تطور كتاب «أصل الأنواع»
[في القسم الذي يتناول أعمال أبي المنشورة في الفصل الثاني، وُصف تطوُّر كتاب «أصل الأنواع» وصفًا مختصرًا بكلماتِ أبي. الخطابات الواردة في الفصل الحالي والفصول التالية ستُوضِّح ما جرى إيجازه في هذا القسم وتُسهِب فيه.
إن المقارنة بين طبعتَي كتاب «يوميات الأبحاث» مهمة، حيث تعطينا فكرةً عن نمو آرائه حول التطوُّر. إنها لا تعطينا مؤشرًا حقيقيًّا عن حجم الفرضية التي كانت تتشكل في ذهنه، لكنها ترينا أنه كان واثقًا من صحة اعتقاده لدرجةٍ كافية مما سمح بظهورِ لمحةٍ أكبر عن التطوُّر في الطبعة الثانية. لقد ذكر في سيرته الذاتية (ارجع للفصل الثاني) أنه لم تكن لديه رؤيةٌ واضحة عن مدى صحةِ فكرة الانتقاء الطبيعي حتى قرأ كتاب مالثس. كان هذا في عام ١٨٣٨، بعد عامٍ من انتهائه من الطبعة الأُولى (التي لم تُنشر حتى عام ١٨٣٩)، وقبل كتابة الطبعة الثانية بخمسةِ أعوام (١٨٤٥). ومِن ثَمَّ، حدثت نقطة التحوُّل في تكوين نظريته في الفترة بين كتابة الطبعتَين.
سأعرض لكم أولًا بضع فقرات تكاد تكون متطابقةً في الطبعتَين، وبالتالي فهي مهمةٌ للغاية لتوضيحها رؤيته في عام ١٨٣٧.
تَرِد وجهةُ نظرٍ مشابهة في النقاش (الطبعة الأولى، صفحة ٩٨؛ والطبعة الثانية، صفحة ٨٥) الخاص بالاعتقاد الخاطئ بأن الحيوانات الكثيرة تحتاج، من أجل إعاشتها، غطاءً نباتيًّا غزيرًا؛ يُستخدم للتدليل على عدمِ صحةِ وجهة النظر هذه مقارنةً بين الحيوانات في جنوب أفريقيا وأمريكا الجنوبية، والغطاء النباتي في القارتَين. المثير في النقاش أنه يُبيِّن بوضوحٍ جهلنا التام بظروف المعيشة المناسبة لأيِّ كائن.
ثَمَّةَ فقرة اقتُبسَت أكثر من مرة لارتباطها بنشأة آرائه. وهي تناقش الاختلاف الصارخ بين أنواع الفئران في شرقِ وغربِ الأنديز (الطبعة الأولى، صفحة ٣٩٩): «ما لم نفترض أن نفس النوع قد خُلق في بلدَين مختلفَين، فلا يمكننا أن نتوقع أن يفوق التشابه بين الكائنات الحيوية على الجانبَين المتقابلَين للأنديز ذلك الموجود بين الكائنات على ساحلَين يفصل بينهما مضيقٌ بحري عريض.» وفي الطبعة الثانية، في صفحة ٣٢٧، تكاد تأتي هذه الفِقرة متطابقة لفظيًّا، وتكاد تكون هي نفسها.
وفي الطبعة الثانية (صفحة ١٧٣) تأتي فقرةٌ مثيرة للاهتمام حول العلاقة بين «الدرداوات المنقرضة، وحيوانات الكسلان وآكل النمل والمدرع الحية.»
«لا يُساورني شكٌّ أن هذه العلاقة العجيبة بين الحيوانات المنقرضة والحية في القارة نفسها، ستُلقي مزيدًا من الضوء من الآن فصاعدًا على ظهورِ كائناتٍ حيوية على أرضنا، واختفائها منها، أكثر من أيِّ فئةٍ أخرى من الحقائق.»
