الكتاب غير المكتمل
[في فصل السيرة الذاتية، كتب أبي قائلًا: «في بداية عام ١٨٥٦، نصحني لايل بأن أكتب آرائي بتفصيلٍ كامل، وقد بدأتُ تنفيذ نصيحته على الفور بنطاقٍ يزيد ثلاثة أضعاف أو أربعة عن النطاق الذي كنتُ أتبعه بعد ذلك في كتابة عملي «أصل الأنواع»، غير أنه لم يكن سوى ملخص للمواد التي جمعتُها.» تخص خطابات الفصل الحالي في أغلبها الإعداد لهذا الكتاب غير المكتمل.
بدأ العمل في هذا الكتاب في ١٤ مايو، واستمر بوتيرةٍ مطردة حتى يونيو ١٨٥٨، حين قاطَعه وصول مخطوطة السيد والاس. خلال السنتَين اللتَين نتطرق إليهما الآن كتب عشرةَ فصول (ما يساوي النصف تقريبًا) من الكتاب المرتقب. وكان يبقى أغلبَ الوقتِ في المنزل، لكن تعدَّدَت زياراته لمصحة الدكتور لين للعلاج المائي في مور بارك، التي زار خلال إحداها ضريح جيلبيرت وايت في سيلبورن.]
(١) الخطابات
من تشارلز داروين إلى سي لايل
٣ مايو [١٨٥٦]
… أما عن اقتراحك بإعدادِ ملخصٍ بآرائي، فإنني لا أعرف ماذا أقول بشأنه، لكنني سأتأمل الأمر، رغم أنه يخالف هواي. سيكون من المستحيل تمامًا إعطاء ملخصٍ بسيط؛ فكل فرضية تحتاج مجموعةً هائلة من الحقائق؛ فإن كنت سأفعل أي شيء، فقد يكون فقط الإشارة للعامل الرئيسي في التغيير — الانتقاء — وربما أيضًا القليل جدًّا من الأمور الأساسية، التي تؤيد تلك الرؤية، والقليل من الصعوبات الرئيسية. إلا أنني لا أعلم ماذا أفعل؛ فأنا أبغض فكرة الكتابة من أجل الفوز بالأسبقية، لكنني لا شك سأحزن إن نشَر أيُّ أحدٍ أفكاري قبلي. على أي حال، أشكرك حقًّا على تعاطُفك. سوف أكون في لندن الأسبوع القادم، وسوف أزورك صباح يوم الخميس لمدة ساعة بالضبط، حتى لا أُضيع الكثير من وقتك ووقتي، لكن هلا سمحتَ لي بالمجيء مبكرًا في التاسعة هذه المرة؛ إذ لديَّ الكثير مما عليَّ أن أفعله في الصباح في الوقت الذي أكون فيه في أقصى درجاتِ قوتي؟ إلى اللقاء، يا مناصري الكبير.
بالمناسبة، نبتَت «ثلاث» زروع في التربة المندفنة تمامًا في جذور الأشجار. ونبتَت تسع وعشرون زرعة في ملء ملعقةِ طعامٍ من الطمي الذي أخذته من بركةٍ صغيرة، وقد اندهش هوكر من هذا، وانبهر به، حين أريته كمَّ الطمي الذي كشطته من قدمِ بطةٍ واحدة.
إن نشرتُ فعلًا ملخصًا قصيرًا، فأين يا تُرى يمكنني أن أنشره؟
إن لم أتلقَّ ردًّا، فسوف أُدرِك أن بإمكاني أن آتي من التاسعة إلى العاشرة يوم الخميس.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
٩ مايو، [١٨٥٦]
… إنني في أشد الحاجة إلى النصح والمشورة «الصادقة» إذا استطعتَ منحهما. كان لي حديثٌ طيب مع لايل حول عملي عن الأنواع، وهو يَحثُّني بشدةٍ على أن أنشر شيئًا. وإنني مُصرٌّ على رفضِ نشر أي ملخَّص في أيِّ دورية أو مجلة؛ حيث إنني بكل تأكيد «لن» أُفصح عن أفكاري لمحرِّر أو مجلسٍ ليسمحوا بنشرِ شيءٍ ربما يُعرِّضهم للأذى. إن نشرتُ شيئًا، فلا بد أن يكون كتابًا رفيعًا وصغيرًا «جدًّا»، يعطي ملخصًا بآرائي والصعوبات التي أراها في الموضوع، لكنه مما ينافي مبادئ العلم للغاية حقًّا أن أعطي ملخصًا لعملٍ غير منشور، من دون مراجعَ محددة. لكن بدا أن لايل يعتقد أنني يجوز لي أن أفعل هذا، بناءً على اقتراح بعض الأصدقاء، وعلى أساس، يمكنني التصريح به، وهو أنني ظللتُ أعمل على الموضوع طَوالَ ثمانية عشر عامًا، لكن لم أستطع النشر لعدة سنوات، لا سيما أن بإمكاني الإشارة إلى الصعوبات التي بدا لي أنها تحتاج بحثًا خاصًّا. ما رأيك إذن؟ سوف أكون في غاية الامتنان إن قدمتَ لي مشورتك في هذا الأمر. فكرتُ في تخصيصِ عدةِ شهورٍ لكتابة ذلك الملخَّص، ومحاولة ألا أتخذ قراري بنشره أو عدم نشره حتى أُتمَّه. ببساطة سيكون من المستحيل أن أعطي مراجعَ محددة، وأي شيء ذا أهمية سوف أذكُره سيكون على عهدة المؤلف بوجهٍ عام، وبدلًا من إعطاء كل الحقائق التي أقمتُ عليها رأيي، يمكنني أن أعطي واحدة أو اثنتَين. وسوف أذكر في المقدمة أنه لا يمكن اعتبار العمل علميًّا بالمعنى الدقيق، وإنما مجرد ملخَّص أو موجز لعملٍ مستقبلي ستُعطى فيه المراجع وغير ذلك كاملة. ويحي! ويحي! أعتقد أنني كنت سأسخر من أي شخصٍ آخر يفعل هذا، وعزائي الوحيد هو أنني «حقًّا» لم أحلم بفعل ذلك قط، حتى اقترحه لايل، وبدا بعد التمعُّن فيه أنه اقتراحٌ حكيم.
إنني في دوَّامة من المتاعب وأرجو منك حقًّا أن تسامحني على إزعاجك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
١١ مايو، [١٨٥٦]
… سأنتقل الآن إلى «موضوعٍ أهم»، وهو موضوعٌ شخصي خاص بي؛ إنني في غاية السرور لاستحسانك فكرةَ أن يكون ثَمَّةَ «مقالٌ تمهيدي» مستقل (بعبارةٍ أخرى، إن نُشر أي شيء على الإطلاق؛ فقد بدا لايل متشككًا بعض الشيء بشأن هذا الأمر)، لكنني لا أستطيع تحمُّل فكرة «استجداء» مُحرِّر أو مجلسٍ ما من أجل النشر، ثم ربما الاضطرار إلى «الاعتذار» بصدقٍ على المأزق الذي أدَّيتُ بهما إليه. إنني في هذا الصدد في الحالة التي تُعد، وفقًا لمقولةٍ حكيمة جدًّا لأبي، هي الوحيدة المناسبة لطلب المشورة؛ إذ عندما يكون المرء حاسمًا في قراره، يكون، كما اعتاد أبي أن يقول، من السهل جدًّا قبول النصيحة «الجيدة»، ورفض النصيحة «السيئة». لكن يعلم الرب أنني لست في هذا الحالة فيما يتعلق بنشرِ أيِّ مقالٍ تمهيدي على الإطلاق. رغم ذلك أجد أنه من المنافي تمامًا لمبادئ العلم أن أنشُر نتائجَ من دون التفاصيل الكاملة التي أدَّت إليها.
إنه لشيءٌ يبعث على الحزن، وأرجو ألا يكون صحيحًا تمامًا، رأيك القائل بأن الحقائق يمكن أن تُثبت أي شيء؛ ومِن ثَمَّ، فهي بلا فائدة! لكني أعتقد أنني ضخَّمتُ من اعتقادك بعض الشيء. لا أخشى أن يرتبط اسمي بالخطأ؛ بعبارة أخرى، أعلم جيدًا أن لا بد أن أتخلَّى عن أي شيءٍ خطأ نُشر في المقال التمهيدي في عملي الأكبر، لكني أعتقد أنني هكذا ربما أُقدِم على مفسدةٍ بنشر الخطأ، وهو ما سمعتُك كثيرًا تقول إنه يسهل جدًّا نشره عن تصحيحه. أُقرُّ أنني أميل بصفةٍ متزايدة على الأقل نحو الإقدام على المحاولة وكتابة ملخَّص ومحاولة الاحتفاظ بقراري نشرَه من عدمه معلقًا. لكنني دائمًا ما أعود لاعتقادي الراسخ أن النشر بدون تفاصيلَ كاملةٍ يجافي مبادئ العلم لحدٍّ فظيع. وأعتقد بالطبع أن عملي المستقبلي سيستفيد تمامًا من سماعِ رأي أصدقائي أو النقاد (في حالة مراجعته) بشأن الملخَّص.
لا بد أن أعتذر لأيِّ شخصٍ عداك على هذا النقاش الطويل لمسألة شخصية جدًّا؛ لكن أعتقد أن هذا سيكون غيرَ ضروري، وهو ما أَثبتَّه بلا شك بما كلفتَ نفسك من عناء بسببي.
من خطاب إلى السير سي لايل [يوليو، ١٨٥٦]
يسرني أن أقول (بصدق مطلق) إن مقالي سينشر بناءً على اقتراحك، لكن أرجو ألا يحتاج لكثير جدًّا من الاعتذار كما اعتقدت في البداية؛ إذ قررت أن أجعله وافيًا حسبما تتيح لي المواد المتوفرة لديَّ حاليًّا. لا يمكنني أن أُقحِم كلَّ ما اقترحته؛ إذ سوف يبدو ذلك غاية في التكبر.
من خطاب إلى دبليو دي فوكس
داون، ١٤ يونيو
[١٨٥٦]
… أظن أن ما تقوله حول مقالي صحيح جدًّا؛ وقد سبب لي نوبةً أخرى من القلق: أرجو أن أنجح في أن أجعله بسيطًا؛ فأحد أهدافي الأساسية هي الحصول على معلوماتٍ حول النقاط العديدة التي يتناولها. لكنني أخشى بشدة، وهو ما يجب ألا يحدث، لو سمحت بانقضاء ثلاثة أو أربعة أعوامٍ قبل نشرِ أيِّ شيء …
[الاقتباسان التاليان من خطابين إلى السيد فوكس يستحقان أن نوردهما؛ فهما يبينان كم كان هائلًا تراكم المواد التي كان يجب تناولها حينذاك.
١٤ يونيو [١٨٥٦]
شكرًا جزيلًا على المعلومات الرائعة بشأن القطط؛ أرى أنني أتخبط بشدة، لكني أعلم أنني أحتفظ بملحوظاتك الأصلية في مكانٍ ما، بيد أن ملحوظاتي التي جمعتُها خلال تسعة عشر عامًا كثيرةٌ للغاية حتى إن مراجعتها وتصنيفها سيستغرقان مني عامًا على الأقل.
نوفمبر، ١٨٥٦
أحيانًا أخشى أن أنهار؛ فإن موضوعي يزداد اتساعًا بنهاية كلِّ شهر من العمل.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٦ [يونيو،
١٨٥٦]
عزيزي لايل
سوف أقدم على قول أكثر الأشياء وقاحة في العالم. لكني أستشيط غضبًا من الفتوحات الكبيرة التي يقوم بها كثير من أتباعك في مجال الجيولوجيا.
فها هو فوربس المسكين يفترض وجود قارة تمتد إلى أمريكا الشمالية وأخرى (أو نفسها) حتى المنطقة التي توجد بها أعشاب السرجس؛ ويفترض هوكر وجود واحدة تمتد من نيوزيلاندا حتى أمريكا الجنوبية وحول العالم حتى جزر كيرجلن. ويتحدث وولستن عن ماديرا وبورتو سانتو باعتبارهما «الشاهدين المؤكدين على وجود قارة سابقة.» ويكتب وودورد إليَّ قائلًا: ما دامت تقر بوجود قارة على عمق يزيد على ٢٠٠ أو ٣٠٠ ميل أسفل المحيط (كما لو كان أمرًا هينًا)، فلمَ لا تمتد أي قارة لكل جزيرة في المحيطين الهادئ والأطلنطي؟ وكل هذا أثناء حياة أنواع حديثة! إن لم توقف هذا، وكان ثَمَّةَ درك أسفل لعقاب علماء الجيولوجيا، فأعتقد أنك، يا سيدي العظيم، ستذهب لهناك. إن أتباعك يتفوَّقون على نحوٍ بطيء ومتسلسل على كلِّ من ظَهرَ من دعاةِ نظرية التغيُّر بالكوارث. وسوف يصل بك الحال لأن تصير كبيرَ دعاةِ هذه النظرية.
هكذا أكون قد استرحتُ كثيرًا، ونفَّستُ بقوةٍ عن غضبي.
فلتسامحني يا سيدي، ولك مني خالص الصدق.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون ١٧ [يونيو]،
١٨٥٦
… أثار كتاب وولستن [«تباين الأنواع»، ١٨٥٦] بالغ اهتمامي الشديد، رغم أنني أختلف «كثيرًا» مع العديد من مبادئه. هل قرأت من قبل أي شيء، مع الوضع في الاعتبار كم يتطرف وولستن كثيرًا، بسخافة هجومه على أولئك الذين يجاوزونه في الشطط: «خبيث للغاية»، «سخيف»، «غير منطقي»؟ أعتقد أن المعتقدات الدينية وراء بعض من هذا. وقد قلت له إنه أشبه بكالفين يحرق أحد الهراطقة. لكنه كتاب قيِّم ورائع جدًّا في رأيِي. من الجلي أنه قد قرأ القليل جدًّا مما لا يتسق مع آرائه. وقد حثثته على قراءة مقال نيوزيلاندا. كما أن معلوماته الجيولوجية، كما أخبرته، منحصرة إلى حدٍّ ما في العصر الإيوسيني. في الواقع لقد كاتبته بصراحة شديدة؛ أخشى أنها صراحة مبالغ فيها؛ إنه يقول إنه على يقين أن الصراحة المفرطة هي سمتي المميزة: لا أعلم إن كان يقصد استهزاءً بهذا أم لا؛ أرجو ألا يكون كذلك. على ذكر جيولوجيا العصر الإيوسيني، انتابني غضب شديد بشأن زعم القارة الأطلنطية، لا سيما جراء رسالة من وودورد (الذي نشر كتابًا رائعًا حول الأصداف)، الذي يبدو أنه لا يساوره شك في أن كل الجزر التي في المحيطين الهادئ والأطلنطي هي بقايا لقارات، غرِقَت خلال فترةِ حياةِ أنواعٍ حية الآن، حتى إنني انفعلتُ بعض الشيء وكتبتُ إلى لايل معترضًا، وذكرتُ كل القارات التي افتَرضَ وجودَها في السنوات الأخيرة كلٌّ من فوربس (الآثم الرئيسي!) و«أنت»، ووولستن، ووودورد، مُكوِّنِين معًا امتدادً صغيرًا من اليابسة! إنني مُحتدٌّ بعض الشيء بسبب هذه المسألة؛ ومِن ثَمَّ، إن لم أكن مخطئًا بالفعل، فإنني متأكد تمامًا أنني سأصبح كذلك …
إلا أنني لا بد أن أُحاول ألا أحتد، بل أتوقف عن ذلك، وأحاول أن أتواضع، وأسمح لكم جميعًا بافتراضِ وجودِ قارات، بالسهولة نفسها التي يُعِد بها الطاهي الفطائر.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٥ يونيو
[١٨٥٦]
عزيزي لايل
سأجعل الخطاب الطويل التالي يُنسخ لأجعل القراءة أيسر، ولأنني أريد الاحتفاظ بنسخةٍ منه.
