بقلم البروفيسور هكسلي
بالنسبة للجيل الحالي؛ أي الناس القلائل الذين أشرفوا على سن الثلاثين أو تعدَّوه بقليل، يقف اسم تشارلز داروين على قدم المساواة مع اسمَي إسحاق نيوتن ومايكل فاراداي؛ وهو مثلهم، يعد المثل الأعلى للباحث عن الحقيقة ومفسر الطبيعة. إنهم يرون أنه شخص تحلى بمزيجٍ نادر من العبقرية والمهارة والأمانة الشديدة، ونال عن استحقاق مكانته بين أشهر رجال العصر بقدراته الفطرية وحدها، رغم أنف عاصفة من التحامل العام، ودون تشجيع برضا أو تقدير من جانب جهات التكريم الرسمية؛ إنهم يرونه شخصًا، رغم حساسيته المفرطة للمدح والذم، ورغم المضايقات التي قد تُبرِّر أي انفعال، نأى بنفسه بعيدًا عن كل أشكال الحقد والكراهية والخبث، بل لم يتعامل إلا بالحق والعدل مع التحيُّز والظلم اللذَين انهالا عليه؛ وظل حتى آخر أيامه مستعدًّا للإنصات بصبر واحترام إلى أقل معارضيه الموضوعيين قدْرًا.
وفيما يتعلق بالنظرية الخاصة بأصل أشكال الحياة التي تسكن كوكبنا، التي ارتبط بها اسم داروين ارتباطًا وثيقًا كما ارتبط اسم نيوتن بنظرية الجاذبية، فلا يبدو شيءٌ أبعدَ عن ذهن الجيل الحالي من محاولة وأدها بالتهكم أو قمعها بالاستغراق في شجبها. لقد صار «الصراع من أجل البقاء» و«الانتقاء الطبيعي» من الكلمات المألوفة والمفاهيم العادية. ولم تعُد صحة العمليات الطبيعية التي يقيم عليها داروين استنتاجاته وأهميتها يرقى إليهما الشك أكثر من تلك الخاصة بالنمو والتكاثُر؛ وسواء أُقر بكل الإمكانيات المنسوبة إلى تلك العمليات أم لا، فلا يشك أحد في أهميتها الهائلة وتأثيرها الكبير. وأينما دُرِست العلوم البيولوجية، أضاء كتاب «أصل الأنواع» طريق الباحث؛ وأينما دُرِّست، تسلَّل عبر جميع جوانب مسار التدريس. كذلك، ليس تأثير الأفكار الداروينية أقل عمقًا، خارج حدود العلوم البيولوجية. إن فلسفة التطور، التي تُعد الأقدم بين كل الفلسفات، كانت مكبلة اليدَين والقدمَين وملقاةً في ظلامٍ دامس خلال ألفية من الفلسفة المدرسية اللاهوتية. لكن داروين ضخ دماءً جديدة في الإطار الفكري القديم؛ فانكسرت القيود، وأثبت فكر اليونان القديمة الذي بُعث من جديد أنه تعبيرٌ مناسب أكثر عن النظام العام للأشياء من أيٍّ من الأنظمة التي تقبَّلَتها سذاجة سبعين جيلًا تاليًا من البشر ورحبَت بها خرافاتهم.
إن بزوغ فلسفة التطوُّر، في موقف المطالب بعرش عالم الفكر، بعد الخروج من سجن الأشياء المكروهة، وكما تمنى كثيرون، المنسية، لَهو لأيِّ شخص يدرس أحداث الزمن، الحدث الأهم في القرن التاسع عشر. لكن كان داروين من صنع أجدى أسلحة أبطال التطوُّر المعاصرين؛ وجند كتاب «أصل الأنواع» مجموعةً رائعة من المقاتلين، المدرَّبين في المدرسة الصارمة للعلوم الطبيعية، الذين ربما ظلت آذانهم صمَّاء طويلًا عن سماع تأمُّلات الفلاسفة السابقين.
لا أعتقد أن ثَمَّةَ شخصًا أمينًا أو مثقفًا قد ينكر صحة ذلك الذي ذُكر للتو. ربما يكره مجرد ذكر نظرية التطور، وربما ينكر مزاعمها بشدة كما أنكر أنصار جيمس الثاني مزاعم جورج الثاني. لكن هذا هو واقع الحال — فلم تكن مكانته في رسوخِ أُسرة هانوفر الحاكمة فقط، لكنه كذلك كان بعيدًا لحسن الحظ عن سلطة البرلمان — وقد انتهى أغبى المناهضين له لإدراك أن عليهم التعامل مع عدوٍّ لا تتهشم عظامه بأي سيل من الكلمات الجارحة.
حتى علماء اللاهوت توقفوا تقريبًا عن مقارعة المغزى الواضح لسفر التكوين بمغزى الطبيعة الذي لا يقل عنه جلاءً. إن ممثليهم الأكثر صراحةً، أو الأكثر حذرًا، توقفوا عن التطرُّق للتطوُّر كما لو كان هرطقةً ملعونة، ولجَئوا لواحد من نهجَين؛ فهم إمَّا أن ينكروا أن سفر التكوين كان يهدف لتقديمِ حقائقَ علمية، وبهذا يحافظون على صحة المصدر على حساب مرجعيته العلمية؛ وإمَّا يستنفدوا طاقاتهم في تصوير البراعة الشديدة لمفسري النصوص التي يعذبونها دون جدوى على رجاءِ جعلِها تقر بمبادئ العلم. لكن حين تنتهي عملية التعذيب دون جدوى، دائمًا ما يعود الصدق القديم للمعذَّب المُبجَّل لتأكيد نفسه. إن سفر التكوين صادق حتى النخاع، ولا يدَّعي أنه أكثر مما هو عليه في الواقع؛ فهو مجموعة من التعاليم الجليلة المجهولة المصدر، التي لا تزعم أيُّ مرجعيةٍ علمية ولا تحوز أيًّا منها.