لا تَرِد هذه الجملة في الطبعة الأُولى، لكنه كان على ما يبدو متعجبًا للغاية من اختفاء الأسلاف العملاقة للحيوانات الحالية. والاختلاف بين المناقشات في الطبعتَين يخبرنا بالكثير. في كلتا الطبعتَين، ثَمَّةَ تأكيد على جهلنا بظروف المعيشة الخاصة بالحيوانات، لكن في الطبعة الثانية، يُصاغ النقاش بحيث يؤدي إلى بيانٍ واضح عن شدة الصراع من أجل البقاء. ثم يتلو ذلك مقارنةٌ بين الندرة والانقراض، مما يُقدِّم فكرةَ أن بقاء الأنواع الموجودة وسيادتها يتوقَّفان على درجةِ تأقلُمها مع الظروف المحيطة. في الطبعة الأولى، نجده فقط «ميالًا للاعتقاد في كون علاقاتٍ بسيطة مثل تغيُّر المناخ والطعام، أو دخول أعداء، أو زيادة عدد الأنواع الأخرى، سببَ تعاقُب الأجناس.» لكنه أخيرًا (في الطبعة الأُولى) يُنهي الفصل بمقارنةٍ بين انقراضِ أحد الأنواع واستنزافِ ضروبٍ من أشجار الفاكهة واختفائها؛ كما لو كان يعتقد أن كل نوعٍ قد كُتب عليه الحياة لمدةٍ غامضةٍ عند خلقه.
هذا التشابُه في النمط بين القارات والجُزر البعيدة، مع اختلاف الأنواع في الوقت نفسه، بالكاد نال القَدْر الكافي من الملاحظة. قد يُفسِّر هذا الوضع، حسب وجهاتِ نظرِ بعض المؤلِّفِين، القول بأن قوة الخلق قد عمِلَت بالقانون نفسه على امتدادِ منطقةٍ كبيرة. (الطبعة الأولى، صفحة ٤٧٤)
لماذا كانت كائناتها الأصلية، متشابهة … بنسبٍ مختلفة في النوع والعدد عن تلك التي في القارة، وبالتالي تُؤثِّر على بعضها البعض بأسلوبٍ مختلف؛ لمَ خلقت على أنماط التكوين الأمريكي؟ (الطبعة الثانية، صفحة ٣٩٣)
قد يُخيَّل إلى المرء من ندرة الطيور في هذا الأرخبيل، أن أحد الأنواع قد أُخذ وجرى تعديله من أجل غاياتٍ مختلفة.
بوجهٍ عامٍّ يبدو لي عدم وجود قدْرٍ أكبر من الاختلاف بين الطبعتَين جديرًا بالملاحظة؛ فهو دليلٌ آخر على حذَر المؤلف وانضباطه في معالجةِ نظريته. بعد قراءة الطبعة الثانية من «يوميات الأبحاث»، نجدُ بشعورٍ حادٍّ بالاندهاش مدى تطوُّر آرائه في ١٨٣٧. ونستطيع تكوين رأيٍ واضح حول هذه النقطة من دفاتر الملاحظات التي كان يُدوِّن فيها أفكارًا ورؤًى مستقلة. وسوف أقتبس من دفتر الملاحظات الأول، الذي انتهى منه بين يوليو ١٨٣٧ وفبراير ١٨٣٨، وأكثر ما يجعل هذا مهمًّا هو أنه يعطينا معرفةً عميقة بالحالة التي كانت عليها أفكاره قبل قراءةِ كتابِ مالثس. لكن حيث إن الملاحظات مكتوبة بأسلوبه الشديد التعجُّل، فسنجد أن كثيرًا جدًّا من الكلمات محذوفة، حتى إنه كثيرًا ما يتعسر الوصول إلى معنًى. سأعرض الاقتباسات كما كانت مكتوبةً مع استثناءاتٍ قليلة (تدل عليها أقواسٌ مربعة). غير أن علامات الترقيم قد غُيرت، وصُوبت الأخطاء القليلة الواضحة حين بدا ذلك ضروريًّا. والاقتباسات ليست معروضة بالترتيب، وإنما مُصنَّفة على نحوٍ ما.
يُفسِّر الانحدار لماذا الحيوانات الحديثة من نمط الحيوانات المنقرضة نفسه، وهو قانونٌ شبه مُثبت.
يمكننا أن نرى سبب شيوع بِنيةٍ ما في بلادٍ معينة حين بالكاد نستطيع تصديق ضرورتها، لكن ما دام ذلك كان ضروريًّا لواحد من الأسلاف، فالنتيجة لا بد أن تصير إلى ما هي عليه؛ ومِن ثَمَّ، نجد الظباء في رأس الرجاء الصالح؛ والجرابيات في أستراليا.