لما قلتَ إنك تَودُّ معرفة أسباب رفضي الشديد تصديقَ فكرة الامتدادات القارية التي قال بها كُتاب مُحدَثون، فسأكتبها بكلِّ سرور؛ حيث إنني سوف أذكرها مختصرة في مقالي — ما لم أقتنع بخطئي — حين أناقش الخلق المفرد والمتعدد؛ ومِن ثَمَّ، سيسرني بنحوٍ خاص أن أعرف رأيك العام فيها. «من المحتمل جدًّا» أن أكون قد افترضتُ في فورة غضبي أن ثَمَّةَ المزيد لمناقشته فيها بخلاف الواقع. إن كان ثَمَّةَ أسبابٌ أكثر للاعتراف بوجودِ امتداد القاري في حالةٍ أو حالتَين (كما في ماديرا) من حالاتٍ أخرى، فلن أشعر بأيِّ صعوبة في الاعتراف بذلك على الإطلاق. لكن إن كان الاعتقاد بضرورةِ ربط ماديرا باليابسة راجعًا للنباتات والأصداف البحرية الساحلية الأوروبية، فإن هوكر مصيبٌ تمامًا في ربط هولندا الجديدة بنيوزيلاندا، وجزيرة أوكلاند (وجزيرة راءول بالشمال الشرقي)، وهذه بأمريكا الجنوبية وجزر فوكلاند، وهذه بجزر تريستان دا كونيا، وهذه بجزيرة كيرجولين؛ لتشكل بهذا، سواء في الوقت نفسه تمامًا، أو في فتراتٍ مختلفة، لكن خلال حياةِ كائناتٍ حديثة العهد، نطاقًا حول قطبي من اليابس. وهكذا مرةً أخرى يجب ربطُ جزر جالاباجوس وخوان فرنانديز بأمريكا؛ وإن اعتمدنا على الأصداف البحرية الساحلية، فلا بد أن جزر جالاباجوس كانت متصلةً بجزر المحيط الهادئ (التي على بعد ٢٤٠٠ ميل) وكذلك بأمريكا، وكلُّ جزر المحيط الهادئ كانت متصلة في قارةٍ هائلة كما يعتقد وودورد على ما يبدو؛ كذلك كانت جزر جنوب المحيط الهندي متصلةً في قارةٍ أخرى، مع مدغشقر وأفريقيا وربما الهند. في شمال المحيط الأطلنطي، ستمتد أوروبا عبر المحيط حتى جزر الأزور، وكذلك أقصى الشمال؛ باختصارٍ، ربما يجب أن نفترض أن نصف المحيط الحالي كان يابسةً خلال حياةِ كائناتٍ حية. لا بد أن الكوكب كان له مظهرٌ مختلف تمامًا خلال هذه الفترة. إذن الطريقة الوحيدة، التي يمكنني تخيُّلها، للتأكُّد من هذا، هو النظر فيما إن كانت القارات قد مرَّت بتلك التحولات العجيبة خلال الفترة نفسها أم لا. في كلٍّ من أمريكا الشمالية والجنوبية والوسطى، لدينا أصداف من العصرَين الحديث والمايوسيني (أو الإيوسيني)، مختلفةٌ تمامًا على الجوانب المتقابلة؛ ومِن ثَمَّ فلا يمكن أن يُخالجني شكٌّ أن أمريكا بالأساس ظلت في مكانها منذ العصر الإيوسيني على الأقل. في أفريقيا تختلف كل الأصداف الحية تقريبًا على الجهات المتقابلة من المناطق الواقعة بين المدارَين، وهي مسافةٌ قصيرة عند مقارنتها بمدى انتشار الرخويات البحرية، في البحار المتصلة؛ بناءً على ذلك، أستنبط أن أفريقيا قد وُجِدَت منذ خلق أنواعنا الحالية. حتى برزخ السويس وحوض بحري آرال وقزوين عريقا القدم؛ هذا ما أتخيله فيما يتعلق بالهند وذلك من رواسب العصر الجيولوجي الثالث. في أستراليا تدُل الحياة الحيوانية الهائلة للجرابيات المنقرضة أن أُستراليا كانت قارةً مستقلة، قبل ظهور الثدييات الحالية. ولا أشك للحظةٍ أن أجزاءً كبيرة جدًّا من كل هذه القارات قد خَضعَت لتغيرات «كبرى» في المستوى خلال هذه الفترة، إلا أنني أستنتج أنها كانت في الأساس قائمةً كحواجز في البحر، في المكان الذي تقوم فيه الآن؛ بناءً على هذا سوف يلزمني أقوى الأدلة لتحملني على تصديقِ حدوثِ تلك التغيرات الهائلة في محيطاتنا خلال حياة الكائنات الحية؛ حيث علاوةً على ذلك لا بد أن التغيرات كانت أشدَّ من الناحية الرأسية، بناءً على الأعماق السحيقة.
ثانيًا، إذا افترضنا غرق قاراتنا الحالية، تاركين القليل من قمم الجبال كأنها الجزر، فكيف ستكون طبيعة هذه الجزر؟ تذكر أن جبال البرانس وسييرا نيفادا والأبينيني والألب والكاربات غير بركانية، وجبال إتنا والقوقاز بركانية. في آسيا، جبال ألتاي والهيمالايا غير بركانية على ما أعتقد. وفي شمال أفريقيا الجبال غير البركانية هي جبال الحبشة والأطلس، حسبما أتخيل. وفي جنوب أفريقيا، سلسلة جبال الثلج. وفي أستراليا، جبال الألب الأسترالية غير بركانية. وفي أمريكا الشمالية، الجبال البيضاء وأليجيني وروكي غير بركانية — بعض جبال السلسلة الأخيرة فقط بركانية، على ما أظن. في أمريكا الجنوبية شرقًا، الجبال غير البركانية هي سيلا دو كاراكاس، وإيتاكولومي في البرازيل، وفي أقصى الجنوب سييرا فينتانا، وفي سلاسل الجبال الكثير من الجبال بركانية لكن ليس كلها. والآن، فلتقارن هذه القمم بالجزر المحيطية؛ في حدود المعلوم كلها بركانية، ما عدا جزيرتي سان بول (وهي صخرة محيرة عجيبة)، وسيشل، إذا جاز وصف الأخيرة بالمحيطية، بمحاذاة مدغشقر؛ وجزر فوكلاند، على بعد ٥٠٠ ميل فحسب، ليست سوى ضفة منخفضة؛ ونيو كاليدونيا، وهي بالكاد محيطية، استثناء آخر. هذه الحجة قوية جدًّا من وجهة نظري. فلنقارن على خرائط جغرافية، بين الجزر التي «تتعدد» أسبابنا لافتراض أنها كانت متصلة باليابسة، مثل سردينيا، وكم تبدو مختلفة. ومع اعتقادي بأن القارات بصفتها قارات، والمحيطات بصفتها محيطات، موغلة في القدم، فلا بد أن أقول إنه إن كان للجزر المحيطية الحالية أي علاقة من أي نوع بالقارات، فإنها تُكوِّن قارات؛ وبحلول الزمن الذي تستطيع فيه تكوين قارات، ستُعرى البراكين حتى لبها، تاركة قمم من صخور الساينايت أو الدايورايت أو البروفير. لكن ألا يوجد لدينا في أي مكان أي حطام أخير لإحدى القارات في وسط المحيط؟ ربما صخرة سان بول، وتلك الجزر البركانية القديمة الخربة، مثل سانت هيلينا؛ لكن أعتقد أن بإمكاننا رؤية بعض المنطق في أن ما لدينا من أدلة على قارات غارقة أقل من التي لدينا على قارات صاعدة (إن كان في وجهة نظري في عملي عن المرجانيات أي صحة: وهي أن الانفجارات البركانية تصاحب المناطق المرتفعة)، حيث إنه أثناء الهبوط لن يكون ثَمَّةَ عامل تعويض، وفي المناطق الصاعدة سيكون ثَمَّةَ عامل «إضافي» من المواد البركانية المتدفقة.
ثالثًا، واضعًا في الاعتبار عمق المحيط، فقد كنت، قبل تلقي خطابك، ميالًا بشدة لإنكار الحجم الهائل للهبوط، لكن يجب أن أعلن استسلامي. فيما يتعلق بالشعاب المرجانية، فقد حرصت على تجنب الاستدلال على وجود قارة بمجموعات من الجزر المرجانية. من الصعب تخمين، كما يبدو لي، حجم الهبوط من الشعاب المرجانية؛ لكن في المناطق الشاسعة مثل أرخبيل لو وأرخبيل مارشال ومجموعة لاكاديف، سيكون هذا من الغريب، بناءً على ارتفاع الأرخبيلات المحيطية الحالية، إذا لم تكن قد اندثرت قمم بارتفاع يتراوح بين ٨ آلاف و١٠ آلاف قدم. وحتى بعد خطابكَ شككتُ ما إن كان من الإنصاف المُحاجةُ استنادًا إلى هبوطِ قارات في منتصفِ أكبر المحيطات؛ لكن بعد إنعاش ذاكرتي بالحديث مع رامزي حول السُّمك المحتمل في أحدِ خطوطِ تكوين العصر السيلوري والكربوني الرأسية، فما يبدو أنه لا بُد قد حدث هو هبوطٌ بقدر ١٠ آلافِ قدم «على الأقل» خلال هذه التكوينات في أوروبا وأمريكا الشمالية؛ ومِن ثَمَّ خلال حياة مجموعة الكائنات الحية نفسها تقريبًا. لكن حتى ١٢ ألف قدمٍ لن تكون كافيةً بالنسبة لجزر الأزور، أو لقارة هوكر؛ لكن أعتقد أن هوكر لا يستنتج وجودَ قارةٍ متصلة، وإنما مجموعاتٍ متقاربة من الجزر، من دون، إذا جاز لنا الاستنباط من القارات الحالية، بحرٍ «شديد» العمق بينها؛ لكن الاحتجاج بالطبيعة البركانية لكلِّ جزيرةٍ محيطية تقريبًا يتعارض مع مجموعات الجزر المفترضة تلك؛ إذ أعتقد أنه لا يفترض مجرد سلسلةٍ من الجزر البركانية تُطوِّق نصف الكرة الجنوبي.
رابعًا، لا يبدو لي أن الامتدادات القارية المفترضة تُفسِّر تمامًا كل ظواهر التوزيع على الجزر؛ مثل غياب الثدييات والضفدعيات؛ وغياب مجموعاتٍ كبرى محددة من الحشرات في ماديرا، والأكاسيا والبانكسيا، إلخ في نيوزيلاندا؛ وندرة النباتات في بعض الحالات، إلخ. وليس المقصود أن أولئك الذين يعتقدون في وجودِ وسائل توزيعٍ عرضيةٍ متعددة يستطيعون تفسير أغلب هذه الحالات؛ لكنهم يستطيعون على الأقل أن يقولوا إن هذه الحقائق لا تبدو متسقة مع وجود يابسةٍ متصلة في عهودٍ سابقة.
أخيرًا، لهذه الأسباب المتعددة، وبوجهٍ خاص باعتبار أنه من المؤكد (وهو ما ستتفق معه) أننا في غاية الجهل بوسائل التوزيع، لا أستطيع منع نفسي من الاعتقاد بأن قارة «أتلانتس» التي افترضها فوربس قد أَلحقَت ضررًا كبيرًا بالعلم، حيث تعرقل دراسة وسائل النشر دراسةً متأنية. سأكون ممتنًّا حقًّا لمعرفة، بإيجاز بقدْرِ ما تريد، ما إن كانت هذه الحُجج لها أيُّ وزن لديك، واضعًا نفسك في موقع الحَكم النزيه. أخبرتُ هوكر أنني سأُكاتبك بشأن هذا الموضوع، وسأود أن يقرأ هذا؛ لكنني لا زلت غير متأكد ما إن كنتَ أنت أو هو ستعتقدان أن الأمر يستحق الوقت ورسوم البريد أم لا.
يؤسفني أنك لا تستطيع إعطاء أيِّ حكم حول مسألة الامتدادات القارية؛ وأستنتج أنك تعتقد أن حُجتي ليست ذات وزن في مقابلِ حُجة القائلِين بوجود تلك الامتدادات. أتمنى حقًّا لو كنتُ أستطيع الاعتقاد بصحة ذلك.]
