فأخبريني أين ذهبت؟
قالت: لعلها ذهبت إلى الكنيسة تُصلي، فهذا يوم الأحد تخرج للصلاة على عادتها فيه.
قال: أحوال المجانين عند النساء شائعة، فابنتك هذه لا بدَّ أن يختل شعورها بكثرة العبادة والركوع والبكاء والنحيب.
قالت كريمة: هكذا عبادة المساكين البائسين.
قال: بئست عبادة تُورث الخبل وتحط من قدر القائم بها، فالعبادة الحقيقية لا تقوم بالأعمال الخارجية، وبعدُ فإني سأمنع عفيفة عن التوجه إلى الصلاة بعد، ولا بدَّ أن تكوني قد علمت أن ابنتك تأخرت في حضورها الليلة البارحة من محل شغلها، والله يعلم أين كانت، فيجب أن أقف على جلية الأمر، إذ لا يدخل في تصوري أنها قامت في شغلها إلى ما بعد نصف الليل بساعتين. وإذ قال هذا الكلام خرج من الحجرة تاركًا زوجته كريمة في حال من القلق تتصور ما بدا منه، وكيف قابل فؤادًا وأخشن له القول، ثم رجع ساخطًا يسب ويلعن، وتذكرت مزيد كلفه بابنتها، فضاق صدرها انقباضًا، فجمعت قواها تريد وقوفًا لتمشي في الحجرة فلم تستطع رجلاها حملها، فسقطت على الأرض مغمى عليها.
وكان في أثناء ذلك قد جرى في الدور الأسفل حديث بين فؤاد وعفيفة، فإن فؤادًا بعد أن فصل عن خليل في أعلى السلم نزل محتدًّا وجال في خاطره أن يصعد لينتقم من خليل بما رأى من الخشونة وقلة التأدب والغلظة الوافرة، فصرفه عن ذلك افتكاره بأن عفيفة تنتظره تحت، فأجَّل انتقامه إلى فرصة أخرى، ونزل السلم وانتهى إلى باب الدور الأول فقرعه خفيفًا فأسرعت عفيفة في فتحه له وقالت له: ادخل حالًا، فهذا محل جارتنا أنيسة وهي الآن غائبة، فدخل وقلبه يخفق، فأغلقت الباب، ودخلت معه إلى حجرة صغيرة فيها شيء يسير من المفروش يدل على فقر صاحبته، وبعد سكوت برهة قالت له: دعوتك سيدي هنا، وقد تأسفت على دعوتي فقلبي يخفق وجناني يضطرب من الخوف أن يعلم عمي بمكاننا، وهو شديد الغضب، جبار عنيد، فلو رأيت أن نخرج عاجلًا قبل أن يدركنا، فلا يحصل على ما يكدرك، وفي الوقت سعة لتخرج فلا يعلم بنا أحد.
قال فؤاد: لا أذهب من هنا قبل أن أسمع قصتك وما تريدين مني، ولا بأس عليك ولا عليَّ من حضور عمِّك، وأنا قادر على دفعه إن استطال، أو قصدنا بشر فسكِّني البال وأمِّني الخاطر.
قالت: أنت شجاع حازم وعزوم، وأنا ضعيفة القلب، انظر كيف أرتعش.
قال: بي مثل ما بك من الخفقان في القلب، ثم أخذ يدها فجعلها على قلبه.
فاحمرَّ وجهها وحاولت الهرب منه، ثم أطرقت في الأرض حياءً، وقالت: لا تؤاخذني، فقد أجريت ذكر القلب والارتعاش عرضًا فلم أنتبه.
قال: لو رأيتِ الخوض فيما ترغبينه فإني مُنصت إليكِ.
قالت: ستصبح أيها السيد الكريم عما قليل من الزمان قريبًا لنا بزواجك بابنة خالي، فبحق حرمتها أسألك الرأفة بوالدتي، فإنها منهوكة، وأنت قادر على إنقاذها من الويل والنكد.
قال: تحلفيني بابنة خالك، وأنا لم أتزوج بعد بها؟!
قالت: أحلفك بها، فإن لها أيها السيد السند بقرب منزل والدها بيتًا صغيرًا كنا نسكنه في حياة المرحوم والدي. وهنا انحدرت دموع الفتاة حزنًا على والدها، وأخرجت من جيبها علبة فقبَّلتها.
فقال لها فؤاد: رأيت هذه العلبة معك أمس.