أعظم الاختلافات تكون بين المناطق التي انفَصلَت منذ زمنٍ طويل — إذا كان الانفصال منذ عصورٍ سحيقة، ربما يظهر نمطان متباينان، لكن لكلٍّ منهما أشكاله النموذجية — كما في أستراليا.
هل سينطبق هذا على المملكة الحيوية بأَسْرِها حين بَردَ كوكبنا في البداية؟
يوضح الاقتباسان التاليان كيف طبَّق نظرية التطور على «المملكة الحيوية بأَسْرها»، من النباتات حتى الإنسان.
إذا فضَّلنا أن نُطلِق العِنان للفرضية، فقد نقول بأن الحيوانات، التي تُعد رفاقنا في الألم والمرض والموت والمعاناة والجوع، والتي نستعبدها في أشق الأعمال، ونصاحبها في لحظاتِ لهونا — ربما تشاركنا النشأة من سلفٍ مشترك؛ فربما ننصهر جميعًا معًا.
الاختلاف في القُدرات العقلية بين الإنسان والحيوانات ليس كبيرًا كالاختلاف بين الكائنات الحية التي ليست لديها ملكة التفكير (النباتات)، والكائنات الحية التي تتمتع بملكة التفكير (الحيوانات).
مرةً أخرى تتعلق الاقتباسات التالية بوجهةِ نظرٍ استدلالية حول احتمال نشأة الأنواع عن طريق التناسُل أو الانتشار (أو ما كان يُسمِّيه «الانحدار»).
ربما يجب أن تُسمَّى شجرة الحياة بالشعبة المرجانية للحياة، التي مَنبتُ فروعها ميت؛ ومِن ثَمَّ، لا يمكن رؤية التحوُّلات.
ربما لم يكن ثَمَّةَ مرتبةُ تطوُّرٍ بين الخنزير والتابير قَط، إلا أنهما انحدرا من جدٍّ ما مشترك؛ هكذا إن كانت المراتب الوسيطة أنتجت عددًا لا نهائيًّا من الأنواع، فالأرجح أن السلسلة كانت ستصبح أكثر كمالًا.
سيقول المعارضون: «أرِنا إياها». وسأُجيب أنا: حسنًا، إذا أريتموني كل درجة بين كلاب البولدوج والكلاب السلوقية.
هنا نرى أن حالة الحيوانات الداجنة كانت موجودةً في ذهنه بالفعل لارتباطها بإنتاج الأنواع الطبيعية. وبطبيعة الحال يُؤدِّي اختفاء الأشكال الوسيطة إلى موضوع الانقراض، وهو ما يبدأ به الاقتباس التالي.
من الحقائق العجيبة أن تنقرض خيول وأفيال وحيوانات مستودون في الوقت نفسه في مواقعَ مختلفةٍ هكذا.
هل سيقول السيد لايل إن أحد [نفس؟] الظروف قتلَها على رقعةٍ تمتد من إسبانيا إلى أمريكا الجنوبية؟ أبدًا.
إنها تموت؛ لأنها لا تتغير، مثل تفاح جولدين بيبين؛ إنه «جيل من الأنواع» مثل جيل «من الأفراد».
لماذا يموت الفرد؟ لتخليد خواص معينة (ومِن ثَمَّ التأقلم)، ومحو الضروب العارضة، وللتكيُّف مع التغيير (فإن التغيير، حتى في الضروب، تكيف). وينطبق هذا على الأنواع.
إذا لم يستطع الفرد التناسُل، فلن تكون لديه ذُرية — كذلك الأمر مع الأنواع.
إذا أنتج «نوع» «نوعًا» آخر، فلن ينقطع نسبهما تمامًا؛ مثل تفاح جولدين بيبين، الذي ينمو حين ينتج بالبذور — أو يموت كله.
الحِصان المُتحفِّر نتج عنه الحمار الوحشي، في جنوب أفريقيا — واستمر — بينما انقرض في أمريكا.
كل حيوانات النوع الواحد مرتبطةٌ معًا تمامًا مثل براعم النباتات، التي تموت في الوقت نفسه، رغم أنها نَبتَت في وقتٍ سابق أو لاحق، فلنثبت أن الحيوانات مثل النباتات — لِنتعقَّب التدرُّج بين الحيوانات المترابطة وغير المترابطة — وستصير القصة مكتملة.