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢٠ يوليو
[١٨٥٦]
… رغم ما في ذلك من أنانية، أود أن أخبرك (إذ لا «أعتقد» أنني قد فعلت ذلك) كيف أرى عملي. منذ تسعة عشر عامًا (!) خطر لي أثناء انشغالي بشيء مختلف في التاريخ الطبيعي أنه ربما قد يكون من الجيد إن سجلت أي حقائق متعلقة بمسألة أصل الأنواع، وهذا ما أخذت أفعله منذ ذلك الوقت. إن الأنواع إما تكون قد خلقت على نحو مستقل، وإما انحدرت من أنواع أخرى، مثل الضروب الخاصة بنوع واحد. أعتقد أنه من الممكن أن نبرهن على إمكانية حصول الإنسان على ضروبه الأكثر تميزًا بالحفاظ على تلك الأجدر بالإبقاء عليها والقضاء على الأخرى، لكن لا بد أن أملأ كراسًا إن استرسلت في هذا الشأن. على سبيل الإيجاز، إنني أفترض أن الأنواع تنشأ مثل ضروبنا الداجنة مع «الكثير» من الانقراض؛ بعد ذلك أختبر هذه النظرية بالمقارنة مع أكبر عدد يمكنني أن أجده من الفرضيات العامة الراسخة التي وُضعت في التوزيع الجغرافي والتاريخ الجيولوجي والقرابات، إلخ، إلخ. ويبدو لي، مع «افتراض» أن تلك النظرية قد تفسر تلك الفرضيات العامة، إننا لا بد، عملًا بالأسلوب الشائع في معالجة كل العلوم، أن نقر بها حتى يُعثر على نظرية أفضل. فمن وجهة نظري القول بأن الأنواع خُلقت كيت وكيت ليس تفسيرًا علميًّا؛ إنما هي طريقة منمقة لقول إنها كيت وكيت. لكنه من غير المعقول أن أحاول توضيح كيف أسعى للمواصلة في الأمر في إطار خطاب. لكن للأمانة، لا بد أن أخبرك أنني توصلت لاستنتاج مخالف يرى أن الأنواع لم تُخلق على نحو مستقل — أن الأنواع ليست سوى ضروب محددة للغاية. أعلم أن هذا سيجعلك تحتقرني. وأنا لا أقلل من شأن الصعوبات «الهائلة» المتعددة التي تكتنف وجهة النظر هذه، غير أنه يبدو لي أنها تفسر الكثير من الأشياء غير القابلة للتفسير بطريقة أخرى بحيث يصعب أن تكون خاطئة. وعلى سبيل الإشارة فقط إلى نقطة في خطابك الأخير، ألا وهي أن الأنواع التي في الجنس نفسه «بوجهٍ عام» لها منطقةٌ مشتركة أو متصلة؛ إن كانت بالفعل منحدرة مباشرةً من نوعٍ واحد، فهكذا سيكون الحال بالطبع؛ والاستثناءات الكثيرة جدًّا للأسف (بالنسبة لي) لا بد من تفسيرها بالتغيرات المناخية والجيولوجية. وبناءً على هذه النظرية (لكن على الأسس نفسها تحديدًا) لا بد أن يكون لكل أفرادِ النوع نفسه توزيعٌ متصل. لقد ألَّفتُ فصلًا في هذا الجزء الأخير من الموضوع، وتفضَّل هوكر بقراءته. كنت أعتقد أن الاستثناءات والصعوبات هائلة جدًّا في مجملها حتى إن كفَّتها رَجحَت مقابل أفكاري، لكنني سُررت جدًّا حين وجدتُ أنها لاقت قبولًا لدى هوكر، الذي قال إنه لم يُصِبْه ذلك القدْر الكبير من الحيرة بشأنِ ديمومة الأنواع قط.
لا بد أن أقول كلمةً أخرى من قبيل التبرير (فأنا متأكد أنك ستميل لاحتقاري أنا وأفكاري الغريبة)، وهي أن كل أفكاري حول «كيفية» تغيُّر الأنواع مُستقاةٌ من دراسةٍ طويلة متصلة لأعمال خبراء الزراعة والبستنة (والتواصُل معهم)؛ وأعتقد أنني أُدرك بوضوحٍ تام الطرق التي تستخدمها الطبيعة لتغيير أنواعها وجعلها قادرةً على «التكيُّف» مع العوارض العجيبة والرائعة الجمال التي يتعرَّض لها كل كائنٍ حي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٣٠ يوليو، ١٨٥٦
عزيزي هوكر
خطابك «عظيم» القيمة بالنسبة لي. لم أستطع الحصول على إجابةٍ محددة من لايل [بشأن نظرية الامتدادات القارية التي قال بها فوربس وآخرون]، كما سترى في الخطابات المرفقة، وإن كنتُ استنتجتُ أنه لا يقيم وزنًا لحُججي. ولولا هذا الخطاب، لكنتُ استخدمتُ لهجةً شديدة جدًّا. أرجو أن تطمئن أنني سوف أعبر عن شكوكي بطريقةٍ مقبولة. لم يُوضع أحدٌ في مأزِق كالذي وُضعتُ فيه قط؛ فإن الامتدادات القارية التي تفترضونها ستُزيل صعوباتٍ هائلة تتعارض مع أفكاري، ورغم ذلك لا أستطيع أن أُقرَّ بصحة النظرية؛ ولذلك يجب أن أعترف بهذا؛ فلا يمكنني تجاهُل حقيقةِ عدم العثور على حتى ولو كسرة من صخرةٍ من العصر الميزوزوي أو الباليوزي على أي جزيرة على ارتفاع ٥٠٠ أو ٦٠٠ ميل من البر الرئيسي. وإنك بالأحرى تُسيء فهمي حين تعتقد أنني أشُك في «احتمال» حدوث هبوط بقدر ٢٠ أو ٣٠ ألف قدم؛ إنه مجرد احتمال، مع وضعِ تلك الأدلة التي لدى كلٍّ منا عن التوزيع في الاعتبار. لم أتبين بعدُ مسألة توزيع الثدييات، «المتطابقة» والقريبة من بعضها، بكامل تفاصيلها، من ناحية «عنصر عمق البحر»؛ لكن بقدْر ما درست، كانت النتائج متفقةً لدرجةٍ أثارت دهشتي مع اعتقادي المُزعِج جدًّا بعدمِ وقوعِ تلك التغيُّرات الجغرافية الكبرى التي تعتقد فيها؛ ومن ناحية الثدييات، فبالتأكيد ما نعرفه عن وسائلِ توزيعها أكثر مما نعرفه عن أيِّ طائفةٍ أخرى. لا شيء يُثير سخطي مثل أن أجد نفسي أَتوصَّل دائمًا لاستنتاجاتٍ مختلفة عن استنتاجاتِ متخصِّصِين أفضلَ مني، من الحقائق نفسها.
أعتقد أنني قد أزلتُ مؤخرًا العديد من الصعوبات الكبرى (غير الجغرافية) التي تعترض سبيل أفكاري، لكن يعلم الرب أنها قد تكون محضَ هَلْوسة.
أرجوك أن تُعيد خطابات لايل.
يا له من خطابٍ رائع الذي كتبه لايل إليك، ويا له من رجلٍ رائع! أختلف معه كثيرًا في ظنه أن أولئك الذين يعتقدون أن الأنواع «ليست» ثابتة سيضاعفون عدد الأسماء النوعية: في حالتي أنا، أعلم أن مصدر قلقي الأكثر تواتُرًا كان هو ما إن كان الآخرون لن يعتقدوا أن هذا أو ذاك كان مثلًا برنقيلًا من خلق الرب، وبالتأكيد استَحقَّ اسمًا. خلافًا لذلك كان لا بد أن أُفكِّر فحسبُ فيما إن كان حجم الاختلاف والاستمرار كافيًا لتبرير الحاجة لاسم. كما أنني مندهش إزاء اعتقاده أنه من غيرِ الهامِّ ما إن كانت الأنواع مخلوقةً على نحوٍ مستقل أم لا؛ متى أُثبت أن كل الأنواع تنشأ بالانحدار، بقوانين التغيير، ستكون لدينا أدلةٌ جيدة فيما يتعلق بالفجوات التي في التكوينات. وكم سيختلف التاريخ الطبيعي، وذلك بعد أن نكون في القبر، حين يُعتقد أن كل قوانين التغيُّر أحد أهم أجزائه؟
لا يمكنني تصوُّر سببِ اعتقاد لايل أن أفكارًا مثل التي لديَّ أو في كتاب «بقايا» سوف تُبطِل فكرة المراكز المحدَّدة. لكن لا بُد ألا أستفيض في الأمر وأُضيع وقتك. أخشى أن مخطوطي لن يُنسخ قبل أن تسافر للخارج. لك خالص شكري.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٥ أغسطس
[١٨٥٦]
… أتفق تمامًا بشأن خطابات لايل إليَّ التي، رغم أنها تثير اهتمامي، لم تقدم لي أي إيضاحٍ جديد. خطاباتك، من الناحية «الجيولوجية»، كانت أكثر أهمية بالنسبة لي. لا يمكنك أن تتخيل كم أتمنى جديًّا لو كنت أستطيع تقبُّل موضوع الامتداد القاري، لكنني لا أستطيع؛ فكلما فكرت فيه (إذ لا أستطيع أن أُخرجه من رأسي)، وجدتُ أمرَ تقبُّله أَصعَب. لو كان الأمر مقتصرًا على نحوِ ستِّ حالاتٍ فحسب، ما كنتُ سأشعر بأيِّ صعوبة في تقبله؛ لكن تعميم حقيقة أن كل الجزر (ما عدا واحدةً أو اثنتَين) تشارك جزءًا كبيرًا من حيواناتها ونباتاتها مع البر الرئيسي لقارة أو أكثر يجعلني في حَيرةٍ شديدة. يا لها من حالةٍ عجيبة حالة فصيلة المؤنفات! إنه لمن المحزن، وكذلك المهين، للغاية أنني لا أستطيع فهم الطريقة التي تُعبِّر بها على نحوٍ لافتٍ عن رؤيتك للموضوع، أو الاتفاق معها. إنني أرى الحقائق الخاصة بك (عن الأوكالبتوس، إلخ) «معارضة» بشدة للامتداد القاري، وربما معارضةً بشدة للهجرة أيضًا، أو على الأقل «بالغة» الصعوبة. وإنني أرى أن أساس اختلافنا (لا بد في الخطاب أن أضع نفسي على قدم المساواة في المُحاجَّة) يكمن في رأيِي بأن المعروف عن وسائل التوزيع يكاد يكون معدومًا. أتفق تمامًا مع رأي إيه دي كوندول (وأعتقد رأيك أنت أيضًا) أن الإشارة إلى طرق التوزيع «المحتملة» فقط لَهو عملٌ هزيل؛ بيد أنني لا أرى طريقةً أخرى يمكن بها معالجة الموضوع؛ إذ أعتقد أن حُجة إيه دي كوندول المتمثلة في عدم دخول نباتات إلى إنجلترا إلا بتدخُّل الإنسان، ليست ذاتَ قيمة. لا أملك سوى الاعتقاد أن نظرية الامتداد القاري لها بعض الآثار السيئة حيث تُوقف البحث في وسائل الانتشار، وهو ما يبدو لي، سواء كان «سلبيًّا» أو إيجابيًّا، ذا أهمية؛ وعند دحضها سيُضطرُّ كلُّ من يعتقد في المراكز المفردة إلى أن يُقرَّ بصحة فكرة الامتدادات القارية.
… أرى من ملحوظاتك أنك لا تفهم أفكاري (سواء كانت مهمةً أم لا) حول التعديل؛ إنني أعزو للعمل المباشر للطقس، إلخ، القليل جدًّا من التأثير. أفترض أن أهدافنا تختلف فيما يخص المراكز المحددة؛ فأنا سأدعو حديقة المطبخ حيث أُنتج الكرنب الأحمر، أو المزرعة التي أَنتجَ فيها بيكويل الماشية القصيرة القرون، المركز المحدَّد لهذَين «النوعَين»! فهذه بالتأكيد مركزيةٌ كافية!
أشكرك بشدة على كلِّ ما أَسديتَه من مساعدة؛ وسواء إن كان كتابي فقيرًا أم لا، فقد بذلتَ قُصارى جهدكَ لتجعله أقل فقرًا. أحيانًا تكون معنوياتي مرتفعة للغاية وأحيانًا أخرى تضعُف بشدة. إن ذهني عاقد العزم حول مسألة أصل الأنواع؛ لكن، يا إلهي، كم هي ضئيلة قيمة ذلك!
أخشى كثيرًا أنه إن كان داروين يجادل بأن الأنواع أوهام، فسوف يُضطر كذلك لأن يُقر بأن مراكز الانتشار المفردة أوهام هي الأخرى، وذلك سيسلب مني كثيرًا من الأهمية التي كنتُ أُوليها للأقاليم الحالية للحيوانات والنباتات، للبرهان على التغيُّرات التي جرت خلال العصر الثالث والحديث في الجغرافيا الطبيعية.
لكن يبدو أنه قد أدرك أن قريبًا سيتعين مواجهة مذهب الأوهام؛ حيث كتب في الخطاب نفسه: «سواءٌ أقنع داروين كلينا بإنكار اعتقادنا بشأن الأنواع (عند وضع الحِقب الجيولوجية في الاعتبار) أم لا، فإنني أتوقع أن كثيرِين سيتحولون للمبدأ غير الواضح للقابلية للتعديل.»
في الخريف كان أبي لا يزال يعمل في فصل التوزيع الجغرافي، والتمس مرةً أخرى معاونة السير جيه دي هوكر.]
خطاب إلى السير جيه دي هوكر [سبتمبر، ١٨٥٦]
خلال بضعة أسابيع، ستكون لديك، أيها المسكين التعيس الحظ، مخطوطتي حول واحدة من النقاط المتعلقة بالتوزيع الجغرافي. إلا أنني لن أطلب ذلك المعروف ثانيةً أبدًا، لكن فيما يتعلق بهذه المخطوطة تحديدًا، فمن المهم بالنسبة لي أن تطَّلِع عليها؛ فلم أشعر قَط في حياتي بتلك الصعوبة فيما يتعلق بما عليَّ فعله، وأتمنى بحقٍّ لو كنت أستطيع تناوُل الموضوع بأَسْره على نحوٍ سطحي.
ثَمَّةَ منطقٌ خاطئ وغريب في عرضه [عرض إي فوربس] الشهير والجدير بالإعجاب لمسألة التوزيع، كيفما يبدو لي، بما إنني قد دَرستُها حتى أضع العناوين الرئيسية في صفحة. لِتثقْ أن مقولتي التالية صحيحة، وهي أن جامع البيانات رجلٌ «عظيم»، أمَّا الرجل المبدع، فهو رجلٌ عادي. يستطيع أيُّ أحمق أن يُعمِّم ويفترض، لكن، أوه، يا إلهي، يا له من عملٍ أن تدرس نباتات نيوزيلاندا عن شخصٍ آخر!