قالت: نعم هذه العلبة التي رأيتها أحفظها على قلبي فلا تُفارقني، وفيها رسم والدي المحبوب، ولم ينظر هذا الرسم أحد، وقد أخفيته عن والدتي شفقة على قلبها، ولا بأس عليك أن تراه.
فتناوله فؤاد بيده متأملًا وقال: أرجو سماحًا وعفوًا يا سيدتي، فقد أسأت بك الظن، ولم يخطر في بالي أن تكون العلبة متضمنة رسم والدك، وما شككت في طيبة قلبك وكرم أخلاقك.
ثم إنها ارتعدت وانخطف لونها واشتد عليها الاضطراب فأومأت إلى فؤاد بيدها ليسكت، وقالت: هذا عمي خارج، فاسترنا يسترك الله.
قال لها فؤاد: كيف علمتِ أنه عمك؟
فلم تُجبه عفيفة بكلمة، بل أطبقت فمه بكفها كالجليد من شدة الخوف، وبعد برهة سكن خفق الأقدام، فقالت: قد خرج عمي، فهيا بنا إلى فوق نشاهد والدتي، ثم عرض لها فكر فرجعت إلى الخلف، وقالت لفؤاد: تمهَّل قليلًا فربما يرجع.
قال فؤاد: لا تخافي واصرفي عنك الأفكار، ثم إنه أجلسها على كرسي وقال لها: أخبرتيني في الحين عن بيتٍ كنتم تسكنونه فتممي حديثك عنه.
قالت: كان هذا المنزل لخالتي في الأصل فورثته لابنتها خطيبتك، والمنزل يشتمل على أربع حجرات وحديقة صغيرة كنت أُسميها جنة الفردوس، وفي ذلك البيت وُلدت ورُبيت، وكل شهوتي في الدنيا ومرام والدتي أن نصرف بقية العمر فيه لو تتكرم علينا بذلك حضرة خطيبتك، فهي — بحمد الله — واسعة الغنى وفي سعادة تامة، فإن فعلت فلها الفضل علينا والجميل الذي لا يُنسى مدى الدهر.
قال: أهذا كل مطلوبك؟
قالت: هذا كله، وهو تفضُّل نلتمسه من حضرة خطيبتك لا واجب عليها تقضيه، وإن أحبت جعلته إحسانًا لتذكار عهد الصبا والصداقة القديمة.
قال: كم بينك وبينها فرقًا من السنين؟
قالت: الفرق قليل، هي تكبرني بأربع سنوات، على أننا لم نأتلف في الطباع لتكبُّرها ومحبتها الرئاسة، فكانت تجور عليَّ أحيانًا ونحن في المدرسة، وأنا بالطبيعة أنوفة كنتُ أحقد عليها.
فتذكر فؤاد كلام سعيد على أخته، ولم يقل شيئًا.
وأردفت عفيفة قائلةً: أبى الله أن أُبرئ نفسي من العيب، فالعصمة لله وحده، والكمال لذاته، والطبيعة الإنسانية مجردة عن الكمال، فقد كنت في جدال مستمر مع ابنة خالي، وما أعلم إن كانت تذكر ذلك، ولعلها لا تفتكر إلا بأوقات الصفو واللهو، ولا يضيع جميل أينما كان، فهي لو أجابت التماسنا دعونا لها بالسعادة والتوفيق ومديد البقاء، فلم نثقل عليها فوق هذا التثقيل، ولو أننا فقراء ووالدتي عاجزة فلنا ما يقوم بأودنا، وأنا شابة صحتي جيدة أكسب بشغلي ما يكفيني ويكفيها، والله كريم يرزق عباده. ثم إن عفيفة انقطعت عن الكلام، واقتربت من فؤاد تقول بصوت منخفض: ها هو راجع، والظاهر أنه غضبان، عرفت ذلك من حركة مشيه.