لدينا هنا وجهة النظر التي أُشير إليها من قبلُ عن وجودِ مدةِ حياةٍ معينة مكتوبة على كلِّ نوع.
فيما يتعلق بالانقراض، يمكننا بسهولة أن نرى أن أحد ضروب النعام (الريا الصغرى) قد يكون غيرَ متأقلمٍ على نحوٍ جيد ولذا قد ينقرض؛ أو، من ناحية أخرى، يمكن أن يتوالَد الكثير من طائر الأورفيس [أحد طيور جالاباجوس]، لأنه يتأقلم جيدًا مع الظروف. وهذا يستدعي المبدأ الذي يُفيد بأن التباينات الدائمة الناتجة عن التكاثُر المحدود والظروف المتغيرة تستمر وتتوالد حسب التأقلم مع تلك الظروف، ولذا فإن موت أحد الأنواع من عواقبِ عدم التأقلُم مع الظروف (على عكسِ ما يبدو من أمريكا).
إن الإيمان بتطافُر الأنواع والتجميع الجغرافي يُؤدِّي بنا لمحاولة اكتشاف «مُسبِّبات» التغيير؛ وهكذا يصبح أسلوب عمل التكيُّف (هل كان رغبة الآباء؟) والغريزة والبنية مُفعمًا بالتكهُّنات والمُلاحَظات. يجب النظر لكلِّ جيل على أنه اختزال [أي، مختزل في عددٍ صغير من أفضل الأفراد تنظيمًا]؛ اختبار لأقصى قدْرٍ مفهوم من التنظيم … ستبعث نظريتي النشاط في التشريح المُقارَن للحفريات والكائنات الحديثة: فهي سوف تُؤدِّي لدراسة الغرائز والوراثة ووراثة القدرات العقلية، والكثير مما وراء الطبيعة.
إنها سوف تُؤدِّي لدراسةٍ أكثرَ دقةً للتهجين والتوالُد ومُسبِّبات التغيير حتى نعلم مم نشأنا ولأين نتجه — ما الظروف المواتية للتهجين وما التي تمنعه — وهذا والفحص المباشر للتحوُّلات المباشرة في بنية الأنواع، قد يُؤدِّي للوصول لقوانين التغيُّر، وهو ما سيكون الموضوع الرئيسي للدراسة، التي ستُرشد تخميناتنا.
ربما كان يُقال قبل اكتشاف قوة الجاذبية إن تفسير حركةِ كلِّ [الكواكب] بقانونٍ واحد صعبٌ للغاية، مثل تفسير حركةِ كلِّ واحدٍ منها على حدة؛ وهكذا ربما يُعتقد أن القول بأن كل الثدييات وُلدت من أصلٍ واحد، وتَوزَّعَت عن طريقِ وسائلَ يمكننا معرفتها، لا يُفسِّر شيئًا.
ربما قال علماء الفلك فيما مضى إن الرب نظَّم مسبقًا كلَّ كوكبٍ ليتحرك في مساره الخاص. على الغِرار نفسه قدَّر الرب لكلِّ حيوانٍ أن يُخلق بأشكالٍ معيَّنة في بلادٍ معيَّنة، لكن كم ستكون قدرة [الرب] أكثرَ بساطةً وعظمة [إن] جعل الجاذبية تعمل وفقًا لقانونٍ محدد، بحيث تكون تلك عواقبَ حتمية — وجعل الحيوانات تُخلق وفقًا لقوانينِ توالُدٍ ثابتة بحيث تكون تلك هي خلفاءها.
وجعل قوانين النقل على ما هي عليه؛ وهكذا ستصير الأشكال في كلِّ بلدٍ بالنسبة للأخرى — وجعل التغيُّرات الجيولوجية تسير بهذا المعدل، بحيث يكون هذا هو عدد الأنواع وتوزيعها!
حين يرى أحدنا حلمةً في صدر رجل، يرى أنها ليس لها أي استخدام، لكنها كانت مستخدمة عندما لم يكن الجنس قد تحدَّد في الإنسان البدائي — كذلك الأمر مع الأجنحة العديمة الفائدة أسفل أغمدة الخنافس — التي وُلدت من خنافسَ ذاتِ أجنحة، وعُدلت؛ فلو كانت عملية الخلق بسيطة، لوُلدت دونها.