بينما ينتهي قلمي من هذه الفقرات، لا يسعني سوى التعجُّب عند تأمل مدى فظاعة الضجة التي كانت ستثور (بل ثارت في الواقع) إزاء أيِّ تعبيراتٍ مشابهة عن الرأي منذ ربعِ قرنٍ مضى. في الواقع، إن التناقُض بين الحالة الراهنة للرأي العام بشأن المسألة الداروينية، والتقدير الذي تلقاه آراء داروين في المجتمع العلمي، وإذعان علماء اللاهوت من الطبقة الموقَّرة في الوقت الحالي لأفكاره، أو صمتهم عنها على الأقل من جهة، واندلاع العداء على كافة الأصعدة فيما بين عامي ١٨٥٨ و١٨٥٩ من جهةٍ أخرى حين صارت النظرية الجديدة المتعلقة بأصل الأنواع معروفة لأول مرة لدى الجيل الأقدم، الذي أنتمي إليه، لهو تناقضٌ مدهش جدًّا حتى إنني، لولا الأدلة الوثائقية، كنت سأنزع للاعتقاد بأن ذكرياتي في هذا الشأن أحلام. أنا نفسي أُكنُّ احترامًا كبيرًا للجيل الأصغر (فهم يستطيعون كتابة قصص حياتنا، واكتشاف كل حماقاتنا، إن اختاروا، يومًا ما، تجشُّم هذا العناء)، وسيسُرني الاطمئنان إلى أن الشعور متبادل، لكنني أخشى أن قصة مواجهاتنا مع داروين قد تصبح عائقًا كبيرًا أمام ذلك الإجلال لحكمتنا التي أَودُّ أن يظهروه. ليس لدينا حتى عذر أن السيد داروين كان منذ ثلاثين عامًا عالمًا مبتدئًا مجهولًا، ليس لديه حق أن ننتبه إليه. بل على النقيض، كانت أبحاثه المميزة في علم الحيوان والجيولوجيا قد وَضعَته منذ زمن في مكانةٍ ثابتة بين أبرز باحثي العصر وأكثرهم أصالة؛ وفي الوقت نفسه، أكسبه عمله الساحر «يوميات الأبحاث» عن جدارة صيتًا واسعًا بين العامة. أشك أن أي رجل ممن عاشوا آنذاك كان لا يتوقع أن يلقى أيُّ شيء قد يختار داروين قوله حول مسألةٍ مثل أصل الأنواع الإنصات باهتمامٍ بالغ، والمناقشة بتوقير؛ وبالتأكيد لم يكن ثَمَّةَ رجل يمكن أن تمنحه طبيعته الشخصية وقاية أفضل منه ضد محاولات الهجوم، المشبعة بالحقد والممزوجة بالوقاحات المجردة من الحياء.
لكن ذلك كان قدرَ أحدِ أطيب وأصدق الرجال على الإطلاق الذين أكرمني الحظ بمعرفتهم؛ وكان يجب أن تنقضي سنوات قبل أن يكف التحريف والاستهزاء والتنديد عن كونها أبرز مكونات غالبية الانتقادات الهائلة لعمله التي ظهرت بكثرة في الأعمال المطبوعة. إنني أعف عن إخراج أيٍّ من هذه الفضائح القديمة من طي الكتمان الذي تستحقه، لكن يجب أن أُصحِّح بيانًا قد يبدو مبالغًا فيه للجيل الحالي، ولا يُوجد شيء أنسب لهذا الغرض، أو أكثر استحقاقًا لهذا الخزي، من مقال في دورية «ذا كورترلي ريفيو» في يوليو ١٨٦٠. [لم أكن أعلم حين كتبتُ هذه الفقرات أن اسم كاتب المقال قد صُرح به على الملأ. غير أن الاعتراف غير المصحوب بالندم لا يسوغ تخفيف الحكم، والطريقة الدمثة التي يتحدث بها السيد داروين عن مهاجمه، الأسقف ويلبرفورس، إنما هي مثالٌ واضح على لطفه وتواضُعه الفريدَين، حتى إنها لتزيد احتقارنا لادعاء ناقده.] منذ هاجم اللورد بروام الدكتور يانج، لم يشهد العالم مثالًا لتطاولِ مدعٍ ضحل على خبيرٍ في العلوم مثل هذا العمل الغريب، الذي تعرض فيه أحد أدق الملاحظِين وأحرص المفكرِين وأصدق الشارحِين، في هذا العصر أو أي عصرٍ آخر، للتحقير باعتباره شخصًا «طائشًا»، يحاول «غزل نسيج حزره وتخمينه المهلهل تمامًا» والذي استُهجِن «أسلوب تناوُله للطبيعة» باعتباره «شائنًا تمامًا للعلوم الطبيعية». وكل هذا الحديث المتغطرس، الذي كان ليصبح غير لائق من شخص مساوٍ للسيد داروين، جاء من كاتب يعوزه الذكاء أو الضمير أو كلاهما لدرجةٍ كبيرة، حتى إنه يسأل، على سبيل الاعتراض على آراء السيد داروين، قائلًا: «هل من المعقول أن كل ضروب اللفت المفضَّلة في طريقها لتصير بشرًا؟» وهو على جهلٍ كبير بعلم الحفريات، حتى إنه تُسوِّل له نفسه الحديث عن «زهور وثمار» نباتات العصر الكربوني؛ وبالتشريح المقارن، حتى إنه يؤكد بقوة أن جهاز السم في الثعابين السامة «منفصل كليةً عن القوانين العادية لعالم الحيوان، وخاص بالثعابين فقط»؛ وبالأعضاء الأثرية في علم وظائف الأعضاء، حتى إنه يسأل: «بمَ يفيد الحياة أن يتغير شكل الكريات التي يمكن أن يتبخر إليها الدم؟» ولا يتوانى الناقد عن تنكيه هذا الفيض من الخلل المنافي للعقل بقليل من إثارة الكراهية الدينية. وتؤدي به المعرفة السطحية بتاريخ الصراعات بين علوم الفلك والجيولوجيا واللاهوت إلى الإبقاء على باب التراجع مفتوحًا بقوله إنه لن يستطيع «السماح باختبار صحة العلوم الطبيعية وفقًا لكلمات الوحي»؛ لكنه، رغم كل ذلك، يكرس صفحات ليبدي اقتناعه بأن نظرية السيد داروين «تناقض العلاقة الموحى بها بين المخلوق وخالقه» وأنها «غير متسقة مع تمام مجد الرب».
إن اقتصرت ذكريات استقبال كتاب «أصل الأنواع» على اثني عشر شهرًا، أو نحو ذلك، منذ وقت نشره، فلن أتذكر شيئًا شديد الحماقة والفظاظة مثل مقال «ذا كورترلي ريفيو»، ربما إلا إن دخل خطاب لأحد الأساتذة الجامعيِّين الكهنة أمام جمعية دبلين الجيولوجية في منافسة معه. لكنَّ عددًا كبيرًا من منتقدي السيد داروين كانوا مشابهين على نحوٍ مؤسف لناقد دورية «ذا كورترلي ريفيو»، من حيث انعدام الإرادة أو الفطنة لدراسة نظريته على الوجه الأكمل؛ وبالكاد امتلك أي منهم المعرفة اللازمة لتتبعه في عالم العلوم البيولوجية والجيولوجية المترامي الأطراف الذي أحاط به كتاب «أصل الأنواع»؛ وفي الوقت نفسه، وعلى نحوٍ شائع جدًّا، كانوا يتحاملون على المسألة على أُسسٍ لاهوتية، واحتالوا على انعدام المنطق في حُججهم بالإفراط في القدح، وذلك كأمرٍ محتوم على ما يبدو حين يحدث هذا.
