كتابة كتاب «أصل الأنواع»
[تحكي الخطابات الواردة في الفصل الحالي قصتها بوضوحٍ وافٍ، ولا تحتاج سوى إلى كلماتٍ قليلة على سبيل التفسير. إن مقال السيد والاس، المشار إليه في الخطاب الأول، حمل العنوان الفرعي: «عن مَيلِ الضروب إلى الاختلاف كليًّا عن نمطها الأصلي»، ونُشر في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي» (١٨٥٨، المجلد الثالث، صفحة ٥٣) كجزء من البحث المشترك ﻟ «السيدَين سي داروين وإيه والاس» الذي كان عنوانه بالكامل: «عن ميل الأنواع لتكوين الضروب؛ وعن ديمومة نشوء الضروب والأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي».
تألَّف إسهام أبي في البحث من الآتي: مقتطفات من ملخصِ عام ١٨٤٤؛ وجزءٍ من خطابٍ مُوجَّه للدكتور آسا جراي، بتاريخ ٥ سبتمبر، ١٨٥٧، وهو يَرِد في الصفحة ١٢٠. وقد «أرسل» البحث للجمعية اللينية السير تشارلز لايل والسير جوزيف هوكر، اللذان جاء في خطابهما التمهيدي بيانٌ توضيحي بظروف الحالة.
قدَّر بشدة السيد داروين الآراء المعروضة في هذا المقال، حتى إنه اقترح، في خطاب إلى السير تشارلز لايل، الحصول على موافقة السيد والاس للسماح بنشره المقالَ بأسرعِ وقتٍ ممكن. وقد أَيَّدنا هذه الخطوة بدرجةٍ كبيرة، على ألا يحجب السيد داروين عن العامة، كما كان ميالًا بشدة (لصالح السيد والاس)، المُلخَّص الذي كتبه بنفسه حول الموضوع نفسه، والذي قرأه أحدُنا قراءةً مُتمعِّنة عام ١٨٤٤، كما ذُكر من قبلُ، وكان كلانا مطلعَين على محتوياته منذ عدة سنوات. وحين اقترحنا هذا على السيد داروين، سمح لنا باستخدامِ مُلخَّصه، وغير ذلك، بالطريقة التي نراها مناسبة، وعند تبنِّي المسار الحالي، بتقديمه للجمعية اللينية، أوضحنا له أننا لا نضع في اعتبارنا حقه وحق صديقه النسبيَّين في الأسبقية فحسب، وإنما مصلحةَ العلم عامةً.]
(١) الخطابات
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ١٨ [يونيو
١٨٥٨]
عزيزي لايل
منذ عام تقريبًا نصحتَني بقراءة بحثٍ لِوالاس كان قد أثار اهتمامك في مجلة «أنالز آند ماجازين أوف ناتشورال هيستوري»؛ وحيث إن هناك مراسلات فيما بيننا، كنت أعلم أن هذا سيُسعده كثيرًا؛ لذا أخبرتُه به. لقد أرسل لي اليوم المقال المُرفَق، وطلب مني أن أُرسله إليك. وهو يبدو لي جديرًا جدًّا بالقراءة. لقد تحقَّقَت كلماتك لدرجةٍ كبيرة — بأنني سوف أُسبق. لقد قلتَ هذا حين شرحتُ لك هنا بإيجازٍ شديد آرائي عن «الانتقاء الطبيعي» القائم على الصراع من أجل البقاء. لم أَرَ قَط صُدفةً مدهشة كهذه؛ لو كان لدى والاس مُلخَّص مخطوطتي الذي كتبتُه عام ١٨٤٢، ما كان سيستطيع وضعَ مُلخَّصٍ قصير أفضل من هذا! حتى مصطلحاته تُعَد الآن عناوينَ لفصولي. أرجوك أن تُعيد لي المخطوطة، التي لم يقل إن كان يريد أن أنشرها أم لا، لكنني بالطبع سوف أكتب في الحال لأيِّ دورية وأعرض إرسالها إليها. هكذا سوف يُدمر كل ما في عملي من أصالة، أيًّا كان قدْره، رغم أن كتابي، إن كان سيصبح له أيُّ قيمة على الإطلاق، لن يتأثر؛ إذ إن قوام العمل كله يتمثل في تطبيق النظرية.
أرجو أن تستحسن مُلخَّص والاس، حتى يتسنى لي أن أخبره بما ستقوله.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، الجمعة [٢٥ يونيو،
١٨٥٨]
عزيزي لايل
آسفٌ جدًّا على إزعاجك، مع كلِّ انشغالك، في مسألةٍ شخصيةٍ محضة، لكنك إن أعطيتني رأيك المُتروِّي، فستُسدي لي أجلَّ خدمةٍ قدَّمها أحدٌ لي على الإطلاق؛ فأنا لديَّ ثقةٌ تامة في حكمك وأمانتك.
لا يُوجد شيء في مُلخَّص والاس لم يُدوَّن على نحوٍ أوفى في مُلخَّصي، الذي نُسخ عام ١٨٤٤، وقرأه هوكر منذ نحو اثنَي عشر عامًا. ومنذ عام تقريبًا أرسلت ملخصًا قصيرًا، لديَّ نسخةٌ منه، لآرائي (بسب التشابُه في عدة نقاط) لآسا جراي، بحيث أستطيع أن أقول وأُثبت بكل حقٍّ أنني لم آخذ شيئًا من والاس. وسوف يسُرني كثيرًا أن أنشر الآن ملخصًا بآرائي العامة في اثنتَي عشرة صفحة أو نحو ذلك، لكنني لا أستطيع أن أُقنع نفسي أن فعلي هذا يُعد فعلًا شريفًا. لم يقل والاس شيئًا بشأن النشر، وقد أرفقتُ خطابه. لكن حيث إنني لم أكن أنوي نشرَ أيِّ ملخص، فهل يُعد هذا فعلًا شريفًا، وقد أرسل لي والاس ملخصًا بنظريته؟ أُفضِّل أن أحرق كتابي كاملًا، على أن يعتقد هو أو أي شخصٍ آخر أنني قد تصرفت بخسة. ألا تعتقد أنه بإرسال هذا الملخص يُقيِّدني؟ إن استطعت النشر ولم يكن هذا فعلًا خسيسًا، فسأُصرح بأنني حُملت على نشرِ ملخص الآن (وسيسُرني كثيرًا أن يُسمح لي القول بأن ذلك كان اتباعًا لنصيحتك التي أسديتَني إياها منذ وقتٍ طويل) بسبب ما كان من والاس من إرسال الخطوط العريضة لاستنتاجاتي العامة لي. إن اختلافنا الوحيد [هو] أن ما قادني لآرائي هو ما فعله الانتقاء الاصطناعي بالحيوانات الداجنة. وسأرسل لوالاس نسخةً من خطابي إلى آسا جراي؛ لأُثبت له أنني لم أسرق نظريته. لكن لا أعرف ما إن كان نشره الآن سيكون تصرفًا حقيرًا وخسيسًا أم لا. كان هذا انطباعي الأَوَّل، وكنتُ سأتصرف تبعًا له دون شك لولا خطابك.
هذه مسألةٌ تافهة لِأُزعجك بها، لكنك لا تعلم كم سأكون ممتنًّا لنصيحتك.
بالمناسبة، هل تمانع في إرسال هذا وردِّك على هوكر إليَّ؟ فحينئذٍ سيكون لديَّ رأيُ أفضلِ وأطيبِ صديقَين لي. هذا الخطاب مكتوب بأسلوبٍ رديء، وإنني أكتبه الآن؛ لأنني قد أُقصي الموضوع برمته عن تفكيري لفترة؛ فقد أنهكني التفكير فيه.
فلتسامحني يا صديقي العزيز؛ فهذا خطابٌ تافه، متأثرٌ بمشاعرَ تافهة.
لن أُزعجك أنت أو هوكر بهذا الموضوع ثانيةً أبدًا.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٦ [يونيو،
١٨٥٨]
عزيزي لايل
فلتغفر لي إضافةَ ملحوظةٍ في ذيل الخطاب لأجعل موقفي أضعفَ ما يكون.
قد يقول والاس: «إنك لم تكن تنوي نشر مُلخصٍ بآرائك حتى تلقيت خطابي؛ فهل من العدل أن تستغل أنني قد بحتُ لك بأفكاري دون تحفُّظ، وطواعيةً، وبهذا تمنعني من أن أستبقك؟» الاستغلال الوحيد الذي قد أُقدِم عليه هو أن ما حثَّني على النشر معرفتي بأن والاس لديه نظريتي نفسها. يبدو عسيرًا عليَّ أن أُجبر هكذا على خسارة أسبقيتي التي وصلتُ إليها قبله بسنواتٍ عديدة، لكنني أشعر أن ما فعلتُه ليس من العدل؛ فالانطباعات الأُولى صحيحة بوجهٍ عام، وكان اعتقادي في البداية أنه من المجافي للشرف أن أنشُر الآن.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، الثلاثاء [٢٩ يونيو،
١٨٥٨]
… تلقيتُ خطاباتكَ للتو. لا أستطيع التفكير في الموضوع الآن [مباشرةً بعد وفاة ابنه الرضيع بالحُمى القرمزية]، لكنني سأفعل قريبًا. لكن بوسعي أن أرى أنك تصرفتَ بكرمٍ بالغ، وكذلك لايل، أكثر حتى مما كان بإمكاني أن أتوقع منكما، وهذا لشدة كرمكما.
يمكنني بسهولةٍ نسخ خطابي إلى آسا جراي، لكنه قصير جدًّا.
… فليُبارِكك الرب. سيصلك الردُّ قريبًا، بمجرد أن أقوى على التفكير.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
الثلاثاء ليلًا [٢٩ يونيو،
١٨٥٨]
عزيزي هوكر
قرأتُ خطابك للتو، وأرى أنك تريد الأبحاث في الحال. إنني في حالةٍ من الإعياء التام، ولا أستطيع فعل أيِّ شيء، لكنني سأرسل مخطوطة والاس، وخلاصة خطابي إلى آسا جراي، التي تتناول على نحوٍ سريع وسائل التغيير فحسب، ولا تشير لأسباب الاعتقاد بأن الأنواع تتغير. أعتقد أن هذا كلَّه متأخر جدًّا، وأكاد لا أُعيره اهتمامًا. لكنك في غاية الكرم لبذل هذا الكمِّ الكبير جدًّا من وقتك وعطفك. إنه لكرمٌ بالغ، ولطفٌ هائل. سأُرسل ملخصي الذي كتبته عام ١٨٤٤ فقط حتى ترى خطَّ يدك وتُوقن أنك قرأتَه بالفعل. حقًّا إنني لا أُطيق النظر فيه، فلا تُضيع فيه الكثير من وقتك. من المخزي أن آبَه للأسبقية من الأساس.
سيُوضِّح لك جدول المحتويات كنهه.
سأكتب ملخصًا مماثلًا، لكن أقصر وأدق لدورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي». سوف أفعل أيَّ شيء.
فليباركك الرب يا صديقي العزيز الطيب. لا أستطيع الكتابة أكثر من ذلك. سأرسل خادمي بكل هذا إلى كيو.
[الخطاب التالي هو ذلك الذي أشرتُ إليه من قبلُ بوصفه جزءًا من البحث المشترك المنشور في دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، عام ١٨٥٨]:
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
داون، ٥ سبتمبر
[١٨٥٧]
عزيزي جراي
لا أتذكَّر الكلمات التي استخدمتُها بالتحديد في خطابي السابق، لكن ربما قلتُ إنني أعتقد أنك ستحتقرني تمامًا حين أخبرك بالاستنتاجات التي توصلتُ إليها، وقد فعلتُ هذا لأنني اعتقدتُ أنه كان لزامًا عليَّ لكوني رجلًا أمينًا. وإنني لَأكون شخصًا غريبًا، في ضوء كل ما أدينُ به لكرمك الفياض جدًّا، إن كنتُ أقصد بقولي هذا أن أنسِب إليك أي شعور بالمرارة؛ فلتسمح لي أن أُخبرك أن هوكر أراني العديد من خطاباتك (غير الشخصية)، قبل أن أبدأ في مراسلتك، وقد بعثَت فيَّ أخلصَ مشاعرِ الاحترام لك؛ ولا بد أن أكون ناكرًا للجميل بلا شك إن لم تكن خطاباتك، وكل ما سمعتُه عنك، قد رسَّخا بقوة هذا الشعور لديَّ. لكنني لم أكن متأكدًا على الإطلاق أنك، عندما تعرف الاتجاه الذي كنتُ قاصده، ربما تعتقد أنني شديدُ الجموح والحماقة في آرائي (يعلم الرب أنني بلغتها بتمهلٍ كافٍ، وبضميرٍ حي كما أرجو) حتى إنك ستعتقد أنني لا أستحق المزيد من الاهتمام أو المساعدة. إليك مثالًا واحدًا: في المرة الأخيرة التي رأيتُ فيها صديقي القديم والعزيز فالكونر، هاجمني هجومًا شديد الضراوة، لكن بلطفٍ تام، وقال لي: «إن الأذى الذي ستتسبب فيه يفوق الخير الذي سيُقدِّمه عشرة من علماء التاريخ الطبيعي. أستطيع أن أرى أنكَ بالفعل «ضلَّلتَ» هوكر بل أوشكتَ أن تُفسِده!» هكذا حين أرى شعورًا بهذه القوة لدى أَقدمِ أصدقائي، لا يمكن أن تأخذك الدهشة عندما تجدني أتوقع دائمًا أن تُقابَل آرائي باحتقار. لكن يكفي ما قلتُه في هذا الأمر.
أتقدم إليك بأصدقِ آيات الشكر على ما في خطابكَ الأخير من روحٍ طيبة. وأتفق مع كلِّ كلمةٍ فيه، وأعتقد أنني أرى الصعوبات الشديدة التي تعترض نظريتي مثل أيِّ أحد. أمَّا فيما يتعلق بالمدى الذي وصلتُ إليه، فكل الحجج التي تؤيد أفكاري تتناقص «بسرعة»، كلما زاد نطاق الأشكال التي تُجرى دارستها. لكن مع الحيوانات، يُؤدِّي بي علم الأجنة إلى مدًى هائلٍ ومخيف. إن حقائق التكيُّف هي أكثر ما جعلني ملتزمًا بالمنهج العلمي التقليدي لمدةٍ طويلة — كتل حبوب اللقاح في جنس نباتات الصقلاب؛ نبات الهدال، وحبوب لقاحه التي تحملها الحشرات، وبذوره التي تحملها الطيور؛ نقار الخشب، ودور قدمَيه وذيله، ومنقاره ولسانه، في مساعدته لتسلق الأشجار والحصول على الحشرات. إن الحديث عن مسئولية المناخ أو العادة اللاماركية عن حالات التكيُّف تلك في كائنات حيوية أخرى لَهو أمرٌ عقيم. وأعتقد أنني تغلبتُ على هذه الصعوبة. وبما أنك تبدو مهتمًّا بهذا الموضوع، وحيث إنه في الكتابة إليك ومعرفة ما يجول بخاطرك، ولو حتى بإيجازٍ شديد، منفعةٌ «كبرى» لي، فسوف أُرفق أقصر ملخص (منسوخ، حتى أُوفر عليك العناء في القراءة) لأفكاري حول الوسائل التي تنتج بها الطبيعة أنواعها. يقوم اعتقادي بتغيُّر الأنواع على حقائقَ عامة في القرابات وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية والتاريخ الجيولوجي والتوزيع الجغرافي للكائنات الحية. وفيما يتعلق بملخصي، فلا بد أن تطمئن لأقصى درجة أن كل فقرة تشغل فصلًا أو فصلَين في كتابي. ربما ستعتقد أنها تفاهةٌ من ناحيتي أن أطلب منك ألا تتحدث عن نظريتي لأحد؛ والسبب في ذلك أنه إذا سمع بها أحد، مثل مؤلِّف كتاب «بقايا»، فقد يُدرِجها في عمله بسهولة، وعندئذٍ سوف أُضطر للاقتباس من عملٍ ربما يحتقره علماء التاريخ الطبيعي، وهذا سيقضي إلى حدٍّ كبير على أيِّ فرصة لأن يستقبل آرائي أولئك الذين أُقدِّر آراءهم دون غيرهم. [يلي هذا نقاشٌ حول «تباين الأجناس الكبيرة» الذي ليس له علاقةٌ مباشرة ببقية الخطاب.]
-
(١)
من المدهش ما يستطيع مبدأ الانتقاء عن طريق الإنسان تحقيقه؛ أي اختيار أفرادٍ مُتمتِّعين بصفةٍ مستحبة معينة، واستيلادهم، ثم تطبيق عملية الاختيار هذه عليهم مرةً أخرى، بل حتى المُربُّون أنفسهم مندهشون من نتائجِ ما يقومون به في هذا الإطار؛ فهم يستطيعون إنتاج اختلافاتٍ لا تلاحظها العين الجاهلة. ولم يُتبع الانتقاء بأسلوبٍ «منهجي» في أوروبا إلا خلال نصف القرن الأخير فحسب. إلا أنه كان يُتبع أحيانًا، وحتى بأسلوبٍ منهجي إلى حدٍّ ما، في عصورٍ موغلة القدم. كذلك لا بد أنه كان ثَمَّةَ انتقاءٌ غير مُتعمَّد منذ أقدم الأزمنة، تحديدًا في الاحتفاظ بالحيوانات (دون أي اعتبار لنسلها) الأكثر نفعًا لكل جنسٍ من البشر في ظروفه الخاصة. إن «الاجتثاث» وهو الاسم الذي يُطلِقه أصحاب المشاتل أو العاملون فيها على تدمير الضروب التي تحيد عن نمطها، لَهو نوعٌ من الانتقاء. وإنني مقتنع أن الانتقاء المقصود والعرضي كان العامل الرئيسي في تكوين سُلالتنا الداجنة. لكن مهما كان تأثير هذا الأمر، فقدرته الكبيرة على التعديل تجلَّت بلا جدال في العصور الأخيرة. إن الانتقاء يعمل فقط عن طريقِ تراكُم تبايناتٍ طفيفة جدًّا أو كبرى، سبَّبتها ظروفٌ خارجية، أو عن طريق حقيقةِ عدمِ تشابُه النسل مع الأصل تشابهًا تامًّا في أحد الأجيال. والإنسان، بهذه القدرة على تراكُم التباينات، يُكيِّف الكائنات الحية وَفقًا لحاجاته؛ إذ «يمكن القول» بأنه يجعل صوف بعض الخراف مناسبًا للأبسطة، وصوفًا آخر مناسبًا من أجل الملابس، وهكذا.