في التجمُّعات المتناقصة، نجد في أيةِ لحظةٍ عددًا أقلَّ من الكائنات القريبة بعضها من بعض؛ فنجد القليل من أنواع الأجناس؛ وفي النهاية نجد القليل من الأجناس (حيث تتقارب العلاقة سريعًا)، وأخيرًا، ربما يصير هناك جنسٌ واحد. ألا يُفسِّر هذا وجود الأجناس الغريبة ذات الأنواع القليلة الموجودة بين مجموعاتٍ كبيرة، التي نُضطَر لاعتبارها متزايدة؟
الاقتباس الأخير الذي سأعرضه يعطي بَذرةَ نظريته عن العلاقة بين النباتات الجبلية في أجزاءٍ مختلفة من العالم، التي سبقه إي فوربس في نشرها (انظر المجلد الأول، صفحة ٧٢)؛ حيث قال، في دفتر ملاحظاته لعام ١٨٣٧، إن النباتات الجبلية «أنواعٌ من أجناسٍ تبدَّلَت، أو نباتات شمالية.»
ومرةً أخرى في مقدمة كتاب «أصل الأنواع»، الصفحة الأولى، يكتب قائلًا: «بعد فترةٍ استمرَّت خمسَ سنواتٍ من العمل [من ١٨٣٧؛ أي في ١٨٤٢]، أتحتُ لنفسي تأمُّل الموضوع، ودوَّنتُ بعض الملاحظات القصيرة عنه.»
إن ملخَّص عام ١٨٤٤ مكتوبٌ بخطِّ كاتب، في ملفٍّ من مائتَين وإحدى وثلاثين صفحة، حيث تتداخل الصفحات الخاوية مع صفحات المخطوطة بقصد الاستفاضة. وقد رُوجع النص وصُحح، وكتب أبي بنفسه تعديلاتٍ بالقلم الرصاص في الهامش. وهو منقسم إلى جزأَين: الأوَّل هو «حول تباين الكائنات الحية تحت تأثير التدجين وفي حالتها الطبيعية»، والثاني هو «حول الأدلة المؤيدة والمعارضة لوجهة النظر القائلة بأن الأنواع هي سلالاتٌ شُكلت طبيعيًّا وانحدرت من أصولٍ مشتركة.» يحتوي الجزء الأول على الموضوع الرئيسي لكتاب «أصل الأنواع». وهو يقوم، مثل حُجة ذلك العمل، على دراسة الحيوانات الداجنة، ويبدأ كلٌّ من الملَخَّص وكتاب «أصل الأنواع» بفصلٍ حول التباين تحت تأثير التدجين وحول الانتقاء الاصطناعي. ويتبع هذا، في كلا المقالَين، مناقشاتٌ حول التباين في الطبيعة، وحول الانتقاء الطبيعي، وحول الصراع من أجل الحياة. هنا، يتلاشى أي تشابُهٍ وثيق بين المقالَين من ناحية الترتيب. الفصل الثالث من الملخَّص الذي يختم الجزء الأول، يتناول التباينات التي تَلحَق بغرائز الحيوانات وعاداتها؛ ومِن ثَمَّ فهو يقابل إلى حدٍّ ما الفصل السابع من كتاب «أصل الأنواع» (الطبعة الأُولى). وهو بذلك يُشكِّل تتمةً للفصول التي تتناول التباين في البناء. ويبدو أنه وُضع في مرحلةٍ مبكرة هكذا من المقال للحَول دون الرفض المتعجل للنظرية بأَسْرها من أي قارئ قد تبدو له فكرة تأثير الانتقاء الطبيعي على الغرائز مستحيلة. هذا الاحتمال أرجح؛ حيث يُشار بوجهٍ خاص إلى الفصل الذي يدور حول الغريزة في كتاب «أصل الأنواع» (المقدمة، صفحة ٥) على أنه يتناول واحدة «من أكثر الصعوبات التي أحاطت بالنظرية من حيث الوضوح والأهمية.» علاوةً على ذلك، ينتهي الفصل في الملخَّص بقسمٍ عنوانه «ما إن كان ثَمَّةَ بنًى جسدية بعينها … خارقة بحيث تُبرر رفض نظريتنا من الوَهْلة الأولى.» يأتي تحت هذا العنوان مناقشة العين، التي تجد محلها في كتاب «أصل الأنواع» في الفصل السادس تحت عنوان «صعوبات النظرية». يبدو أن الجزء الثاني وُضع ليتفق مع إيمانه بصحة نظريته. وهذا ما صُرح به في إيجازٍ في خطابٍ إلى الدكتور آسا جراي بتاريخ الحادي عشر من نوفمبر، ١٨٥٩: «لا يمكنني بأيِّ حالٍ تصديقُ أن نظريةً خاطئة قد تُفسِّر فئاتٍ عديدةً من الحقائق، مثلما تفعل نظريتي بالتأكيد حسبما أعتقد. على هذه الأرض أُنزل مرساتي، وأعتقد أن الصعوبات ستزول بالتدريج.» بناءً على هذا الأساس، وبعد أن عرض النظرية في الجزء الأول، يسعى لتوضيحِ لأيِّ درجةٍ يمكن شرح سلسلةٍ عريضة متنوعة من الحقائق عن طريقها.