لكنه سيكون أمتع وأكثر فائدة أن نتفكر في الانتقادات التي قال بها كُتَّاب ذوو مرجعية علمية، أو التي حملت أدلة على كفاءة كُتَّابها، سواء زادت أو قلت، وعلى حسن نيتهم في كثير من الحالات. إن اقتصار تناوُلي على اثنَي عشر شهرًا أو نحو ذلك، بعد نشر كتاب «أصل الأنواع»، يجعلني أجد أن من بين هؤلاء المنتقدين لوي أجاسي؛ وموراي، عالم الحشرات المتميز؛ وهارفي، عالم النباتات واسع الشهرة؛ وكاتب مقال معادٍ بشدة لداروين في مجلة «ذي إدنبرة ريفيو». ويتطرق بيكتيه، عالم الحفريات الجنيفي المعروف وواسع العلم، لعمل السيد داروين باحترام مما يتناقض بشدة مع نبرة بعض من الكُتاب السابقين، لكنه يتفق معه بقدرٍ قليل فقط. من ناحية أخرى، لايل، الذي كان حتى ذلك الوقت من أهم مرجعيات مناهضي نظرية التطافُر (الذين ظلوا ينظرون إليه، فيما بعدُ، بالطريقة نفسها التي ربما نظرت بها أثينا إلى ديانا، بعد علاقتها مع إنديميون)، أعلن أنه دارويني، وإن كان لم يفعل ذلك دون وضع بعض الحدود. بيد أنه كان حصنًا منيعًا، وزاده موقفه الشجاع من أجل الحق في مواجهة التوافق شرفًا لا حد له. وفيما يتعلق بأنصار نظرية التطور، دون أن أضيف المزيد من التفاصيل، لا أتذكر بين علماء الأحياء أحدًا سوى آسا جراي، الذي خاض المعركة على نحوٍ رائع في الولايات المتحدة؛ وهوكر الذي لم يكن أقل منه حماسًا هنا؛ والسير جون لاباك وأنا. أمَّا والاس، فقد كان بعيدًا في أرخبيل الملايو، لكن بغض النظر عن إسهامه المباشر في الترويج لنظرية الانتقاء الطبيعي، فلن يكتمل حصر العوامل المؤثِّرة في الزمن الذي أتحدث عنه دون ذكر مقاله الرائع «عن القانون المنظم لاستقدام أنواعٍ جديدة» الذي نُشر عام ١٨٥٥. لقد انتابتني الدهشة عند قراءته مجددًا، حين تذكرتُ كم كان قليلًا التأثير الذي أحدثه!
أمَّا في فرنسا، فقد أدى نفوذ إيلي دي بومون وفلورانس — يُقال إن الأول قد «جر على نفسه سمعةً سيئة أزلية» بابتداعِ مُسمَّى «العلم الرغوي [أي التافه]» لمذهب التطور — ناهيك عن سوء نية أعضاءٍ آخرِين من ذوي النفوذ في المعهد، للتعتيم على النظرية لفترةٍ طويلة؛ ومرت سنواتٌ عدة قبل أن تُكفر الأكاديمية عن خطئها بعدم إدراج اسم داروين في قائمة أعضائها. غير أن أحد الكُتاب البارعِين، البعيدِين عن مجال المؤثرات الأكاديمية، وهو إم لاجال، كتب مقالًا رائعًا ومعبرًا عن التقدير عن كتاب «أصل الأنواع» في مجلة «ريفو دي دو موند». واحتاجت ألمانيا بعض الوقت لتدبُّر الأمر؛ لقد أخرج برون ترجمة حُذفت أجزاءٌ صغيرة منها لكتاب «أصل الأنواع»؛ وأوقفت مجلة «كلاديراداتش» عباراتها الساخرة حول مسألة أن القرد هو أصل الإنسان، لكنني لا أتذكر أن أيًّا من الشخصيات العلمية البارزة قد أعلن عن موقفه على الملأ عام ١٨٦٠ [فيما عدا كيه إي فون بار، العالم الذي يأتي بعد داروين في تأثيره على علماء الأحياء المعاصرِين، الذي كاتبني في أغسطس ١٨٦٠، معبرًا عن اتفاقه العام مع الآراء التطورية.] لم يتخيل أحدٌ منا أن قوة «النظرية الداروينية»، (وربما يجوز لي أن أضيف ضعفها) سيكون لها تجلياتها الشديدة الانتشار والشديدة العبقرية في ألمانيا، أرض العلم، خلال سنوات قليلة. وإن أقدم شخصٌ أجنبي على تخمين سبب هذه الفترة الغريبة من الصمت، فيُخيَّل لي أنه يرجع إلى أن شطرًا من علماء الأحياء الألمان كان تقليديًّا مهما تكلف الأمر، بينما كان الشطر الآخر مخالفًا بالقدْر نفسه بنحوٍ ملحوظ. وكانت المجموعة الثانية من أنصار نظرية التطور من قبلُ بالفعل، ولا بد أنهم شعروا بالاحتقار الطبيعي الذي يتكون لدى الفلاسفة الاستنباطيِّين حين يعُرض عليهم أساسٍ استقرائي وتجريبي لاعتقاد بلغوه عن طريقٍ أقصر. لا شك أنها محاولة إدراك أنه رغم أن استنتاجاتك قد تكون صحيحة تمامًا، فإن أسبابك التي قادتك إليها خاطئة كليةً، أو غير كافية على أي حال.
بوجهٍ عام، كان مؤيدو آراء السيد داروين آنذاك، عام ١٨٦٠، قليلين عدديًّا لأقصى حد. ولا شك على الإطلاق أنه لو كان عُقد مجلسٍ علمي عام للكنيسة في ذلك الوقت، لكان أداننا بأغلبيةٍ كاسحة. ولا شك على نحوٍ مماثل أنه إن عُقد الآن، فسيكون الحكم معاكسًا تمامًا. لكنه سيكون من غير المعقول، وكذلك من غير اللائق، أن ننسب لرجال ذلك الجيل جدارة أو أمانة أقل مما لدى خلفائهم. إذن، ما الأسباب التي أدت برجالٍ عالمِين ومُنصفِين في أحكامهم في ذلك الوقت للوصول إلى حكمٍ مختلف تمامًا عن ذلك الذي يبدو عادلًا ومنصفًا لأولئك الذين جاءوا بعدهم؟ ذاك بحقٍّ واحدٌ من أكثر الأسئلة إثارةً للاهتمام بين جميع الأسئلة المتعلقة بتاريخ العلم، وسوف أحاول الإجابة عليه. أخشى أنه حتى أفعل هذا يجب أن أجازف بأن أبدو مغرورًا. غير أنني إن سأحكي قصتي، فذلك فقط لأن علمي بها أفضل من علمي بقصص الآخرين.