وكان الاصفرار على وجهها والارتعاد في قدمها حتى صعد عمها على السلم فقالت: ها هو صاعد إلى البيت، فلا يمكننا الخروج بعد، فدخل خليل حجرة امرأته ساخطًا واجمًا غضبان، فلم يبصرها، وكانت ملقاة على الأرض وراء كرسي جلوسها، فهمَّ أن يذهب إلى الحجرة الثانية ليفتش عنها، فوجدها مطروحة على الأرض عديمة الحراك، فشفى غيظه بالسباب وقال: إن شاء الله هي القاضية، ثم رفعها بيديه وجعلها على فراشها، فوجدها على رمق قليل من الحياة، وقد تحركت قليلًا من إغمائها، فقال: خطف الشيطان روحها الخبيثة، إنها لتموتن في اليوم ثم تحيا ألوفًا. ثم إنه بدلًا من أن يرقَّ لحالها ويعتني بها تركها وطفق يتمشى في الحجرة طولًا وعرضًا مزمجرًا، كأنه الوحش الضاري يبحث عن ضحية يفترسها، ففي خروجه أفاقت كريمة من إغمائها، فتنهدت من صميم الفؤاد، وجمعت قواها، وجلست على فراشها وغبار الموت على وجهها، فلم تمكث أن رأت خليلًا زوجها قد رجع فجعل أمامها كرسيًّا وجلس يقول لها: مرادي أن أُكلمك في مسألة مهمة، فأعيريني السمع وتفهمي قولي، قد أنفقتِ عمرك على ابنتك عفيفة، فتزوجتني فكنت بالطبيعة قيِّمًا عليك وعليها، نعم كان أخوك أحق مني بالوصاية على الفتاة، ولكنه أهمل جميع الواجبات، ولم يلتفت إلى شأنك وشأنها فآلت الوصاية إليَّ، فليس لك أن تعترضي أو تخالفيني في شيء ما، وقد حملتني جميلًا كثيرًا أو ذكرتني بثروتك التي قضى الزمان عليها بالضياع، ووبختني كأني كنت المُضيِّع لها، وهذا القول أسمعه منك في كل يوم، فمن اللازم أن تمتنعي عن ذكره بعد هذا، واعلمي أن ضياع ثروتك حصل بتقادير التجارة لا بتقصيري، فلا سبيل عليَّ ولا حق لك بتسكيتي ولومي، والتجارة قد يصادفها الربح والكسب، كما يعتريها الخسارة، فأي لوم عليَّ والزمان لم يساعد والبخت عاثر؟!
قالت: ما أذم التجارة، وأعلم حق العلم أن ممارستها بالتدبير والحكمة تفيد غنى وافرًا، أما الذين يتعدون قواعدها ويجرون على غير الصواب فيها — كما فعلت أنت — فمصيرهم إلى الخسارة والبوار، وقد نصحتك كثيرًا وتذللت لديك وقبَّلت قدميك أحيانًا لتتدبر في المعاملة، فلا تتهور في الأعمال فلم تَقْبَل نصيحة ولا شورى.
قال: دفعني إلى التجارة رغبتي في إحراز المكاسب سريعًا، فجاء الأمر بخلاف ما كنت أنتظر من النتيجة، فأي جناح عليَّ وأي ذنب أتيته والحظ لم يساعدني؟! ولو حاسبتِ نفسَكِ قليلًا لعلمت أني قُهرت على التهور في الأشغال توخيًا لمرضاتك والقيام بمصاريف الزينة والتطرئة والبهرجة، وما كنت مولعة بحبه من الملاهي وأسباب المباهة والنفقة الباهظة حتى قصر دخلنا عن نفقاتنا، وكانت حاجاتك متجددة في كل حين تبغين قضاءها بلا تأخير، فالتزمنا أكل جانب من رأس مالنا في كل سنة، وهكذا حتى قلَّ شيئًا فشيئًا، ثم نفد بالتمام والكمال. مع ذلك فأنتِ على عادة السرف لم تجدي عنها تبديلًا، اذكري أني كنت أقضي الليالي الطوال ساهرًا منكبًّا على العمل ابتغاء حفظ مركزي والثبات أمام جيوش نفقاتك الجرارة، فلا أستطيع شيئًا، فوالله لو أن ما في الأرض من مال يُبذل إليك لنفد وما وفَّى بمطلوبك.
قالت: تريد أن تجعلني مسئولة عن إخفاق أعمالك وسوء تدبيرك، مع أني نبهتك كثيرًا فلم تتنبه، ونهيتك عن التهور في الأعمال كأعمال البورصة وخلافها محذرةً إياك بأنها تعقب الخراب والدمار ما أذعنت لقولي، وقد جئت الآن تزعم أنني كنت السبب في الخسارة.