-
(٢)
لنفترض إذن أنه كان ثَمَّةَ كيان، لم يأخذ بالمظهر الخارجي وحده، وإنما استطاع دراسة التكوين الداخلي كاملًا — ولم يكن متقلب الهوى — وظل ينتقي من أجل غايةٍ واحدة خلال ملايين الأجيال، فمن سيقول إنه قد لا يُحدث تأثيرًا! لدينا في الطبيعة تبايناتٌ «طفيفة»، أحيانًا في كل النواحي؛ وأعتقد أنه من الممكن إثبات أن التغيُّر في ظروف الوجود هو السبب الرئيسي في عدم تشابُه الطفل التام لوالدَيه؛ وفي الطبيعة، ترينا الجيولوجيا التغيُّرات التي حصلَت، وما زالت تحصُل. لدينا زمنٌ لا مُتناهٍ تقريبًا؛ لا يستطيع تقدير هذا حقَّ قدْرِه غيرُ عالم الجيولوجيا العملي، لديك العصر الجليدي مثلًا، الذي عاشت خلاله كلِّه أنواع الأصداف نفسها على الأقل؛ لا بد أنه كان ثَمَّةَ ملايين الملايين من الأجيال خلال هذا العصر.
-
(٣)
أعتقد أنه من الممكن إثبات أنه ثَمَّةَ قوةٌ مُؤثِّرة لا تخطئ، أو «انتقاءٌ طبيعي» (الذي هو عنوان كتابي)، تنتقي لكل كائنٍ حي ما هو لصالحه فقط. كتب دي كوندول ودبليو هربرت ولايل مدافعِين بشدة عن الصراع من أجل البقاء؛ لكن رغم ذلك لم تكن كتاباتهم قوية بالقدْر الكافي. تذكَّر أن كل كائنٍ (حتى الفيل) يتكاثر بمعدلٍ معين بحيث لن يظل على سطح الأرض، خلال سنواتٍ قليلة، أو بضعة قرون أو آلاف السنين على الأكثر، أيُّ نسل لأي نوع. لقد وجدتُ صعوبة باستمرارٍ في تذكُّر أن الزيادة في كل نوع تتوقف خلال جزء من حياته، أو خلال أحد الأجيال التي عادت للظهور لفترةٍ قصيرة. إن القليل فقط من الكائنات التي تُولد سنويًّا تستطيع العيش حتى تنشُر نوعها. يا له من اختلافٍ بسيط ذلك الذي يحدد عادةً أيها سيعيش وأيها سينقرض!
-
(٤)
فلتتأمل الآن حال بلدٍ يمر ببعض التغيير؛ هذا سيؤدي لجعل بعض سكناه يتباينون تباينًا طفيفًا، إلا أنني أعتقد أن أغلب الكائنات تتباين تباينًا كافيًا طَوالَ الوقت بما يسمح بحدوث الانتقاء؛ فبعض سكانه سيُبادون، وتتعرض البقية للتأثير المتبادل لمجموعةٍ مختلفة من السكان، وهو ما أعتقد أنه أهم بالنسبة لحياة كلِّ كائنٍ من مجرد المناخ؛ ونظرًا للطرق العديدة للغاية التي يكون على الكائنات استخدامُها للحصول على الغِذاء بالصراع مع كائناتٍ أخرى، والهروب من الخطرِ في مراحلَ مختلفةٍ من حياتها، ونشر بيضها أو بذورها، إلخ، إلخ؛ فلا يمكن أن يُساورني الشك أنه خلال ملايين من الأجيال سيلد أحد الأنواع أفرادًا ذات تباين طفيف بما ينفع ناحيةً ما من حياتها؛ هؤلاء سيكون لديهم فرصةٌ أفضل للبقاء، وسينشرون هذا التباين، الذي سيزيد ببطءٍ مرةً أخرى عن طريق التأثير التراكمي للانتقاء الطبيعي؛ والضرب الذي تكوَّن بهذه الطريقة إمَّا سيتواجد مع نمطه الأصلي أو سيقضي عليه وهو الأشيع؛ هكذا قد يصير كائنٌ حي، مثل نقار الخشب أو نبات الهدال، متكيفًا مع مجموعةٍ من الحوادث العارضة؛ فالانتقاء الطبيعي يُراكم تلك التباينات الطفيفة في جميع أجزاء تكوينه، التي تُفيده بأيِّ شكل، خلال أي جزءٍ من حياته.
-
(٥)
ستطرأ صعوباتٌ متعددة الأشكال لكلِّ شخص فيما يتعلق بهذه النظرية. وأعتقد أن أغلبها يمكن الردُّ عليه بإجاباتٍ وافية. وعبارة «لا قفزات في الطبيعة» تُجيب على بعضٍ من أوضحِ تلك الصعوبات. وبطء التغيير، وحقيقة أن الذي يخضع للتغيير قلةٌ قليلة فقط في أيٍّ من الفترات الزمنية يُجيب على صعوباتٍ أخرى. كذلك تُجيب أوجه القصور البالغة في معرفتنا الجيولوجية على صعوباتٍ أخرى.
-
(٦)
يُؤدِّي مبدأٌ آخر، يمكن تسميته «مبدأ التشعُّب»، دورًا مهمًّا في أصل الأنواع، حسبما أعتقد. ستتوفَّر سبلٌ أكثر للحياة في منطقةٍ ما إن شغلَتها أشكالٌ شديدة التنوُّع؛ نرى هذا في الأشكال النوعية المتعددة التي تعيش في ياردةٍ مربعة من الأرض المعشوشبة (فقد أحصيتُ عشرين نوعًا ينتمي لثمانية عشر جنسًا)، أو في النباتات والحشرات التي تعيش في أيِّ جزيرةٍ صغيرة متسقة، والتي تنتمي لعدة أجناسٍ وفصائلَ كما تنتمي لعدة أنواع. يمكننا فَهمُ هذا من خلال الحيوانات العليا، التي نفهم عاداتها بنحوٍ أفضل. ونعلم أنه أُثبت بالتجاربِ أن أيَّ قطعةِ أرضٍ ستُنتِج محصولًا أكبر، إن زُرعت بأنواعٍ متعددة من الحشائش، عن أن تُزرع بنوعَين أو ثلاثة. هكذا، يمكن القول بأن كل كائنٍ حي، بالانتشار بسرعة، يبذل أقصى ما في وسعه لزيادة أعداده. وهكذا سيكون الحال مع نسلِ أيِّ نوع بعد انقسامه إلى ضروب أو أنواعٍ فرعية أو أنواعٍ حقيقية. ويستتبع هذا، حسبما أعتقد، بناءً على الحقائق الآنفة، أن يحاول النسل المتغير لكل نوع الاستحواذ على أماكنَ متعددةٍ ومتنوعة بقدْر المستطاع في المنظومة الاقتصادية للطبيعة (ولا يُوفَّق في ذلك إلا القليل منه). وبوجهٍ عام، سيأخذ كل ضرب أو نوعٍ جديد حين يتكون مكان والده الأقل أهلية ومِن ثَمَّ، سيقضي عليه. أعتقد أن هذا هو أصلُ تصنيفِ أو تنظيمِ كل الكائنات الحية في جميع الأزمنة؛ فهي دائمًا «تبدو» كأنها تتشعب لفروع وفروع تابعة مثل شجرة من جذع مشترك؛ حيث تُدمِّر الأغصان المزدهرة الأخرى الأقل حيوية — وتُمثِّل الفروع الميتة والمفقودة الضروب والفصائل المنقرضة.
هذا المُلخَّص غير كامل «على الإطلاق»، لكنني لا أستطيع أن أجعله أفضل من ذلك في تلك المساحة القصيرة جدًّا. ولا بُد لعقلك أن يملأ فراغاتٍ واسعة عديدة. دون بعض التدبُّر، سيبدو كل هذا مَحضَ هُراء؛ بل ربما يبدو هكذا بعد التدبُّر.
[قُرئ البحث المشترك للسيد والاس وأبي أمام الجمعية اللينية في مساء الأول من يوليو. وكان السير تشارلز لايل والسير جيه دي هوكر موجودَين، وكلاهما، على ما أظن، أدليا ببعض الملحوظات، في المقام الأول بهدف التأكيد لأولئك الحاضرِين على ضرورة إعارة أقصى اهتمامهم لما سمعوه. إلا أنه لم يحدث أي نقاش. وقد كتب لي السير جوزيف هوكر قائلًا: «الاهتمام كان شديدًا، لكن الموضوع كان جديدًا جدًّا وخطيرًا جدًّا بحيث لا يمكن لأنصار الفكر القديم الدخول في غمارِ جدالٍ بشأنه قبل التسلُّح له. وبعد الاجتماع نُوقش الموضوع بقلقٍ شديد؛ حيث ألقى التأييد من جانب لايل، وربما من جانبي بدرجةٍ صغيرة، بصفتي معاونًا له في المسألة، الرهبة في نفوس الزملاء، الذين لولا ذلك كانوا سيهاجمون النظرية بقسوة. كذلك كان لدينا الأفضلية المتمثلة في معرفتنا بالكاتبَين وفكرتهما».]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٥ يوليو
[١٨٥٨]
عزيزي هوكر
لقد صرنا في سعادةٍ أكبر وذعرٍ أقل الآن بعد أن أرسلنا كل الأطفال من المنزل، وسوف ننقل هنرييتا، بمجرد أن تستطيع المشي. سقمت الممرضة الأُولى بتقرُّح الحلق وتقيُّح اللوزتَين، والثانية مريضة الآن بالحُمَّى القرمزية، لكنها تتعافى، حمدًا للرب. لك أن تتخيل كم كُنا وجلِين. لقد كانا أسبوعَين في غاية الشقاء. أشكرك شكرًا جزيلًا على خطابك، الذي أَخبرتَني فيه أن كل شيء جرى بنجاح في الجمعية اللينية. أرجو أن تسمح لي مرةً أخرى أن أُخبرك بدرجة إحساسي بجزالة كرمك وكرم لايل في هذا الموقف. لكنني، في الواقع، أشعر بالخزي لأنكما اضطُررتما لتضييع وقتكما بسبب مسألة الأسبقية. سأكون متلهفًا لرؤية بروفات الطباعة. وأنا لا أدري مطلقًا ما إن كان خطابي إلى آسا جراي سيُطبع أم لا؛ أعتقد أنه لن يُطبع، وخطابك فقط هو الذي سيُطبع؛ لكنني لا أبالي مطلقًا، وأترك لك أنت ولايل كامل الحرية في هذا الشأن.
أستطيع بسهولة إعدادَ نبذة عن كامل عملي، لكن يشق عليَّ أن أرى طريقة لجعلها بأسلوبٍ علمي بحيث يمكن نشرها في دورية، دون إعطاءِ حقائق، وهو ما سيكون مستحيلًا. بالتأكيد، لا يمكن للنبذة أن تكون قصيرةً جدًّا، فهل تستطيع أن تعطيني أي فكرة عن عدد الصفحات التي قد تُتيحها الدورية لي في هذا الشأن؟
بعد عودتي للمنزل مباشرةً، سأبدأ في تقليص النبذة لِتُناسب قدر المساحة المتاحة. إن رفضها الحُكَّام لعدم دقتها العلمية، فربما أستطيع نشرها على هيئةِ كُتيب.
فيما يتعلق بملخصي الكبير [الخاص بعام ١٨٤٤]، هلا أرسلتَه متى تيسر ذلك قبل أن تُغادر إنجلترا، إلى العنوان المرفق؟ إن لم تغادر قبل العاشر من أغسطس، فسأُفضِّل أن تظل معك. أرجو أن تكون سطرتَ مآخذك على مخطوطتي حول الأجناس الكبيرة، إلخ، بما يضمن تذكُّرها؛ إذ سأكون في غاية الأسف لو خسرتها. إنني لا أرى أملًا في لقائنا إن سافرتُ في الفترة المقبلة. ونشكرك بصدق على دعوتك للانضمام إليك؛ فلا يسعني تخيل شيء أكثر متعة من ذلك؛ إلا أن أطفالنا أضعف حالًا من أن نتركهم بمفردهم؛ لذا سأكون مجرد عبء بلا فائدة.
أخيرًا، قلتَ إنك سوف تكتب إلى والاس؛ لا شك أنني أَودُّ ذلك بشدة؛ حيث إن ذلك سيُعفيني تمامًا من الحرج: فإن بعثتَ إليَّ بخطابك، محكم الغلق، فسأرسله مع خطابي، لمعرفتي بالعنوان، وما إلى ذلك.
هلا أرسلت لي متى تيسر ذلك ردًّا بآرائك حول طول نبذتي؟
إن رأيت لايل، فهلا أخبرته كم أنا ممتنٌّ حقًّا لِتكرُّمه بالاهتمام بموضوعي؟ لا بد أن تعلم أنني أراه من الهامِّ جدًا لاستقبال نظريةِ عدمِ ثبات الأنواع أن يُبدي أعظم عالم جيولوجيا وعالم نبات في إنجلترا «أيَّ نوعٍ من الاهتمام» بالموضوع: إنني على يقينٍ أن هذا سيُساهم كثيرًا في القضاء على الأحكام المسبقة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
منزل الآنسة ويدجوود، هارتفيلد، تونبريدج
ويلز
[١٣ يوليو، ١٨٥٨]
عزيزي هوكر
يبدو لي خطابك إلى والاس مثاليًّا وواضحًا تمامًا وغاية في اللباقة. ولا أعتقد أنه من الممكن تحسينه، وقد أرسلته اليوم مع خطاب مني. طالما اعتقدت أنه من المحتمل جدًّا أني قد أُسبق، لكنني كنت أظن أنني ذو نفسٍ راقية بالقدْر الكافي لأكترث لذلك، إلا أنني وجدت نفسي مخطئًا ومعاقبًا، بيد أنني استسلمت تمامًا، وكتبتُ نصف خطاب إلى والاس لأتنازل له عن الأسبقية برمتها، وما كنت لِأُغير موقفي بالطبع لولا ما أبديتَه من عطفٍ استثنائي تمامًا أنت ولايل. أؤكد لك أنني أُقدِّره، ولن أنساه. إنني في «غاية» الرضا عما حدث في الجمعية اللينية. كنت أعتقد أن خطابك وخطابي إلى آسا جراي سيصيران مجرد ملحقٍ في بحث والاس.
سوف نرحل من هنا إلى ساحل البحر خلال بضعة أيام، غالبًا إلى جزيرة وايت، وعند عودتي (بعد معركة مع هياكل الحمام) سأشرع في إعداد النبذة، لكن كيف لي بأي حال أن أُعِد نبذةً ذات معنًى في ثلاثين صفحةً من أجل الدورية، لا أدري، لكنني سأبذل قُصارى جهدي. سوف أطلب كتاب بينثام؛ أليس من المؤسف أن تضيع وقتك في جدولة الضروب؟ بإمكاني أن أجعل مدير مدرسة داون يفعل ذلك عند عودتي، وأستطيع إخبارك بكل النتائج.
لا بد أن أُحاول لقاءك قبل رحلتك، لكن لا تظن أنني أطلب منك على نحوٍ غير مباشر أن تأتي إلى داون؛ فلن يُتاح لك الوقت لذلك.
لا يمكنك أن تتخيل مقدار سعادتي بأن فكرة الانتقاء الطبيعي كان لها تأثير الدواء المعالج لما عانيتُه من تعسُّر هضمٍ لمسألةِ عدمِ قابلية الأنواع للتغيُّر. متى يستطيع علماء التاريخ الطبيعي رؤية أن تغيُّر الأنواع أمرٌ مؤكد، فأيُّ مجال رائع سينفتح — فيما يتعلق بقوانين التباين كلها، وعلم أنساب كل الكائنات الحية، ومسارات هجرتها، إلخ، إلخ. أرجوك أن تشكر السيدة هوكر على خطابها القصير الشديد الرقة، وأرجوك أن تُخبرها كم أنا ممتن، بل أخجل في واقع الأمر حين يحضرني أنها اضطُرت لأن تتكبد عَناءَ نسخ مخطوطتي البغيضة. كان هذا كرمًا هائلًا من ناحيتها. الوداع يا صديقي العزيز الطيب.
أميل للاعتقاد بصحة التعميم، الذي مفاده أنه عند فَرزِ العسل في نقطةٍ من دائرةِ تُويج الزهرة، وانحناء المدقَّة، فهي تنحني دائمًا إلى خطٍّ عابر إلى العسل. وزهرة العائق خيرُ مثالٍ على ذلك، على عكس زهر الحوض — إن خطر لك الأمر، فلتنتبه لهذه النقطة الصغيرة فحسب.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
فندق كينجز هيد، سانداون، جزيرة
وايت
١٨ يوليو [١٨٥٨]
… سنستقر هنا لعشرة أيام، ثم نذهب إلى شانكلين، التي تبدو أكثر إمتاعًا لشخصٍ لا يقوى على السير مثلي. نرجو أن يكون للبحر أَثرٌ طيب على هنرييتا وليونارد. إن حدث هذا، فستؤتي الرحلة ثمارها، وهذا كلُّ ما في الأمر.
لم أُوفكَ قَط ولو نصفَ حقك من الشكر على كلِّ ما أَبديتَه لي من اهتمام وكرم استثنائيَّين في مسألة والاس. لقد أخبرني هوكر بما أنجز في الجمعية اللينية، وإنني راضٍ تمامًا عن ذلك، ولا أعتقد أن والاس قد يعتقد أن سماحي لك ولهوكر بفعلِ ما تريانه من الإنصاف تصرفٌ مُجحف. بالطبع تكدرت قليلًا لخسارتي الأسبقية بالكامل، لكنني استسلمتُ لقدري. سوف أعد نبذة أطول؛ لكن من المستحيل حقًّا أن أُوفي الموضوع حقه، إلا بإعطاء الحقائق التي يقوم عليها كل استنتاج، وذلك سيكون مستحيلًا تمامًا بالطبع. إنني متأكد أن ما بدا من اهتمام، بأي طريقة ولو بأقلِّ قدْر، من شخصك وشخص هوكر في عملي، له تأثيرٌ مهم في حَملِ الناس على النظر للموضوع بعين الاعتبار من دونِ أحكامٍ مسبقة. أرى أن هذا الأمر في غاية الأهمية، حتى إنني أكادُ أكون سعيدًا ببحث والاس لأنه أدى لهذا.
[يشير الخطاب التالي إلى بروفاتِ طباعةٍ بحث الجمعية اللينية. ويُقصد ﺑ «المقدمة» الخطاب التمهيدي الذي وقَّعه السير سي لايل والسير جيه دي هوكر.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
فندق كينجز هيد، سانداون، جزيرة
وايت
٢١ يوليو [١٨٥٨]
عزيزي هوكر
بالأمس فقط تلقيتُ بروفات الطباعة، والتي سأُراجعها الآن. أعتقد أن المقدمة الخاصة بكما ليست بحاجة للتحسين.