أعتقد أنني لا بد أن أكون قد قرأتُ كتاب «بقايا» قبل أن أغادر إنجلترا عام ١٨٤٦؛ لكن إن كنتُ قد فعلتُ ذلك، فقد كان تأثُّري به قليلًا جدًّا، ولم أَحتكَّ بمسألة الأنواع جديًّا إلا بعد عام ١٨٥٠. في ذلك الوقت، كنتُ قد نبذتُ منذ زمن بعيد المذهب الموسوي الذي يُفسِّر نشأة الكون وفقًا لأسفار موسى الخمسة، الذي انطبع في وعيي الطفولي باعتباره حقيقةً ربانية، في ظل كل التوجيه من جانب الوالدَين والمُعلمِين، وهو ما كلَّفني صراعاتٍ كثيرة حتى أتحرر منه. لكن عقلي لم يكن متحيزًا لأي مذهبٍ مطروح في هذا الشأن، ما دام يُثبت أنه مبني على استدلالٍ فلسفي وعلمي بحت. وكان يبدو لي حينذاك (كما هو الحال الآن) أن «الخلق»، بالمعنى المألوف للكلمة، يمكن تمامًا تصوُّره. وأنا لا أجد صعوبةً في تخيُّل أنه، في عصرٍ ما سابق، لم يكن هذا الكون موجودًا؛ وأنه ظهر في ستة أيام (أو على الفور، إن كان هذا الرأي مفضلًا)، نتيجة لإرادة كيانٍ موجود مسبقًا. كان حينذاك، كما هو الآن، ما يُدعى الحُجج البديهية ضد الألوهية وضد احتمالية وجود أفعال الخلق، مع وضع وجودِ إلهٍ في الاعتبار، تبدو لي خالية من الأساس المنطقي. لم يكن لديَّ آنذاك، وليس لديَّ الآن، أقل اعتراضٍ مسبق على إثارة قصة خلق الحيوانات والنباتات المذكورة في «الفردوس المفقود»، التي يُجسِّد فيها ميلتون تجسيدًا حيًّا المعنى الطبيعي لسفر التكوين. لا يحق لي أن أقول إنها غير صحيحةٍ لأنها مستحيلة. إنما أقتصر على ما يجب اعتباره طلبًا متواضعًا ومعقولًا لبعض الدليل على أن أنواع الحيوانات والنباتات الحالية نشأت بحق بتلك الطريقة، كشرطٍ لإيماني بمسألةٍ تبدو لي غيرَ محتملة للغاية.
كذلك، وحتى أكون منصفًا تمامًا، كان لديَّ الرد نفسه لأنصار التطوُّر فيما بين عامَي ١٨٥١ و١٨٥٨. إنني لم أَلتقِ بأحدٍ من علماء الأحياء، في ذلك الوقت، إلا الدكتور جرانت، من جامعة يونيفرستي كوليدج، الذي كان يدعم التطور، ولم يُقصد بمناصرته الترويج للنظرية. الشخص الوحيد، خارج مجتمع علماء الأحياء، الذي أعرفه والذي كانت معرفته وكفاءته تُجبِران على الاحترام، والذي كان، في الوقت نفسه، مناصرًا تمامًا للتطوُّر، هو السيد هيربرت سبنسر، الذي تعرفتُ عليه، حسبما أعتقد، عام ١٨٥٢، ثم ربطتنا أواصر الصداقة، التي يُسعدني الاعتقاد بأنها لم تشهد أي انقطاع. لقد كانت المعارك التي خضناها حول هذا الموضوع متعددةً وممتدة. لكن حتى مهارة صديقي في المجادلة وغزارة الأمثلة التوضيحية المناسبة لديه لم يستطيعا أن يُزحزِحاني عن موقفي المتشكك. وكنت أستند في موقفي إلى سببين: أولًا: أنه حتى ذلك الوقت، كانت الأدلة الداعمة للتطافُر غير كافيةٍ على الإطلاق. ثانيًا: أن أيًّا من الاقتراحات المتعلقة بأسباب التطافُر المفترض، التي طُرحت، لم يكن مناسبًا بالمرة لشرح الظاهرة. وبالنظر لحالة المعرفة في ذلك الوقت، لا أرى حقًّا أن أي استنتاجٍ آخر كان من الممكن تبريره.
في تلك الأيام، لم أكن حتى قد سمعتُ قَط بكتاب «علم الأحياء» لتريفيرانوس. إلا أنني كنتُ قد درستُ آراء لامارك وقرأتُ كتاب «بقايا» باهتمام؛ لكن لم يُقدِّم لي أيٌّ منهما أيَّ أسبابٍ جيدة لتغيير موقفي السلبي والناقد. أمَّا كتاب «بقايا»، فأعترف أنه أثار حفيظتي ببساطة بسبب الجهل الشديد وطبيعة التفكير غير العلمية مطلقًا اللذَين أبداهما الكاتب. وإن كان له أي تأثير عليَّ على الإطلاق، فهو أنه جعلني ضد التطوُّر؛ والمراجعة النقدية الوحيدة التي أشعر نحوها بوخز الضمير، بسبب الهجوم الضاري غير الضروري، هي التي كتبتُها عن كتاب «بقايا» بينما كنتُ تحت ذلك التأثير.
أمَّا فيما يتعلق بكتاب «فلسفة علم الحيوان»، فليس من قبيل الهجوم على لامارك أن أقول إن مناقشة مسألة الأنواع فيه، أيًّا ما كان يمكن أن يُقال لدعمها في عام ١٨٠٩، كانت أدنى لدرجةٍ بائسة من المستوى الذي وصلَت إليه المعرفة بعد نصف قرن. في تلك الفترة الزمنية، نتج عن معرفة بنية الحيوانات والنباتات الدنيا مفاهيمُ جديدة تمامًا عن علاقاتها؛ وظهر علم الأنسجة وعلم الأجنة بمعناهما الحديث؛ وأُعيد بناء علم وظائف الأعضاء؛ وتضاعفت حقائق التوزيع، الجيولوجي والجغرافي، وجرى تنظيمها. كانت نصف حُجج لامارك لأي عالمِ أحياء جعلَته دراساته يتجاوز مسألة اكتشاف الأنواع فقط ليُضاف اسمُه إليها في عام ١٨٥٠ بالية، أمَّا النصف الآخر، فكانت خاطئة أو معيبة، بسبب إغفالها التطرُّق للفئات المتعددة من الأدلة التي سُلط عليها الضوء منذ عصره. علاوةً على ذلك، كان اقتراحه عن سبب التعديل التدريجي في الأنواع — العمل الذي أثاره تغيُّر الظروف — في ظاهره غيرَ قابلٍ للتطبيق على عالم النبات بالكامل. لا أعتقد أن أي حَكمٍ محايد يقرأ كتاب «فلسفة علم الحيوان» الآن، ويقرأ فيما بعدُ نقد لايل اللاذع والمؤثر (الذي نُشر في عام ١٨٣٠)، سيكون ميالًا لأن ينسب إلى لامارك دورًا في تشكيلِ فكرة التطور البيولوجي يزيد كثيرًا عن ذلك الذي حدَّده بيكون لنفسه فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية بوجهٍ عام؛ إنه بمنزلة «نافخ البوق» فقط.