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
٣ أكتوبر، [١٨٥٦]
… أتذكَّر أنك اعترضتَ على نصيحة لايل بكتابةِ «ملخص» بمعتقداتي حول الأنواع. حسنًا، حين بدأتُ، وجدتُه عملًا غير مُرضٍ حتى إنني كففت عنه، والآن أنا أُحضِّر عملي ليكون مثاليًّا بقدْرِ ما تسمح الموادُّ التي جمعتُها في تسعة عشر عامًا، لكنني لا أنوي أن أتوقف لإتمام أي مسارٍ بحثي خارج نطاق العمل الحالي؛ لهذا الحد وليس أبعد من هذا سوف أتبع نصيحة لايل الملحة. إن لملاحظاتك أهميةً كبيرة لديَّ. من المحزن أن أرى أن العمل سيصير كتابًا كبيرًا للغاية. وقد وجدتُ أن دراستي المتأنية للحمام لا تُقدَّر بثمن حقًّا؛ حيثُ بصَّرتني بعدة نقاطٍ متعلقة بالتباين تحت تأثير التدجين. كانت الأدبيات القديمة الكثيرة، التي يمكن من خلالها تتبُّع التغيرات التدريجية في سُلالات الحمام، مفيدةً لي فائدةً استثنائية. لقد جاءني للتو حمامٌ وطيورٌ داجنة «حية» من جامبيا! كما أنني أُولي الأرانب والبط اهتمامًا شديدًا للغاية، لكن أَقلَّ من الحمام. وإنني أجد اختلافاتٍ ملحوظة جدًّا في هياكل الأرانب. هل سبق لك الاحتفاظ بسُلالاتٍ غريبة من الأرانب من قبلُ، وهل تستطيع إعطائي أيَّ تفاصيل؟ ثَمَّةَ سؤالٌ آخر: اعتدتُ الاحتفاظ بصقور؛ فهل تعرف على الإطلاق متى تتقيأ كرات الفضلات بعد تناوُلها أحد الطيور؟
لا يثير أيُّ موضوع بالنسبة لي قدْرَ المتاعب والشك والصعوبة الذي تثيره وسائل انتشار أنواع الكائنات الأرضية نفسها على الجُزر المحيطية. إن الرخويات البرية تدفعني للجنون، ولا أستطيع الحصول على بيضها بأيِّ طريقة لاختبار قدرتها على الطفو وتحمُّل التأثير الضار للماء المالح. لن أعتذر عن إفراطي الشديد في الكتابة عن أنشطتي؛ لأنني أعتقد أنك سترغب في معرفتها. أرجو أن تُطلعني، في أي وقت، على ما أَصبحَت عليه حالتك الصحية؛ و«إن أردت»، فلترسل لي بعض المعلومات بشأن البط الصيَّاح.
أعمل بمثابرةٍ شديدة في كتابي الكبير؛ لقد وجدتُ أنه من المستحيل تمامًا أن أنشر أيَّ ملخَّص أو مقالٍ تمهيدي؛ لكنني أُقدِّم عملًا كاملًا بقدْرِ ما تتيح الموادُّ التي لديَّ حاليًّا دون الانتظار لتحسينها. وهذا التعجيل الشديد أَدينُ لك به.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الأحد [أكتوبر،
١٨٥٦]
عزيزي هوكر
لقد وصلَت البذور جميعها سليمةً تمامًا، وأشكرك شكرًا جزيلًا عليها. إنني آسف جدًّا على المغادرة مبكرًا جدًّا وما فاتني من أيِّ جزءٍ من أمسيتي الممتعة «للغاية». لقد غادرتُ في همجيةٍ شديدة دون أن أُودِّع السيدة هوكر، لكنني وصلتُ في آخر لحظة؛ حيث وصل القطار بمجرد أن صعِدتُ للرصيف.
أَسعدَتني بوجهٍ خاص مناقشتنا بعد العشاء؛ فدائمًا ما يُصفِّي ذهني على نحوٍ رائع الاشتباك معك في معركة. أنا حزينٌ لسماع أن إيه جراي يتفق معك بشأن حال الجغرافيا النباتية. أعتقد أنكَ إن كنت بحاجة للبحث عن ضوء في الجغرافيا الحيوانية، فإنك على النقيض كنتَ ستُعير مجالك احترامًا أكثر كثيرًا مما تفعل الآن. لقد تصرَّفَتِ الصقور على نحوٍ رائع، واستفرغَت كراتِ فضلاتٍ بها الكثير من البذور؛ وقد تلقيت للتو طردًا به قدما طائرِ حجل مُغطَّاتان تمامًا بالطين! الوداع.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٤ نوفمبر
[١٨٥٦]
عزيزي هوكر
أشكرك شكرًا حارًّا أكثر مما تتخيل على خطابك. كان حكمك [بشأن مخطوطةِ فصل التوزيع الجغرافي] مصدرَ راحةٍ كبيرة لي. أُقسم بشرفي إنني لم أكن أدري إن كنت ستقول إنه (وأعلم أنك كنت ستقولها برفقٍ شديد) سيئ جدًّا، حتى إنك سترجوني أن أحرِقه كله. أرى من وجهة نظري أن مخطوطتي أزالت عن كاهلي بعض الصعوبات، وبدا لي أن الصعوباتِ قد عُرضت بإنصافٍ إلى حدٍّ كبير، لكنني صرت في حَيرةٍ شديدة وسط حقائقَ وأدلة وحُججٍ وآراءٍ متضاربة؛ حتى إنني خالجني شعورٌ عميق بأنني فقدتُ كلَّ ما لي من قدرة على الحكم. إن رأيك العام إيجابي أكثرَ مما توقَّعت.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٣ نوفمبر
[١٨٥٦]
عزيزي هوكر
أخشى أنني سوف أُصيبك بالضجر بسبب الخطابات، لكن لا ترُدَّ على هذا الخطاب؛ إذ إنني في الحقيقة ودون تملُّق، أُقدِّر خطاباتك كثيرًا، حتى إنه بعد كَمِّ الخطابات الكبير مؤخرًا، أشعر أنني كنت مُسرفًا وصرفتُ نقودًا كثيرة جدًّا؛ ومِن ثَمَّ، سيكون عليَّ التقتير في جانبٍ آخر.
حين أرسلت مخطوطتي ساورني شعورٌ قوي أنه كان يجب إرسال بعض الأسئلة المبدئية حول مُسبِّبات التباين. إن كوني مصيبًا أم مخطئًا في هذه النقاط إنما هي مسألةٌ منفصلة بالكامل، لكن الاستنتاج الذي توصلتُ إليه، بمعزل تمامًا عن التوزيع الجغرافي، هو أن الظروف الخارجية (التي كثيرًا ما تستهوي علماء التاريخ الطبيعي) لها أَثرٌ «قليل جدًّا» بمفردها. أمَّا درجة تأثيرها، فهي النقطة التي أشعر فيها بضعفي الشديد بين كل النقاط الأخرى. إنني أحكم بناءً على حقائق التباين تحت تأثير التدجين، وربما سأحصل على مزيدٍ من المعلومات. لكن في الوقت الحالي، بعد كتابةِ مُسوَّدة حول هذا الموضوع، يتمثل استنتاجي في أن تأثير الظروف الخارجية ضئيلٌ «للغاية»، عدا التسبُّب في مجرد القابلية للتباين. إن تلك القابلية للتباين (التي تجعل الطفل «غير» مشابه لوالده تشابهًا دقيقًا) أراها مختلفة «تمامًا» عن تكوُّن ضربٍ مميز أو نوعٍ جديد. (لا شك أن القابلية للتباين تخضع لقوانين، والتي أُحاول على نحوٍ معقد اكتشافَ بعضٍ منها.) أرى أن تكوُّن أحد الضروب أو الأنواع القوية يكاد يرجع بالكامل لانتقاءِ ما قد يُسمى خطأً تباينات أو قابلية تباين «عَرَضية». يرتبط هذا الانتقاء على نحوٍ مباشر بالزمن، ولا يمكن أن يتم في الطبيعة إلا ببطءٍ شديد. مرةً أخرى، الاختلافات الطفيفة المنتقاة، التي يُنتج بها أخيرًا عِرقٌ أو نوع، ترتبط، كما يمكن إثباته حسبما أعتقد (حتى مع النباتات، ومع الحيوانات كما هو جليٌّ)، في علاقةٍ أهمَّ كثيرًا مع رفقائها أكثر من الظروف الخارجية؛ لذلك، حسب مبادئي، سواء كانت صحيحةً أو خاطئة، لا يمكنني الاتفاق مع فرضيتك أن الزمن والظروف المُتبدِّلة والرفقاء المُتبدِّلِين «شروط القابلية للتحويل»؛ فأنا أرى أن الأول والأخير أكثر «كثيرًا» في الأهمية؛ فالزمن ليس مهمًّا إلا بقدْر ما يتيح المجال للانتقاء. يعلم الرب ما إن كنتَ ستُدرك ما أقصده أم لا. سوف يكون عليَّ مناقشةُ الصعوبة التي تتحدث عنها بشأن أشكال المنطقة المعتدلة ومنطقة جنوب القطب الشمالي في نصف الكرة الأرضية الجنوبي والتفكيرُ فيها أكثر مما فعلتُ بالفعل. لكنني أميل للاعتقاد أنني مصيب (إن كانت مبادئي العامة صحيحة) في أنه سيكون ثَمَّةَ نزوعٌ ضئيل لتكوين نوعٍ جديد، خلال فترة الهجرة، سواءٌ قصُرت أو طالت، رغم أنه من المحتمل أن قدْرًا كبيرًا من القابلية للتباين قد يحدث.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
٢٤ ديسمبر [١٨٥٦]
… كم أتمنى لو كنت أعيش قريبًا منك لأناقش الأمور معك. كنت أقارن لتوي بين تعريفات النوع، وأُبيِّن بإيجاز كيف يستنبط علماء التاريخ الطبيعي المعنيون بالتصنيف موادَّ بحثهم. كانت زهرة الحوض في كتاب «نباتات الهند» مثالًا ممتازًا لي. إنه مما يدعو للضحك حقًّا أن ترى مدى اختلاف الأفكار التي تُوجد في أذهان العديد من علماء التاريخ الطبيعي، حين يتحدثون عن «الأنواع»؛ فلدى البعض التشابُه هو كل شيء والانحدار قليل الشأن؛ ولدى البعض الآخر، يبدو أن التشابه ليس مهمًّا، والخلق هو الفكرة المهيمنة؛ ولدى آخرِين، الانحدار هو السر؛ ولدى آخرِين، العقم اختبار لا يخطئ، بينما يرى آخرون أنه عديم القيمة تمامًا. أعتقد أن كل هذا ينبع من محاولةِ تعريفِ ما هو غيرُ قابل للتعريف. أظن أنك فقدتَ البذور السوداء الغريبة التي كانت في زبل الطيور، التي نبتَت. على أي حال، الأمر لا يستحق الانزعاج بشأنه؛ فلديَّ نحو دزينة من البذور المستخرجة من زبل طيورٍ صغيرة.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ١ يناير
[١٨٥٧؟]
عزيزي الدكتور جراي
لقد تلقيتُ الجزء الثاني من بحثكَ [«الإحصائيات الخاصة بنباتات شمال الولايات الأمريكية»، «دورية سيليمان»، ١٨٥٧]، ورغم أنه ليس لديَّ شيءٌ محدد لأقوله، فلا بد أن أُرسل شكري وصادق إعجابي. أرى أن البحث بأَسْره يُغطِّي الموضوع بحذافيره، وأنني أُوهم نفسي وأخدعها تمامًا أنني أدرك الآن طبيعة نبتاتك. يا له من فرقٍ الذي تُحدِثه ملحوظاتك في أوروبا بشأن الأجناس! لقد أسعدني للغاية أن أرى استنتاجكَ فيما يخُص سَعةَ نطاقِ أنواع الأجناس الكبيرة؛ فهو ينسجم تمامًا في عدةِ نواحٍ مع النتائج التي توصلتُ إليها. إنه يحمل أهميةً كبرى لأفكاري. بالمناسبة، لقد أسديتَني إطراءً «عظيمًا»؛ إذ أعتبر مجرد ذكري في بحثٍ كهذا شرفًا عظيمًا جدًّا. غير أن أحد استنتاجاتكَ يحملني على التذمُّر، وهو أن خط اتصال النباتات الجبلية يمر بجرينلاند. أود «بشدة» أن أرى أسبابكَ منشورةً بالتفصيل؛ لأن الأمر «يزعجني» (هذا تعبيرٌ لائقٌ، أليس كذلك؟) لدرجةٍ فظيعة. أخبرني لايل أن أجاسي لديه نظريةٌ عن الزمن الذي خُلقت فيه العظائيات أوَّل مرة، وعند سماعِ بعض الملاحظات المتروية المخالفة لها، قال إنه لا يؤمن بها، «لأن الطبيعة لم تكذب قط.» وإنني في هذا المأزق نفسه، وأقول لك إن «الطبيعة لا تكذب أبدًا» وبناءً على ذلك فالمُنظِّرون دائمًا على صواب.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٢ أبريل
[١٨٥٧]
عزيزي هوكر
أسعدني خطابكَ أيما سعادة، ولا أستطيع أن أُقصي عن ذهني فكرةَ أنني أستغل كرمك؛ حيث آخذ فقط ولا أعطي شيئًا. يا له من كلامٍ رائع ذلك الذي استطعتَ كتابته حول موضوعِ التباين برمته! إن الحالات التي نُوقشت في خطابكَ الأخير هامةٌ بالنسبة لي (وإن كانت بغيضة وملعونة)؛ حيث إنها تكشف عن شدة جهلنا بمُسببات التباين. سأُشير فقط لهذه الحالات، باعتبارها نوعًا من التقسيم الفرعي لتعدُّد الأشكال، الذي يُعد أكثر تحديدًا قليلًا، على ما أعتقد، من تباين التوت الشوكي، على سبيل المثال، ويساويه أو يفوقه في إثارة الحَيرة.