يتملكني الاشمئزاز من أسلوبي السيئ في الكتابة. وليس بإمكاني تحسينه، دون إعادةِ كتابةِ كل شيء، وهو ما لن يكون عادلًا أو جديرًا بالعناء؛ إذ كنتُ قد بدأتُ في إعداد نبذةٍ أفضل من أجل الجمعية اللينية. عذري الوحيد هو أنها لم يكن المراد بها النشر «قط». وقد أجريتُ القليل من التصويبات في الأسلوب فقط، إلا أنني لا أستطيع أن أجعله لائقًا، لكن أرجو أن يكون واضحًا بدرجةٍ معقولة. وأفترض أن شخصًا ما سيُنقِّح بروفة الطباعة المُعدَّلة. (أليس لي أن أفترض هذا؟)
هل يمكنني الحصول على بروفة الطباعة بعد إدخال التعديلات عليها لأُرسلها إلى والاس؟
لم أدرس ملحوظاتك حول الأجناس الكبيرة بالتروي التام بعدُ (لكني «أُقدِّر بشدة» قبولك العام للمهمة)، ولن أستطيع ذلك قبل أن أُعيد قراءة مخطوطتي، لكن لك أن تثق أنك لن تُبدي لي أي ملحوظة وتضيع بسبب «تجاهُلي» لها. يسُرني بوجهٍ خاص عدم اعتراضك على صياغتي لمآخذك على نحوٍ معدل؛ فإنني دائمًا ما أراها في غاية الأهمية، وذات قيمةٍ كبيرة، سواءٌ فتكت بأفكاري أم لا؛ لذا سأدرس كلَّ ملحوظاتك بعناية.
لقد طلبتُ كتاب بينثام؛ حيث إنه، كما يقول … سيكون من الغريب جدًّا أن ترى كتابًا عن النباتات ألَّفه شخص لا يعرف شيئًا عن النباتات البريطانية!
إنني سعيد جدًّا بما تقوله عن نُبذتي، لكن لك أن تثق أنني سأُكثِّفها إلى أقصى درجة. كما أنني سأُساهم في أموال الطباعة إن طالت جدًّا. كم تعدَّدتِ الطرق التي ساعدتَني بها!
[«النبذة» المذكورة في الجملة الأخيرة من الخطاب السابق كانت في الواقع هي كتاب «أصل الأنواع»، الذي بدأ العمل فيه آنذاك. وهو يتحدث في سيرته الذاتية (ارجع للفصل الثاني من هذا الكتاب) عن بدء الكتابة فيها في سبتمبر، لكنه كتب في يومياته قائلًا: «من ٢٠ يوليو حتى ١٢ أغسطس، في سانداون، بدأتُ كتابة نبذة كتاب الأنواع.» «١٦ سبتمبر، استئناف العمل في النبذة.» عند بَدْء الكتابة، كان الهدف هو أن تنشر الجمعية اللينية العمل باعتباره بحثًا، أو سلسلةَ أبحاث، ولم يتضح أنه لا بد أن يأخذ شكل كتابٍ مستقل إلا في أواخر الخريف.]
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نورفوك هاوس، شانكلين، جزيرة
وايت
الجمعة، ٣٠ [يوليو]
[١٨٥٨]
عزيزي هوكر
هلا أعطيتَ القُصاصة المرفقة للسير ويليام تعبيرًا عن امتناني لكرمه؛ وهذا يعطيني عذرًا لإدخال البهجة على نفسي بأن أكتب لك خطابًا، وهو الذي لا يحتاج إلى رد.
هذا المكان خلَّاب جدًّا، وقد حصلنا على منزلٍ مريح للغاية. لكن، للأسف، لا أستطيع القول بأن حال هنرييتا وليونارد تحسن كثيرًا مع البحر. ولا تعافت معدتي من كلِّ متاعبها. لكنني مسرور جدًّا أننا غادرنا الديار؛ إذ مات حتى الآن ستة أطفال من الحُمى القرمزية في داون. وسوف نعود في الرابع عشر من أغسطس.
لقد حصَلتُ على كتاب بينثام [«النباتات البريطانية»]، وإنني لمعجب به بشدة، وقد أخذ ويليام (الذي ذهب للتو في رحلة بالخارج) يشير لي ببراعة إلى أنواعٍ شتى من النباتات الجديدة (بالنسبة لي). إن المعلومات الصغيرة التي حصلت عليها في غاية الروعة. إن الأسماء الإنجليزية في المفاتيح التحليلية تثير حنقنا: فله أن يذكرها بالطبع، لكن لماذا حقًّا [لا] يجعلها تابعةً للأسماء اللاتينية؛ كم يثير هذا غضبي! إن ويليام اقتحم الفصيلة المركبة والفصيلة الخيمية مثل البطل، وأَلمَّ بالعديد منها سريعًا على نحوٍ رائع.
أقضي وقتي في العمل بضع ساعات يوميًّا في نبذتي، وأجد في هذا متعة وتحسينًا لصحتي. إنني الآن في غاية الامتنان لك ولِلايل بحق لأنكما من أشارا عليَّ بهذا؛ إذ حين أنتهي منها، سأصير قادرًا على إتمام عملي في راحةِ بال وتأنٍّ أكثر. أُقر أنني كرهتُ فكرة هذه المهمة، والآن أجدها غير مرضيةٍ بالمرة لعدم قدرتي على إعطاء أسبابي على كلِّ استنتاج.
للأسف، سوف أُطيل الحديث أكثر مما كنت أتوقع؛ إن إعطاء نُبذةً عن التباين تحت تأثير التدجين وحده سيأخذ خمسًا وثلاثين صفحة من مخطوطتي؛ لكنني سأُحاول ألا أُدرج شيئًا لا يبدو لي على قدْرٍ من الأهمية، وكان جديدًا لي من قبل. إن إعطاء نبذة عن عملٍ غير منشور يبدو شيئًا غريبًا؛ لكنني أُكرِّر أنني في غاية سعادتي أنني قد بدأت جديًّا فيها.
أرجو أن تحظى أنت والسيدة هوكر برحلةٍ ممتعة للغاية. الوداع يا عزيزي هوكر.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نورفوك هاوس، شانكلين، جزيرة
وايت
الخميس [٥ أغسطس،
١٨٥٨]
عزيزي هوكر
أعتقد أن الملحوظة التي تلتمس العذر بشأن أسلوب النبذة كانت ملحوظة ممتازة. لكنني أكتب إليك الآن لأطلب منك أن ترسل إليَّ مع عودة البريد مخطوطة الأجناس الكبيرة، حتى يتسنَّى لي إعدادُ نُبذة من بضعِ صفحاتٍ عنها. أعتقد أنكَ قد فرغتَ منها تمامًا، وإن لم يكن الأمر كذلك، فأنا لا أريد استعادتها تحت أي ظرف. إن ربطتها بحبل وأرسلتها كاتبًا عليها أنها مخطوطة للطباعة، فأعتقد أن ذلك لن يتكلف أكثر من أربعة بنسات. أتمنى كثيرًا أن تقول إنكَ قد قرأتَ هذه المخطوطة وتؤيد ما جاء فيها؛ لكنك ستسمع ذلك، قبل أن أقرأها أمام الجمعية.
ما أخبرتَني به بعد حديثك مع باسك عن طول النبذة جعلَني أشعر بارتياح «كبير»؛ فعدم الحاجة إلى اختصار كل موضوع بدرجةٍ كبيرة سيجعل الجهد المبذول أقل كثيرًا؛ لكن سأُحاول ألا أُشتِّت ذهن الجمهور أكثر من اللازم. أخشى أنها ستفسد أي اهتمامٍ بكتابي، متى نُشر. سيكون من المناسب جدًّا تقسيم النبذة إلى عدة أجزاء؛ فقد انتهيتُ للتو من جزء «التباين تحت تأثير التدجين» في أربعٍ وأربعين صفحة من المخطوطة، وتكفي أمسيةٌ واحدة لقراءته، لكنني سآسَف أشد الأسَف إن لم يتيسر نشرها كلِّها معًا.
ما تقوله عن النبذة بخلاف ذلك يجعلني في سرورٍ شديد، لكنه يخيفني؛ إذ أخشى أنني لن أتمكن قط من جعلها بالجودة الكافية. لكن كم أسهب في الحديث حول أموري الشخصية معك!
أدهشني أن أرى بطاقة السير دبليو هوكر هنا منذ يومَين أو ثلاثة؛ للأسف كنت بالخارج أتمشى. كذلك كتب إليَّ هنزلو، مقترحًا أن يأتي إلى داون في التاسع من هذا الشهر، لكنني للأسف لن أرجع حتى الثالث عشر منه، ولن ترجع زوجتي إلا بعد ذلك بأسبوع؛ لذلك يؤسفني أيضًا أشد الأسف أن أعتقد أنني لن أراك؛ إذ لن أَودَّ مغادرة المنزل بهذه السرعة. لقد فكرتُ في الذهاب إلى لندن والمرور بكيو لقضاءِ ساعةٍ أو ساعتَين.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نورفوك هاوس، شانكلين، جزيرة
وايت
[أغسطس]
[١٨٥٨]
عزيزي هوكر
أكتب إليك فقط لأُخبرك أن المخطوطة وصلَت سليمة منذ يومَين أو ثلاثة. وإنني ممتن جدًّا لتنقيحك الأسلوب فيها؛ فإنني أجد صعوبةً لا تُوصف في الكتابة بأسلوبٍ واضح. حين نلتقي لا بد أن أُحادثك حول بضعِ نقاطٍ تتعلق بهذا الموضوع.
لقد تحدثت عن الذهاب لمكانٍ ما على الساحل؛ نعتقد أن هذا هو أفضل الأماكن الساحلية التي رأيناها على الإطلاق، وتروق لنا شانكلين أكثر من أماكنَ أخرى على ساحل الجزيرة الجنوبي، رغم أن كثيرًا منها جذَّابًا وأكثر جمالًا؛ لذا، أقترح أن تُفكِّر في هذا المكان. إن منزلنا على الساحل نفسه، لكن تتباين الأذواق كثيرًا بشأن الأماكن.
إن ذهبتَ إلى برودستيرز، وكانت هناك ريحٌ قوية من ساحل فرنسا وجوٌّ صحو وجافٌّ ودافئ، فلتنتبه؛ فربما ترى زغب نباتاتٍ شائكة ذَرَتها الريح عبر القناة. منذ بضعة أيامٍ رأيتُ واحدًا ذَرَته الريح للبَر، ثم في غضونِ بضع ثوانٍ رأيت واحدًا آخر ثم ثالث، فحدثتُ نفسي قائلًا: يا إلهي، كم عدد النباتات الشائكة الموجودة في فرنسا إذن؟ وكتبتُ إليك خطابًا في مخيلتي. لكنني بعد ذلك نظرت إلى السحب «المنخفضة»، ولاحظتُ أنها لم تكن آتيةً للبَر، فانتابني خوف أن يكون بي جِنَّة، ثم مشيتُ مجتازًا اللسان فوجدتُ الريح موازية للساحل، ووجدتُ على هذا اللسان نفسه مجموعةً رائعة من النباتات الشائكة، التي حملَتها التيارات العتية بعيدًا إلى البحر، ثم أتت إلى الشاطئ مباشرةً في زوايا قائمة! وذاتَ يوم جرف التيار عددًا كبيرًا من الحشرات، وأعدتُ الحيوية لثلاثين نوعًا من الخنافس غمدية الأجنحة، لكنني لا أفترض أنها أتت من فرنسا. لكن هل تترقب من أجلي ظهورَ زغبِ نباتاتٍ شائكة بينما تخطو وئيدًا على الساحل؟
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
١١ أغسطس [١٨٥٨]
عزيزي جراي
وصلني للتو في جزيرة وايت خطابك الذي بتاريخ ٢٧ يوليو. إنها لسعادةٌ حقيقية وكبيرة بالنسبة لي أن أكتب إليك عن أفكاري، وحتى لو لم يكن الأمر كذلك، فسوف أكون شخصًا في غاية الجحود، بعد كلِّ ما أَسديتَه لي من عون لا يُقدر بثمن، لو لم أفعل أي شيء طلبتَه مني.
لقد ناقشتُ في مخطوطتي الطويلة التغيُّرات الحديثة في المناخ وتأثيرها على الهجرة، وسأعطيك هنا «نبذة» عن «النبذة» (الأخيرة هي نبذة عن كتابي كله أُعدُّها من أجل الجمعية اللينية). لا أستطيع إعطاءك حقائق، ولا بد أن أكتب بطريقةٍ افتراضية، رغم أن هذا ليس هو الوضع فيما يتعلق بأيٍّ من النقاط. سأذكر فقط، حتى تُصدِّق أن لديَّ «بعض» الأساس لآرائي، أن هوكر قد قرأ مخطوطتي، ورغم أنه اعترض في البداية على فكرتي الأساسية، فقد أخبرني فيما بعدُ أن مزيدًا من التمعُّن ووجود حقائقَ جديدة جعلاه يغيِّر رأيه.
في المرحلة القديمة، أو ربما الحديثة من العصر البليوسيني (أي، «قبل» العصر الجليدي بقليل) كانت درجة الحرارة أكثر ارتفاعًا، ولا يمكن الشك في ذلك ولو قليلًا، وكانت اليابسة، «بدرجةٍ كبيرة»، تتضمن كثيرًا من كائناتها الحالية؛ فكانت الأنواع إلى حدٍّ بعيد، ارتكانًا إلى الأصداف، كما هي الآن. في هذه المرحلة حين كانت كل الحيوانات والنباتات تشغل مناطقَ أقربَ للدائرتَين القطبيتَين بعشر إلى خمسَ عشرةَ درجة، أعتقد أن الجزء الشمالي من سيبيريا والجزء الشمالي من أمريكا الشمالية — نظرًا لأنهما يكادان يكونان «متصلَين» (من المحتمل جدًّا أن جانبَي مضيق بيرينج كانا متصلَين جنوبًا قليلًا؛ نظرًا للمياه الضحلة) — كانا مأهولَين بحيوانات ونباتاتٍ شبه واحدة، تمامًا مثل مناطق القطب الشمالي الآن، ثم صار المناخ باردًا أكثر بالتدريج حتى صار كما هو الآن، بعد ذلك انفصلَت الأجزاء المعتدلة من أوروبا وأمريكا كما هي الآن، وذلك فيما يختص بمسألة الهجرة. ثم جاء العصر الجليدي، ليدفع كل الكائنات الحية لأقصى الجنوب، فكانت المناطق الوسطى بل حتى الجنوبية من أوروبا مأهولةً بكائنات من القطب الشمالي، ومع رجوع الدفء، زحفَت كائنات القطب الشمالي ببطء لأعالي الجبال لمَّا سلب منها الجليد؛ ونرى الآن على قممها بقايا حياةٍ نباتية وحيوانية كانت متصلة فيما مضى. هذه نظريةُ إيه فوربس، لكن لي أن أُضيف أنني قد كتبتها قبل أن ينشرها بأربعِ سنوات.
لديَّ «اعتقاد» مبهم، دفعَتني إليه بعض الحقائق، بأنه كان ثَمَّةَ عصرٌ أدفأ «قليلًا» بين العصر الجليدي والعصر الحالي؛ وبناءً على مبادئ التعديل الخاصة بي، أرى أن العديد من أنواع أمريكا الشمالية التي تشبه تلك التي في أوروبا تشابهًا «وثيقًا»، قد صارت معدَّلة منذ العصر البليوسيني، حين كان ثَمَّةَ اتصالٌ شبه حر بين العالَمَين القديم والجديد في الجزء الشمالي من الكرة الأرضية. لكن يُوجد هنا اعتبار أهم؛ فثَمَّةَ مجموعةٌ كبيرة من الأدلة الجيولوجية على أن العالم بأَسْره كان أكثر برودة خلال العصر الجليد؛ لقد استنتجتُ ذلك، منذ عدة سنوات، من ظاهرة الجلاميد التي جرفَتها الأنهار الجليدية التي لاحظتُها باهتمام في الساحلَين الشرقي والغربي لأمريكا الجنوبية. هنا أستطيع أن أعتقد بكل جُرأة بأنه في أَوْج العصر الجليدي، «وحين كانت كل الكائنات المدارية حتمًا في معاناةٍ كبيرة»، انتقلت عدة أشكال من المناطق المعتدلة ببطء إلى قلب المناطق المدارية، بل بلغت نصف الكرة الجنوبي؛ وتغَلغلَت قلة من أشكال المناطق الجنوبية في اتجاهٍ معاكس شمالًا. (فمرتفعات جزيرة بورنيو بها أشكال أسترالية، والحبشة بها أشكال من رأس الرجاء الصالح.) وأينما كانت هناك أرضٌ «مرتفعة» شبه متصلة، كانت هذه الهجرة متيسرة لدرجةٍ هائلة؛ ومن هنا جاءت الطبيعة الأوروبية لنباتات أرخبيل تييرا ديل فويجو وقمم سلاسل جبال أمريكا الجنوبية؛ والشيء نفسه على جبال الهيمالايا. ومع ارتفاع درجة الحرارة، زحفَت كل الكائنات الدخيلة الخاصة بالمناطق المعتدلة لأعلى الجبال؛ ومن هنا جاءت الأشكال الأوروبية التي على جبال نيلجيري وسيلان وقمة جاوا وجبال أورجان في البرازيل. لكن لمَّا كانت تلك الكائنات الدخلية مُحاطةً بأشكالٍ جديدة فقد كانت مُعرَّضة جدًّا للتحسين أو التعديل عن طريق الانتقاء الطبيعي، لتتأقلم مع الأشكال الجديدة التي كان عليها التنافس معها؛ ومِن ثَمَّ، لا تتطابق أغلب الأشكال التي على جبال المناطق المدارية، لكنها أشكالٌ «نموذجية» لنباتات المناطق المعتدلة الشمالية.
وثَمَّةَ مجموعات من الحقائق الشبيهة فيما يتعلق بالكائنات البحرية. سيبدو كل هذا لك تهورًا شديدًا، وقد يكون كذلك، لكنني متأكد أنه ليس بالتهور الذي قد يبدو لك في البداية؛ لم يستسغه هوكر البتة كذلك في البداية، لكنه غيَّر قناعاتِه على نحوٍ كبير. أعتقد، استنادًا إلى الثدييات والبحر الضحل، أن اليابان كانت متصلةً بالبَر الرئيسي للصين خلال فترة ليست ببعيدة، ثم تأثَّرت اليابان بالهجرة شمالًا وجنوبًا، قبل وأثناء وبعد العصر الجليدي، كما حدث في المناطق المناظرة في الصين والولايات المتحدة.
أَودُّ أكثر من أي شيء أن أعرف ما إن كانت لديك أي كائناتٍ جبلية من اليابان، وبمَ تتميز. لقد كان أسلوب الكتابة سيئًا في هذا الخطاب، لكن ربما سيكون كافيًا لتوضيحِ ما أراه فيما يتعلق بتغيُّرات درجات الحرارة والهجرات الرئيسية الحديثة.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
[داون] ٦ أكتوبر،
١٨٥٨
… إن كان لديك مُتَّسعٌ من الوقت أو باستطاعتكَ تدبره، فسأَودُّ كثيرًا أن أسمع أخبارك وأخبار السيدة هوكر والأطفال. أين ذهبتم، وماذا فعلتم وتفعلون؟ أريد بيانًا شاملًا.
لا يمكنك أن تدرك مقدار سعادتي بزيارتك القصيرة هنا؛ فقد كان لها تأثيرٌ طيب جدًّا عليَّ. إن كان هارفي ما زال برفقتك، فأرجو أن تُبلغه أرقَّ تحياتي.