لكن في إحدى مفارقات القدَر الغريبة، التأثير نفسه الذي جعل ثقتي في التخمينات الحديثة بشأن هذا الموضوع قليلة، كما هو الحال بالنسبة للتعاليم الجليلة المدونة في أول إصحاحَين من سفر التكوين، كان أَقدرَ من أيِّ تأثيرٍ آخر في وجودِ نوعٍ من الاقتناع التوَّاق بداخلي بأنه سيتضح في النهاية أن فكرة التطوُّر صحيحة. أعدتُ مؤخرًا قراءة الطبعة الأولى من «مبادئ الجيولوجيا»؛ وحين أتأمل أن هذا الكتاب المميز ظل بين يدَي الجميع منذ ثلاثين عامًا تقريبًا، وأنه أَوضحَ لأي قارئٍ متوسط الذكاء مبدأً هامًّا وحقيقةً هامة — مبدأَ أن الماضي لا بد أن يُفسِّره الحاضر، إلا إن اتضح سببٌ وجيه بما يفيد العكس؛ وحقيقةَ أنه على قدْرِ معرفتنا بالتاريخ الماضي لحياتنا على كوكبنا، لا يمكن لمثل هذا السبب أن يظهر — لا أملك سوى الاعتقاد بأن لايل كان العامل الرئيسي، لي وللآخرِين، في تمهيد الطريق لأفكار داروين. إن مبدأ الاتساقية يفترض التطوُّر في العالم الحيوي كما في العالم غير الحيوي. ونشأة نوعٍ جديد بأي شيءٍ آخر غير العوامل العادية ستكون «كارثة» أكبر كثيرًا من تلك التي أقصاها لايل بنجاح من التفكير الجيولوجي الرزين.
في الواقع، لم يكن أَحدٌ أكثر إدراكًا لهذا من لايل نفسه. إن قرأ أحدٌ أيًّا من الطبعات الأُولى من كتاب «مبادئ الجيولوجيا» بعناية (لا سيما في ضوء سلسلة الخطابات المثيرة للاهتمام التي نشرها مؤخرًا كاتب سيرة السير تشارلز لايل الذاتية)، فسيرى بسهولة أن لايل، مع كل معارضته النشطة للامارك، من ناحية، وفكر أجاسي فيما يتعلق بالتطوُّر الموجه، من ناحيةٍ أخرى، كان، في ذهنه، ميالًا بشدة لأن يُرجع نشأة كل الأنواع السابقة والحالية من الكائنات الحية لأسبابٍ طبيعية. لكنه كان يُفضِّل، في الوقت نفسه، أن يُرجع عملية الخلق لعمليةٍ طبيعية تخيَّل أنها مستعصية الفهم.
لكن، على أي حال، ما التغيُّرات التي قد تخضع لها الأنواع حقًّا؟ كم سيكون مستحيلًا تمييز ووضع الخط الذي لم يجتَزْه قط بعضٌ مما يُسمَّى الأنواع المنقرضة إلى الأنواع الحالية!
مرةً أخرى، ترد الفقرة التالية الجديرة بالملاحظة في حاشيةِ خطابٍ مُوجَّه إلى السير جون هيرشيل عام ١٨٣٦:
«فيما يتعلق بنشأة أنواعٍ جديدة، يسرني جدًّا أن أعلم باعتقادك أنه من المُرجَّح استمرارها من خلال تدخلِ أسبابٍ وسيطة. وقد تركت هذا الأمر للاستنباط، معتقدًا أنه ليس من المجدي إثارة سخط فئةٍ معينة من الأشخاص بوضع شيء لا يعدو كونه تخمينًا في كلمات.» ويستمر في حديثه مشيرًا إلى الانتقادات التي وُجهت ضده على أساس أنه إن سمح للأنواع بأن تنشأ بمعجزة، يكون غير متسق مع مذهبه، مذهب الاتساقية؛ ويترك الأمر ليُفهم أنه لم يحدد رأيه، على أساس اعتراضه العام على الجدل.
لقد تحدث السيد لايل، بالطبع، عن الفرضية القائلة بأن «خلق الأنواع المتتابع قد يُشكِّل جزءًا منتظمًا من منظومة الطبيعة»، لكنه لم يصف في أيِّ موضع، على ما أعتقد، هذه العملية حتى يُبيِّن لنا في أيٍّ من أفرع العلوم نضع فرضيته. هل تُخلق هذه الأنواع الجديدة، على فتراتٍ طويلة، بإنتاج ذريةٍ مختلفة في النوع عن آبائها؟ أم هل تُنتج الأنواع التي خُلقت هكذا دون آباء؟ وهل تتطور تدريجيًّا من مادةٍ جنينيةٍ ما؟ أم تخرج من الأرض فجأة، كما هو الحال في حالة الشاعر المبدع؟
يبدو الجزء الأول من هذا النقد منصفًا وملائمًا تمامًا، لكن، من الفقرة الختامية، يبدو واضحًا أن هيول يتخيل أن لايل يقصد ﺑ «الخلق» تدخلًا خارقًا للطبيعة من الرب؛ بينما يكشف الخطاب إلى هيرشيل أن لايل، في ذهنه، قصد سببيةً طبيعية؛ وأنا لا أرى سببًا للشك أنه إن كان السير تشارلز يستطيع تحاشي اللازمة الطبيعية الحتمية للأصل القردي للإنسان — التي ظل حتى نهاية حياته يرفضها بشدة — لكان أيَّد الأسباب الفاعلة الآن والتي تمخَّضَت عنها حالة العالم الحيوي، كما أيَّد بقوة ذلك المذهب فيما يتعلق بالطبيعة غير الحيوية.
يؤيد دكتور هيول الاستنتاج الثاني. ولو كان أيُّ أحدٍ ألحَّ عليه بالأسئلة الأربعة التي طرحها على لايل في الفقرة المذكورة آنفًا، فكل ما يمكن قوله الآن أنه كان بالطبع سيرفض الاستنتاج الأول. لكن هل كان حقًّا لديه الشجاعة ليقول إن وحيد القرن الصوفي مثلًا، «نتج دون أبوَين»: أو «تطور من مادةٍ جنينية»؛ أو نشأ فجأةً من الأرض مثل أسد ميلتون «ضاربًا بمخالبه ليُحرِّر أجزاءه الخلفية.» أسمح لنفسي بالشك فيما إن كانت حتى شجاعة عميد كلية ترينيتي المحنكة — على المستوى المادي والفكري والأخلاقي — كانت مستعدة لهذه الخطوة. لا شك أن اجتماعَ نصفِ طنٍّ من الجزيئات غير الحيوية في جسدِ وحيد قرنٍ حي فجأة من الأشياء التي يمكن تصوُّرها؛ ومِن ثَمَّ قد يكون ممكنًا. لكن هل يقع هذا الحدث في حدود الممكن بالقَدْر الكافي ليُبرِّر تصديق حدوثه بناءً على أي دليلٍ يجوز إدراكه أو بالطبع تخيُّله؟
وفيما يتعلق بالزعم (الذي رُدد كثيرًا في بداية معارضة داروين) بأنه لم يضف شيئًا إلى كلام لامارك، فسيكون من المثير جدًّا للاهتمام أن نلاحظ أن احتمالية وجود بديلٍ خامس، بالإضافة إلى الأربعة التي جرى ذكرها، لم تخطر على بال الدكتور هيول. إن الاقتراح القائل بأن أنواعًا جديدة قد تنتج عن انتقاءِ ظروفٍ خارجية لتباينات عن النمط المُحدَّد الذي يمثله الأفراد — وهو ما نقول إنه فعلٌ «تلقائي» لأننا نجهل سببه — لَهو أمرٌ مجهول تمامًا لمؤرخ الأفكار العلمية كما كان للمتخصصين في علم الأحياء قبل عام ١٨٥٨. لكن ذلك الاقتراح هو الفكرة المحورية في كتاب «أصل الأنواع» ويمثل جوهر الداروينية.