قال: لِمَ لا تتذكرين ملابسك الحريرية والحُلي والجواهر الكريمة التي كنت تكلفينني بجلبها إليك لتتبرجي وتخطري مباهية النساء المثريات الموسرات؟ ثم لم تكتفي بها حتى طلبت خلافها، وكلفتني الإنفاق على ملبوس المودات والأزياء الجميلة، وحتى كان عندك خياطات كثيرات يشتغلن في المنزل لتفصيل الأثواب ملبوسًا لك مؤنقًا بهيًّا، وكنت لا أستطيع مخالفتك مخافة الفضيحة والخصام بما قام فيك من طباع العتو والعظمة، وتذكري يوم بقيت غضبى واجمةً بسبب امتناعي عن شراء عربة تركبينها للمباهاة وإبراز زينتك وجمالك، وكيف أنك أصررت فلم يكن لي مناص للنجاة من غضبك إلا بإجابة مطلوبك، ولولا ذلك لفقدت راحتي، والله أعلم بمقدار ما تستلزمه العربة من كلفة وأجرة سياس وخدمة ومئونة خيل وغير ذلك من المصاريف، وأنت بين ذلك جالسة كسلطان على عرش عزة متزينة بنفيس حُلاك وملابسك ركوبًا على عربتك أمامك السياس والخدم، وأنا متعوس مُكب على عملي كتابة ومراجعة وبحثًا في الدفاتر والأوراق، أجهد النفس في الاشتغال ليلًا ونهارًا ابتغاء الكسب حتى يفي إيرادنا بنفقتك الجسيمة، وكان الخراب ماثلًا أمام عيني يضطرب خوفًا من سوء العاقبة، وأنت لا تتحولين عن عهد نفقتك الباهظة وقلة تدبيرك، فأخبريني الآن أين الرفيقات اللواتي قد صحبتك في أيام اليسر والسعادة؟! فإني لا أجد منهن ولا واحدة والكل يتجاهلنك، أين النساء اللواتي كن يلازمن مجلسك تمليقًا ومداهنةً؟! هل منهن واحدة تفتكر فيك أو تذكر سابق فضلك؟! فوالله إني أراهن يهربن منك هربهُنَّ من الجيفة أن تمس لهنَّ ثوبًا.
ولقد كان كلام خليل على شيء من الصحة، ولكنه قد بالغ بقصد تكدير امرأته … وهذا القول ينطبق على كثير من النساء اللواتي يخربن بيوتهن بكثرة الصرف طلبًا للمباهاة وابتغاء التشبه بمن فوقهن درجة وغنى واقتدارًا، ومن المعلوم بالتجربة أن كل امرأة قامت هذه الصفات فيها، وكان رجلها ضعيف القلب عاجزًا عن كبح جماحها أعدَّت بيتها للخراب وبئس المصير.
وكانت كريمة تسمع كلام زوجها فلا تجاوبه بشيء لعلمها أن قوله محض افتراء وبهتان، وأنها ليست من النساء الموصوفات بوصفه.
ثم إن خليلًا استطرد بقوله: قد علمتِ إذن أني لم أُبدِّد ثروتك، وإنما أنت التي بددتها بيديك، وبفرض أني كنتُ السبب في ضياعها، أفتنسين أنك تكبرينني بعشر سنوات، وأني ما تزوجت بك إلا رغبة في مالك الكثير؟ فلئن كنت أضعته بكثرة الإنفاق، فقد أضعت لذة شبابي زواجًا بمن هي فوقي سنًّا، لعن الله الساعة التي رأيتك فيها وعرفتك، كانت ساعة شؤم فقدت فيها عقلي وبصري، وما أرى أجهل من الشبان، يبتغون الزواج للمال يبادرون إليه بغير تروٍّ ولا يبصرون، فإن لمعان الذهب يُغشي عيونهم فيُدهشهم عن رؤية المرأة وانتقاد أخلاقها، واختبار صفاتها الملازمة لها مدى العمر، فهم يتزوجون المال لا صاحبة المال، وعلى الغالب فإنا نرى النساء الموسرات مجردات من الجمال ومحاسن الطبيعة، وقد يتجردن أيضًا من الأخلاق الجميلة فيُعاني الأزواج الجاهلون نصبًا كثيرًا بسببهن يدوم مدى الحياة، ويكونون قد أفاقوا من غفلتهم وشعروا بخطئهم، فلا يفيدهم الندم، وقد نفذ السهم وانقطع الوتر، فيقوم النفور بين الأزواج، وتعظم الوحشة والكدر، فتفقد العائلة راحتها ونظامها، ويقوم النكد بديلًا عن الصفاء، والذنب ذنب الرجل، والخطيئة خطيئته، فهو الذي ظلم نفسه، وألقى بيده إلى التهلكة.