… أعمل بدأبٍ شديد لإنجاز نُبذتي، إلا أنها وصلت لطولٍ غير معقول، لكنني حتى أجعل نظريتي واضحة تمامًا (وحتى لا أعرض بإيجاز أكثر من حقيقةٍ واحدة أو اثنتَين، وأمُر بالصعوبات مرورًا عابرًا)، لا أستطيع أن أجعلها أقصر من ذلك. وأعتقد أنها ستأخذ مني ثلاثة أو أربعة أشهر؛ فإنني أعمل على مهل، رغم أنني لا أتوقف عنه بتاتًا. لا يمكنك تخيُّل كم خدمتَني حين جعلتَني أكتب هذه النبذة؛ فرغم أنني كنت أعتقد أن الأمور كلها جلية لديَّ، فإنها جعلَتني أستوضح أفكاري كثيرًا، بأن جعلتني أزِن الأهمية النسبية لعناصرها المتعددة.
ما زلتُ أقرأ بشغفٍ شديد مقالك الرائع (حسبما أراه) عن آر براون في دورية «ذا جاردينرز كرونيكل».
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٢ أكتوبر، ١٨٥٨
… لقد أرسلتُ إلى والاس ثماني نسخ [من البحث المشترك بينهما] بالبريد، وسأحتفظ بالنسخ الأخرى له؛ إذ لا يجول بخاطري أيُّ أحدٍ لأرسل إليه أيًّا منها.
أرجوك ألا تعلن معارضتك الشديدة للانتقاء الطبيعي، حتى تقرأ نبذتي؛ فرغم أنني أعتقد أنك ستلاحظ «العديد» من الصعوبات التي لم تخطر لي قط، فإنك لا يمكن أن تكون قد فكَّرتَ في الموضوع مليًّا كما فعلت.
أتوقع أن تصير نبذتي كتابًا صغيرًا، وهو الذي سيتعين نشره على نحوٍ منفصل.
يا له من عملٍ كبير ورائع ذلك الذي تقوم به!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٣ أكتوبر، ١٨٥٨
… لقد استأتُ من نفسي لِما طلبتُه منك من «ألا تعلن معارضتك الشديدة للانتقاء الطبيعي». آسف أنني قد ضايقتُك، رغم اهتمامي الشديد بالخطاب التي سترُدُّ به. لقد كتبتُ العبارة بلا تفكير. لكن الحقيقة أنني قد عودتُ نفسي، من ناحيةٍ بسبب استجوابي من قبل معارفي الذين ليسوا من علماء التاريخ الطبيعي، على توقُّع المعارضة بل الاحتقار، حتى إنني نسيتُ للحظة أنك الشخص الوحيد الذي طالما لاقيتُ منه العطف باستمرار؛ فلتصدقني أنني لم أنسَ للحظةٍ كم من عونٍ تلقيتُه منك. إنك على حق تمامًا أنني لم يساورني أدنى شك قط أن تخميناتي كانت بمثابة «شَرك» لك؛ وبالتأكيد كنتُ أعتقد حتى وقتٍ قريب جدًّا أن مخطوطتي لم تترك أثرًا عليك، وكثيرًا ما أدهشني هذا. ولم أكن أعلم أنك قد تحدثتَ حديثًا عامًّا حول عملي مع أصدقائنا، عدا الصديق العزيز الغالي فالكونر، الذي أخبرني ذات مرة منذ عدة سنوات أن الشر الذي سآتي به يفوق الخير الذي سيُقدِّمه عشرة من علماء التاريخ الطبيعي، وأنني كدتُ بالفعل أن أُفسدك! إن كل هذا أمورٌ أنانية حماقة، وأنا أكتبه فقط خوفًا من أن تعتقد أنني جاحد لعدم تقديري لتعاطُفك وإدراكي له؛ وهو ما يعلم الرب أنه ليس صحيحًا. إنها لعنة أن يصير إنسانٌ منهمكًا للغاية في أيِّ موضوعٍ كما هو الحال بالنسبة لي.
كنتُ في لندن أمسِ لعدة ساعات مع فالكونر، وقد ألقى عليَّ محاضرةً رائعة حول عمر الإنسان. إننا لسنا حديثي العهد؛ فبإمكاننا التفاخُر بنسبٍ يعود بعيدًا إلى زمنٍ معاصر لأنواعٍ منقرضة. وهو لديه دليلٌ رائع عبارة عن ضرس طاحنٍ كبير استُخرج من صخور تنتمي للعصر الثالث.
إنني منهك القوى تمامًا، وسوف أذهب يوم الاثنين القادم لاستعادة عافيتي بالعلاج المائي في مور بارك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
نوفمبر، ١٨٥٨
… كنتُ قد تعهدتُ ألا أتحدثَ إليكَ عن نُبذتي التي يبدو أنها لن تنتهي مرةً أخرى؛ إذ أُدرك أنني ضايقتك بشأنها أكثر مما ينبغي، لكن حيث إنك تشير إلى ضرورة الإسراع بنشرها، فسأقول إن عليَّ تلخيص الفصلَين اللذَين عن الغريزة والتهجين، وهو ما قد يستغرق أسبوعَين لكلٍّ منهما. أما المواد التي لديَّ حول علم الحفريات والتوزيع الجغرافي والقرابات، فأعتقد أن إعداد كلٍّ منها سيستغرق مني ثلاثة أسابيع؛ لأنها أقل اكتمالًا؛ وبذلك لن أنتهي من العمل حتى أبريل على أقل تقدير، وهكذا ستصير نُبذتي في حجم كتابٍ صغير. إنني لا أُعطي قَط أكثر من مثالٍ أو مثالَين، وأَمُر على كل الصعوبات بإيجاز، ورغم ذلك لا أستطيع أن أجعل النبذة أقصر من ذلك، حتى تكون مقبولة، ومع ذلك فأنا أجد أنها ستطول حتى تخرج في شكلِ كتابٍ صغير.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ١٣ نوفمبر
[١٨٥٨]
من تشارلز داروين إلى جون لاباك
الخميس [قبل ١٨٥٧]
عزيزي لاباك
لا أعلم إن كان لديك اهتمامٌ بالخنافس، لكن تحسبًا لذلك أُرسل إليك في زجاجةٍ هذه الخنفساء التي لا أذكر أنني رأيتُها قط، إلا أنه في التحدث عن ذكريات منذ خمسة وعشرين عامًا بعض الحماقة. حينما نلتقي، يمكنك إخباري ما إن كنت تعرفها أم لا.
حين أقرأ عن التقاطِ خنافسَ نادرة، أشعر كأنني جوادُ حربٍ عجوز سمع صوت بوق الحرب — أليس هذا تشبيهًا كريمًا لعالم حشراتٍ متهالك؟ إنه يكاد يجعلني أتوق حقًّا للجمع ثانيةً. الوداع.
«فليحيَ علم الحشرات»! إنه النَّخْب الذي شربتُ من أجله عدة كئوس من النبيذ في كامبريدج. «فليحيَ علم الحشرات» مرةً أخرى. ملحوظة: «لم» أعُد أحتسي أي كئوسٍ مليئة بالنبيذ مؤخرًا.
من تشارلز داروين إلى هربرت سبنسر
داون، ٢٥ نوفمبر
[١٨٥٨]
سيدي العزيز
أرجو أن تسمح لي بأن أشكرك شكرًا جزيلًا على هدية مقالاتك الكريمة جدًّا. لقد قرأت بالفعل العديد منها باهتمام بالغ. تبدو لي ملحوظاتك عن الحُجة العامة لما يُسمى بنظرية التطوُّر جديرة بالتقدير. وإنني حاليًّا أُعد نُبذة عن عملٍ أكبر حول التغيرات التي تلحق بالأنواع، لكنني أتناول الموضوع بصفتي عالم تاريخٍ طبيعي فحسب، وليس من وجهةِ نظرٍ عامة، فيما عدا ذلك، أرى أنه لم يكن ثَمَّةَ إمكانيةٌ لتحسين حُجتك، وربما كان لي أن أقتبس منك مستفيدًا من ذلك استفادةً كبرى. كذلك أثار مقالُك حول الموسيقى اهتمامي بشدة؛ فطالما أوليتُ هذا الموضوع التفكير، وقد توصلتُ للاستنتاج نفسه تقريبًا، رغم أنني غير قادر على دعم الفكرة بأيِّ تفاصيل. علاوةً على ذلك، في مصادفةٍ غريبة، ظل التعبير عن الانفعالات لسنوات من المواضيع المُلحَّة قيد التخمين الفضفاض، وأنا لا بد أن أتفق معك تمامًا أن عملية التعبير برمتها تنطوي على جانبٍ بيولوجيٍّ ما. أرجو أن أستفيد من مقالك النقدي عن الأسلوب، وبأسمى آيات الشكر، أرجوك يا سيدي العزيز، أن أظل.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٤ ديسمبر
[١٨٥٨]
عزيزي هوكر
إن خبر زيادة راتبك وإعفائك من إيجار المنزل لَهو خبرٌ مفرح، وقرارٌ محمود للحكومة. تكلفَت حجرتي (التي مساحتها ٢٨ × ١٩)، مع حجرةٍ مقسمة فوقها، مع «كل التجهيزات» (والطلاء)، ومن دون أثاث، ومع الجص الخارجي، ٥٠٠ جنيه إسترليني تقريبًا. إنني شديد السعادة بهذا الخبر.
لا شك أن الحقائق التي لديك حول التوزيع لافتة جدًّا للنظر. يحضرني جيدًا أنه من بين الحقائق الكثيرة المدهشة في أعمالك المتعددة، لم أتحير لسنواتٍ من شيء أكثر من القول بأن الهجرة كانت أغلبها من الشمال إلى الجنوب، وليست في الاتجاه المعاكس. وأخيرًا أقنعتُ الآن «نفسي» (لكن هذا يختلف تمامًا عن إقناع الآخرِين) بهذا الأمر، لكنني سأحتاج إلى وضعِ كتابٍ صغير لأُعرب عما يدور بخلَدي بالكامل في هذا الموضوع. ظللتُ لفترةٍ طويلة دون أن أرى علاقة أحد الاستنتاجات التي كنتُ قد توصلتُ إليها بهذا الموضوع. إنه يتمثل في أن الأنواع التي تعيش في منطقةٍ كبيرة جدًّا؛ ومِن ثَمَّ، تُوجد بأعدادٍ كبيرة، والتي تعرضَت لأقسى منافسةٍ مع أشكالٍ أخرى عديدة، ستصل، عن طريق الانتقاء الطبيعي، إلى مرحلةٍ أعلى من الكمال، من تلك التي تعيش في منطقةٍ صغيرة. وهكذا أُفسِّر الكثير جدًّا من الحالات الشاذة، أو ما يجوزُ تسميتها «الحفريات الحية» التي تعيش الآن في المياه العذبة فقط، بعد أن تغلبَت عليها أشكالٌ تطورت بصورةٍ أكبر في البحر وأبادتها؛ ومِن ثَمَّ، كل أسماك الجانويد هي أسماكُ مياهٍ عذبة، وكذلك سمكة السمندل الحرشفي وخلد الماء، وغيرهما. أرى نباتات أوروبا وآسيا، لما كانتا أكبر منطقتَين، الأكثر «تطورًا»؛ ومِن ثَمَّ فهي قادرة على الصمود أمام النباتات الأسترالية الأقل كمالًا؛ [في حين] أنها لم تستطعِ الصمود أمام النباتات الهندية، فلتنظر كيف تستسلم كل كائناتِ نيوزيلاندا أمام كائناتِ أوروبا. أظن أنك ستقول إن كل هذا محضُ هُراء، لكنني أعتقد أنه حقيقةٌ راسخة.
أظن أنك سوف تُقر بأن ازدهار النباتات الأسترالية في الهند ليس دليلًا على أنها استطاعت الصمود أمام عشرة آلاف طارئةٍ طبيعية آتية من نباتاتٍ أخرى وحشرات وحيوانات، إلخ، إلخ. أمَّا مسألة جنوب غرب أُستراليا ورأس الرجاء الصالح، فسألوذ بالصمت حيالها، وسأكتفي بصبِّ اللعناتِ على المسألة برمتها.
… تقول إنك تَودُّ أن ترى مخطوطتي، لكنك قرأتَ فصلي الطويل عن العصر الجليدي واستحسنته، كما أنني لم أكتب بعدُ نبذتي حول موضوع التوزيع الجغرافي برمته، ولن أبدأها قبل أسبوعَين أو ثلاثة. لكن «سيسرني» أن أرسل لك النبذة أو المخطوطة القديمة، خاصةً فصل النبذة.
لقد كتبتُ الآن ٣٣٠ ورقة من نُبذتي، وستحتاج إلى ١٥٠–٢٠٠ [أخرى]؛ هكذا سيصير مجلدًا مطبوعًا من ٤٠٠ صفحة، ولا بد أن يُطبع بصورةٍ مستقلة، وهو ما أظنه سيكون أفضل من عدة نواحٍ؛ فالموضوع يبدو لي كبيرًا جدًّا حقًّا على أن يُناقش في أي جمعية، وأعتقد أن موضوع الدين سيطرحه رجال أعرفهم جيدًا.
إنني أُفكِّر في مجلد من قَطع الاثنَي عشر، مثل الطبعة الرابعة أو الخامسة من كتابِ لايل، «مبادئ».
لقد كتبتُ خطابًا طويلًا لدرجةٍ مخجلة؛ لذا، الوداع الآن يا عزيزي هوكر.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٠ يناير، ١٨٥٩
عزيزي هوكر
أَودُّ كثيرًا أن أستعير كتابَ هير ذاتَ يومٍ في المستقبل؛ فأنا لا أريد حاليًّا قراءة أي شيءٍ مُحيِّر حتى أنتهي من نُبذتي. سيجعلني خطابك الأخير العظيم الفوائد أنتبه بشدة إلى النقاط التي ناقشناها والتي كان بها إفراطٌ في التخمين.
حين تقول إنك لا تستطيع السيطرة على تسلسُل الأفكار، أُدرك جيدًا أنها مُريبة ومُبهمة لدرجةٍ كبيرة يصعب معها السيطرة عليها. كثيرًا ما خالجني ما تُسمِّيه الشعور بالخزي من الاستغراق أكثر فأكثر في الشك كلَّما فكرتُ في الحقائق المتصلة بنقاطٍ يُحيط بها الشك ومنطقها. لكنني كثيرًا ما أُعزِّي نفسي بالتفكير في المستقبل، وبالإيمان المطلق أن المُشكلات التي نتوغل فيها الآن، ستُحل ذات يوم؛ وإننا إن مهَّدنا الأرض فحسب، فسنكون قد قدَّمنا خدمة، حتى إن لم نجنِ حصادًا.
أتفق معك تمامًا أن اختلافنا بشأن وسائل الانتشار حول «الدرجة» فحسب، وأعتقد أننا متفقان لحدٍّ معقول. إنك تُعبِّر عن التحوُّل الذي جرى لقاراتنا بأسلوبٍ مبهر جدًّا، وأنا أتفق معك تمامًا في كل ما قلته، لكنني يُساوِرني الشك فقط بشأن المحيطات.
كذلك أتفق معك تمامًا (فإنني في حالةٍ مزاجية مستعدة جدًّا للاتفاق) في «هجومك على شخصي»، بشأن عُلو النباتات الأسترالية بناءً على عدد أنواعها وأجناسها، لكن ها هو يأتي أحد عناصر الشك الجبارة المزعجة، ألا وهو تأثير الانعزال.
النقطة الوحيدة التي «أجرؤ» على الاعتراض عليها قليلًا تتعلق بحالة النباتات المستوطنة في أستراليا. أعتقد أن مولر يتحدث عن انتشارها الكبير بعيدًا عن الأراضي المزروعة، وأجد صعوبةً في تصديقِ أن نباتاتنا الأوروبية قد تشغل أماكنَ قاحلة جدًّا لا تستطيع النباتات الأصلية العيش فيها. سوف أحتاج الكثير من الأدلة لِتحملَني على تصديقِ هذا. لقد كتبتُ هذا الخطاب لأشكرك فحسب؛ ولذا، فهو لا يحتاج ردًّا كما ترى.
لقد سمعتُ هذا الصباح من فيليبس ما أدهشني وهو أن مجلس الجمعية الجيولوجية قد منحَني ميدالية وولستن!
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٣ يناير، ١٨٥٩
… مُرفقٌ طيَّه خطابان من والاس، أحدهما لي والآخر لك. تروق لي للغاية الروح التي كُتبا بها. لم أكن متأكدًا البتة مما سيقوله. لا بد أنه رجلٌ دَمْث الخلق. أرجو أن تُعيدهما لي؛ فيجب أن يعلم لايل كم هو راضٍ تمامًا. جعلني هذان الخطابان أرى بوضوحٍ كم أدينُ لك وللايل في تصرفكما الطيب والكريم جدًّا في هذه المسألة بالكامل.
… كم سأكون مسرورًا حين تكتمل النبذة؛ إذ حينها يمكنني أن أستريح!
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٢٥ يناير
[١٨٥٩]
سيدي العزيز
إنني غاية في السعادة بتلقي خطابِكَ لي وخطابك للدكتور هوكر منذ ثلاثة أيام؛ فلتسمح لي أن أُعرب عن قدْر إعجابي الصادق بالروح التي كُتبا بها. ورغم أنني ليس لي أي علاقة مطلقًا بدفع لايل وهوكر للقيام بما اعتقدا أنه تصرفٌ عادل، فإنني بطبيعة الحال لم أستطع التغلُّب على لهفتي لمعرفةِ كيف سيكون انطباعك. وإنني أَدين لك ولهما كثيرًا بطريقةٍ غير مباشرة؛ إذ يكاد يغالبني اعتقاد أن رأي لايل سيُثبت صحته، وأنني ما كنتُ سأُتم عملي الأكبر قط؛ فقد وجدت العمل في النبذة شاقًّا بما يكفي في ظل اعتلالِ صحتي، لكنني الآن، حمدًا للرب، في الفصل قبل الأخير منها. ستأتي نبذتي في مجلدٍ صغير من ٤٠٠ أو ٥٠٠ صفحة. ومتى نُشرت، سوف أرسل لك نسخةً بالطبع، وسترى حينئذٍ ما أقصده عن الدور الذي أعتقد أن الانتقاء قام به مع الكائنات الداجنة. إنه دورٌ مختلف جدًّا، كما تفترض، عن ذلك الذي يقوم به «الانتقاء الطبيعي». أرسلتُ على عنوان هذا الخطاب نفسه، نسخة من دورية «جورنال أوف ذا بروسيدينجز أوف ذا لينيان سوسايتي»، ثم أرسلتُ ما يقرب من ست نُسخٍ من البحث. ولديَّ عدة نُسخٍ أخرى تحت أمرك.