كنت أجمعُ للتو ملحوظاتي حول التباينات التي «تبدو» ناتجةً عن التأثير الآني والمباشر للمسببات الخارجية؛ وخرجت بنتيجةٍ واحدة. يُقرُّ أكثر المؤيدين لفكرة الخلق المستقل تشدُّدًا بأن فراء الحيوانات المنتمية للنوع نفسه يكون أرقَّ في جنوبِ نطاقِ انتشار هذا النوع عن شماله، وأن الأصداف المنتمية للنوع نفسه تكون أزهى لونًا ناحية الجنوب من الشمال؛ وأنها أبهتُ لونًا في المياه العميقة، وأن الحشرات تكون أصغر وأدكن لونًا على الجبال، وأكثر شحوبًا وأشبه بالصدف قرب البحر، وأن النباتات تكون أصغر وأغزر شعرًا وذات زهور أزهى لونًا على الجبال؛ إذن في كل هذه الحالات، وغيرها، تتبع أنواعٌ متمايزة القاعدة نفسها في المنطقتَين، ويبدو لي أن أبسط تفسيرٍ لهذا هو أن الأنواع ليست سوى ضروبٍ مميزة جدًّا؛ ومِن ثَمَّ تتبع القوانين نفسها الخاصة بالضروب المعروفة والمعترف بها. أذكُر كل هذا بسبب تباين النباتات عند ارتقائها الجبال؛ وقد سقتُ الملحوظة السابقة على وجه العموم فحسب دون أمثلة، حيث سأُضيف أنه ثَمَّةَ الكثير جدًّا من الشك والنزاع حولَ ما يمكن أن نطلق عليه ضروبًا؛ لكنني رغم ذلك صادفتُ عدة ملاحظاتٍ عابرة حول «ضروب» النباتات الموجودة على الجبال والتي من هذا النوع، حتى إنني أعتقد أن بهذه الملحوظة بعض الحقيقة. ما رأيك في هذا؟ هل تعتقد أن ثَمَّةَ «أي» نزعة في «الضروب»، كما يُطلق عليها «بوجهٍ عام»، الخاصة بالنباتات لتصير أغزر شعرًا وذات زهور أكبر حجمًا وأزهى لونًا عند اعتلائها الجبال؟
إنني أُولي اهتمامًا ﺑ «حديقة الحشائش» الخاصة بي التي مساحتها ثلاثة أقدام في قدمَين؛ حيث أُميز كل شتلة بمجرد أن تظهر، وإنني مندهش من العدد الذي نبَت، وأكثر اندهاشًا من العدد الذي قتلَته البزاقات وغيرها. لقد قُتل ٥٩ بالفعل هكذا؛ لقد توقعتُ عددًا كبيرًا، لكنني كنت أعتقد أن هذا كان عائقًا أقل قوة مما يبدو، ونسبتُ دمار الشتلات برمته تقريبًا للاختناق وحده. يبدو أن شتلات الحشائش أقل كثيرًا في معاناتها من ثُنائيات الفلقة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، فارنام [(؟) أبريل
١٨٥٧]
عزيزي هوكر
لقد أُرسل خطابك إليَّ هنا، حيث أخضع للعلاج المائي لمدة أسبوعَين، وقد قضيتُ هنا أسبوعًا، وصادفتُ بالفعل تحسنًا غيرَ قابلٍ للتصديق على الإطلاق بالنسبة لي وغيرَ قابلٍ للتفسير بالمرة. أستطيع الآن السير وتناوُل الطعام مثل أيِّ رجلٍ متمتع بالصحة، وحتى الليالي تمر عليَّ في سلام. لا أستطيع البتةَ أن أفهم كيف يستطيع العلاج المائي أن يؤتي تأثيرًا كما يفعل معي. إنه يغشى العقل إلى درجةٍ كبيرة؛ إذ لم أفكر في أيِّ نوعٍ مهما كان منذ غادرتُ المنزل. لقد صدمَني خطابك؛ كنت أعتقد أن غزارة الشعر وغيرها كانت أمورًا مسلمًا بها عمومًا في «الأنواع» الجبلية؛ إنني واثق أنني قد رأيتُ الإشارة إليها عدة مرات. كان فالكونر يتحدث لي عنها منذ عدةِ أيام. أذكر أن ماين أو جاي، أو شخصًا مشابهًا (قد تحتقره)، وضع ملحوظةً حول هذا الأمر بشأنِ نباتاتِ سلسلةِ جبال تشيلي. وكتب فيمر كتابًا صغيرًا حول الموضوع نفسه، وعن اتصاف «الضروب» بهذا في جبال الألب. لكني أُقرُّ أنه بعد الكتابة إليكَ أذهلني أن أجد رجلًا (موكين تاندون، على ما أعتقد) يقول إن الزهور الجبلية تميل بشدة لأن تكون بيضاء، وأن أجد لينيوس يقول إن البرد يجعل النباتات «عديمة البتلات»، حتى إذا كانت من النوع نفسه! هل يغلب على نباتات القطب الشمالي أن تكون عديمة البتلات؟ اعتقادي العام الذي تأتَّى من عملي التجميعي هو الاتفاق تمامًا مع ما تقوله حول التأثير الصغير المباشر للمناخ؛ وقد أشرت للتوِّ لكثافة شعر النباتات الجبلية باعتبارها «استثناءً». كانت قوة الرائحة ستُصبح حالةً مناسبة لي لو كنتُ أعرف «ضروبًا» أقوى رائحةً في البيئات الجافة.
أخشى أنني نظرتُ لكثافة شعر النباتات الجبلية بصفتها شيئًا معترفًا به عامةً للغاية حتى إنني لم أُميِّز الفقرات التي تقول بذلك في الكتب، حتى أرى الأدلة الذي يُقدِّمها المؤلفون على صحة كلامهم في هذا الشأن. لا بد أن أُقر أنني حين سألتُ فالكونر إن كان يعلم بحالاتٍ خاصة لنباتاتٍ تفقد شعرها أو تكتسبه حين تُنقل، لم يكن يعلم. لكن الآن «في هذه اللحظة» تُسعفني الذاكرة، وإنني متأكد أنني في مكانٍ ما ميزتُ حالة نباتاتٍ غزيرة الشعر في جبال البرانس فقدَت شعرها عند زراعتها في مونبلييه. هل ستعتقد أنني شديد الوقاحة إذا أخبرتُك أنني أعتقد أحيانًا (بمنأًى تمامًا عن الحالة الراهنة) أنك شديد القسوة لحدٍّ ما مع الملاحظِين غير الجيدِين؛ أن الملاحظة التي تصدُر عن ملاحظٍ غيرِ جيد «لا يمكن» أن تكون صحيحة؛ وأي ملاحظ يستحق الإدانة سوف تدينه تمامًا. أشعر باحترامٍ تام لأي ملحوظةٍ نابعة من تفكيرك؛ لكن حين تكون ضد شخصٍ مسكين، بطريقةٍ ما دون إرادتي لا يؤاتيني هذا الشعور، بيد أنني أظل حاملًا القدر نفسه من الاحترام لرأيك. لا أعلم على الإطلاق إن كان ثَمَّةَ صحة في انتقادي لك، لكني كثيرًا ما اعتقدتُ أنني سوف أُخبرك به.
إنني في غاية الامتنان حقًّا على خطابك، ورغم أنني كنتُ أنوي أن أضع جملةً واحدة فقط وبذلك الإبهام، فربما كان يجب أن أُعبِّر عن مشاعري بقوةٍ بالغة.
كان توزيع رخويات المياه العذبة كابوسًا كبيرًا بالنسبة لي، لكن أعتقد أنني أعرف طريقي الآن؛ حين فقس بيضها في البداية كانت نشيطة جدًّا، وكان لديَّ ثلاثون أو أربعون تزحف على قدمِ بطةٍ ميتة؛ ولا يمكن إبعادها، وبإمكانها العيش خارج الماء خمس عشرة بل أربعًا وعشرين ساعة.
[يشير الخطاب التالي إلى الرحلة الاستكشافية للفرقاطة النمساوية «نوفارا»؛ إذ طلب لايل من أبي تقديم اقتراحات.]
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١١ فبراير
[١٨٥٧]
عزيزي لايل
سعدتُ عندما علمتُ من الصحف بالرحلة الاستكشافية النمساوية. ليس لديَّ شيء لأُضيفه على صعيد الجيولوجيا إلى ملاحظاتي في «دليل ديوان البحرية للاستقصاء العلمي». لا أعلمُ ما إن كانت البعثة ملزمة بزيارة أماكنَ محددةٍ فقط أم لا. لكن إن كان بيد العلماء خيارٌ أو سُلطة لتحديد الأماكن، فسيكون هذا رائعًا جدًّا. وإنني على اقتناعٍ مدروس دراسةً دقيقة أنْ لا شيء سيفيد التاريخ الطبيعي أكثر من العناية في جمع «كل كائنات» أكثر الجزر انعزالًا، خاصةً التي في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، ودراستها. إن المعرفة بهذه الجزر، فيما عدا جزر تريستان دا كونيا وجزيرة كيرجولين، غيرُ كاملةٍ بالمرة؛ وحتى في جزيرة كيرجولين، ما زال أمامنا الكثير للوقوف على طبيعةِ طبقات الليجنيت، وما إن كانت هناك أدلةٌ على نشاطِ نهرٍ جليدي قديم. إن كل حشرة ونبتة وصدفة بحرية من هذه الأماكن لها أهمية. لا بد أن يكون بحوزة أحد الأشخاص في البعثة مقالُ هوكر عن نيوزيلاندا. يا له من عمل عظيم أن تستكشف جزيرة رودريجز بطيورها المُتحفِّرة، وكائناتها المتنوعة غيرِ المعروفة على نطاق واسع! وكذلك سيشل، التي نظرًا لقرب جزيرة كوكوس الشديد منها، لا بد أن تكون من بقايا أرضٍ ما أكثرَ قِدمًا. كذلك المعروف عن جزيرة خوان فرنانديز الخارجية قليل. إن بحْثَ مجموعةٍ من علماء التاريخ الطبيعي لهذه الأماكن القليلة سيكون أمرًا رائعًا؛ سيكون استكشاف جزيرتَي سان بول وأمستردام مذهلًا، على الصعيدَين النباتي والجيولوجي. هل بوسعك أن تُوصيهم بالحصول على كتابي «يوميات» و«الجزر البركانية» من أجل جالاباجوس؟ إن قدموا من الشمال، فسيكون من الخزي والجُرم ألا يزوروا جزيرة كوكوس، التي تُعد إحدى جزر جالاباجوس. طالما ساورَني الندمُ على عدم التمكُّن من فحص الفُوَّهات الهائلة التي على جزيرة ألبيمارل، وهي إحدى جزر جالاباجوس. في نيوزيلاندا، حُثَّهم على البحث عن جلاميدَ جرفَتها الأنهار الجليدية وآثار أنهارٍ جليدية قديمة.
فلتحُثَّهم على استخدام الجرَّافة في المناطق المدارية؛ فمعرفتنا بحدود الحياة أسفل البحار الحارة ضئيلةٌ أو معدومة.
يجعلني عملي الحالي أُدرِك درجةَ تجاهُل الحيوانات المحلية الموجودة في البلدان النائية.
أعتقد أن جزيرة ريفياهيهايدو المواجهة للمكسيك، لم تطأْها قَط قدمُ عالمِ تاريخٍ طبيعي.
إن اقتصرتِ الرحلة على أماكنَ مثلِ ريو ورأس الرجاء الصالح وسيلان وأستراليا، إلخ، فلن تأتي بفائدةٍ كبيرة.
إنني أُولي موضوعي بالغَ اهتمامي، رغم أنني أتمنى لو كنتُ أستطيعُ إعطاء قيمةٍ أقل من التي أُوليها للشهرة الفانية، سواءٌ في الوقت الحالي أو بعد وفاتي، وإن كان ذلك، حسبما أعتقد، ليس لدرجةٍ متطرفة. غير أنني، لو كنتُ حقًّا أعرف نفسي جيدًا، كنت سأعمل بالجِد نفسه، وإن كان بحماسٍ أقل، لو كنت أعلم أن الكتاب سيُنشر بدون اسمِ المؤلف للأبد.]
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
مور بارك، ١ مايو، ١٨٥٧
سيدي العزيز
إنني في غاية الامتنان على خطابك المرسل بتاريخ ١٠ أكتوبر، من سيليبز، الذي تلقيته منذ بضعة أيام؛ إن التعاطُف حين تكون المهمة مضنية عظيمُ القيمة ودعمٌ حقيقي. أستطيع أن أرى بوضوحٍ من خطابك، وأكثر منه بحثك [«عن القانون المنظم لاستقدام أنواعٍ جديدة» (١٨٥٥)] في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»، منذ عام أو أكثر، أننا قد فكَّرنا بالطريقة نفسها لحدٍّ كبير، وتوصَّلنا لاستنتاجاتٍ متشابهة إلى حدٍّ ما. فيما يخص هذا البحث، فإنني أرى أن كلَّ كلمةٍ تقريبًا جاءت فيه صحيحة؛ وأعتقد أنك ستُوافقني الرأي أنه من النادر جدًّا أن تجد نفسك متفقًا لدرجةٍ كبيرة مع أيِّ بحثٍ نظري؛ إذ من المؤسف كيف يستخلص كل شخصٍ استنتاجاتٍ مختلفة من الحقائق نفسها. بحلول هذا الصيف سيكون قد مضى عشرون عامًا منذ فتحتُ أول دفترٍ لملاحظاتي حول المسألة المتعلقة بكيفيةِ اختلاف الأنواع والضروب عن بعضها وسُبل هذا الاختلاف. والآن أنا أُعد عملي من أجل النشر، لكنني أجد الموضوع كبيرًا جدًّا، حتى إنني، رغم كتابة عدة فصول، لا أعتقد أنني سوف أطبعه قبل عامَين. لم أعلم حتى الآن بالمدة التي تنوي بقاءها في أرخبيل الملايو. أتمنى أن أستفيد من نشرِ تفاصيلِ أسفارك هناك قبل ظهورِ كتابي؛ فلا شك أنك سوف تحصُل على كمٍّ هائل من الحقائق. لقد اتبعتُ نصيحتكَ بالفعل في التفرِقة بين الضروب الداجنة وتلك التي في الطبيعة، لكنني شككتُ في الحكمة وراء هذا أحيانًا؛ لذلك يسعدني أن تدعمني برأيك. مع ذلك لا بد أن أُقرَّ أنني أشك بالأحرى في صحة المعتقد السائد جدًّا الآن الذي يذهب إلى أن كل حيواناتنا الداجنة قد انحَدرَت من عدةِ سُلالاتٍ برية؛ وإن كنتُ لا أشُك أن الأمر كذلك في بعض الحالات. أعتقد أن هناك دليلًا أفضل من ذلك الذي قلت به فيما يتعلَّق بعقم الحيوانات المهجنة. وفيما يتعلق بالنباتات، فإن مجموعة الحقائق التي دوَّنها بتَروٍّ كولروتير وجيرتنير (وهربرت) «هائلة». أتفق معك تمامًا بشأن الآثار الضئيلة ﻟ «الظروف المناخية»، التي نراها يُشار إليها لدرجةٍ تثير الملل في كل الكتب؛ أعتقد أن الأَثر الذي يجب نسبه لتلك المُؤثِّرات لا بد أن يكون قليلًا جدًّا، لكنني أومن تمامًا أنها قليلةُ الأهمية جدًّا. من «المستحيل» حقًّا أن أشرح وجهاتِ نظري (في إطارِ خطاب) بشأنِ أسباب التباين ووسائله في الطبيعة، لكنني تبنَّيتُ على نحوٍ تدريجي فكرةً واضحة وواقعية، أمَّا إن كانت صحيحة أو خاطئة، فهذا ما يجب أن يحكم به الآخرون؛ إذ يبدو أن إيمان المؤلف الراسخ بصحة مبدئه، وإن بلغ أشُدَّه، للأسف، ليس ضمانًا بصوابه على الإطلاق!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، السبت [٢ مايو،
١٨٥٧]
عزيزي هوكر
لقد أثبتَ خلو النباتات الجبلية من الشعر بنجاحٍ شديد. إن حالة نباتِ نفل الرمال «سترتبط» بحالةِ نباتات جبال البرانس التي تصيرُ جرداءَ في المستويات المنخفضة. إن وجدت بحق أنني قد وسمتُ تلك الحقائق، فسوف أضع الدليل بين يدَيك. أتساءل كيف قد يكون نشأ هذا الاعتقاد؟! هل كان من خلال العلل الغائية لتنعم النباتات بالدفء؟ ربط فالكونر في حديثٍ له بين حقيقتَي النباتات والثدييات الجبلية المغطَّاة بالصوف. بأيِّ حيادٍ وتواضُع تقبلت تذمُّري من قسوتكَ إزاء العلماء غير الجيدِين؟ فبعد أن أرسلته، سألني صوتٌ خفيض كريه بداخلي، مرةً أو مرتَين، لأي حدٍّ كان دفاعي النبيل عن الفقراء في الهمة والحقائق، راجعًا إلى أنكَ كثيرًا ما قضيتَ على أفكارٍ مُفضَّلة لديَّ؟ وحتى بعد أن أَسكتُّ في ازدراءٍ هذا الصوتَ الخفيض الكريه، فقد أخذ يهمس لي مرةً بعد الأخرى. أحيانًا أحتقر نفسي لكوني جامعَ بياناتٍ متواضعًا بالشدة نفسها التي تتسنَّى لك، إلا أنني «لا» أحتقر عملي بأَسْره؛ إذ أعتقد أن ثَمَّةَ قدْرًا كافيًا من المعرفة لوضعِ أساسٍ للنقاش حول أصل الأنواع. لقد حُملتُ على احتقار نفسي والاستهزاء بها بصفتي جامعًا للبيانات، لكتابة أن «النباتات الجبلية لديها زهورٌ كبيرة» والآن ربما أستبدل بهذه الكلمات نفسها ما يلي: «النباتات الجبلية لديها زهورٌ صغيرة أو عديمة البتلات!»