وكان قد زاد اصفرار كريمة، واشتد عليها المرض من سماع الثلب، فقالت لزوجها: رحماك، فبالله ترثي لحالي، إني شاعرة بانحطاط كلي في جسمي وزيادة بالغة في أوجاعي، وقد بردت أطرافي، ولم يعد لي قوة على الحركة.
فقال لها خليل: نُؤجِّل هذا الحديث إلى وقت آخر، وإن شئت دعوت إليك الطبيب.
قالت: لا يفيدني حضور الطبيب شيئًا، وقد حُمَّ الأجل، وأحسست بقرب الموت، فوفِّر الأجرة إلى ما يفيد.
قال: لا بدَّ من إحضاره، على أني أطلعك قبل توجهي على أمر ذي بال، وهو أني توجهت اليوم إلى دكان الخياطة لأسأل مستفهمًا على تأخر عفيفة أمس عن الحضور إلى البيت في وقتها كالعادة، فعلمت أنها خرجت من العمل قبل نصف الليل، فلم تعد إلا بعد ساعتين من مضيه.
قالت: كانت تحاول قتل نفسها.
قال خليل: حاولت الخائنة قتل نفسها، وجعل يُسرع في مشيه من أول الحجرة إلى آخرها، ومن عينيه يتطاير الشرر.
وكان قد اشتدَّ الألم على كريمة، وكاد ينقطع صوتها وخفَّ سمعها، فقالت لخليل: عندي رجاء قبل أن أفارق هذه الحياة، وهو أنك تعدل عن هوى عفيفة، فأنت السبب في تعاستها وشقائها، حسبها ما حملت من الكدر فلا تلبسها فوقه ثوب العار والفضيحة، وكفاها ما قاست من الأشجان والأحزان.
أما خليل فإنه لم يُنصت إلى حديث امرأته، وكان يُكرِّر قوله هاتفًا: حاولت الخائنة قتل نفسها، أين هي الآن؟ أين ذهبت؟ ثم إنه خرج مسرعًا من البيت تاركًا امرأته في حالة النزاع، فاستلقت كريمة على فراشها، وهالها غضب زوجها، فبقيت برهة فاقدة الإحساس كأن قد قُبضت روحها، ولما انتبهت قليلًا جمعت ما تبقى من القوة لها، واستوت قعودًا على فراشها، فشعرت أن ساعتها الأخيرة من الحياة الدنيا قد دنت، وقالت في نفسها: ذهب زوجي، وتركني أتقلب على وسادة الموت شاكية أوجاعي وآلامي، وأشد تلك الآلام خوفي على ابنتي من غرامه وسفاهته، فقد سلب الهوى رشده وكاد يُخرجه عن الصواب، اللهم اهده الصراط المستقيم، ولم تكن الغيرة هي التي تمزق أحشائي، بل مخافتي على عرض ابنتي أن يتخدش، فيا أيها المولى العلي العظيم، إني أُقيمك على ابنتي وليًّا وحفيظًا، فصنها بكنف وقايتك من مكائده وخبائثه وفجوره، اللهم احفظها بقدرتك ورحمتك يا مغيث الأيتام والمساكين.
وكانت عفيفة في الدور الأول — كما سبقت الإشارة — فلما سمعت صراخ خليل وخروجه مغاضبًا بادرت بالصعود إلى والدتها، وانطرحت أمام فراشها تسألها قائلة: ما بالك يا أماه؟ وماذا جرى لك؟ ألعل بك آلامًا أو تكون أوجاعك قد زادت عن الأول؟ فإني أرى وجهك متغيِّرًا كئيبًا، أخبريني ولا تكتمي عني الحقيقة، وأريحي بالي وقلبي.
فقالت لها أمها: لا يزال مرضي على حاله فلا تنزعجي، وإن شاء الله يزول عني قريبًا، وكان فؤاد واقفًا على الباب فأبصرته كريمة، وأشارت إليه ليدخل فدخل، فلما دنا منها ورأى اصفرار وجهها أيقن أن قد دنا أجلها وأزف ترحالها من هذه الدنيا.
وقالت عفيفة لفؤاد متوجعة: انظر كيف تغيَّرت هيئة والدتي؟ فوالله إني لم أجدها على شحوب مثل هذا اليوم، فبالله عليك أن ترثي لي ولها وتستدعي الطبيب.