يسرني معرفة أنك تهتم بمسألة بناء الطيور للأعشاش. لقد فعلتُ هذا، لكن بهدفٍ واحد دون غيره تقريبًا، ألا وهو إثبات أن الغرائز تتبايَن، وهكذا استطاع الانتقاء التأثير فيها وتحسينها. ثَمَّةَ غرائزُ أخرى قليلة، إن جاز القول، يمكن حفظها في مُتحف.
أشكرك شكرًا جزيلًا على عرضك الانتباه لمسألة خطوط الخيول. إن كان هناك أي حمير، فلتُضِفها للدراسة رجاءً. سُررت لِسماعِ أنك قد جمعتَ أقراص عسل؛ هذه من هواياتي الخاصة، وأعتقد أن باستطاعتي إلقاء بعض الضوء على الموضوع. إن استطعتَ جمع أشكالٍ متكررة، دون أن يكون المقابل باهظًا جدًّا، فسيسُرني الحصول على بعض العينات مع بعض النحل من كلِّ نوع. إن الأقراص الناشئة التي في مرحلة النمو والشاذة وتلك التي لم يكن بها شرانق، هي الأجدى من أجل القياسات والبحث. ولا بد أن تكون حوافها محميةً جيدًا ضد الاحتكاك.
كلُّ مَن رأيتُه رأى أن بحثك مكتوبٌ بطريقةٍ جيدة جدًّا وشائق للغاية. إنه جعل أجزائي (المكتوبة في ١٨٣٩؛ أي قبل عشرين عامًا من الآن)، التي يجب أن أقول معتذرًا إنني لم أكتبها قط بهدف النشر، تتضاءل أمامه.
لقد سألتَني عن رأي لايل. أعتقد أنه محتار بعض الشيء، لكنه لا يستسلم، ويتحدث في رعب، إليَّ في كثير من الأحيان، عما سيكون، وما سيلحق بالطبعة التالية من كتاب «مبادئ»، لو كان «مضللًا». لكنه في غاية الصراحة والأمانة، وأعتقد أنه سينتهي به الحال «مضللًا». أمَّا الدكتور هوكر، فقد أوشك أن يصبح مخالفًا للإجماع مثلك أو مثلي، وإنني أراه «إلى حدٍّ كبير» أجدر حَكمٍ في أوروبا.
من كل قلبي أتمنى لك الصحة والتوفيقَ التامَّ في كل مساعيك، ويعلم الرب، إن كان النجاح يتحقق بسبب العزم والنشاط الشديدَين، فأنت أكثر من تستحقه بشدة. أمَّا أنا فأرى حياتي المهنية شبه منتهية؛ فإن استطعتُ نشر نُبذتي وربما عملي الأكبر الذي يتناول الموضوع نفسه، فسأرى أن مسيرتي قد انتهت.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢ مارس
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
إليك حقيقةً غريبة، وإن كانت بسيطة جدًّا؛ أعتقد أنه يكاد يتعذر أن نجد طائرًا يبدو أن علاقته قد تكون منعدمة بالتوزيع أكثر من طائر النوء. لقد شرَّح السير دبليو ميلنير، من سانت كيلدا، بعض أفراخ النوء الصغيرة، ووجد بذورًا كبيرة وغريبة في حوصلاتها؛ أشُك أن آباءها التقطَتها من تيار الخليج. يبدو أنه يولي تلك البذور أهميةً كبيرة. وقد طلبتُ منه (لكنني أشك أنه سيفعل) أن يرسل بذرةً إلى السير ويليام هوكر (لقد ذكرتُ اللقب لأجل الأُبهة) لأرى إن كان أيٌّ منكما يستطيع التعرُّف على اسمها وبلدها الأصلي. هلا ذكَرت «رجاءً» هذا الأمر للسير ويليام هوكر، وإن وصلت البذرة بالفعل، فهلَّا تفضَّلتَ عليَّ بإعادتها إلى «البارونيت السير دبليو ميلنير، نانابلتون، تادكاستر» في خطابٍ مسجل، وسوف أُسدِّد أنا رسوم البريد. ولترفق قصاصة الورق التي بها الاسم والبلد إن استطعت، وتخبرني بالأمر بعد ذلك. وأرجو أن تسامحني على تكليفك بهذه المشقة الكبيرة؛ فهي من الحقائق الصغيرة الغريبة التي تستهويني.
فلننتقل الآن إلى موضوعٍ آخر. لقد انتهيتُ من نُبذة الفصل الذي يتناول التوزيع الجغرافي؛ حيث إنه مرتبط بموضوعي. أَودُّ كثيرًا أن تقرأها؛ لكنني أقول هذا معتقدًا أنك لن تفعل، إن كنتَ، وهو الحال على ما أعتقد، مشغولًا جدًّا. أُقسم بشرفي إنني لن أشعر بإهانة، وأرجوك بحق ألا تقرأها، إن كان هذا سيُزعجك. وإنما أريد هذا لأنني أشعر بعدمِ أمانٍ في هذا الموضوع بوجهٍ خاص، وقد تكون الأخطاء تسلَّلَت إليه. كما أَودُّ كثيرًا أن أعلم أكثر الأجزاء التي ستعترض عليها «بشدة». أعلم أننا نختلف بدرجةٍ كبيرة، ولا بد لنا من ذلك، في عدة نقاط. وأخيرًا، أود أن أَعلمَ على الخصوصِ ما إن كنتُ قد أخذتُ منك أي شيء، تود الاحتفاظ به حتى تنشره بنفسك؛ لكن أعتقد أن أغلب ما اقتبستُه كان من أعمالك المنشورة، ورغم أنني اعترفتُ مراتٍ عدةً بمعاونتك، في هذا الفصل ومواضعَ أخرى، فإنني مدرك أنه ليس من الممكن لي أن أفعل هذا بالقدْر الكافي في النبذة. لكن فلتسمح لي أن أقول مرةً أخرى إنه لا يجب أن تعرض قراءته إن كان الأمر مضجرًا جدًّا لك. إنه طويل، وسيصير تسعين صفحة تقريبًا، حين يُنسخ بالكامل، على ما أتوقع.
أرجو أن تكونوا جميعًا بخير. لقد كان لمور بارك بعض التأثير الطيب عليَّ.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٥ مارس
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
أشكرك كثيرًا على البذرة … من الغريب أن طيور النوء في سانت كيلدا تتغذَّى فيما يبدو على بذورٍ نمَت في الهند الغربية. لا بُد من الإشارة إلى ما إن كانت من البذور التي ورَّدت إلى إنجلترا أم لا. إنني سعيد «للغاية» أنك ستقرأ مخطوطتي الخاصة بالتوزيع الجغرافي؛ إنها تُنسخ الآن، وستستغرق (في اعتقادي) عشرة أيام أو نحو ذلك حتى تتم، وسوف تُرسل بمجرد الانتهاء منها.
سيسُرني كثيرًا سماع أفكارك بشأن السمات الجنينية للنباتات؛ ستُدرِك من الجملة التي أرسلتها إليك أنني أريد ردًّا من جملة واحدة فقط؛ وهو إن كانت الحقائق كما أفترض أم لا، وسوف أعرف هذا من خطابك، والذي سأشكرك بشدة على إرساله.
كنتُ في حالٍ متردية للغاية، في الأيام الثلاثة الماضية، حتى إنني أشك أحيانًا ما إن كنت سأُنجز مجلدي الصغير أم لا، رغم أنه أوشك جدًّا على الانتهاء.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٥ مارس
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
إنني «سعيد» بما تقوله عن فصلي؛ فإنك لم تهاجمه كما خشيتُ أن تفعل. لا يبدو أنك اكتشفتَ «العديد» من الأخطاء. لقد كتبتُه كله تقريبًا من الذاكرة؛ ومِن ثَمَّ، كنتُ في خوفٍ كبير. لقد كان من الأفضل لو كان العمل قد كُتب كاملًا بإتقان أولًا، ثم كُتبَت عنه نُبذة فيما بعدُ. أعتقد أنه لا بد أن يحتوي على أخطاءٍ كثيرة في بعضٍ من آرائه العامة. سأمرُّ سريعًا فقط على بعض النقاط التي في خطابك، لكن لا تُكلِّف نفسك عناء الرد إلا إن كان لديك شيءٌ مهم لتقوله.
… أود أن أعلم ما إن كنت مندهشًا من حالة توطُّن الخفافيش في الجزر؛ إنني في اندهاشٍ كبير منها؛ ربما لدرجةٍ مفرطة.
سأنتهي غدًا من فصلي الأخير (باستثناء التلخيص) حول القرابات وتشابه النسق وعلم الأجنة، إلخ، وتبدو لي الحقائق مؤيدة «جدًّا» لقابلية الأنواع للتغيُّر.
كنت شغوفًا جدًّا بإنجاز هذا الفصل.
والآن، سأبدأ، حمدًا للرب، مراجعة الفصول الأُولى السابقة من أجل الطباعة.
غير أن صحتي الآن في تدهورٍ شديد جدًّا، لدرجة أن حتى هذا سيأخذ مني وقتًا طويلًا.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون ٢٤ [مارس]
[١٨٥٩]
عزيزي فوكس
كان كرمًا شديدًا منك أن تكتب إليَّ في خِضمِّ كل متاعبك، رغم أنه يبدو أنك قد تجاوزتَ بعضًا منها بتعافي زوجتك وتحسُّن صحتك. لم أكن قد سمعتُ مؤخرًا شيئًا عن صحة أمك، ويؤسفني ما سمِعتُه عنها. لكن حيثُ إنها لا تعاني كثيرًا، فهذا أهم ما هنالك؛ إذ أعتقد أن كبار السن لا يُعيرون الحياة أهميةً كبيرة. لا بد أنها كانت فترةً عسيرة عليك مع اضطرارك للسفر والعودة أكثر من مرة.
كلنا جميعًا على ما يُرام، وصحة ابنتنا الكبرى في تحسُّن. أمَّا عملي، فقد أَتممتُه، وأخيرًا أُنقِّح فصولي من أجل الطباعة، وأرجو الحصول على بروفات الطباعة خلال شهرٍ أو ستةِ أسابيع. أشعر بسأم من العمل. من الغريب جدًّا أنني لا أشعر أنني أُضني ذهني بالعمل، لكن تُجبرني الحقائق على استخلاص أن ذهني لم يُخلق البتة ليُفكِّر كثيرًا. لقد عقَدنا العزم على الذهاب إلى إلكلي، أو مكانٍ شبيه، لِشهرَين أو ثلاثة، بعد أن أنتهي من العمل، لأرى إن كنتُ أستطيع استعادة عافيتي بأي طريقة؛ فمن المؤكد أنها ضعُفت مؤخرًا، وأَعجزَتني عن فعلِ أيِّ شيء. إنك تجور عليَّ باعتقادك أنني أعمل من أجل الصيت؛ إنني أُقدِّره إلى حدٍّ ما، لكن إذا كنتُ أعرف نفسي، فإنني أعمل مدفوعًا بغريزةٍ ما لمحاولةِ تبيُّن الحقيقة. كم سأكون سعيدًا إن استطعتَ أن تأتي إلى داون يومًا ما، لا سيما حين يتحسن بي الحال قليلًا؛ فما زلت أرجو هذا. لقد نصبنا طاولة بلياردو، وأرى أن فيها فائدةً عظيمة لي، وأنها تُخرج موضوع الأنواع الشنيع من رأسي. الوداع يا صديق العمر العزيز.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٨ مارس
[١٨٥٩]
عزيزي لايل
إن ظللتُ بحالٍ جيد إلى حدٍّ مناسب، فأرجو أن أستطيع طباعة مجلدي قريبًا في مايو. لمَّا كان الأمر كذلك، أَودُّ بشدة أن ألتمس منك نصيحةً صغيرة. بناءً على جملةٍ جاءت في خطاب السيدة لايل، يُخيَّل لي أنك قد تحدثت إلى موراي. هل هذا صحيح؟ وهل هو على استعداد لنشر نُبذتي؟ إن أخبرتني ما إن كان أيُّ شيء قد حدث، وبما حدث، فسوف أكتب إليه حينذاك. هل يعلم بموضوع الكتاب من الأساس؟ ثانيًا، هل تستطيع نصحي ما إن كان من الأفضل ذكر شروط النشر التي سوف أُفضِّلها أم أطلب منه أن يقترح هو شروطًا أولًا؟ وما قد تكون الشروط المناسبة للنشر في اعتقادك؟ تقاسُم الأرباح، أم ماذا؟
أخيرًا، هلا تكرَّمتَ بالاطلاعِ على العنوان المرفق طَيَّه وإعطائي رأيك وأي اعتراضات؛ يجب أن تتذكَّر أنني، إن ظللتُ في صحةٍ جيدة وكان الأمر جديرًا أن أَفعلَه، لديَّ كتابٌ كامل أكبر كثيرًا قارب النهاية حول الموضوع نفسه.
ستصير نبذتي في نحو خمسمائة صفحة في حجم الطبعة الأُولى من كتابك «عناصر الجيولوجيا».
أرجو أن تسامحني على إزعاجك بالاستفسارات السابقة؛ فلن تلقى المزيد من الإزعاج حول هذا الموضوع. آمل أن الحياة تسير معك على ما يُرام، وأن تُحقِّق النجاح في أعمالك المختلفة.
إنني أكِدُّ جدًّا في العمل لدرجة لم أعتَدْها، وأتوق لأن أنتهي منه وأكون حرًّا وأُحاول استعادة بعضٍ من عافيتي.
أتقدم إليك بخالص آيات الشكر على تسلُّمكَ ميدالية وولستن بالنيابة عني.
أم الأفضل ألا أقول لموراي «شيئًا»، وأن أفترض أنه لا يمكنه الاعتراض على هذا القدْر من الابتداع، الذي لا يزيد في الواقع عن أيِّ دراسةٍ جيولوجية تُعارض سِفرَ التكوين معارضةً مباشرة؟
المرفق:
نبذة عن مقال
حول
أصل
الأنواع والضروب
عن طريق الانتقاء الطبيعي
بقلم
تشارلز داروين، ماجستير في الآداب
زميل الجمعية الجيولوجية والجمعية الملكية والجمعية اللينية
لندن:
إلخ، إلخ، إلخ، إلخ.
١٨٥٩.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٣٠ مارس
[١٨٥٩]
عزيزي لايل
كنتَ كريمًا لدرجة فاقت الحدود في كلِّ ما فعلتَه؛ فإنك لم تُوفِّر عليَّ كثيرًا من العناء وبعض القلق فحسب، بل لقد فعلتَ أيضًا الأمر كله على نحوٍ أفضل مما كنت سأستطيع أنا بمراحل. وإنني سعيد جدًّا بكلِّ ما قلته بشأن موراي. وسوف أكتب إليه اليوم أو غدًا، وبعدها بفترةٍ قصيرة سأُرسل إليه طردًا كبيرًا بالمخطوطة، لكنني للأسف لن أستطيع فعل هذا قبل أسبوع؛ حيث إن الفصول الثلاثة الأولى بين أيدي النُّسَّاخ.
يؤسفني اعتراضُ موراي على كلمة «نُبذة»؛ إذ أراها الاعتذار الوحيد الممكن على «عدم» إعطاء المراجع والحقائق كاملة، لكنني سأُذعن له ولك. إنني آسف كذلك بشأن مصطلح «الانتقاء الطبيعي». وأرجو أن أحتفظ به مع تفسيرٍ مثل هذا:
«عن طريق الانتقاء الطبيعي، أو حفظ السُّلالات المفضَّلة.»
سبب حبي لهذا المصطلَح هو أنه يُستخدم باستمرار في كل الأعمال التي عن الاستيلاد، حتى إنني مندهش أنه ليس مألوفًا لموراي، لكنني درستُ تلك الأعمال طويلًا حتى إنني لم أعُد حَكمًا كفؤًا.
مرةً أخرى أشكرك بكل صدقٍ وحرارة على مساعدتك الشديدة الأهمية بحقٍّ لي.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢ أبريل
[١٨٥٩]
… لقد كاتبتُه [السيد موراي] وأعطيتُه عناوين الفصول، وأخبرتُه أنه لن يمكنه الحصول على المخطوطة قبل عشرة أيامٍ أو نحو ذلك؛ وهذا الصباح تلقيتُ خطابًا، عرض فيه شروطًا رائعة، ووافق على النشر دون رؤية المخطوطة! إذن فهو متحمس جدًّا؛ على أي حال أعتقد أنني كان لا بد أن أتوخى الحذر، لكنني، بسبب خطابك، أخبرته «بأقصى درجات الوضوح» أنني سأقبل عرضه بشرطٍ وحيد، وهو أن يكون له كل الحق في التراجُع، بعد رؤية المخطوطة كلها، أو جزء منها. ستعتقد أنني مغرور، لكنني أعتقد أن كتابي سيحظى إلى حدٍّ ما بالشهرة (شهرةٍ كافية لِتقيَه الخسارة الفادحة) وسط العلماء وأشباههم؛ أمَّا سبب اعتقادي هذا، فهو أنني قد وجدتُ في حواراتي مع هؤلاء الرجال، وبعض الرجال غير العلميِّين، اهتمامًا كبيرًا ومدهشًا جدًّا بهذا الموضوع، كما أن فصولي ليست كلها في جفاف وملل ذلك الذي قرأته عن التوزيع الجغرافي. على أيِّ حال، ينبغي أن يكون موراي أفضل من يفصل في ذلك؛ فإن اختار أن ينشره، فأعتقد أنه سيجوز لي إعفاء نفسي من أيِّ مسئولية. وإنني مطمئن أن صديقيَّ؛ أي لايل وأنت، قد بلغ بهما الكرم مبلغه فيما تكبداه في سبيل هذا الموضوع.
سيسُرني أن أراك في اليوم السابق للجمعة الحزينة، لكن سيكون ثَمَّةَ منفعة لك في أي يومٍ آخر غيره — إذ أعتقد أن أولادي سيأتون للمنزل في ذلك اليوم — وسيكون شبهَ مستحيلٍ أن أتمكن من إرسال العربة لك. وأعتقد أنه سيكون لدينا بعض الأقارب في المنزل، لكن أرجو ألا تُبالي بذلك؛ حيث لا شك أنه سيتيسر لنا الحديث بقدْرِ ما يسمح ضعف حالي. ستسُرني رؤيتك أيما سرور.
… إنني متعب؛ لذا لن أزيد عن ذلك.
… لا أملك التغلُّب على شكٍّ ضئيل بأن لايل سيعاني كثيرًا حتى يحث موراي على نشر كتابي، لكن لم يكن هذا بناءً على طلبي، بل إنه بالأحرى يحز في كبريائي.
أعلم أن لايل كان كريمًا «لأقصى درجة» بشأن مسألتي، لكن كتابتك كلمة «حث» مع وضعِ خطٍّ تحتها تُوحي بأن لايل قد حثَّ موراي دون وجهِ حق.