هكذا بالكاد يماثل الجزء الثاني من الملخَّص التسعة الفصول الختامية من الطبعة الأولى لكتاب «أصل الأنواع». لكن يجب أن نستثني الفصل السابع (من كتاب «أصل الأنواع») عن الغريزة الذي يُشكِّل فصلًا في الجزء الأول من الملخص، والفصل الثامن (من كتاب «أصل الأنواع») حول التهجين، وهو الموضوع الذي نُوقش في الملخَّص مع «التباين في الطبيعة» في الجزء الأول.
ستُوضِّح القائمة التالية فصول الجزء الثاني من الملخَّص وما يناظرها من الفصول الأخيرة من كتاب «أصل الأنواع».
-
الفصل الأول: «حول النوع الضروري من الوساطة، وعدد تلك الأشكال
الوسيطة».
يشمل هذا الفصل نقاشًا جيولوجيًّا، ويناظر أجزاءً من الفصلَين السادس والتاسع من كتاب «أصل الأنواع».
- الفصل الثاني: «الظهور والاختفاء التدريجيان للكائنات الحية». وهو يناظر الفصل العاشر في كتاب «أصل الأنواع».
- الفصل الثالث: «التوزيع الجغرافي». وهو يناظر الفصل الحادي عشر والثاني عشر في كتاب «أصل الأنواع».
- الفصل الرابع: «علاقات قرابة الكائنات الحية وتصنيفها».
- الفصل الخامس: «وحدة النمط».
-
الفصل السادس: «الأعضاء الأثرية».
تناظر هذه الفصول الثلاثة الفصل الثاني عشر من كتاب «أصل الأنواع».
- الفصل السابع: «تلخيص وختام». تتشابه الجملة الأخيرة في الملخص، التي رأيناها في شكلها الأول المبدئي في دفتر ملاحظات عام ١٨٣٧، تشابهًا كبيرًا مع الجملة الأخيرة في كتاب «أصل الأنواع»، مع وجودِ تطابُقٍ كبير بينهما. ولا ينقسم كتاب «أصل الأنواع» إلى «جزأَين»، لكننا نرى أن آثار ذلك التقسيم كان موجودًا في ذهن الكاتب، في هذا التشابُه بين الجزء الثاني من الملخص والفصول الأخيرة من كتاب «أصل الأنواع». وربما يرجع حديثه3 عن الفصول التي عن التحوُّل والغريزة والتهجين والسجل الجيولوجي، باعتبارها تُشكِّل مجموعة، إلى تقسيم مخطوطته الأُولى إلى جزأَين.
يشير السيد هكسلي، الذي تَفضَّل بقراءة الملخص بناءً على طلبي، إلى أنه رغم أن «خطوط النقاش الرئيسية» والتوضيحات المستخدمة واحدة فيما بين العملَين، فإن مقال عام ١٨٤٤ «يَنسِب قدْرًا أكبر من الأهمية لتأثير الظروف الخارجية في إحداث التباين، ولتوريث العادات المكتسبة، مقارنةً بكتاب «أصل الأنواع».»
من المثير للاهتمام للغاية أن نجد في الملخَّص أولَ ذِكرٍ للمبادئ المألوفة لنا في كتاب «أصل الأنواع». ربما الأبرز بين هذه مبدأ الانتقاء الجنسي، الذي عُرض بوضوح. وكذلك عُرض الشكل الهام للانتقاء المعروف ﺑ «الانتقاء غير المقصود». هنا أيضًا يأتي بيان بالقانون الذي يفيد بأن الخواص المميزة تجنح للظهور في النسل في سنٍّ يطابق سن ظهورها في الوالدَين.