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٦ [مايو]،
[١٨٥٧]
عزيزي هوكر
قلتَ — أرجو أن تكون صادقًا في قولك — إنك لم تكره طرحي أسئلةً عليك حول نقاطٍ عامة، ولك بالطبع أن تجيب أو لا، حسبما يسمح وقتك أو مزاجك. لاحظتُ في عالم الحيوان أن أيَّ جزءٍ أو عضو ينمو نموًّا طبيعيًّا (بعبارة أخرى، بلا تشوُّه) في أحد الأنواع بدرجةٍ «عالية» أو «غير معتادة»، مقارنةً بالجزء نفسه أو العضو في أنواعٍ قريبة، يميل لأن يكون «متباينًا جدًّا». لا يمكن أن يساورني الشك في ذلك بناءً على ما لديَّ من كمٍّ من الحقائق المُجمَّعة. على سبيل المثال، إن هيئة المنقار لدى طيور القرزبيل شاذة جدًّا مقارنة بطيورٍ أخرى مشابهة في فصيلة الشرشوريات، والمنقار «متباين بشدة». وطائر أبو المغازل، المميَّز بسببِ طولِ سيقانه العجيب، يتنوع طول سيقانه «بشدة». أستطيع إعطاء «العديد» من الأمثلة المدهشة والمثيرة للفضول في كل الطوائف؛ وهي متعددة جدًّا لدرجة أنني أعتقد أن الأمر ليس مصادفة. لكن «ليس» لديَّ أي أمثلة في عالم النبات، بسبب جهلي، على ما أعتقد. إن كان جنس النابنط يحتوي على «نوع» أو نوعَين في مجموعةٍ ذاتِ أوراقٍ تتحول إلى شكلِ جرة، فكان لا بد أن أتوقع أن يكون متباينًا جدًّا؛ لكنني لا أعتبر النابنط مثالًا هنا؛ فحين يكون جنس أو مجموعة بأَسْرها لديها عضو، مهما كان شاذًّا، لا أتوقع أن يكون متباينًا؛ فقط حين يختلف نوع أو بضعة أنواع بدرجةٍ كبيرة في جزء أو عضوٍ ما عن الأشكال قريبة الصلة جدًّا به في جميع الجوانب الأخرى، أعتقد أن ذلك الجزء أو العضو يكون متباينًا بدرجةٍ كبيرة. هل ستُفكر في هذا الأمر مليًّا؟ إنه قانونٌ مهم وجلي بالنسبة لي.
إن كنتُ أستطيع أن أبرهن تمامًا على أن الأنواع المتوطنة كانت أكثر زغبًا في المناطق الجافة، فسأنظر لافتراضِ أن الضروب تكون أكثر زغبًا في الأرض الجافة باعتباره حقيقةً بالنسبة لي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٣ يونيو
[١٨٥٧]
عزيزي هوكر
سوف أُدخل البهجة إلى نفسي بكتابةِ خطاب إليك حول الأمور الخاصة بي، وهذه متعةٌ كبيرة لي لا تستطيع أن تدركها؛ فقد ظللتُ طوال شهور دون أن أنبس بكلمة حول التاريخ الطبيعي. إن خطابك عظيم القيمة لديَّ، كما يثير دهشتي فيما يخص فرضيتي. أعتقد أن عدمَ وجودِ حقائقَ فيما يتعلق بالنباتات تُبرِّره جزئيًّا صعوبة قياس التباينات الطفيفة. بالتأكيد، خطر لي هذا بعد الكتابة؛ فلديَّ حشيشةُ صليب قوقازية ستبدأ في الإزهار، ومن المفترض أن تصير المدقة متباينةً جدًّا في الطول، وعند التفكير في هذا، تساءلتُ في الحال كيف يمكن للمرء أن يحكمَ ما إن كانت متباينةً بدرجةٍ كبيرة أم لا. كم يختلف هذا، على سبيل المثال، عن منقار الطائر! لكنني لستُ مُكتفيًا بهذا التبرير، وتحدوني الدهشة. بيد أنني أعتقد أن ثَمَّةَ شيئًا في القانون؛ إذ صادفتُ عدة حالاتٍ مثل التالية: كاتبتُ وولستن وطلبتُ منه أن ينظر في خنافس ماديرا ويخبرني ما إن كانت أيٌّ منها أبدت سمةً شاذة جدًّا عن قريباتها، فذكر لي حالةً فريدة لرأسٍ كبير لدى أنثى، ثم وجدتُ أنه مذكور بالفعل في كتابه أن حجم الرأس كان متباينًا «لدرجةٍ مدهشة». قد يُعلِّل جزء من الاختلاف لدى النباتات أنها صفاتٌ ذكورية أو أنثويةٌ ثانوية في العديد من حالاتي، لكن لديَّ حالاتٍ لافتة للنظر في هدابيات الأرجل الخنثى. وتبدو لي الحالات متعددةً للغاية بحيث لا يمكن أن تكون حوادثَ عرضية، وهي ذات قابليةٍ كبيرة للتباين ونموٍّ غيرِ طبيعي. يُخيَّل لي أنك لن تعترض على أن أضع ملحوظةً تقول إنك قد تأملتَ المسألة، ورغمَ ما بدا من دعمِ حالةٍ وحالتَين للفرضية، فقد بدا أن حالاتٍ بالعدد نفسه أو أكثر مناقضة لها تمامًا. أكثر ما يُثير دهشتي هي تلك الحاجة إلى أدلة؛ إذ إنني بصفةٍ عامة أجد أن اختبارَ أيِّ فرضيةٍ أسهل عن طريق عمل الملاحظات في الموضوعات النباتية عن الموضوعات الحيوانية. لم أتخيل قَط أنكَ قد ظللتَ متذكرًا الموضوع من الأساس. المسألة برمتها هي واحدةٌ أخرى من أحاجيِّ «المريعة العديدة». ملاحظاتي حول الصراع من أجل البقاء، رغم أنها على نطاقٍ صغير للغاية، بدأت تجعلني أرى بصورةٍ أوضحَ قليلًا كيف يسير الصراع؛ فمن بين ستة عشر صنفًا من البذور زُرعت في مَرجي، خمس عشرة نبتت، لكنها الآن تَذوي بوتيرةٍ تجعلني أشكُّ ما إن كانت أكثر من واحدة ستُزهر. ولدينا هنا حالةُ اختناقٍ جرت على نطاقٍ واسع أيضًا، مع نباتات وليس شتلات، في جزءٍ من حديقتي حيث ترُكَت لتنمو. على الجانب الآخر، على مساحةٍ من الأرض، مساحتُها قدمَين في ثلاثة أقدام، ظللتُ أُميز يوميًّا كل شتلةِ حشائشَ عند ظهورها خلال مارس وأبريل ومايو، وقد نبتَت ٣٥٧، قُتل من بينها بالفعل ٢٧٧، في الغالب بسبب البزاقات. على ذكرِ ذلك، رأيت في مور بارك مثالًا جيدًا لتأثيرات الحيوانات على الغطاء النباتي؛ تُوجد أراضٍ مشاع شاسعة بها آجام من أشجار الصنوبر الأسكتلندي القديمة على التلال، ومنذ نحوِ ثمانية أو عشرة أعوام سُيِّج بعضٌ من هذه الأراضي، والآن تنمو أشجارٌ صغيرةٌ جميلة حول الآجام بأعدادٍ كبيرة، وتبدو بالضبط كما لو كانت قد زُرعت، والعديد منها بالعمر نفسه. وفي أجزاءٍ أخرى من تلك الأراضي، والتي لم تُسيج بعد، بحثتُ على مدى عدة أميال ولم أتمكن من رؤية شجرةٍ صغيرة «واحدة». ثم ذهبت لمنطقةٍ قريبة (على بعد ربعِ ميلٍ من الآجام) وبحثتُ حثيثًا في الأرض البور وهناك وجدت عشرات الآلاف من أشجار الصنوبر الاسكتلندي الصغيرة (ثلاثين في مساحة ياردةٍ مربعة) انتزعت أجزاءها العليا الماشيةُ القليلة التي تهيم عبر هذه الحشائش الفقيرة أحيانًا. بدا من حلقات إحدى الأشجار الصغيرة، التي يصل طولها إلى ثلاثِ بوصات، أن عمرها ستة وعشرون عامًا، وأنها ذاتُ ساقٍ قصيرة في سُمك أعوادِ شمعِ الأختام. يا لها من مسألة عجيبة، ويا له من صراعٍ للقوى، ذلك الذي يُحدِّد نوعَ كلِّ نبات ونسبته في ياردةٍ مربعة من الأرض! يبدو لي الأمر عجيبًا بحق! ورغم ذلك نسمح للدهشة أن تنتابنا حين ينقرض أحد الحيوانات أو النباتات.
يؤسفني أنك لن تكون في النادي. أرى أن السيدة هوكر ستذهب إلى يارموث؛ أرجو ألا تكون حالة أطفالكم الصحية هي السبب. إلى اللقاء.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٥ يونيو
[١٨٥٧]
عزيزي هوكر
أُقدِّر اهتمامك الحثيث بشأن الميداليات [ميداليات الجمعية الملكية]. الحمد لله! أنا لستُ سوى هاوٍ (لكنني هاوٍ شديد الاهتمام) في المجال.
لديَّ اعتقادٌ قديم أن الخير في إعطاء الميداليات لشباب في مرحلةٍ مبكرة من حياتهم المهنية، أكثر من تقديمها على سبيل المكافأة إلى رجالٍ أَشرفَت حياتهم العلمية على النهاية. أمَّا مسألةُ ما إن كان في الميداليات أيُّ خير، فهي لا تعنينا، ما دامت الميداليات موجودة. أكاد أميل للاعتقاد بأنه من الأحرى خفض المعايير، وإعطاء الميداليات لعلماء شباب عن إعطائها إلى علماء كبار دون استحقاقاتٍ «خاصة». وفيما يتعلق بالاستحقاقات الخاصة، أعتقد أنه مما يستحق اهتمامك أنه عند إقرار الاستحقاقات العامة، سيحدث تراخٍ شديد في منح الميداليات؛ فلتفكر في حالةِ رجلٍ شديد الثراء، ساهم «فقط» بماله، لكن بدرجةٍ كبيرة، أو شخصٍ نادر الوجود مثل أحد الوزراء الذي اهتم حقًّا بالعلم. هل ستعطي هؤلاء الرجال ميداليات؟ ربما ليس هناك أفضل من وَهْب الميداليات لهؤلاء الرجال «دون غيرهم». لكن أُقر أنني في الوقت الحالي أميل لمساندة الاستحقاقات الخاصة التي يمكن إثباتُها على الورق.
إنني في غاية الحَيرة بإيضاحك أنه لا تُوجد أمثلةٌ واضحة على قانوني (أو بالأحرى قانون ووترهاوس) عن التبايُن الشديد لحالات النمو غير الطبيعي. أخذتُ أُفكِّر كثيرًا في ملحوظتك حول صعوبة الحكم على القابلية للتباين في النباتات أو مقارنته من خلال القابلية للتباين الكبيرة العامة للأجزاء. سأعتبر أن القانون دُحض تمامًا إن بحثتَ في ذهنك قليلًا عن حالاتٍ لقابليةٍ كبيرة للتباين لعضوٍ ما، وأخبرتَني ما إن كان التعرُّف على تلك الحالات سهلًا إلى حدٍّ ما؛ «فإن كان يمكن ملاحظتها»، ورغم ذلك لا تتزامن مع نموٍّ كبير أو غيرِ طبيعي، فسيُدحض ذلك القانون تمامًا. يبدأ الأمر في ذهنك من جانب القابلية للتباين بدلًا من جانب الشذوذ. «ربما» يجب استبعاد الحالات التي يكون فيها جزءٌ ما متباينًا بشدة في كلِّ أنواع المجموعة، باعتبارها ربما شيئًا مميزًا، ومرتبطًا بموضوع تعدُّد الأشكال المُحيِّر. هلا أكملتَ مساعدتكَ لي بالتفكير، لقليلٍ من الوقت، في الموضوع بهذه الطريقة؟
انشغلتُ بشدة هذا الصباح بمقارنة كلِّ ملحوظاتي حول التباين في أنواعِ جنسِ الفرس المتعددة ونتائج تهجينها. واستنادًا لأكثرِ الحقائق تشابهًا فيما يتعلق بالحمام المبارك، أعتقد أنني أستطيع أن أُحدِّد بوضوحٍ لونَ وخطوطَ جد الحمار والحصان والكواجا والأخدر والحمار الوحشي، منذ ملايين الأجيال! لقد كنتُ سأسخر من أيِّ شخصٍ يُدلي بهذه الملحوظة لي منذ عدةِ سنواتٍ مضت؛ لكن يبدو لي دليلي جيدًا جدًّا حتى إنني سوف أنشر رأيي في نهاية نقاشي القصير حول هذا الجنس.
لقد أَزعجتُك مؤخرًا بسيلِ أفكاري، يا أفضل الأصدقاء والفلاسفة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، فارنام، ٢٥ يونيو
[١٨٥٧]
عزيزي هوكر
الدكتور لين وزوجته وحماته، الليدي درايزديل، من ألطفِ الناس الذين قابلتُهم على الإطلاق.