من تشارلز داروين إلى آسا جراي
٤ أبريل [١٨٥٩]
… طلبتَ مني أن ترى أوراقي مطبوعة؛ أؤكد لك أن القيام بذلك سيجعلني في «غاية» الرضا؛ إذ أرى هذا الطلب إطراءً رفيع المستوى. ولك أن تطمئن أنني لن أنسى طلبًا أراه معروفًا. لكنني (ويا لها من «لكن» ثقيلة عليَّ) لن أطبع قبل مدةٍ طويلة؛ ويُمكنني أن أقول بأمانة إنني لا أتبطل عن العمل «مطلقًا»؛ بل إنني أعمل عملًا شاقًّا جدًّا بالنظر لصحتي المتدهورة للغاية؛ رغم ذلك فإني لا أستطيع أن أعمل سوى ثلاثِ ساعاتٍ يوميًّا، ولا أدري مطلقًا متى سأنتهي من العمل. لقد أنجزتُ أحد عشر فصلًا طِوالًا، لكن لديَّ بعض الفصول الأخرى الصعبة جدًّا، مثل فصول علم الحفريات والتصنيفات وعلم الأجنة، إلخ؛ وعليَّ تصحيح كل التي تمت وإضافة الكثير إليها. للأسف، أجد أن كل فصل يأخذ مني ثلاثة شهور في المتوسط، فكم أنا بطيء! كذلك ليس للاستطرادات الضرورية نهاية. لقد انتهيت للتو من فصل حول الغريزة، حيث وجدت أن تناول موضوع مثل موضوع خلايا النحل، ومقارنة كل ملحوظاتي التي جمعتها خلال عشرين عامًا، استغرقا فترة زمنية طويلة ومثيرة للإحباط.
لكنني استفضت في الحديث عن نفسي بأسلوب غاية في الأنانية. بيد أنه لا بد فقط أن أقول كم وجدت مرارًا وتكرارًا أن خطاباتك، التي كنت أطالعها وأقتبس منها مؤخرًا، مفيدة! لكن لست بحاجة لأن تخشى أن أقتبس منها أي شيء مما قد لا يروق لك؛ إذ أحاول توخي أشد الحذر في هذا الصدد. أرجو من كل قلبي أن توفَّق في التخلص من «كابوس» العمل القديم، وأن تصير رجلًا حرًّا بعض الشيء.
مرة أخرى اسمح لي أن أخبرك أنني أشعر حقًّا بالامتنان لك.
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، ٥ أبريل
[١٨٥٩]
سيدي العزيز
أرسل مع هذا الخطاب العنوان (مع بعض الملحوظات في صفحة مستقلة)، والفصول الثلاثة الأولى. إن كان لديك الصبر لقراءة الفصل الأول بأكمله، فأعتقد حقًّا أنه سيصير لديك فكرةٌ معقولة عن موضوع الكتاب بالكامل. قد يكون ذلك غرورًا، لكنني أعتقد أن الموضوع سيُثير اهتمام العامة، (وإنني متأكد أن ما به من آراءٍ أصلية.) إن كنت ترى غير ذلك، فلا بد أن أُكرِّر طلبي أن ترفض عملي بحرية؛ ورغم أنني سأحبط قليلًا، فلن أشعُر بإهانةٍ بالمرة.
إن اخترتَ قراءة الفصلَين الثاني والثالث، فستجد، في رأيي، فصلًا مملًّا وعويصًا بعض الشيء، وآخر سهلًا ومسليًا.
بمجرد أن تفرغ من المخطوطة، أرجوك أن ترسلها مع «مرسالٍ حذر»، و«تُوجِّهها توجيهًا واضحًا» إلى الآنسة جي توليت، ١٤، شارع كوين آن، ميدان كافينديش.
لما كانت هذه الآنسة خبيرةً ممتازة في الأسلوب، فسوف تنتبه للأخطاء من أجلي.
لا بد أن تأخذ وقتك في القراءة، لكن كلما سارعتَ في إتمامها، سارعَت هي، وسارعتُ أنا في الذهاب بعملية للمطبعة، وهو ما أتمناه بشدة.
أفترض أنك سترغب في رؤية الفصل الرابع، حجر الزاوية في بنائي، والفصلَين العاشر والحادي عشر، لكن أرجوك أن تُبلغني بذلك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١١ أبريل
[١٨٥٩]
… أكتب إليك خطابًا قصيرًا لأقول إنني تلقيت خطابًا من موراي أمس، حيث يقول إنه قد قرأ أول ثلاثة فصول من مخطوطتي (ويشمل هذا فصلًا مملًّا جدًّا)، وما زال ملتزمًا بعرضه. إذن فهو لا يريد المزيد من المخطوطات، وبإمكانك إرسال فصل التوزيع الجغرافي متى تريد.
[يبدو أن جزءًا من المخطوطة قد ضاع في طريق عودته إلى أبي؛ فقد كتب (في ١٤ أبريل) إلى السير جيه دي هوكر قائلًا]:
لديَّ المخطوطة القديمة، ولولا هذا لكانت الخسارة قد قتلتني! السيئ في الأمر الآن أن هذا سيُسبِّب تأخيرًا في بلوغ العمل المطبعة، و«الأسوأ» هو خسارة فائدة اطلاعك على فصلي، ما عدا الجزء الثالث الذي عاد. يؤسفني بشدة أن السيدة هوكر تجشَّمَت مشقة نسخ الصفحتَين.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
[أبريل أو مايو،
١٨٥٩]
… أرجو ألا تخبر أحدًا أنني اعتقدتُ أن كتابي عن الأنواع سيحظى بشهرةٍ معقولة، ويحقق مبيعات مجزية بعض الشيء (وهو ما كان أقصى طموحي)؛ إذ إن فشل فشلًا ذريعًا، فسيجعلني ذلك أبدو أكثر حماقة.
أرفق إليك نقدًا، عينة مما سيحدث مستقبلًا:
خطاب المبجل إس هوتون أمام الجمعية الجيولوجية، دبلين [٩ فبراير، ١٨٥٩]:
هذا التخمين الذي تقدَّم به السيدان داروين ووالاس ما كان ليستحق الاهتمام لولا ثقل نفوذ الاسمَين (أي، اسمك واسم لايل)، اللذَين طُرح تحت رعايتهما. وإن كان يعني ما ينطق به، فهو شيء بديهي؛ وإن كان يعني شيئًا أكثر من ذلك، فهو منافٍ للحقيقة.
وهو المطلوب إثباته.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١١ مايو
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
أشكرك على إخباري بوجود غموض في الأسلوب. لكن لَعمري ما كان لعبدٍ يُقرع بالسوط أن يستطيع الاجتهاد في سبيل الوضوح أكثر مما فعلت. إلا أن صعوبة القيام بذلك في حد ذاتها تؤدي لاحتمالية فشلي فيه. رغم ذلك لم تجد الآنسة التي قرأت مخطوطتي كلها سوى جملتَين أو ثلاثٍ غامضة، لكن بما أن السيدة هوكر قد وجدتها غامضة كذلك، فهذا كفيل بأن يجعلني أرتعد؛ لذا سوف أبذل قصارى جهدي في البروفات. إنك رجلٌ رائع للاهتمام بالكتابة عن هذا الأمر.
فيما يتعلق بحالة الاختلاف التي بيننا، فلم يخطر لي للحظة أن أحدنا لا يستطيع توضيح أفكاره للآخر بالحديث، أو بالكتابة بإسهاب، إن أُتيح لأيٍّ منا الوقت.
يُخيَّل لي من بعض التعبيرات (لكن إن سألتَني ما هي، لن أستطيع الإجابة) أنك ترى القابلية للتباين باعتبارها عارضًا ضروريًّا بالنسبة للكائنات، بل إن ثَمَّةَ نزعة ضرورية في القابلية للتباين لأن تؤدي للتشعُّب في الطابع أو الدرجة. «إن كان هذا هو ما تراه»، فأنا أختلف معك. ومرةً أخرى، أنا لا أرى «الارتداد» (وهو نوع من الوراثة) مرتبطًا ارتباطًا مباشرًا بالتباين على الإطلاق، رغم ما للوراثة من أهميةٍ أساسية لنا بالطبع؛ إذ إن لم يُورث تباين ما، فلن يكون ذا اعتبار لنا. «خُيل لي» أن نقاط انطلاقنا ربما كانت مختلفة في نقاطٍ مثل هذه.
أخشى أن كتابي لن يستحق على الإطلاق الأشياء الجميلة التي تقولها عنه؛ يا إلهي، كم أتطلَّع بشدة لأن أنتهي منه!
دعني الآن أنتقل لموضوعٍ آخر. لقد تلقيتُ بحث إيه جراي وقد «أثار اهتمامي بشدة». إنني سعيد بملحوظته عن بحثي أنا ووالاس. إنه سيغير من آرائه؛ فليس من المجدي أن يسقط أنواعًا كثيرة جدًّا، ويتوقف عند أخرى اعتباطيًّا. هذا ما قاله جدي عن التوحيدية بأنها «فراش وثير لتلقُّف المسيحيِّين الزائغين عن الطريق القويم.»
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١٨ مايو
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
لقد تدهورت صحتي تمامًا. وسأغادر غدًا للحصول على أسبوع من العلاج المائي. يؤسفني جدًّا حقًّا أن أقول إنني لا أستطيع الاطلاع على أي بروفات [من المقال التقديمي لعمل هوكر «نباتات أستراليا»] خلال هذا الأسبوع؛ إذ إن هدفي هو إخراج الموضوع من رأسي. وسوف أعود بعد أسبوع. يمكنك الاحتفاظ بالبروفات حتى عودتي للمنزل، إن كان الأمر يستحق ذلك، لكنه على الأرجح لا يستحق.
… أكتب إليك خطابًا قصيرًا لأخبرك أنني سوف أعود يوم السبت، وإن كان لديك أي بروفات طباعة لترسلها، فسيسرني أن أفعل ما في وسعي لفحصها.
لقد كنت … في إعياءٍ ذهني وجسدي شديد، لكن الراحة التامة والاستحمام بالمنضحة ورواية «آدم بيد»، معًا جعلتني في حالٍ طيب للغاية.]
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، ١٤ يونيو [١٨٥٩]
سيدي العزيز
سيفي الرسم بالغرض تمامًا، وسوف أرسله إلى السيد ويست قريبًا لإجراء بعض التعديلات البسيطة عليه.
يمضي بي العمل في البروفات بطيئًا جدًّا. أتذكر أنني كتبت إليك أنني كنت أعتقد أنه لن يكون ثَمَّةَ الكثير من التصويب. لقد كتبت ما اعتقدته بكل أمانة، لكنني كنت مخطئًا بشدة. إنني أجد الأسلوب سيئًا لدرجة لا تُصدَّق، ويصعب جدًّا جعله واضحًا وسلسًا. ويؤسفني للغاية أن أقول إن التصحيحات، من ناحية التكلفة، وضياع الوقت بالنسبة لي، فادحة جدًّا، كأشدِّ ما تكون الفداحة. لكن بعد اختلاس بعض النظرات السريعة، ما زلت أرجو ألا تكون الفصول التالية مكتوبة بالأسلوب الركيك نفسه. إنه غير معقول على الإطلاق أن تكون الكتابة بهذه الدرجة من الرداءة، لكن أفترض أن هذا راجعٌ لانصبابِ جل اهتمامي على الخطوط العامة للموضوع، بدلًا من التفاصيل. في النهاية، لا يسعني سوى أن أقول إنني في غاية الأسف.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢١ يونيو
[١٨٥٩]
رغم أنني أعمل بكدٍّ شديد، فإنني أتقدم ببطء؛ إذ أجد تصويباتي كثيرة لحدٍّ رهيب، والعمل في غاية الصعوبة عليَّ. لقد صححتُ ١٣٠ صفحة، والمجلد سيقع في ٥٠٠ صفحة. وقد قمتُ بكلِّ ما في وسعي لأجعله واضحًا ومميزًا، لكن أخشى بشدة أن أكون قد فشِلتُ في ذلك — فالعديد من النقاشات محيرة جدًّا ولا بد أن تكون كذلك. لقد بذلتُ قُصارى جهدي. لو كان معك كل ما لديَّ من مواد، فلديَّ يقين أنك كنت ستؤلف كتابًا رائعًا. أتلهف بشدة للانتهاء منه؛ فإنني على شفا الإنهاك.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ٢٢ [يونيو،
١٨٥٩]
عزيزي هوكر
لم أرُدَّ على خطابك المبهج، بتاريخ ٣٠ مايو، الذي حمل كثيرًا من الأخبار السعيدة لي لأنني كنت منتظرًا منك إرسال بروفات طباعة. لكن الآن، بما أنني ليس لديَّ شيء على وجه الخصوص لأفعله، ها أنا أرسل خطابًا، رغم أن ليس لديَّ شيء معين لأقوله أو أطلبه. في الواقع، كيف يمكن لرجل أن يكون لديه أي شيء ليقوله وهو يقضي كل أيامه في تنقيح بروفاتٍ بغيضة؛ وبروفات كتلك! عليَّ بحق تسويدها بالحبر، وتثبيت قصاصاتِ ورق عليها؛ فقد وجدت الأسلوب بائسًا جدًّا. قلت إنك قد حلمت بأن كتابي كان «مسليًا»؛ أوشك هذا الحلم أن يتلاشى بالنسبة لي، وبدأت أخشى أن العامة سيجدونه جافًّا ومحيرًا لدرجة لا تحتمل. لكنني لن أنكر أبدًا أنه كان بإمكان شخصٍ أفضل مني أن يُعِد كتابًا رائعًا من المواد التي لديَّ. سرَّني سماع أخبار بحث بريستويتش. كنت أشك (وأرى أن رايت قد عبر عن الشك نفسه في دورية «ذا أثانيام») ما إن كانت قطع الصوان أدوات فعلًا؛ حيث إن أعدادها تجعلني أشك، وحين رأيت رسوم بوشيه دي بيرت، استنتجت أنها كانت شظايا ذات زوايا حطمها النشاط الجليدي.
هل جاءت تجربة تهجين أشجار الأكاسيا بأي نتائجَ مثمرة؟ إنني في غاية الإجهاد من العمل، حتى إنني لا أقوى على إجراء أي تجارب. لقد فرغتُ فقط من ١٥٠ صفحة من البروفة الأولى.
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
داون، ٢٥ يوليو
[١٨٥٩]
سيدي العزيز
أكتب إليك لأخبرك أن خمس ورقات ستُرسل للمطبعة لطباعتها، بينما ستحتاج ورقتان أخريان مراجعة فحسب؛ هكذا أفترض أن عليك أن تُقرِّر قريبًا عدد النسخ التي ستُطبع.
إنني غير قادر على التوصُّل لرأي بالمرة. إذ أعتقد أنني جعلت الأسلوب جيدًا وواضحًا «لحد معقول»، بمعاناةٍ شديدة. لكنني لا أستطيع حقًّا أن أُخمِّن ما إن كان الكتاب سيصبح ناجحًا لدرجة ترضيك أم لا. لكنني أرجو ذلك من كل قلبي.
من تشارلز داروين إلى إيه آر والاس
داون، ٩ أغسطس، ١٨٥٩
سيدي العزيز والاس
لقد تلقيت خطابك وبحثك [ربما كان هذا بحثه «عن التوزيع الجغرافي للحيوانات في أرخبيل المالايو»] في السابع من هذا الشهر، وسوف أرسل الأخير غدًا إلى الجمعية اللينية. لكن لتعلم أنه لن ينعقد اجتماعٌ حتى مستهل نوفمبر. يبدو لي بحثك «جديرًا بالتقدير» من ناحية الموضوع والأسلوب والاستدلال؛ وأشكرك على السماح لي بقراءته. لو كنت قرأته منذ عدة أشهر، لكنت استفدت منه في مجلدي القادم. لكن الفصلين اللذين تناولت فيهما هذا الموضوع جاهزان للطباعة، ورغم أنهما لم يُنقحا بعد، فإنني منهك وخائر الصحة حتى إنني عزمت تمامًا ألا أضيف لهما كلمةً واحدة، وأن أقتصر على تحسين الأسلوب فقط. سترى أن آرائي تكاد تكون مثل آرائك، ولك أن تثق أنني لن أُغيِّر كلمةً واحدة بسبب قراءتي لأفكارك. هل تعلم أن السيد دبليو إيرل نشر منذ عدة سنوات عن توزيع الحيوانات في أرخبيل الملايو، وعلاقته بعمق المياه بين الجزر؟ لقد اندهشت كثيرًا من هذا، وظللت أسجل كل الحقائق المتعلقة بالتوزيع في ذلك الأرخبيل، وغيره، فيما يتعلق بهذا الشأن. وتوصلت لاستنتاجٍ مفاده حدوث قدْرٍ كبير من الاستيطان في جزر الملايو المختلفة، وهو ما قد يبرر إلى حدٍّ ما، في اعتقادي، الحالات الشاذة. وكانت تيمور أكبر أسباب حيرتي؛ فما رأيك في حيوانات السنور الغريبة هناك؟ أتمنى أن تكون قد زرت تيمور؛ فقد تأكد العثور على حفرية لسن مستودون أو فيل (لا أذكر أيهما) هناك، وهو ما سيُشكل واقعةً هامة. كنت أعلم أن جزيرة سيليبز كانت مختلفة جدًّا؛ لكن العلاقة بأفريقيا جديدة تمامًا بالنسبة لي، ومدهشة، وتكاد تستعصي على التصديق. إنها في غرابة العلاقة بين «النباتات» في جنوب غرب أستراليا ورأس الرجاء الصالح. أختلف معك «كليةً» في مسألة استيطان الجزر المحيطية، لكنك ستجد «الجميع» في صفك. وأتفق تمامًا فيما يتعلق بكل الجزر التي لا تُوجد بعيدًا في المحيط. كذلك أتفق تمامًا بشأن وقوع هجراتٍ متبادلة صغيرة عابرة بين الأراضي [الجزر؟] حين كانت عامرة بالكائنات، لكن لا أعتقد أن هذا ينطبق على الجزر المرتفعة والقليلة الكائنات. هل تدرك أن الطيور تأتي مع الرياح إلى ماديرا وجزر الأزور (وإلى برمودا من أمريكا) «سنويًّا»؟ ليتني أعطيتُ نُبذةً أكثر اكتمالًا بأسبابي لعدم الإيمان بنظرية فوربس عن الامتدادات القارية الكبرى؛ لكن فات الأوان، فلن أغير أي شيء — إذ إنني منهك ويجب أن أنال قسطًا من الراحة. لا يساورني شك أن أوين سيعارضنا معارضةً مريرة. سينشر هوكر مقدمةً عظيمة عن نباتات أستراليا، وسيسهب في التفاصيل. وقد رأيت بروفات نصف الكتاب تقريبًا. لك مني أطيب الأمنيات.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١ سبتمبر
[١٨٥٩]
… لست مندهشًا أنك وجدت مقدمتك في غاية الصعوبة. لكن لا تمتعض مما بذلته من جهد، ولا تقل إن «جهدك قد ضاع سُدًى» وإنك «في مأزقٍ شديد»؛ فلديَّ يقين أن النتيجة ستكون مكافئة للجهد المبذول. إن كنت لست مغفلًا، فلا بد أن أكون خبيرًا إلى حدٍّ ما بقيمة مثل هذه المقالات العامة، وإنني مقتنع تمامًا أن مقالاتك هي أهم ما نُشر على الإطلاق.