لذا، عند النظر في الماضي، يبدو لي أن موقفي النقدي المترقب كان عادلًا ومنطقيًّا، وكان يجب أن يتخذه كثيرون آخرون، للأسباب نفسها. حين أخبرني أجاسي أن أشكال الحياة التي سكنت الأرض على نحوٍ متعاقب كانت تجسيدات لأفكار الإله المتعاقبة، وأنه محا مجموعةً من هذه التجسيدات بكارثةٍ جيولوجية مُروِّعة بمجرد أن اتخذت أفكاره شكلًا أكثر تطورًا، وجدتُ نفسي لست فقط غير قادر على أن أُقرَّ بدقةِ استنتاجاته من حقائق علم الحفريات، التي قامت عليها هذه النظرية العجيبة، ولكن كان يجب كذلك أن أُقر بحاجتي لأي وسائل لاختبار صحة تفسيره لها. وعلاوةً على ذلك، كنت لا أستطيع إدراك ما الذي فسره التفسير. كذلك لم يساعدني إخبار أحد علماء التشريح البارزين إياي أن الأنواع تعاقَبت الواحد تلو الآخر في الزمن، بسبب «قانون خلق مستمر العمل». لم يبدُ هذا لي أكثر من القول بأن الأنواع تلت بعضها الآخر، في شكلٍ يسعى لإرضاء كل الأطراف؛ فهناك «قانون» لإرضاء رجل العلم، و«خلق» لجذب المُتشدِّدين. هكذا لجأتُ إلى «التشكُّك النشط»، الذي أحسن جوته تعريفه للغاية، وناقضَت المبدأ الديني القائل بضرورة السعي لإرضاء الجميع؛ فدأبتُ على الدفاع عن التمسُّك بالمذاهب المسلَّم بها، حين كان يتوجب عليَّ ذلك مع مناصري التطافُر، ودافعتُ عن إمكانية التطافُر بين المُتشدِّدِين؛ مما عمَّق، لا ريب، الانطباع، الذي كان بالفعل سائدًا، وإن لم يكن مستحقًّا على الإطلاق، بعدوانيتي التي لا ضرورة لها.
حين كان هكسلي وهوكر ووولستن في منزلِ داروين الأسبوع الماضي، أيد (الأربعة جميعهم) مسألة الأنواع، ذاهبِين في ذلك إلى حدٍّ ليسوا على استعداد له، حسبما أعتقد.
لا أذكُر من هذا سوى مقابلة السيد وولستن؛ وبعيدًا عن تأكيد السير تشارلز الواضح بقوله «الأربعة جميعهم»، أعتقد أن «تجرُّئي» كان ردًّا على تحفُّظ وولستن. أمَّا هوكر، فقد كان بالفعل «على استعداد لفعلِ أيِّ شيء»، مثل حبقوق في وصف فولتير له، في سبيل الترويج لنظرية التطور.
وكما قلتُ بالفعل، يُخيَّل لي أن أغلب هؤلاء المُعاصرين لي الذين فكروا في المسألة بجدية، كانت لديهم الحالة الذهنية نفسها إلى حدٍّ كبير — فهم يميلون لأن يقولوا لكلٍّ من مناصري الفكر التقليدي ومناصري التطوُّر: «عليكما اللعنة أنتما الاثنين!» وينزعون للانصراف عن نقاشٍ لا نهايةَ له ويبدو عقيمًا، ليعملوا في الحقول الرحبة للحقائق التي يمكن التثبت منها. وبناءً على ذلك، يجوز لي أن أفترض أيضًا أن نشر أبحاثِ داروين ووالاس عام ١٨٥٨، وكتاب «أصل الأنواع» عام ١٨٥٩ بدرجةٍ أكبر، قد أثَّر عليهم أَثَر بصيص الضوء، الذي يكشف الطريق فجأة لمن ضلَّ في ليلٍ بهيم، والذي، سواءٌ أرشده لمنزله مباشرةً أم لا، سيُوجِّه خطاه بالتأكيد. إنَّ ما كنا نبحث عنه ولم نستطع العثور عليه، كان نظريةً تتعلق بنشأة أشكالٍ حيوية معروفة، والتي لا تدَّعي تأثيرَ أسبابٍ غير التي يمكن إثبات أنها عاملة بالفعل. نحن لم نكن نريد أن نركن إلى هذا التخمين أو ذاك، وإنما أن نحصل على مفاهيمَ واضحةٍ ومحددة يمكن مواجهتها بالحقائق واختبار صحتها. وقد أمدَّنا كتاب «أصل الأنواع» بالنظرية المقبولة التي كنا نبحث عنها. كما أنه قدَّم خدمةً عظيمة بتحريرنا للأبد من المعضلة التالية: فلترفض قبول نظرية الخلق، لكن ماذا لديك لتطرحه يمكن أن يقبله أيُّ مُفكرٍ حذِر؟ في عام ١٨٥٧، لم يكن لديَّ ردٌّ جاهز، ولا أعتقد أنه كان لدى أيِّ أحد. وبعد ذلك بعام، وبَّخنا أنفسنا على بلادتنا لوقوعنا في حَيرةٍ إزاء هذا السؤال. لقد كان انطباعي، حين أصبحت ملمًّا لأول مرة بالفكرة المحورية لكتاب «أصل الأنواع»، هو: «كم كنتُ شديد الغباء لعدم التفكير في ذلك!» وأعتقد أن رفاق كولومبوس قالوا الشيء نفسه تقريبًا حين جعل البيضة تقف على طرفها. كانت حقائق القابلية للتباين والصراع من أجل البقاء والتأقلُم مع الظروف، ذاتَ سمعةٍ سيئة تمامًا، لكن لم يساور أيًّا منا الشكُّ أن الطريق لِلُب مشكلة الأنواع يمر خلالها، إلى أن بدَّد داروين ووالاس الظلام، وأَرشدَت منارةُ كتابِ «أصل الأنواع» مَن غيَّبهم الظلام والجهل.