وأخبرني البروفيسور نيوتن، الذي تكرم كثيرًا بقراءةِ ملخصِ عام ١٨٤٤ بإمعان، أن ملحوظات أبي حول هجرة الطيور، التي ترِد عرضيًّا في أكثر من فقرة، تُفصِح عن أنه قد استبق آراء بعض الكتاب اللاحقِين.
فيما يتعلق بالأسلوب العام للملخص، فلا يُتوقع أن يكون به كلُّ خصائص كتاب «أصل الأنواع»، وإننا، في الواقع، لا نجد ذلك التوازُن والسيطرة، ولا ذلك التركيز والاستيعاب، التي نجدها بارزةً للغاية في عمل سنة ١٨٥٩.
يتجلى المبدأ في حقيقة أنه إذا بُذر ضربٌ واحد من القمح في قطعة من الأرض، وبُذر في أخرى خليط من الضروب، فسيكون المحصول في الحالة الأخيرة أكبر. تمكن عدد كبير من الأفراد من العيش لأنهم لم يكونوا جميعًا من الضرب نفسه. يصير الكائن الحي أكثر كمالًا وأكثر ملاءمة للبقاء حين تُؤدِّي الأعضاء المختلفة وظائف الحياة المختلفة، بتقاسُم الأعمال. على النحو ذاته يصير النوع أكثر كفاءة وأكثر قدرة على البقاء على قيد الحياة حين تتمايز أجزاؤه المختلفة بحيث تقوم بمهامَّ مختلفة.
عند قراءة ملخَّص عام ١٨٤٤، وجدتُ أنه من العسير اعتبار خلوه من أيِّ بيانٍ واضح لمبدأ التشعُّب عيبًا في المقال. يوحي الانحدار مع التعديل بالتشعُّب، وقد أوضح المقال على نحوٍ رائع فكرة الانحدار، ومِن ثَمَّ التشعب، حتى إننا لا نلحظ غياب الدليل على أن التشعُّب في حدِّ ذاته مَيزة. وكما رأينا في فصل السيرة الذاتية، فإن أبي، في عام ١٨٧٦، قد وجد أن تجاهُله للمشكلة وحلها غيرُ معقول بالمرة.
إن عرض الخطاب التالي هنا سيكون أفضل من عرضه حسب ترتيبه الزمني؛ حيث يُوضِّح كيف كان شعور أبي تجاه قيمة الملخَّص في الوقت الذي انتهى منه فيه.]
من تشارلز داروين إلى السيدة داروين
داون، ٥ يوليو، ١٨٤٤
لقد انتهيتُ للتو من ملخَّص نظريتي عن الأنواع. إن، كما يُخيَّل لي، لاقت نظريتي القبول في النهاية، حتى إذا كان لدى متخصصٍ واحد متمرس، فستكون تلك خطوةً هامة في العلم.
لذلك فإنني أكتب هذا في حالة وافتني المنية فجأة، ليكون رجائي الأصدق والأخير، وهو ما أُوقن أنكِ ستعتبرينه كأنه أُدرج في وصيتي قانونيًّا، أن تُخصِّصي ٤٠٠ جنيهٍ إسترليني لنشره، وكذلك، أن تتكبدي العناء، أنتِ أو هينزلي، للترويج له. أتمنى أن يُعطى مُلخَّصي لشخصٍ كفء، مع هذا المبلغ حتى يحُثَّه على بذل الجهد في تحسينه والتوسُّع فيه. سوف أُعطيه كلَّ كتبي حول التاريخ الطبيعي، وهي إمَّا مميز بها بعض الفقرات المهمة أو تُوجد في آخرها قائمةٌ بالصفحات التي تُوجد بها هذه الفقرات، راجيًا إياه مُطالعةَ تلك الفقرات والتمعُّن فيها باهتمام وتحديدَ ما إذا كانت تتعلَّق بالفعل، أو يحتمل أنها تتعلق، بهذا الموضوع. أرجو أن تُعدِّي قائمةً بكل تلك الكتب كنوعٍ من التحفيز للمُحرِّر. كذلك أرجو أن تُسلِّميه كلَّ القصاصات المجمَّعة في ثمانية أو عشرةِ ملفاتٍ ورقية