لقد نقحت كتابي كله ما عدا الفصلَين الأخيرَين، وأرجو أن أنتهي من عمليات المراجعة وكل شيء خلال ثلاثة أسابيع تقريبًا، وبعدها سأسافر (أو نسافر جميعًا) من أجل بضعة شهور من جلسات العلاج المائي؛ لقد صارت صحتي في حالٍ سيئ جدًّا، وصرت ضعيفًا كالطفل، وغير قادر على فعل أي شيء مطلقًا، ما عدا ساعات العمل الثلاثة اليومية في بروفات الطباعة. يعلم الرب ما إن كنتُ سأصبح قادرًا على فعل أي شيء مرةً أخرى. ربما تأتي الراحة الطويلة والعلاج المائي بنتائج جيدة.
لم يصلني مقال إيه جراي بعد، ولا أشعر أنني قادر على نقده، حتى إن واتتني الوقاحة والشجاعة لذلك؛ فلتصدقني أنني أنطق بالحقيقة التامة حين أقول إن مقالك عن أستراليا يثير اهتمامي «للغاية»، لدرجة أنني سأستمتع بإعادة قراءته، وإن كنت تعتقد أن مؤاخذاتي ذات أي أهمية لك، فأرجوك أن ترسل لي البروفات (إن كنت تستطيع الانتظار حتى أصير أفضل حالًا)؛ إلا أنني أفضل قراءة المقال حين يُنشر، إن لم أستطع أن أُسدي إليك القليل من المساعدة، مهما كانت قليلة. أرجو أن تدرك أنني سوف أستاء «بحق» إن لم أقرأها لأجلك إن أردت ذلك.
لقد عانيت من نوبةِ مرضٍ طويلة أمس، مما يجعلني أرى العالم شديد الكآبة اليوم، وتحدوني رغبةٌ عارمة لحد الجنون للانتهاء من كتابي البغيض؛ فلم أَرَ من قبلُ قَط تلك التصويبات التي احتاجتها كل صفحة. إنه يبعث على الإعياء الشديد، ويستحوذ على فترةِ ما بعد الظهيرة كلها، حيث لا أفعل شيئًا مطلقًا بعد الساعة الثانية عشرة. لكنني لن أتذمر أكثر من ذلك. الوداع، وأرجو أن نلتقي في الشتاء.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢ سبتمبر
[١٨٥٩]
… يسرني كثيرًا أنك تَودُّ رؤية بروفات الطباعة بعد الانتهاء من تنقيحها! كان يجب أن أعرضها عليك، لكن لم أعلم ما إن كنت ستراها مملة أم لا؛ لقد أرسلت خطابًا في هذا الصباح لموراي حتى يرسلها. للأسف لم أصل لأكثر جزء سيثير اهتمامك، حسبما أعتقد، وهو الذي يؤيد النظرية بشدة؛ أي الجزء الخاص بالتعاقُب الجيولوجي والتوزيع الجغرافي، وبوجهٍ خاص علم التشكُّل وعلم الأجنة والأعضاء الأثرية. سأحرص على أن تُرسل الصفحات المتبقية إليك عند طباعتها. لكن هل تَودُّ أن أرسل النسخ الأخيرة الخالية من الأخطاء بمجرد أن أصححها؟ إن كنت تريد ذلك، فلترسل لي عنوانك في ظرفٍ فارغ. أرجو أن تقرأها كلها، سواء كانت مملة (خاصة الجزء الأخير من الفصل الثاني) أم لا؛ فإنني مقتنع أنه لا يُوجد جملة إلا ومرتبطة بحجة العمل ككل. سوف تجد الفصل الرابع محيرًا ومبهمًا، دون مساعدة الرسم الغريب المرفق [الذي يبين علاقة الانحدار بالتشعُّب]، الذي سأرسل منه بروفة قديمة وعديمة الجدوى. لقد أكثرتُ جدًّا في التصحيح، كما يقول موراي، حتى إنني أعدتُ كتابته تقريبًا؛ ورغم ذلك أخشى أن يكون مكتوبًا على نحوٍ سيئ؛ فالأجزاء متشابكة؛ ولا أعتقد أنه حتى أنت تستطيع أن تجعلها واضحة تمامًا. أرجوك ألا تتعجل التقيُّد (مثل كثير جدًّا من علماء التاريخ الطبيعي) ببلوغ حدٍّ معين وعدم تخطيه فيما يتعلق بقبول النظرية؛ فلديَّ قناعةٌ راسخة أنه من الضرورة الشديدة تخطي كل الحدود بقبول النظرية بالكامل، أو التمسك بفكرة الخلق المستقل لكل نوع؛ أناقش هذه النقطة بإيجاز في الفصل الأخير. ولتتذكر أن التأثير الذي سيحدثه حكمك غالبًا ما سيفوق تأثير كتابي في تحديد ما إن كانت وجهات النظر التي أتبناها ستُقبل أو ترفض في الوقت الحاضر؛ أمَّا في المستقبل فلا يمكن أن يساورني الشك في قبولها، وأن الأجيال القادمة ستتعجب من الاعتقاد السائد كما نتعجب من الاعتقاد الذي كان سائدًا بأن الأصداف المتحجرة قد خُلقت على الصورة التي نراها عليها الآن. لكن فلتسامحني على الإسهاب في الحديث عن الموضوع الذي يشغلني.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
داون، ١١ [سبتمبر]،
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
لقد صححت البروفة الأخيرة أمس، ولديَّ الآن النسخ المنقحة والفهرس، إلخ، التي سأعمل فيها حتى قرب نهاية الشهر. وهكذا سينتهي أصعب جزء من العمل، حمدًا للرب.
أكتب إليك الآن لأقول إن ضميري يؤنبني لتردُّدي إزاء الاطلاع على بروفاتك، لكنني كنت أشعر بتوعُّك وإرهاق لحدٍّ فظيع حين كتبت إليك. أنا لا أعتقد أن بإمكاني أن أكون مفيدًا لك على الإطلاق، ولكن إن كان بإمكاني ذلك، فأرجوك أن ترسل لي أي بروفات. سوف أكون (بل أخشى أنني كنت) أجحد الرجال للتردُّد في فعل أيِّ شيء بعد خمسة عشر عامًا أو أكثر من مساعدتك لي.
بمجرد أن أنتهي من العمل تمامًا، سأذهب إلى إلكلي، أو أي مصحةٍ أخرى للعلاج المائي. لكن ما زال أمامي بعض الوقت؛ فقد صارت بروفاتي ملتبسة بالتصويبات، حتى إنه عليَّ التصحيح بكثرة في النسخ المنقحة.
اقترح موراي نشر الكتاب في الأسبوع الأول من نوفمبر. أوه، يا إلهي، كم سيرتاح ذهني وجسدي حين أُقصي الموضوع برمته عن رأسي!
أدعو الرب ألا تراني فظًّا فيما يتعلق بمسألة بروفاتك.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٠ سبتمبر
[١٨٥٩]
عزيزي لايل
كنت من قبل سببًا في سعادتي الغامرة، أو بالأحرى بهجتي، بسبب طريقة اهتمامك بأفكاري عن الشعاب المرجانية، التي لم أكن أتوقعها قط، والآن أعطيتني مرةً أخرى سعادة مشابهة بالطريقة التي أشرتُ بها إلى عملي حول الأنواع [وذلك في اجتماع الجمعية البريطانية في أبردين عام ١٨٥٩.] لا يمكن لشيء أن يجعلني أكثر سعادة من ذلك، وإنني أشكرك على ما أسديتَه لي، بل أشكرك أكثر لما قدمته الموضوع، حيث أعلم جيدًا أن هذه الكلمة ستجعل الكثيرين ينظرون للموضوع بإنصاف بدلًا من الاستهزاء به. ورغم أن ما ساورك من شكوك في السابق بشأن عدم قابلية الأنواع للتغير، قد يكون له دور أكبر في تغيير وجهة نظرك (إن كانت قد تغيرت) من كتابي؛ فإنه لما كنتُ أرى أن حكمك أهم لديَّ، وأعتقد لدى العالم من عدة رجالٍ آخرين، فإنني بطبيعة الحال في لهفةٍ شديدة لسماعه؛ ومِن ثَمَّ، أرجوك أن تظل منفتح الذهن حتى تتلقى (ربما خلال أسبوعين) فصولي الأخيرة، التي تُعد الأهم من بين كل الفصول في الجانب المؤيد لقابلية الأنواع للتغير. أعتقد أن الفصل الأخير، الذي يُلخِّص كل الحجج المؤيدة والمعارضة ويوازن بينها، سيكون مفيدًا لك. لن أستطيع التعبير عن اقتناعي الشديد بصحة معتقداتي، ويعلم الرب أنني لم أتجاهل أي صعوبة قط. أتلهف لحد الحماقة لسماع حكمك، ليس لأنني سأُصاب بإحباط إن لم تغير وجهة نظرك؛ إذ أتذكر السنوات الطوال التي استغرقتها حتى أغير اتجاهي، لكنني سأكون في غاية السرور إن غيرت رأيك، ولا سيما إن كان لي نصيبٌ كبير في هذا التحوُّل، وسأشعر حينذاك أن مساري المهني قد انتهى، ولن أهتم كثيرًا ما إن كنت مفلحًا في أي شيء ثانيةَ في هذه الحياة.
أشكرك شكرًا جزيلًا على السماح لي بذكر عبارة [في كتابي] عن شكك العميق في هذا الشأن. والآن، كفى حديثًا عن نفسي.
لقد قرأت باهتمامٍ بالغ البحث الذي قُرئ في أبردين بشأن الأدوات المصنوعة من الصوان؛ لقد جعلت المسألة برمتها أوضح كثيرًا لي؛ أفترض أنك لم تعتقد أن الدليل كافٍ فيما يتعلق بالعصر الجليدي.
أشكرك مخلصًا على إشارتك الرائعة إلى كتابي.
ولك مني كل الصدق يا عزيزي لايل، تلميذك المحب.
من تشارلز داروين إلى دبليو دي فوكس
داون، ٢٣ سبتمبر
[١٨٥٩]
عزيزي فوكس
سرني جدًّا تَلقِّي خطابك منذ بضعة أيام خلت. كنت أود سماع أخبارك، لكنني كنت في حال من الانشغال والخضوع والإنهاك في العمل حتى إنني لم تكن تواتيني الرغبة في الكتابة إلى أي أحد أو فعل أي شيء خارج حدود عملي اليومي إلا مجبرًا. ورغم أنك قلت عن نفسك إنك في تحسن، فإنني لا أستطيع أن أرى ذلك مُرضيًا على الإطلاق، وأتمنى أن تذهب قريبًا إلى مولفرن مرةً أخرى. اعتاد أبي الإيمان الشديد بمقولة قديمة مفادها أنه إذا ازداد الرجل نحولًا بين عمر الخمسين والستين، ففرصته في الحياة المديدة ضعيفة، وعلى العكس من ذلك إذا ازداد سمنة كانت تلك علامةً مبشرة جدًّا؛ مِن ثَمَّ، أرى بدانتك فألًا حسنًا جدًّا. أما أنا، فكانت صحتي متدهورة لأقصى درجة طوال هذا الصيف؛ ولم أبقَ متماسكًا إلا بالذهاب إلى مور بارك لفترات قصيرة؛ لكنني تحسنت مؤخرًا، وأخيرًا، شكرًا للرب، كدت أنتهي من كتابي، حيث لم يتبقَّ سوى الفهرس واثنتين أو ثلاث نسخ منقحة لأقرأها. سيُنشر الكتاب في الأسبوع الأول من نوفمبر، وستُرسل نسخة منه إليك؛ فلتتذكر أنه ليس سوى نبذة (لكنها استغرقت مني أكثر من ثلاثة عشر شهرًا في كتابتها)، وأن الحقائق والمراجع ليست مذكورة بالكامل على الإطلاق. سيكون لديَّ فضول لسماع رأيك بشأنه، لكنني لست من الحماقة الشديدة لأتوقع أن أحملك على الارتداد عن معتقدك. لقد قرأ لايل نصف المجلد من النسخ المنقحة، وهو يثني عليَّ «عظيم الثناء». إنه متردد كثيرًا بشأن عدم قابلية الأنواع للتغيُّر، لدرجة أنني أتوقع أن يغير رأيه. أما هوكر فقد تحول عن رأيه السابق، وسيعلن عن اعتقاده نشرًا قريبًا. كفى كلامًا عن مجلدي الكريه، الذي كبدني مشقةً هائلة حتى جعلني أكاد أبغضه. سوف أرحل إلى إلكلي في الثالث من أكتوبر، لكن الرحلة ستستغرق ثلاثة أيام! لقد فات الأوان على استئجار منزل؛ لكنني سأذهب وحدي هناك لثلاثة أو أربعة أسابيع، ثم أعود للمنزل لمدة أسبوع لأذهب بعد ذلك إلى مور بارك لثلاثة أو أربعة أسابيع، وحينذاك سأحصل على جرعةٍ معقولة من العلاج المائي؛ كذلك أنوي، إن استطعت الالتزام بقراري، أن أبقى بلا عمل هذا الشتاء. لكنني أخشى أن «الملل» سيكون سيئًا مثل اضطراب المعدة.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٢٥ سبتمبر
[١٨٥٩]
عزيزي لايل
أرسل إليك مع هذا الخطاب أربع ورقات جرى تصحيحها. لقد غيرت الجملة القائلة بهزيمة حيوانات عصر الإيوسيني أمام حيوانات العصر الحديث، وأشكرك على ملحوظتك. لكنني تخيلت أنه سيكون جليًّا أنني افترضت أن المناخ متماثل لحدٍّ كبير؛ أعتقد أنك لا تشك أن مناخ العصرَين الإيوسيني والحديث في أجزاء «مختلفة» من العالم كان متشابهًا. لكن هذا لا يعني أنني أعتقد أن المناخ بالأهمية التي يراها أغلب علماء التاريخ الطبيعي؛ ففي رأيي، إن هذا أخطر الأخطاء قاطبة.
سعدتُ كثيرًا حين وجدتُ أن هوكر الذي قرأ فصولي عن التوزيع الجغرافي، من المخطوطة، متفقٌ تمامًا مع الرأي القائل بالأهمية الكبرى للعلاقات الحيوية. أَودُّ أن تتمعن في صفحة ٧٧ وتتأمل حالة أيِّ كائن وسط نطاق انتشاره.
ينتابني الفضول من الآن لسماع رأيك بشأن التوزيع خلال العصر الجليدي والعصور الدافئة التي سبقَته. يسُرني كثيرًا أنك لا ترى أن الفصل المتعلق بقصور السجل الجيولوجي مبالغ فيه؛ فقد كنت متخوفًا بشأن هذا الفصل أكثر من أي جزء.
أعتقد أن تناوُل علم الأجنة في الفصل الثامن واحد من أقوى نقاطي. لكن يجب ألا أُضجرك بالإطالة في الحديث؛ فذهني منشغل بهذا الموضوع لدرجةٍ مزعجة جدًّا.
أشكرك حقًّا على إشادتك بي في أبردين؛ فقد كنت منهكًا ومتعبًا للغاية مؤخرًا حتى إنني ظللتُ شهورًا أتساءل ما إن كنت أُبدِّد الوقت والمجهود سدًى. لكنني لا أكترث الآن لما يقوله العالم أجمع؛ فدائمًا ما وجدتُك على صواب، وبالتأكيد فيما يتعلق بهذا الموقف فأنا لن أشك للمرة الأُولى. وسواءٌ تطرفتَ معي فيما ذهبتُ فيه أنا والآخرون المؤمنون بما أؤمن به، أو توقفتَ عند حدٍّ معين، فإنني مسرور لأن عملي لا يمكن أن يكون بلا جدوى. ستضحك إن علمتَ كم مرة قرأتُ فقرتك، وقد سعدتُ بها للغاية.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
داون، ٣٠ سبتمبر
[١٨٥٩]
عزيزي لايل
أرسلت اليوم الصفحات الأخيرة، لكن من دون الفهرس، الذي لم يُطبع. إنني أراك بمنزلة وزير العدل في مجال العلوم الطبيعية، لذا ألتمس منك، بعد أن تفرغ من العمل، «إعادة النظر» في نقاط جزء الخلاصة في الفصل الأخير. سأكون في لهفةٍ شديدة لسماع رأيك (إن تمكنتَ من ذلك) بشأن التوازن في عرض الحجج المؤيدة والمعارضة في مجلدي، والحجج المؤيدة والمعارضة الأخرى التي قد تخطر لك. أرجو أن ترى أنني كنت منصفًا في ذكر الصعوبات. يخالجني يقينٌ تام أنك إن كنت محتارًا لحدٍّ معقول الآن، فإنك ستغير رأيك شيئًا فشيئًا، كلما أطلت التفكير في الموضوع. فإنني أتذكر جيدًا كم من سنواتٍ طويلة مضت قبل أن أستطيع مواجهة بعض الصعوبات دون أن يسيطر عليَّ الشعور بالارتباك. ولقد استسلمت أمام مسألة الحشرات المحايدة الجنس.
أعتقد أنني مفكرٌ بطيء جدًّا؛ إذ ستندهش من عدد السنوات التي استغرقتها حتى أرى بوضوح طبيعة بعض المشكلات التي كان يجب أن تُحل، مثل ضرورة مبدأ تشعُّب الطابع، وانقراض ضروبٍ وسيطة في منطقةٍ متصلة، ذات ظروفٍ متدرجة، والمشكلة المزدوجة لهجائن الجيل الأول العقيمة والهجائن العقيمة، إلخ، إلخ.
حين أتطلع إلى الماضي، أرى أن إدراك المشكلات كان أصعب من حلها، والذي وُفقت فيه إلى حدٍّ كبير، ويبدو لي هذا غريبًا بعض الشيء. حسنًا، سواء كان عملي جيدًا أو سيئًا، فقد تم، بحمد الله؛ وأستطيع أن أؤكد لك أنه كان عملًا شاقًّا، وكثير منه لم يؤتِ ثماره. تستطيع أن ترى من الطريقة السريعة التي أكتب بها أنني أُمضي أمسيةً خاملة وممطرة. لم أستطع الذهاب إلى إلكلي أمس حيث كنت متوعكًا للغاية، لكن أتمنى أن أذهب إلى هناك يوم الثلاثاء أو الأربعاء. أرجوك بشدة، بعد أن تفرغ من قراءة كتابي والتأمُّل فيه قليلًا، أن تسمح لي بإرسال خطاب إليَّ برأيك. ولتوبخني ولا تكترث إن رأيت أن الأمر يستدعي ذلك؛ يمكنك أن تذكر لي بعض المؤاخذات بالتفصيل ذات يوم، في لندن ربما، إن كنت قد دونت على عجالة أي ملحوظات في الهامش، في حال كانت هناك طبعةٌ ثانية.
لقد طبع موراي ١٢٥٠ نسخة، وهو ما يبدو لي طبعةً كبيرة جدًّا، لكن أرجو ألا تلحق به الخسارة.