ما إن كان الشكل المُحدَّد الذي اتخذَته نظرية التطور، فيما يتعلق بالعالم الحيوي، على يد داروين، سيصبح نهائيًّا أم لا، لم يكن من الأمور التي آبه لها. في انتقاداتي الأُولى لكتاب «أصل الأنواع»، أشرتُ إلى أن أساسه المنطقي كان متقلقلًا ما دامت تجارب الاستيلاد الانتقائي لم تنتج ضروبًّا عقيمة بنحو أو بآخر؛ ولا يزال هذا التقلقُل قائمًا حتى الوقت الحاضر. غير أنه، مع كل الشكوك النقدية التي استطاعت مهارتي في التشكيك أن تطرحها، تظل النظرية الداروينية أكثر ترجيحًا على نحوٍ لا يُقارَن من نظرية الخلق. وما دام لم يستطع أيٌّ منا أن يُميِّز المغزى الأهم لبعض الحقائق الطبيعية الأكثر وضوحًا وشهرة، حتى وُضعت أمامنا مباشرةً، إن جاز القول، فما القوة الباقية في المعضلة — الخلق أم لا شيء؟ كان جليًّا أنه فيما بعدُ، سيصير احتمالُ أن روابط السببية الطبيعية كانت مخفية عن أعيننا الضعيفة البصر أكبر كثيرًا من احتمال أن السببية الطبيعية لا بد أن يكون بها قصورٌ لإنتاج كلِّ ظواهر الطبيعة. وكان المسار المنطقي الوحيد لأولئك الذين لم يكن لديهم هدفٌ سوى بلوغ الحقيقة، هو قبولَ «الداروينية» باعتبارها نظريةً مقبولة، ورؤيةَ ما يمكن عمله بها. إنها إما أن تثبت قدرتها على إبانة حقائق الحياة الحيوية، وإما أن تنهار تحت الضغط. لا شك أن هذا كان ما يمليه المنطق؛ ولأول مرة انتصر المنطق. وكانت النتيجة انقلاب عالم العلم بأسره «رأسًا على عقب»، وهو ما لا بد أن يبدو مدهشًا جدًّا للجيل الحالي. أنا لا أقصد أن كل رواد علم الأحياء قد أعلنوا أنهم داروينيون؛ غير أنني لا أعتقد أن ثَمَّةَ عالمَ حيوانٍ أو نبات أو حفرياتٍ واحد، بين حشد العاملين بنشاطٍ في هذا الجيل، إلا وصار من أنصار التطور وتأثَّر تأثُّرًا عميقًا بآراء داروين. ومهما يكن المصير النهائي للنظرية الخاصة التي طرحها داروين، فسأُجازف وأؤكِّد، على قدْرِ معرفتي، أن كل مهارةِ وعلمِ النقاد المعاندِين لم تُمكنهم من إثباتِ حقيقةٍ واحدة، يمكن القول بأنها متعارضة مع النظرية الداروينية. لكن في التنوُّع والتعقيد الهائلَين للطبيعة الحيوية يُوجد الكثير من الظواهر التي لا يمكن استخلاصها من التعميمات التي تَوصَّلنا إليها حتى الآن. لكن يمكن قول الشيء نفسه عن كل فئات الأشياء الطبيعية الأخرى؛ إذ أعتقد أن علماء الفلك لم يستطيعوا حتى الآن التوفيق تمامًا بين حركة القمر ونظرية الجاذبية.
لن يكون من المناسب، حتى لو كان ممكنًا، أن نناقش الصعوبات والمشكلات العالقة التي قابلت أنصار التطوُّر حتى الآن، والتي ربما ستظل تُحيِّرهم في الأجيال القادمة، في سياق هذا السرد التاريخي الموجز عن استقبالِ عمل السيد داروين العظيم. لكنَّ ثَمَّةَ اعتراضَين أو ثلاثة ذات طبيعةٍ عامة أكثر، أو يُفترض أنها قائمة على أُسسٍ فلسفية ولاهوتية، والتي عُبر عنها بقوة في أوائل أيام الجدل الدارويني، والتي رغم الرد عليها مِرارًا وتَكرارًا، ما زالت تُطِل برأسها من حينٍ لآخر حتى الوقت الحاضر.
الأغرب من بين كل هذه المغالطات، الأبدية ربما، التي ما زالت باقية كأنها تيثونوس، في حين أن العقل والمنطق قد أعرضا عنها من زمنٍ بعيد، هي التي تتهم السيد داروين بمحاولةِ إعادةِ فكرةِ ربة الحظ الوثنية القديمة [التي يُنسب فيها كل ما يحدث للإنسان إلى ما يصادفه من حظٍّ جيد أو سيئ.] يُقال إنه يُفترض أن التباينات تحدث ﺑ «الصدفة»، وأن الأصلح ينجو من صدف الصراع من أجل البقاء، وهكذا تحل «الصدفة» مكان التدبير الإلهي.
من الغريب أن يُوجَّه مثل ذلك الاتهام إلى كاتب ظل مرارًا وتكرارًا ينبه قراءه إلى أنه حين يستخدم كلمة «تلقائي»، لا يقصد سوى أنه يجهل سبب الشيء الذي وصفه بها؛ والذي ستنهار نظريته بالكامل إن أُنكر اتساق السببية الطبيعية واطرادُها على مدى عصورٍ ماضية لا متناهية. لكن ربما أفضلُ ردٍّ على أولئك الذين يتحدثون عن الداروينية باعتبارها نظريةً عن سيطرة «الصدفة»، أن نسألهم عن مفهومهم عن «الصدفة». هل يعتقدون أن أي شيء في هذا الكون يحدث دون سبب أو دون علة؟ هل يتصورون حقًّا أنه ليس لأي حدث من الأحداث سبب، ولا يمكن لأي شخصٍ لديه بصيرةٌ كافية بنظام الطبيعة أن يتنبأ به؟ إن كانوا كذلك، فهم ورثة الخرافات القديمة والجهل، ولم يُضئ عقولَهم أيُّ شعاع من التفكير العلمي قَط. التصرُّف الوحيد لإثبات جدية الإيمان عند اعتناق المذهب العلمي هو الإقرار بشمولية النظام والصحة المطلقة لقانون السببية في كل الأزمان وفي جميع الظروف. هذا الإقرار يثبت جدية الإيمان لأن صحة تلك الافتراضات ليست، نظرًا لطبيعة الحالة، قابلة للإثبات. غير أن هذا الإيمان ليس أعمى، وإنما منطقي؛ لأنه يتأكد دائمًا بالتجربة، ويُشكِّل الأساس الوحيد الجدير بالثقة لكل الأفعال.
إن كان أحد هؤلاء الناس، الذين ما زالوا، على نحوٍ غريب، باقِين على عبادة الصدفة مثل أسلافنا القُدامى جدًّا، على مقربةٍ من البحرِ أثناءَ هبوبِ عاصفةٍ عاتية، فلتدَعه يتجه للشاطئ ويشاهد المنظر. اجعله يُدوِّن التنوُّع اللانهائي في شكل الأمواج المتلاطمة في البحر وحجمها؛ أو منحنيات تكسُّرها على الصخور المكلل بالزَّبَد؛ ودعه يُنصت لهديرِ الحصى وصخَبه وهو يُلقى على الشاطئ ويُقتلع منه؛ أو ينظر إلى كُتل الزَّبَد وهي تترامى هنا وهناك أمام الرياح؛ أو يُلاحظ تنوُّع الألوان، الذي يحدُث عند سقوطِ شعاعٍ من ضوء الشمس على آلاف الفقاعات. لا شك أنه سيقول في هذا الموقف على وجه الخصوص، إن الصدفة عظيمة، ويركع كمن دخل في حَرمِ ربه. لكن رجل العلم يعلم أن النظام المثالي هو ما يتجلَّى هنا، كما في كلِّ مكان؛ وأنه ليس ثَمَّةَ منحنًى في الموجات، أو نَغْمة في النشيد المُدوِّي، أو ومضةُ قوسِ قُزحٍ في فُقاعة، إلا وكانت نتيجةً حتمية للقوانين المحكمة للطبيعة؛ وأنه مع معرفةٍ كافية بالظروف، يستطيع من لدَيه إلمام بالرياضيات والفيزياء تفسير كلٍّ من هذه الأحداث «العارضة»، والتنبُّؤ بها بالطبع.