فتقدم فؤاد مقتربًا من كريمة وقال لها: أراك في غاية التعب والانزعاج، فها أنا ذاهب أدعو الطبيب لعيادتك في الحال.
قالت كريمة: لا فائدة من حضوره، فهو لا يُرجع الحياة إلى الأموات، ثم إنها التفتت إلى ابنتها تسألها أن تناولها زجاجة فيها ملح النشادر، مودعة في درج من الحجرة الثانية، فذهبت عفيفة مسرعة لتحضرها، والتفتت كريمة إلى فؤاد قابضة على يده، وقالت له بصوت منخفض: لا تتعب سرك يا سيدي، فلا لزوم لإحضار الطبيب، وليس لي إلا ربع ساعة من العمر أعيشها، ولا حاجة لي أيضًا بقسيس أقدم التوبة بين يديه، فقد غفر الله خطيئتي بما حمَّلني من الأوجاع والآلام، وذمتي نقية لا يثقلها شيء فأحاسب النفس على عصيان، ولي عندك رجاء أيضًا أن تسرع لتحضر عربة تجعلها أمام البيت، فإذا فارقت الحياة عهدت إليك بابنتي عفيفة عهد الله أن تحميها وتجعلها في محل أمين، وقد مضى الزمان فبادر ولا تتأخر وأحضر العربة في الحين.
فخرج فؤاد على عجل وحضرت عفيفة وفي يدها زجاجة النشادر، فجعلت تنشق والدتها والدموع منهملة على الخدين، وفي قلبها الأسف على أمها استشعارًا بدنو أجلها.
قالت لها أمها: كفكفي الدمع يا عفيفة، ولا تزيدي أوجاعي وآلامي، فقد تمضي هذه الساعة وأبلغ الراحة الدائمة، ثم قالت: أخبريني … هل أبصرك خليل وهو خارج؟
قالت عفيفة: كلا، كنت في بيت جارتنا فلم يعلم بي.
قالت كريمة: أخاف أن يرجع عاجلًا.
قالت: لا تخافي شيئًا، من عادته التوجه في مثل هذا الوقت إلى الصلاة لمراقبتي، فلا يعود قبل ساعة من الزمن.
وكانت كريمة تسمع الكلام بقلب منفطر؛ لانخفاض صوتها وظهور علامات الانحلال عليها حتى وقعت على ظهرها، فظنت عفيفة أنها قد فارقت الحياة، فضجَّت بالبكاء والعويل، وشهقت شهقة الحزن، وأذرفت الدموع مدرارًا، وبعد برهة قليلة تحركت كريمة وقالت لابنتها: اصرفي عنك يا ابنتي الحزن، فقد استودعتك الرحمن خالقك، وأموت راضية عنك، وأسأل الله أن لا تفارق روحي البدن حتى يكون قد رجع فؤاد.
فأكبَّت عفيفة على يدي أمها تُقبِّلهما فوجدتهما كالثلج صقيعًا، فخرجت من الحجرة صارخة مولولة، وكان قد رجع فؤاد فسألته عن الطبيب، فأخبرها أنه يحضر قريبًا، ودخل إلى حجرة المريضة، فتنهدت كريمة حين رأته وقالت: أشكر الله على أنك حضرت قبل خروج روحي، ثم نادت عفيفة وقالت لها: لا فائدة من حضور الطبيب، وأنا شاعرة بزهوق روحي وتفريق شملنا تفريقًا لا اجتماع بعده إلا في الدار الأخرى، وما كانت خشيتي من الموت إلا جزعًا عليك أن تصبحي في الكون وحيدة بلا سند ولا مأوى.
فعندما سمعت عفيفة هذا الكلام انفطر قلبها فسقطت في حضن والدتها تنوح وتبكي، فضمتها كريمة إلى صدرها قائلة: وقاك الله يا بنتي، وهو سبحانه المعين المغيث يتقبل الرجاء والدعاء الصالح. وكانت قوة كريمة تنحط شيئًا فشيئًا، وترتخي منها الأعصاب حتى لم يعد في استطاعتها ضم الأصابع إلى بعضها، فأُغمي على عفيفة وهي فوق أمها على فراش النزاع، فأراد فؤاد أن يُنهضها ويُخفِّف عن قلبها العذاب، ولكنه ألفى فؤاده ينفطر من رؤية هذا المنظر المُحزِن.