إنني قلق بشدة بشأن كتابي كما لو كان الأول لي؛ فلتسامحني يا عزيزي لايل.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
إلكلي، يوركشاير، ١٥ أكتوبر
[١٨٥٩]
عزيزي هوكر
فلتكن رجلًا كريمًا وتستقطع بعض الوقت لتكتب لي خطابًا لتخبرني فيه القليل عن نفسك وأعمالك وشئونك.
هل انتهيت من جزءٍ معقول من مقدمتك؟ أعلم أنك ستُقلِّل من شأنها، لكن أعلم جيدًا كم ستروق لي. إنني هنا منذ أسبوعَين تقريبًا، وقد جعلني هذا في حالٍ طيب كثيرًا، رغم أن كاحلي التوى يوم الأحد الماضي وهو ما منعني من السير نهائيًّا. ستأتي أسرتي كلها إلى هنا يوم الاثنين لتمكث ثلاثة أو أربعة أسابيع، بعد ذلك سأعود إلى المصحة الكبرى وأبقى أسبوعَين؛ بحيث إن استطعت الحفاظ على معنوياتي، فسأبقى ثمانية أسابيع هنا، وبهذا سأعطي العلاج المائي فرصةً عادلة لإثبات مدى جدواها. قبل أن آتي إلى هنا، كانت معدتي وقوتي ومزاجي ومعنوياتي في حالٍ فظيع. لقد انتهيتُ من كتابي تمامًا منذ فترةٍ قصيرة؛ وبمجرد أن تصبح النسخ جاهزة، ستُرسل نسخة إليك بالطبع. أرجو أن تضع علامات في مواضع الانتقادات في نسختك حتى يمكنني الاستفادة منها. كذلك سيسرني سماع انطباعك العام عنه. يبدو لي من خطابات لايل أنه يستحسنه، لكنه يبدو مذهولًا من الحدود التي أصل إليها. لكن عند التعمق بدرجةٍ معقولة في مسار الاعتراف بالتعديل، لا أستطيع رؤية أي وسيلةٍ ممكنة لوضع حد، والقول بأنك يجب عليك التوقُّف هنا. سيعيد لايل قراءة كتابي، وما زلت أرجو أن يغير معتقداته أو ينحرف كما يقول. وكان لايل في «غاية» الكرم حين كتب لي ثلاثة خطابات شديدة الطول؛ إلا أنه لم يذكر شيئًا عن الانتشار خلال العصر الجليدي. وأنا أود معرفة ما يدور بخلده بشأن هذا. ما زال لديَّ سؤال لأطرحه: هل سيكون ثَمَّةَ فائدة في إرسال نسخة من كتابي إلى دوكين؟ وهل تعرف أي علماء نباتات مُفكرين في القارة، يقرءون باللغة الإنجليزية ولديهم اهتمام بهذا الموضوع؟ إن كان الأمر كذلك، فلترسل لي عناوينهم. ماذا عن أندرسون في السويد؟ لن تدرك كم هو رائع أن أقضي اليوم كله متعطلًا، دون التفكير مطلقًا في كتابي الملعون الذي أوشك أن يقضي عليَّ. أتمنى كثيرًا لو أسمعك تتحدث عن حصولك على راحةٍ حقيقة. أعلم كم أنت قويٌّ ذهنيًّا، لكنني لن أصدق أبدًا أنك تستطيع الاستمرار في العمل كما فعلت مؤخرًا دون عواقبَ وخيمة. ذات يوم ستشتد على نفسك أكثر من اللازم. الوداع يا صديقي العزيز الكريم الطيب.
من تشارلز داروين إلى تي إتش هكسلي
إلكلي، أوتلي، يوركشاير، ١٥ أكتوبر
[١٨٥٩]
عزيزي هكسلي
إنني هنا من أجل العلاج المائي وإنني أعود للحياة مرة أخرى، بعد أن انتهيت من كتابي البغيض، الذي كان سيجده أي شخص آخر عملًا يسيرًا، لكنه كاد أن يقضي عليَّ. لقد ظننتُ أنك قد تعطيني بعض المعلومات؛ إذ لا أعلم من غيرك أطلبها منه؛ ألا وهي عناوين باراند وفون سيبولد وكايزرلينج (أعتقد أن السير رودريك يعرف عنوان الأخير).
هل تستطيع أن تعلمني بأي علماء أجانب أكْفاء ومهتمِّين ﺑ «التخمين» ممن سيكون من المفيد أن أرسل لهم نسخًا من كتابي عن «أصل الأنواع»؟ أشك ما إن كان الأمر يستحق أن أرسله إلى سيبولد. أَودُّ أن أرسل نسخًا قليلة، لكنني لن أعلم عدد النسخ التي أستطيع تحمُّل تكلفتها قبل أن أعلم السعر الذي سيُحدِّده موراي.
لست بحاجة لقول إنني سأرسل واحدةً إليك بالطبع، في أول أسبوع من نوفمبر. أرجو أن أرسل نسخًا إلى الخارج في الحال. سيكون لديَّ فضولٌ «كبير» لمعرفة التأثير الذي سيتركه الكتاب فيك. أعلم أن فيه الكثير مما ستعترض عليه، وأخطاءً كثيرة بلا شك. إنني لا أتوقع على الإطلاق إقناعك بالعديد من هرطقاتي، لكن إن اعتقدتَ أنت واثنان أو ثلاثةٌ آخرون أنني على الطريق الصحيح، فلن آبه لما تعتقده جماعة علماء التاريخ الطبيعي. ورغم أن الفصل قبل الأخير يحتوي على الحقيقة، فإنني أخشى كثيرًا أنه سيجعلك تنتقدني نقدًا قاسيًا. لكن لا تتصرف مثل ماكلاي في هجومه على فليمينج وتقول: «إنني أكتب بحمض النتريك حتى أنقش على النحاس.»
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير
٢٠ أكتوبر [١٨٥٩]
عزيزي لايل
لقد أخذت أقرأ كل خطاباتكَ بصورةٍ متتالية، ولا أشعر أنني أوفيتك نصف حقك من الشكر على السعادة البالغة التي منحتَني إياها، وعلى فائدتها. إنني أرى فيها دليلًا على التذبذب في درجة المصداقية التي تعطيها النظرية، وأنا لست مندهشًا على الإطلاق من هذا؛ فقد مررت بالعديد والعديد من حالات التذبذب هذه.
ثَمَّةَ نقطة في خطابك لم أنتبه إليها، وهي عن الحيوانات (والعديد من النباتات) التي توطنَت في أستراليا، والتي تعتقد أنها لم تستطع البقاء دون مساعدة الإنسان. لا أستطيع أن أعي كيف يساعد الإنسان الماشية البرية. لكن إن تغاضينا عن ذلك، فيبدو أنك تعتقد أنها، بسبب معاناتها هلاكًا هائلًا خلال موجات الجفاف، قد تفنى كلها. خلال «الجفاف الأكبر» في لا بلاتا، ماتت الحيوانات الأصلية، مثل الغزال الأمريكي، بالآلاف، ويبدو أنها عانت بقدْرِ ما عانت الماشية. وفي أجزاء من الهند، بعد إحدى موجات الجفاف، مضت عشر سنوات أو أكثر قبل أن تصل الثدييات الأصلية إلى أعدادها الكاملة مرةً أخرى. أعتقد أن حجتك تنطبق على الحيوانات الأصلية كما على البرِّيَّة.
الحيوان أو النبات الذي يصير بريًّا في منطقةٍ صغيرة ما ربما يقضي المناخ عليه، لكنني بالكاد أستطيع تصديق هذا بعد أن كان برِّيًّا في عدة مناطقَ كبيرة. مرةً أخرى، أميل لأن أصب لعناتي على المناخ؛ لا تعتقد أنني وقح لانتقادك بشأن المناخ. لقد قلت إنك تشكُّ ما إن كان الإنسان قد استطاع العيش في ظل مناخ العصر الإيوسيني، لكن يستطيع الإنسان الآن تحمُّل مناخ منطقة الإسكيمو وغرب أفريقيا الاستوائية؛ وبالطبع لا يمكن أن تعتقد أن مناخ العصر الإيوسيني اختلف عن مناخ اليوم في جميع أنحاء أوروبا، كما تختلف المناطق القطبية الشمالية عن أفريقيا الاستوائية.
أمَّا فيما يتعلق بخلق الكائنات على النمط الأمريكي في أمريكا، فأعتقد أنه يمكن القول بأنها خُلقَت هكذا للحول دون أن تكون جيدة أكثر مما ينبغي، بحيث تتغلب على الكائنات الأصلية، لكن تبدو لي هذه النظرية بشعة، بعض الشيء.
لقد تأملتُ كثيرًا ما قلتَه عن ضرورة التدخل المستمر لقوةٍ مبدعة. ولا أستطيع أن أرى هذه الضرورة؛ وأعتقد أن الإقرار بها سيجعل نظرية الانتقاء الطبيعي بلا قيمة؛ فلتمنح كائنًا نموذجيًّا بسيطًا، مثل سمك الطين أو سمك السمندل الحرشفي، خمسَ حواسَّ وبعض العقل، وأعتقد أن الانتقاء الطبيعي سيفسر إنتاج كل الحيوانات الفقارية.
الوداع؛ فلتسامحني على الإسهاب في هذا الخطاب، ولك مني كل الصدق والشكر الشديد.
سوف يتوجب إعادة كتابة كتابي الأكبر كاملًا، وليس التوسُّع في المجلد الحالي فقط؛ مِن ثَمَّ أَودُّ أن أُهدِر أَقلَّ وقتٍ ممكن في هذا المجلد، في حالة استلزم طبعةً أخرى، لكن أخشى أن الموضوع سيكون مربكًا جدًّا للعامة بالطريقة التي تناولته بها.
من تشارلز داروين إلى جيه دي هوكر
إلكلي، يوركشاير
الأحد [٢٣ أكتوبر،
١٨٥٩]
عزيزي هوكر
أهنئك على الانتهاء فعليًّا من مقدمتك [المقال التمهيدي لكتاب «نباتات أستراليا».] إنني متأكد مما قرأته منها (ولديَّ رغبةٌ عميقة في قراءتها للنهاية دون توقُّف)، أنك لا بد قد بذلت في سبيلها قدرًا هائلًا من العمل والتفكير. أَودُّ كثيرًا أن أرى النسخة التي ترجوني أن أطالعها. إنني الآن أعيش تمامًا كأحد النبلاء، حتى إنني ألاقي أحيانًا بعض الصعوبة في العثور على شيء لأتسلى به طوال النهار، لكن كم من الغريب أنني قضيت ثلاثة أسابيع بلا عمل! إن كان في الأمر أي عزاء لك، فأرجوك أن تخدع نفسك بالقول بأنك تنوي «الاستمرار في الوفاء للعلم المضجر». لكنني أُصدِّق هذا فقط بقدْرِ ما أُصدق أن أحد النباتات قد يقول: «ظللت طوال حياتي أنمو، لكن أُقسم أنني سأتوقف عن النمو.» لكنك لا تستطيع مغالبة نفسك؛ فليس لديك المهارة الكافية لتفعل ذلك. إنك حتى لا تستطيع حتى البقاء دون عمل، كما فعلتُ أنا، لمدة ثلاثة أسابيع! ما قلته عن لايل أسعدني سعادةً بالغة؛ فلم أستنتج مطلقًا من خطاباته أنه قد غيَّر آراءه كثيرًا. أتذكَّر أنني كنت أعتقد، منذ أكثر من عام مضى، أنني إن امتدت بي الحياة حتى أراك أنت ولايل وهكسلي تُغيِّرون آراءكم، جزئيًّا بسبب كتابي، وجزئيًّا بسبب تأملاتكم، فسوف أشعر أن الموضوع في أمان، وربما يهجو العالم بأَسْره نظرية الانتقاء الطبيعي، لكنها في النهاية (وإن كانت، بلا شك، ليست كاملة في حالتها الراهنة، وتضم أخطاءً عديدة) سوف تسود؛ فلن يقنعني شيء أبدًا أن ثلاثة رجالٍ مثل هؤلاء، على قدْرٍ وافر من المعارف المتنوعة، ومُتمرسِين جيدًا في البحث عن الحقيقة، قد يرتكبون خطأً فادحًا. لقد تحدثت عنك هنا بصفتك شخصًا أقنعته بالنظرية؛ لكنني أعلم كم ساهم تأملك الذاتي بنصيبٍ أكبر كثيرًا في هذا. يحدوني فضولٌ شديد لمعرفة رأي هكسلي في كتابي. أخشى أن نقاشي الطويل حول التصنيف سيثير ازدراءه؛ فهو متعارض بشدة مع ما قاله لي ذات مرة.
كم أطلتُ عليك في الحديث! الآن، رأيت كم أنا متعطل؛ لكنني استمتعت كثيرًا بخطابك؛ لذا لا بد أن تسامحني. فيما يتعلق بالهجرة أثناء العصر الجليدي، أعتقد أن لايل يعي الأمر تمامًا؛ إذ ذكر لي حقيقةً تدعمه. لكنه ربما يبغض النظرية دون وعي (أرجو ألا تخبره بهذا) لأنها تصيبه قليلًا بالحيرة بشأن نظريته المفضُّلة التي تنسب كل تغيرات المناخ إلى تغيرات في الموضع النسبي لليابسة والماء.
سوف أرسل نسخًا من كتابي لكل الرجال الذين حددتهم … هلا تفضلتَ بإضافة ألقاب، مثل الدكتور أو البروفيسور أو السيد أو النبيل والحروف الأُولى من الاسم (عند الحاجة) وتحديد عناوين الأسماء التي في القائمة المرفقة، وترسلها لي «في أسرع وقت»؛ إذ قال موراي إنه قُرب نهاية هذا الأسبوع ستكون النسخ التي ستُرسل للخارج جاهزة. إنني متلهف للتعريف بوجهة نظري على نطاقٍ واسع، لكن ليس من أجل الزهو الشخصي، على ما أرجو وأعتقد.
من تشارلز داروين إلى سي لايل
إلكلي، يوركشاير، ٢٥ أكتوبر
[١٨٥٩]
… اختلافنا حول «مبدأ التحسين» و«قوة التأقلم» أعمق من أن يُناقش في خطاب. إن كنتُ مخطئًا، فإنني لا أرى على الإطلاق أي سبب لخطئي. وإن كنتُ على صواب، فسوف نجتاز اختلافنا بأن تُعيد قراءة فصولي الأربعة الأُولى بعناية وتتمعن فيها. أرجوك أن تقرأها مرة أخرى بانتباه. ما يُسمى التحسين فيما يتعلق بماشيتنا القصيرة القرون وحمامنا وغيرهما لا يستلزم أو يتطلب أي «مبدأ تحسين» أو «قوة تأقلم» أصلية؛ إنما يتطلب فقط قابليةً متنوعة للتباين وإنسانًا لانتقاء التعديلات المفيدة له أو الاستفادة منها؛ إذن في الطبيعة، أي تعديلٍ بسيط «يتصادف» حدوثه، ويكون مفيدًا لأي كائن، يُنتقى ويُبقى عليه في الصراع من أجل البقاء؛ وأي تعديلٍ ضارٍّ يفنى أو يُرفض؛ وأي تعديل ليس مفيدًا ولا ضارًّا سيُترك دون أن يُقبل أو يُرفض. وعند المقارنة بين الانتقاء و«التحسين» الطبيعي، يبدو أنك دائمًا ما تُغفِل (إذ لا أدري كيف تستطيع أن تنكر) أن كل خطوة في الانتقاء الطبيعي لكل نوع تتضمن تحسينًا في ذلك النوع فيما يتعلق بظروف معيشته. ولا يمكن انتقاء تعديل دون أن يكون فيه تحسين أو ميزة. وأفترض أن التحسين يعني أن كل شكل يحصل على عدة أجزاء أو أعضاء، كلها متكيفة تمامًا من أجل وظائفها؛ وحيث إن كل نوع يتحسن، وحيث إن عدد الأشكال يزيد، فإن نظرنا على مدى الزمان كله، فسنجد أن الحالة الحيوية للحياة للأشكال الأخرى ستصير أكثر تعقيدًا، وأنه ستكون ثَمَّةَ ضرورة لأن تصير الأشكال الأخرى محسنة، وإلا فستفنى؛ ولا أستطيع رؤية حدٍّ لعملية التحسين هذه، دون تدخُّلٍ من أي مبدأ تحسينٍ آخر ومباشر. يبدو لي كل هذا متسقًا تمامًا مع كون أشكالٍ محددة متكيفة مع ظروفٍ بسيطة، دون أن تتبدل أو يدركها التدهور.
إن تسنَّى لي طبعةٌ ثانية، فسوف أؤكِّد أكثر على عملية «الانتقاء الطبيعي»، وبالتبعية العامة، عملية «التحسين الطبيعي».
حين وصلتُ للدرجة التي أنت عليها فيما يتعلق بالاقتناع بالنظرية، بدأ شعور قوي يساورني، قياسًا على نفسي، أنك ستذهب أبعد من ذلك كثيرًا. فكم تمهل علماء الجيولوجيا الأكبر سنًّا في الإقرار بوجهات نظرك العظيمة حول الأسباب الجيولوجية السائدة حاليًّا للتغيُّر!
إن ارتأيت في أي وقت أنك تريد مني الإجابة على أي سؤال، فسيسرني بحق أن أكتب إليك موضحًا إياها.
من تشارلز داروين إلى جيه موراي
إلكلي، يوركشاير
[١٨٥٩]
سيدي العزيز
لقد تلقيتُ خطابك الكريم والنسخة؛ وإنني سعيد وفخور لأقصى درجة بمظهر عملي الوليد.
أوافق تمامًا على كل ما تقترحه بشأن السعر. لكنك شديد الكرم بحقٍّ بشأن التصويبات الكثيرة لدرجةٍ مخزية بالنسبة لي. أليس في تصرُّفك هذا إجحافًا في حق نفسك؟ ألن يكون من الأفضل تقاسم الاثنين وسبعين جنيهًا إسترلينيًّا والثمانية شلنات على الأقل؟ لا بد أن أكون في حالة رضا تام؛ فلم يكن من شأني إرسال تلك المخطوطة الرديئة الإعداد، وإن كان هذا دون قصد ودون توقُّع، إلى المطبعة.
أشكرك على عرضك الكريم بتوزيع النسخ على أصدقائي ومساعديَّ بأسرع ما يمكن. لا تشغل نفسك كثيرًا بالأجانب؛ فقد تفضل السيدان ويليامز ونورجيت وعرضا بذل قُصارى جهدهما في هذا الشأن، وهما لديهما خبرة في إرسال الكتب لكل أنحاء العالم.
سوف أُسدِّد ثمن نسخي متى أردت. إنني في غاية السعادة أنك تفضلتَ وتوليتَ نشر كتابي.
لا أعلم متى سأغادر هذا المكان، لكن من المؤكد أنه ليس قبل عدة أسابيع. ومتى ذهبتُ إلى لندن، فسوف أزورك.