سوف أعود للمنزل في الثلاثين من هذا الشهر. إلى اللقاء يا عزيزي هوكر.
[إن المجموعة التالية من الخطابات، التي بتواريخَ مختلفة، تتعلق بمسألةِ تباين الأجناس الكبيرة.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
١١ مارس [١٨٥٨]
قادني لكل هذا العمل ملحوظة لفريس، مفادها أن الأنواع في الأجناس الكبيرة بعضها أكثر قربًا من بعض عن تلك التي في أجناسٍ صغيرة؛ وإن كان الأمر كذلك؛ ونظرًا لأن الضروب والأنواع بالكاد يمكن تمييز بعضها عن بعض، فقد استنتجتُ أنه لا بد أن أجد في الأجناس الكبيرة ضروبًا أكثر من الأجناس الصغيرة. أرجو أن تقرأ يومًا نقاشي القصير حول الموضوع برمته. لقد أسديتَ لي خدمةً عظيمة، أيًّا كان الرأي الذي سأنتهي إليه، بلفتِ انتباهي، على الأقل، إلى إمكانية أو احتمالِ تسجيلِ علماء النبات عددًا أكبر من الضروب في الأجناس الكبيرة عن الأجناس الصغيرة. سيكون العمل شاقًّا لي لأكون صريحًا في بلوغِ استنتاجي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
١٤ يوليو [١٨٥٧؟]
… أكتب إليك الآن لألتمس منك مستجديًا معروفًا، ألا وهو إعارتي كتاب «بورو، «نباتات وسط فرنسا»؛ سواء الطبعة الأولى أو الثانية منه»، ويُفضَّل الثانية؛ وكذلك «نباتات ريجينسبيرج» للدكتور فيرنآوار في «طبوغرافيا التاريخ الطبيعي في ريجينسبيرج، ١٨٣٩». إن كنت تستطيع توفيرهما، فهلا أرسلتهما لي في الحال إلى العنوان المرفق؟ إن لم يكونا لديك، فهلا أرسلتَ خطابًا قصيرًا بذلك مع عودة البريد؛ فلا بد أن أرى إن كان كيبيست يستطيع العثور عليهما بأيةِ وسيلة، وهو ما أخشى أن يكاد يكون مستحيلًا في المكتبة اللينية؛ حيث أعلم أنهما هناك.
كنت أُجري بعض الحسابات حول الضروب، إلخ، وأتحدث مع لاباك أمس، حيث أشار إلى أفدح خطأ ارتكبتُه فيما يتعلق بمبدأ ما، وهو ما يتبعه ضياعُ عمل أسبوعَين أو ثلاثة؛ وسأظل في مأزِق حتى أحصل على هذَين الكتابَين للنظر فيهما مجددًا، وأرى كيف ستكون نتيجة الحسابات عملًا بالمبدأ الصحيح. إنني أكثرُ الناس بؤسًا وحيرة وغباءً في إنجلترا بأَسْرها، وعلى استعدادٍ للبكاء سخطًا على عمى بصيرتي واختيالي.
من تشارلز داروين إلى جون لاباك
داون، ١٤ [يوليو]
[١٨٥٧]
عزيزي لاباك
لقد أسديتَني أكبرَ خدمة على الإطلاق بمساعدتي في تصحيح أفكاري، فإن التبست عليَّ كل الموضوعات كما هي ملتبسة في النسب والاحتمالات، فكيف سيكون الكتاب الذي سأخرج به؟!
لقد قسمتُ نباتات نيوزيلاندا كما اقترحت. ثَمَّةَ ٣٣٩ نوعًا في الأجناس المكونة من أربعةِ أنواعٍ أو أكثر، و٣٢٣ نوعًا في تلك المكونة من ثلاثةٍ أو أقل.
من بين اﻟ ٣٣٩ نوعًا ٥١ نوعًا تضم ضربًا واحدًا أو أكثر، ومن بين اﻟ ٣٢٣ نوعًا، هناك ٣٧ فقط هكذا. تناسُبيًّا (٣٣٩ : ٣٢٣ :: ٥١ : ٤٨٫٥) لا بد أن يكون هناك ٤٨٫٥ نوعًا تضُم ضروبًا. هكذا تمضي الحالة كما أريد، لكنها ليست بالقوة الكافية؛ حيث إنها ليست عامة، حتى أثق فيها كثيرًا. إنني على اقتناعٍ تام أن طريقتك هي الطريقة الصحيحة؛ لقد فكرتُ فيها، لكنني لم أكن لأستخدمها لولا أن أسعدني حظي بحديثي معك.
يروعُني بشدة أن أجد أنني أقع في الحَيرة بسهولة؛ فقد أوليتُ الموضوعَ تفكيرًا كثيرًا من قبلُ، ووصلتُ إلى أن طريقتي كانت صحيحة. لكنها خاطئة لحدٍّ فظيع.
يا له من خطأ فظيع ذلك الذي أنقذتَني منه! وهو ما أشكرك عليه من كل قلبي.
ستستغرقني مراجعةُ كلِّ ما لديَّ من موادَّ عدةَ أسابيع. لكن، أوه، ليتك تعلم كم أنا ممتنٌّ لك!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، أغسطس
[١٨٥٧]
عزيزي هوكر
كم من المحزن لحدٍّ فظيع أنكَ لن تستطيع القدوم قريبًا، وإنني أؤنب نفسي على عدم الكتابة إليك قبل ذلك. لا بد أنك في غاية الانشغال مع مجموعة علماء النبات في كيو. تخيل الأمر؛ لقد تلقيتُ للتو خطابًا من هنزلو، يقول فيه إنه سيأتي إلى هنا بين الحادي عشر والخامس عشر من هذا الشهر! أليس هذا خبرًا رائعًا؟ أشكرك كثيرًا على بحثك عن كتاب فيرنآوار. لا بد أن ألتمس متضرعًا من كيبيست البحث عنه؛ لقد تكرم غاية الكرم بإرسال كتاب بورو لي.
أصبح لديَّ اهتمامٌ بالغ بجدولة الأنواع التي لها ضروبٌ مميزة بحروفٍ يونانية أو بطريقةٍ أخرى، وذلك وفقًا لحجم الأجناس فحسب؛ تبدو لي النتيجة (للحد الذي بلغته حتى الآن) إحدى أهم الحُجج التي قابلتُها حتى الآن؛ وهي أن الضروب ليست إلا أنواعًا صغيرة، أو أن الأنواع ليست سوى ضروبٍ مميزة بشدة. الموضوع بطرقٍ عديدة في غاية الأهمية بالنسبة لي؛ لذا أرجوك بشدة أن تذكر لي أي أعمالٍ متقنة عن النباتات الخاصة بإقليمٍ معين، بها من ألفٍ لألفَي نوع، ومميز بها الضروب. من الجيد أن يكون لدينا علماءُ تصنيفٍ يميلون إلى وضع العديد من الأنواع وآخرون لوضع القليل منها. لقد طالعت، أو ما زلت أطالع أعمال التالية أسماؤهم:
بابينجتون | نباتات بريطانيا |
هنزلو | |
«كتالوج لندن». لإتش سي واطسون | |
بورو | فرنسا |
ميكيل | هولندا |
آسا جراي | شمال الولايات المتحدة |
هوكر | نيوزيلاندا |
أجزاء من نباتات الهند | |
وولستن | حشرات ماديرا |
ألم ينشر كوخ كتابًا جيدًا عن النباتات الألمانية؟ هل يميِّز فيه الضروب؟ هل تستطيع أن ترسله لي؟ ألا يُوجد عملٌ جيد عن النباتات الروسية، مُميزٌ فيه الضروب؟ لا بد أن تكون تلك الأعمال معروفة.
يمكنني الانتظار عدةَ أسابيع. هلا قلَّبتَ الأمر في رأسكَ إن أُتيح لك فراغٌ من الوقت على الإطلاق؟ يحمل الموضوع أهميةً كبيرة لعملي، رغم أنني أرى «عدة» أسباب للخطأ.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٢١ فبراير
[١٨٥٩]
عزيزي جراي
في خطابي الأخير لم ألتمس منك معروفًا، لكني في هذا سأفعل؛ إلا أن تلبيته ستكلفك القليل جدًّا من المشقة، وسوف تكون خدمةً «جليلة» جدًّا لي، والأمر متعلق بملحوظةٍ أبداها لي هوكر، وهي التي لا أستطيع تصديقها، والتي قد أَوحَى له بها أحد خطاباتي. لقد اقترح أن أسألك، وأنا أخبرته أنني لن أبوح بأدنى تلميح برأيه. إنني بوجهٍ عام أثق تمامًا في هوكر، لكنه أحيانًا يكون — على ما أظن، وهو يعترف بهذا — مبالغًا في النقد بعض الشيء، وتبدو لي براعته في اكتشاف الأخطاء جديرةً بالتقدير. ها هو سؤالي: «هل تعتقد أن علماء النبات الأَكْفاء عند وضع أعمالٍ عن النباتات المحلية؛ سواء كانت كبيرةً أو صغيرة، أو إنشاء ملخصٍ تجميعي مثلما فعل دي كوندول، سوف يتجهون بصورةٍ شبه عامة، لكن دون قصدٍ أو دون وعي، إلى تسجيلِ الضروب (بعبارةٍ أخرى، تمييزها بالحروف اليونانية وإعطائها وصفًا قصيرًا) الخاصة بالأجناس الكبيرة أم الخاصة بالصغيرة؟ أم سيكون الاتجاه لتسجيل الضروب على نحوٍ متكافئ في كل الأجناس بغض النظر عن حجمها؟ هل ترى بعد التفكير في الأمر أنكَ كنتَ تهتم بالضروب سواء في الأجناس الكبيرة أو الصغيرة، أو الصغيرة جدًّا، وتُسجِّلها باهتمامٍ كبير؟»
أعلم أن الضروب كثيرًا ما تكون أشياء عابرة وتافهة؛ لكن استفساري يتعلق بما اعتُقد أنه جديرٌ بالتمييز والتسجيل. إن استطعتَ استقطاع وقتٍ لترسل لي ردًّا بالغ الإيجاز على هذا، قريبًا جدًّا، فستكون قد أسديتَ خدمةً كبيرة لي.
إن كنت ستكتب إلى إنجلترا قريبًا، فيمكنك إرفاق خطاباتٍ أخرى لي لأرسلها.
أرجو مراعاة أن السؤال ليس ما إن كان ثَمَّةَ عددٌ أكبر أو أقل من الضروب في الأجناس الكبيرة أو الصغيرة، لكن ما إن كان الاتجاه في أذهان علماء النباتات لتسجيل تلك الخاصة بالأجناس الكبيرة أم الصغيرة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٦ مايو
[١٨٥٨]
… أرسل لك مع هذا الخطاب مخطوطتي حول مسألة «شيوع» الأنواع و«نطاق انتشارها» و«تباينها» في الأجناس الكبيرة والصغيرة. لقد اضطلعتَ بمهمةٍ شاقة حين تكرمتَ بلطفٍ شديد وعرضت عليَّ قراءتها، وأنا أشكرك على هذا بشدة. لقد صححتُ النسخة للتو، وشعرتُ بخيبة أمل حين وجدتُ كم هي صعبة ومبهمة؛ لكنني لا أستطيع أن أجعلها أوضح من ذلك، بل إنني في الوقت الحالي لا أُطيق مجرد رؤيتها. يحتاج الأسلوب إلى المزيد من التنقيح بالطبع، وإن نشرتُها، فيجب أن أحاول فعل ذلك، لكنني الآن لا أعرف كيف أجعلها أوضح.
إن كان لديك الكثير لتقوله وتستطيع التحلي بالصبر للنظر في الموضوع بأَسْره، فسوف ألقاك في لندن في اجتماع النادي الفلسفي، حتى أُوفِّر عليك عناء الكتابة. بحق السماء، يا أيها الحَكَم والمُتشكِّك القاسي الرهيب، فلتتذكر أن استنتاجاتي قد تكون صحيحة، رغم أن علماء النبات ربما سجَّلوا ضروبًا أكثر في الأجناس الكبيرة عن الصغيرة. يبدو لي الأمر مجرد ترجيح لأحد الاحتمالات. مرةً أخرى أتقدَّم إليكَ بخالص الشكر، لكنني أخشى أنك ستجده عملًا مريعًا.
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٢٢ ديسمبر، ١٨٥٧
سيدي العزيز
شكرًا على خطابك الذي بتاريخ ٢٧ سبتمبر. إنني في غاية السعادة لمعرفة أنك تدرُس مسألة التوزيع بالاتساق مع الأفكار النظرية. إنني على إيمانٍ راسخ بأنه دون التخمين لا تتأتى ملاحظةٌ جيدة أو أصيلة. قليلٌ هم الرحَّالة الذين اهتموا بنقاطٍ كالتي تعمل عليها الآن، وبالطبع إننا متأخرون بشدة في موضوعِ توزيع الحيوانات مقارنةً بذلك الخاص بتوزيع النباتات. تقول إنك دُهشتَ بعض الشيء لعدمَ إعطاءِ بحثك في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري» أيَّ اهتمام. لا أستطيع أن أقول إنني كذلك؛ فقليلٌ جدًّا من علماء التاريخ الطبيعي يهتمون بأيِّ شيءٍ خارج حدود وصف الأنواع. غير أنك يجب ألا تفترض أنه لم يهتمَّ أحدٌ ببحثك؛ فقد لفَت انتباهي إليه اثنانِ من الرجال الأكفاء جدًّا، وهما السير سي لايل والسيد إي بلايث من كلكتا. ورغم اتفاقي معك في استنتاجاتك في هذا البحث، فأعتقدُ أنني ذهبتُ لأبعدَ منك كثيرًا؛ لكن الموضوع أطولُ كثيرًا من أن أضعه في حيز تخميناتي. لم أَطلِع بعدُ على بحثكَ حول توزيع الحيوانات في جزر آرو. سوف أقرؤه بأقصى قدْرٍ من الاهتمام؛ إذ أعتقد أنها أكثرُ الأماكن مدعاةً للاهتمام في الكرة الأرضية بأَسْرها فيما يتعلق بالتوزيع، وطالما أقدمتُ على محاولاتٍ غير تامة بالمرة لجمع بياناتٍ عن أرخبيل الملايو. سوف أكون على استعدادٍ تام لتأييد نظريتك عن الهبوط؛ قطعًا، بناءً على دليل الشعاب المرجانية المستقل تمامًا، لونتُ خريطتي الأصلية لجزر آرو (في عملي عن الشعاب المرجانية) باعتبارها منطقةَ هبوط، لكنني تراجعتُ وتركتُها دون تلوين. لكن أستطيع أن أرى أنك تنزع للذهاب إلى ما هو أبعد في مسألة الاتصال السابق بين الجزر المحيطية والقارات أكثر مني؛ فمنذ قول إي فوربس المسكين بهذه النظرية وكثيرون يؤيدونها بحماس؛ ويناقش هوكر باستفاضة الاتصال السابق بين كلِّ جزر القطب الجنوبي ونيوزيلاندا وأمريكا الجنوبية. منذ عامٍ مضى ناقشتُ هذا الموضوع كثيرًا مع لايل وهوكر (فسأحتاج إلى تناوله)، وكتبتُ ما لديَّ من حجج معارضة؛ لكن قد يسُرك أن تعرف أن لايل وهوكر كليهما لم يعتدَّا بحُججي. بَيدَ أنني، للمرة الوحيدة في حياتي، تجاسرتُ على تحدي فطنة لايل التي تكاد تكون خارقة للطبيعة.