ثم إن كريمة نظرت إليه وكلمته بصوت يكاد لا يُسمع، وسألته أن يدنو منها، وقالت: لي عندك وصية وحيدة هي أعز شيء أرجو محافظتك عليه، وأنا الآن على فراش الموت ليس بيننا غير الله الشاهد، وهو الحي الباقي القيوم الذي لا يموت، إني أوصيك بابنتي عفيفة خيرًا، وأُسلِّمها إليك تسليمًا، وهي عما قليل تصبح ولا قريب لها ولا صديق ولا معين ولا ثروة تتكل عليها، ولا ملاذ تحتمي في ظله، فكن ذلك الملاذ والصديق المغيث ولك الأجر عند رب العالمين.
قال فؤاد وقد أخذ الحزن منه كل مأخذٍ: هوِّني عليك أيتها السيدة وسكِّني البال، فوصيتك محفوظة عندي ومقدسة، انعمي بالًا وطيبي نفسًا، فأنا كفيل ابنتك أدفع عنها كل مكروه، وسأجعلها شقيقة لروحي، ويقضي الله ما يريد ويشاء، ولكِ القسم على تربة أبي وحرمة هذا المشهد أني أحفظ العهد.
فعندما سمعت كريمة هذا القول تلألأت أَسِرَّة جبينها، وقالت لفؤاد: بارك الله عليك، ووفَّقك للخير والسعادة، فقد صدقت أيمانك، وكانت على يديك نجاة ابنتي من الموت لأول مرة غرقًا، والآن أنقذتها من الموت عارًا، وحفظت لها الشرف والكرامة والاسم الحسن، أسأل الله أن يجزيك خيرًا، ويُسبغ عليك من فيض آلائه الحُسنى، ثم قالت: أرجوك أن تفتح هذا الدرج فتجد مقصًّا تأتيني به. فنهض وتناول المقص فسلَّمه إليها فأخذته بكل عناء، فقصَّت خصلة من شعرها فسلمتها إليه وقالت له: هذه أمانة تسلمها إلى ابنتي عفيفة لتجعلها مع صورة أبيها، فهي الميراث الوحيد الذي أورثه لها، ثم سكتت قليلًا وسألت: هل أتت العربة؟
فقال لها فؤاد: نعم، وهي تنتظر بقرب الباب.
قالت: وما تصنع بعفيفة؟
قال: أجعلها في بيتي عند والدتي.
فقالت: جزاك الله خيرًا، فقد سكَّنت آلامي، صرف الله عنك كل مكروه، وحفظك من كيد الأعداء، ثم قالت: أرجوك أن تبادر بابنتي إلى والدتك عند فراق روحي، فليس بعد الموت حيلة ولا ضرورة لأن تبقى هنا.
قال: وهل عندك وصية أخرى؟
قالت: تُقابل أخي وتُعلمه أني سامحته ما أساء إليَّ وأنا على فراش الموت، وإن قابلت خليلًا زوجي فبلغه أيضًا أني عفوت عمَّا عذبني وكابدت بسببه من النكد والمصائب.
وكان قد اشتدَّ النزاع على كريمة، وتصبَّب العرق باردًا من جسمها، وعرت وجهها غبرة الموت وغشي ناظريها الظلام، فنطقت بآخر جملة قائلة: أدنِ مني ابنتي عفيفة لأقُبِّلها القُبْلة الأخيرة، فامتثل فؤاد إشارتها، وقرَّب بين يديها الفتاة جاعلًا رأسها على صدرها، فحرَّكت الأم شفتيها وأسلمت الروح، فارتعد فؤاد من هذا المنظر، ورجف جسمه وسال الدمع من عينيه غزيرًا، ولبث مبهوتًا قليلًا من الزمن ينظر إلى كريمة مرة وإلى ابنتها مرة أخرى حائرًا فيما يفعل، فجسَّ يدي كريمة فإذا هما قد جمدتا فأيقن أنها ماتت حقيقة، فأغمض عينيها، وتلا سورًا من الكتاب الكريم المقدس، وحمل عفيفة بين يديه نزولًا على السلالم فلم يُشاهده أحد، فأشار إلى سائق العربية فتقدم وجعل عفيفة في صدر العربة، وجلس أمامها وهي في حالة الإغماء وقال للسائس: بنا إلى مصر العتيقة، فانطلق يعدو بخيله سريعًا.