بنية. القصاصات، مع الاقتباسات المنقولة من أعمالٍ متنوعة، هي التي قد تساعد المحرِّر. كذلك أبتغي أن تُساهمي أنتِ، أو أحد النُّسَّاخ، في فك شفرةِ أيٍّ من القصاصات التي قد يرى المحرِّر أنها ربما تكون مفيدة. وأترك لحكم المُحرِّر ما إذا كان سيُقحم هذه الحقائق في النص، أو على هيئةِ ملحوظات، أو في ملاحق. وحيث إن مطالعة المراجع والقصاصات سيكون عملًا ممتدًّا، وحيث إن «تصحيح» ملخَّصي والتوسُّع والتبديل فيه سيستغرق وقتًا طويلًا أيضًا، فإنني أترك مبلغ اﻟ ٤٠٠ جنيهٍ إسترليني هذا كنوعٍ من المكافأة، وكذلك أي أرباح من العمل. أعتقد أن على المُحرِّر من أجل هذا أن يجعل الملخص يُنشر سواء على مسئولية أحد الناشرِين أو مسئوليته. تحتوي كثيرٌ من القصاصات في الملفَّات على مجرد اقتراحاتٍ مبدئية ووجهاتِ نظرٍ سابقة، وهي التي قد أصبحت عديمة الفائدة الآن، وغالبًا سيتبين أن كثيرًا من الحقائق ليس لها علاقة بنظريتي.
فيما يخص المُحررين، سيكون السيد لايل الأفضل إذا تولى الأمر؛ أعتقد أنه سيجد العمل ممتعًا، وسيتعلم بعض الحقائق الجديدة عليه. وحيث إن المُحرِّر لا بد أن يكون عالم جيولوجيا وكذلك عالِم تاريخٍ طبيعي، فإن ثاني أفضلِ مُحرِّر سيكون البروفيسور فوربس من لندن. يتلوه (والأفضل تمامًا في عدة نواحٍ) البروفيسور هنزلو. والدكتور هوكر سيكون اختيارًا جيدًا «جدًّا». التالي هو السيد ستريكلاند. إن لم يقبل أحدٌ من هؤلاء تولِّي الأمر، فسألتمس منكِ استشارة السيد لايل، أو رجلٍ متمرسٍ آخر، بشأن تزكيةِ أحد المُحرِّرِين الذي يجمع بين كونه جيولوجيًّا وعالم تاريخ طبيعي. إذا كانت مائة جنيهٍ إسترليني أخرى هي التي سيتوقف عليها الاستعانة بمحررٍ جيد، فإنني ألتمس منكِ رفع المبلغ إلى ٥٠٠ جنيهٍ إسترليني.
يمكن إعطاء مجموعاتي المتبقية في مجال التاريخ الطبيعي لأيِّ أحدٍ أو أيِّ متحف يقبل عرضها.
لايل، بمعاونة هوكر على الخصوص (وأي مساعدٍ جيد في مجال علم الحيوان)، سيكون الاختيار الأفضل على الإطلاق. وما لم يتوفر المُحرِّر الذي سيتعهد بأن يُكرِّس وقته للأمر، لن تكون ثَمَّةَ فائدةٌ من دفع هذا المبلغ.
إذا كانت هناك صعوبةٌ في الحصول على المُحرِّر الذي سيدرُس الموضوع دراسةً مستفيضة، ويفكر في علاقة الفقرات المميزة في الكتب والمنقولة من قصاصات الورق، فلتدَعي حينئذٍ ملخصي يُنشر كما هو، مع ذكر أنه أُنجز منذ عدةِ سنوات مضت، ومن الذاكرة دون الرجوع لأيِّ أعمال، ودون نية نشره في شكله الحالي.
يبدو أن فكرة احتمالِ بقاءِ ملخص ١٨٤٤، في حالة وفاته، التسجيل الوحيد لعمله، ظلت في ذهنه طويلًا؛ حيث إنه في أغسطس من عام ١٨٥٤، حين انتهى من دراسة هدابيات الأرجل، وكان يفكر في البدء في «عمله عن الأنواع»، أضاف في ظهر الخطاب أعلاه، «إن هوكر إلى حدٍّ كبير هو أفضل شخصٍ لتحريرِ عملي حول الأنواع. أغسطس، ١٨٥٤».]