لقد سألتَني عن أصداف اليابسة التي على جُزرٍ بعيدة جدًّا عن القارات؛ ماديرا بها قلةٌ متشابهة مع تلك التي في أوروبا، والدليل هنا قويٌّ حقًّا؛ حيث إن بعضها جزئي التحفُّر. في جُزر المحيط الهادئ هناك حالاتٌ من التطابُق، وهي ما لا أستطيع في الوقت الحالي إقناع نفسي بتفسيرِ وجوده بالاستقدام عن طريق الإنسان؛ وإن كان الدكتور أوجستس جولد قد بيَّن بنحوٍ قاطع أن العديد من أصداف اليابسة قد انتَشرَ في أنحاء جزر المحيط الهادئ عن طريق الإنسان؛ حالات الاستقدام هذه غاية في الإزعاج. ألم تجد الأمر كذلك في أرخبيل الملايو؟ لقد بدا لي في قوائمِ ثديياتِ تيمور وجُزرٍ أخرى، أن «العديد» منها على الأرجح قد توطَّن.
لقد سألتَني ما إن كنتُ سأُناقش مسألة «الإنسان». أعتقد أنني سأتجنب الموضوع برمته، لِمَا يحيط به من تحيُّزاتٍ جمة؛ وإن كنتُ أُقر تمامًا أنه أكبر المشكلات التي يُواجهها عالم التاريخ الطبيعي وأكثرها إثارةً لاهتمامه. إن كتابي، الذي ما زلتُ أعمل فيه منذُ ما يقرب من عشرين عامًا، لن يُصحِّح أو يحسم أي شيء؛ لكن أرجو أن يساعد في تقديمِ مجموعةٍ كبيرة من الحقائق فيما يتعلق بغرضٍ واحد محدد. إنني أتقدم على مهلٍ شديد، من ناحيةٍ بسبب سوء الحالة الصحية، ومن ناحيةٍ أخرى لأنني أعمل على نحوٍ بطيء جدًّا. لقد كتبتُ نصفه تقريبًا؛ لكن لا أعتقد أنني سأنشُره قبل بضعةِ أعوام؛ فما زلتُ منذ ثلاثةِ أشهرٍ كاملة في فصلٍ واحد عن التهجين!
يُدهشني أنك تتوقع البقاء بالخارج ثلاثة أو أربعةَ أعوام أخرى. يا له من قدر رائع ذلك الذي ستراه، وكم هي مناطقُ مثيرة للاهتمام، أرخبيل الملايو العظيم وأجزاء أمريكا الجنوبية الأكثر ثراءً! إنني أُقدِّر وأُجل لأقصى درجةٍ حماسكَ وشجاعتكَ في سبيلِ علوم التاريخ الطبيعي؛ ولك مني أصدقُ وأعزُّ أمنياتي الطيبة بالنجاح في كلِّ شيء، وأرجو أن تنجح كلُّ نظرياتك، عدا التي عن الجزر المحيطية؛ إذ إنه هو الموضوع الذي سأُحاربه بحقٍّ حتى الموت.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
٨ فبراير [١٨٥٨]
… أَكِدُّ كثيرًا في العمل في كتابي، ربما أكثر من اللازم. سوف يكون كتابًا كبيرًا جدًّا، وأنا مهتم بشدةٍ بطريقةِ تصنيف الحقائق. إنني مثل الملك كريسس؛ فقد استحوذَت عليَّ ثروتي من الحقائق، وأنوي أن أجعل كتابي ممتازًا بقَدْرِ ما أستطيع؛ لذا فلن أذهب به للمطبعة قبل بضعةِ أعوامٍ على أقلِّ تقدير.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
٢٣ فبراير [١٨٥٨]
… لم أنبهر كثيرًا بباكل العظيم، كذلك راقت لي الطريقة التي دافعتَ بها عن الاستنتاج والاستقراء. إنني أقرأ كتابه [«تاريخ الحضارة»] وهو، بما به من كثيرٍ من السفسطة، كما يبدو لي، «رائع» في حُجته وأصالته، ويضُم معلوماتٍ مذهلة.
لاحظتُ إعجابك التام بأداء السيدة فارار لأغنية «في هذا القبر المظلم» («إن كويستا تومبا أوسكيورا») بألحان بيتهوفن؛ ثَمَّةَ شيءٌ مهيب في نبرات صوتها العذب.
الوداع. لقد كتبتُ هذا الخطاب جزئيًّا لكي أتوقف عن التفكير في خلايا النحل؛ فالموضوع يكاد يثير جنوني وأنا أحاول فهم الخطوات البسيطة التي قد تنتج عنها كل هذه الزوايا العجيبة.
سُررتُ للغاية برؤية السيدة هوكر يوم الجمعة؛ كم تبدو في حالٍ طيب!
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ١٦ أبريل
[١٨٥٨]
عزيزي فوكس
أريدكَ أن تعير اهتمامك لنقطةٍ واحدة من أجلي، وهي التي تثير اهتمامي لأقصى درجة، ولن تُكلِّفك أي عناءٍ أكثر من الانتباه الشديد، وتلك عادةٌ أعرف جيدًا أنها لديك.
أجد أن الخيول بألوانها المختلفة كثيرًا ما يكون لديها شريطٌ أو خطٌّ بامتداد ظهرها وهو الذي يكون لونه بدرجةٍ مختلفة وأدكن من لون بقية الجسم؛ وفي حالاتٍ نادرة تُوجد خطوطٌ عرضية على القوائم، بوجهٍ عام على الجانب السفلي من القوائم الأمامية، وفي حالاتٍ أكثر ندرة يُوجد خطٌّ عرضي باهت جدًّا على المناكب مثل الحمار.
هل ثَمَّةَ أيُّ سُلالة أقزامِ خيلٍ في غابة ديلامير؟ لقد وَجدتُ القليل عن أقزام الخيل في هذه النواحي. أعتقد أن السير بي إيجرتون لديه بعض الخيول الكستنائية الأصيلة تمامًا؛ هل لدى أيٍّ منها خط على الظهر؟ كثيرًا ما يكون لدى أقزام الخيل، أو بالأحرى الخيول الصغيرة، ذاتِ اللون الرمادي المائل للبني خطوطٌ على الظهر والقوائم؛ وهكذا الحال لدى الخيول الصهباء (وبالصهباء أقصد لون القشدة المختلط باللون البني أو الكميت أو الكستنائي). الخيول الكستنائية أيضًا لديها أحيانًا، لكنني لم أصادف بعدُ في الخيول الكستنائية أو خيول السباق أو الخيول الكبيرة الحجم المستخدمة في جر العربات، حالةً لديها خطٌّ على الظهر. إن أيَّ حقائقَ من هذه النوعية عن تلك الخطوط في الخيول ستكون «بالغة» الفائدة لي. تُوجد حالةٌ موازية في قوائم الحمير، وقد جمعتُ بعض الحالات الغريبة لظهور خطوطٍ في عدة حيواناتٍ خيلية مُهجَّنة. لديَّ كذلك كمٌّ كبير من الحقائق الموازية عن وجود خطوطٍ في الأجنحة في سلالات الحمام. «أعتقد» أن هذا الأمر سيُلقي الضوء على لون الخيول البدائية؛ لذا فلتعاونني في هذا الأمر إذا سمحَت لك الظروف. كانت حالتي الصحية في تدهوُرٍ شديد مؤخرًا من الإجهاد الشديد في العمل، وسوف أذهب يوم الثلاثاء من أجل العلاج المائي لمدة أسبوعَين. إن عملي لن ينتهي. الوداع.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
مور بارك، فارنام [٢٦ أبريل،
١٨٥٨]
… لقد أدخل خطاب لايل السرور على سويداء قلبي للتو. لقد قلتُ له (أو قال لي) إنني أعتقد من سماتِ نباتاتِ جزر الأزور أنه لا بد أن الجبال الجليدية قد انجرفَت إلى هناك؛ وإنني أتوقع العثور على جلاميدَ جرفَتها الأنهار الجليدية بين طبقات الحُمم البركانية المرتفعة؛ وجعلتُ لايل يكتب إلى هارتونج ليسأله عن ذلك، ويقول هارتونج إن سؤالي يُفسِّر ما كان يُحيِّره، ألا وهو وجود جلاميدَ كبيرة (بعضها مصقول) من الشيست الميكائي والكوارتز والحجر الرملي، وغيرها، بعضها مغروز، والبعض الآخر على ارتفاع من أربعين إلى خمسين قدمًا فوق مستوى سطح البحر، حتى إنه كان قد استنتج أنها لم ترِد على هيئةِ صابورة السفن. أليس هذا شيئًا جميلًا؟
لقد تحسَّنَت حالتي الصحية بعض الشيء مع العلاج المائي، لكنني لستُ على حالٍ يجعلني أزهو بنفسي اليوم؛ لذا فإلى اللقاء.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
مور بارك، فارنام، ٢٦ أبريل
[١٨٥٨]
عزيزي لايل
لقد أتيتُ هنا لقضاءِ أسبوعَين للخضوع للعلاج المائي؛ إذ بلغَت معدتي حالًا مريعًا من العمل المتواصل. إنني في غاية الامتنان لك لإرسالك خطابَ هارتونج المثير للاهتمام لي. إن الجلاميد التي جرفَتها الأنهار الجليدية مذهلة؛ إنها من الحالات الكبرى للجليد العائم في مقابل الأنهار الجليدية. لقد كان حريًّا به أن يقارن بين السواحل الشمالية والسواحل الجنوبية للجزر. إن هذا الموضوع يثير اهتمامي لأقصى درجة؛ فقد كتبت فصلًا طويلًا جدًّا حوله، جامعًا بإيجازٍ كل الأدلة الجيولوجية حول تأثير الأنهار الجليدية في مناطقَ شتَّى من العالم، ثم ناقشتُ بإسهاب (فيما يتعلق بنظرية تغيُّر الأنواع) هجرة النباتات والحيوانات وتعديلها، في البحر والبر، في جزءٍ كبير من العالم. سيُلقي الأمر، من وجهة نظري، فيضًا من الضوء على موضوع التوزيع برُمَّته، إذا اجتمع مع مسألةِ تعديل الأنواع. في واقع الأمر، إنني أُقدم على الحديث في هذا الأمر ببعض الثقة؛ حيث إن هوكر، منذ عامٍ تقريبًا، تفضَّل بقراءة فصلي بعناية، ورغم أنه اعترض بشدة على الاستنتاج العام، فقد سُررتُ بما بلغني من أسبوع أو اثنَين من أنه مال للاقتناع الشديد بآرائي حول التوزيع والتغيير خلال العصر الجليدي. لقد تلقيتُ خطابًا من تومسون، من كلكتا، منذ بضعةِ أيام، والذي فيه عونٌ كبير لي، حيث إنه يُبيِّن فيه الحرارة التي تستطيع نباتات المنطقة المعتدلة تحمُّلها. لكن الموضوع أطول كثيرًا من أن يُناقَش في خطاب؛ وإنني لم أكتب إلا لأن خطاب هارتونج قد أثار الموضوع برمته في ذهني مرةً أخرى. لكنني لن أكتب أكثر من ذلك؛ فغرضي هنا هو عدمُ التفكير في شيء، والخضوع للاستحمام كثيرًا، والسير كثيرًا، والأكل كثيرًا، وقراءة الكثير من الروايات. الوداع، وشكرًا جزيلًا، وأطيب تحياتي لليدي لايل.
من تشارلز داروين إلى السيدة داروين
مور بارك، الأربعاء، أبريل
[١٨٥٨]
الطقس رائع للغاية. أمس، بعد الكتابة إليكِ، سرتُ لمدة ساعة ونصف مُتخطيًا فسحة الغابة بقليل، واستمتعتُ بشدة بكل شيء؛ فاللون الأخضر الزاهي رغم دكانته لأشجار الصنوبر الاسكتلندي الهائلة، واللون البني للسنبلات المتدلية لأشجار القضبان القديمة، بجذوعها البيضاء، واللون الأخضر البعيد لأشجار اللاركس شكَّلَت جميعًا منظرًا بالغ الجمال. وفي النهاية، استغرقتُ في سباتٍ عميق على الحشائش، واستيقظتُ على جوقة من الطيور تشدو حولي، وسناجب تجري صاعدةً الأشجار، وبعض طيور نقار الخشب تضحك، وكان المشهد من أكثر المشاهد الريفية المبهجة التي رأيتُها على الإطلاق، ولم أفكر ولو للحظة كيف خُلقت أيٌّ من هذه الحيوانات أو الطيور. جلستُ في غرفة الاستقبال حتى بعد الساعة الثامنة، ثم ذهبتُ وقرأت ملخص القاضي للقضية، ورأيتُ أن برنار مذنب. [لقد حُوكم سيمون برنار في أبريل ١٨٥٨ بتهمة التواطؤ مع أورسيني في محاولته اغتيال إمبراطور فرنسا. وكان الحكم أنه «غير مذنب».] ثم قرأت قليلًا من روايتي، التي كانت ذات طابعٍ أنثوي وتتحدث عن الفضيلة والتديُّن والخير وما إلى ذلك، لكنها مملة بلا جدال. أقول إنها ذات طابعٍ أنثوي، لأن المؤلفة جاهلة بأمور المال، وليست سيدةً راقية بمعنى الكلمة — فهي تجعل رجال روايتها يقولون: «سيدتي». تروق لي الآنسة كريك كثيرًا، رغم أننا انخرطنا في بعض المشاحنات، ونختلف في كل الموضوعات. يروق لي كذلك السيد المجري؛ فهو رجل مهذب للغاية، وكان ملحقًا دبلوماسيًّا سابقًا في باريس، ثم عمل في سلاح الفرسان النمساوي، والآن يعيش في المنفى، بعد صدور العفو عنه، في حالةٍ صحية متدهورة. ويبدو أنه لا يحب كوشوث، لكنه يقول إنه على يقين أنه شخصٌ وطني مخلص، وفي غاية النباهة والفصاحة، لكنه ضعيف، وبلا عزيمة.