هناك اعتراضٌ ثانٍ شائع جدًّا على آراء السيد داروين، وهو الذي كان (ولا يزال) يقول إنها تُلغي مبدأ الغائية، وتنتزع الحُجة من مسألة التصميم. مضى عشرون عامًا تقريبًا منذ أقدمتُ على تقديم بعض الملحوظات حول هذا الموضوع، وبما أن حُججي لم تَلقَ تفنيدًا حتى الآن، أرجو المعذرة في إعادة نشرها. لاحظتُ أن «مذهب التطوُّر هو ألدُّ أعداءِ كلِّ أشكالِ مبدأ الغائية الأكثر انتشارًا وابتذالًا. لكن ربما أبرزُ خدمةٍ قدَّمها السيد داروين لفلسفة علم الأحياء هي المواءمة بين مبدأ الغائية وعلم التشكُّل، وتفسير حقائق كلٍّ منهما، الذي تُقدِّمه آراؤه. لا شك أن الغائية التي تفترض أن العين، مثل التي نراها لدى الإنسان، أو أحد الفقاريات العليا، قد خُلقَت بالتكوين المحدَّد الذي تظهر به، من أجل تمكين الحيوان الذي يملكها من الرؤية، قد تلقَّت الضربة القاضية. غير أنه من الضروري تذكر أن ثَمَّةَ تصورًا أوسعَ للغائية لم يمسَّه مذهب التطوُّر، بل إنه في الواقع قائم على فرضية التطوُّر الأساسية؛ هذه الفرضية هي أن العالم بأَسْره، الحي وغير الحي، هو نتاجُ تفاعُلٍ متبادل، وفقًا لِقوانينَ محددة، بين القوى الخاصة بالجُزيئات التي تَكوَّن منها السديم الأَوَّلي للكون. إن صحَّ هذا، فمن المؤكَّد أن العالم الحالي ربما يقبع في البخار الكوني، وأنه يمكن لعقلٍ يمتلك قدْرًا كافيًا من الذكاء، لديه معرفة بخواصِّ جُزيئات هذا البخار، التنبُّؤ مثلًا بحال الحيوانات في بريطانيا عام ١٨٦٩، بنفس اليقين الذي يستطيع به أحدهم أن يقول ما سيحدث لبخار النَّفس في يومٍ شتوي بارد.
والآن وقد انتهينا من مغالطتَي الإيمان بدور الصدفة وإنكار التصميم، لعدم ارتباطهما بمذهب التطوُّر على أيِّ نحو، يمكننا أن نترك الطعن الثالث في حق هذا المذهب؛ أي معارضته الإيمان بوجود إله، ليُدحض من تِلقاءِ نفسه. لكن إصرار كثيرٍ من الناس على رفضِ استنباطِ أوضح العواقب من الفرضيات التي يدَّعون قبولها يجعل من المستحسن الإشارة إلى أن مذهب التطوُّر ليس معارِضًا للألوهية ولا مؤيدًا لها. إن علاقته بالإيمان بوجودِ إلهٍ ببساطة لا تتعدى علاقة كتاب إقليدس الأول به. من المؤكَّد تمامًا ألا تحتوي البيضة العادية التي وَضعَتها دجاجةٌ الآن على ديك أو دجاجة؛ كذلك من المؤكَّد مثل أي فرضية في الفيزياء أو الأخلاق، أن يُوجد فرخ ديكٍ أو دجاج بداخلها عند وضع تلك البيضة في ظروفٍ مناسبة لمدة ثلاثة أسابيع؛ من المؤكد تمامًا أيضًا أنه لو كانت القشرة شفَّافة، لكنا سنستطيع مشاهدة تكوُّن الطير الصغير، يومًا بعد يوم، من خلال عمليةِ تطور، بدءًا من جنينٍ خلوي مجهري حتى يبلغ حجمه الكامل وتكوينه المعقَّد؛ ومِن ثَمَّ، يجري التطوُّر بالفعل، بمعناه الدقيق، في هذه الحالة وملايين الملايين من الحالات المماثلة، متى وُجدَت كائناتٌ حية؛ بناءً على ذلك، وباستعارة إحدى حُجج باتلر، مثلما يجب أن يتسق ما يحدث الآن مع سمات الرب، إن كان ذلك الكيان موجودًا، لا بد أن يتسق التطوُّر مع هذه السمات. وإن كان الأمر كذلك، فلا بد أن يكون تطوُّر الكون، الذي يشبه تطوُّر فرخ الطير في قابليته للتفسير، متسقًا معها. إذن، لا يمس مذهب التطوُّر الألوهية، باعتبارها مذهبًا فلسفيًّا. أما ما يصطدم به بحق، ولا يتسق معه بتاتًا، فهو مفهوم الخلق، الذي وضعه مُنظِّرون لاهوتيون على أساس التاريخ المروي في بداية سفر التكوين.
ثَمَّةَ الكثير من النقاش وقدْرٌ غيرُ ضئيل من الأسى على ما يُسمَّى بالصعوبات الدينية التي أحدثَتها العلوم الطبيعية. لكنها، في واقع الأمر، لم تُحدث أية مشكلة في العلوم اللاهوتية؛ فلم تظهر مشكلةٌ واحدة للمؤمنِين بالألوهية باعتبارها مذهبًا فلسفيًّا، في الزمن الحاضر، إلا وكانت موجودةً منذ الزمن الذي بدأ فيه الفلاسفة التفكير في الأُسس والعواقب المنطقية للألوهية. إن كل الصعوبات، سواءٌ كانت حقيقيةً أو وهمية، التي تنبع من تصوُّر الكون كنظامٍ آلي حتمي، موجودة بنفس القَدْر في افتراضِ وجودِ إلهٍ أبدي وقدير وعليم. إن المكافئ اللاهوتي للتصوُّر العلمي للنظام هو العناية الإلهية؛ وكما يَنتج مذهب الحتمية قطعًا عن سمات المعرفة المُسبقة التي يفترضها عالم اللاهوت، ينتج أيضًا عن شمولية السببية الطبيعية التي يدَّعيها رجل العلم. إن الملائكة في «الفردوس المفقود» ما كانت لِتجدَ مهمة تعريف آدمَ بألغاز «القدَر والمعرفة المُسبقة وحرية الإرادة» صعبة على الإطلاق، لو كان تلميذهم قد تعلم في مدرسةٍ ثانوية، وتدرَّب في معملِ جامعةٍ حديثة. وفيما يتعلق بمشكلات الفلسفة الكبرى، فإن جيلَ ما بعد الداروينية، من ناحيةٍ، يقف منها موقف أجيال ما قبل الداروينية نفسها بالضبط. إنها ما زالت غير قابلةٍ للحل. إلا أن الجيل الحالي لديه مَيزةُ توفُّر وسائلَ أفضلَ لتحرير نفسه من سلطان بعض الحلول الزائفة.
ما نعرفه محدود، وما نجهله لا محدود؛ فما زلنا على المستوى الفكري واقفِين على جزيرةٍ وسط محيطٍ لا مُتناهٍ من الأشياء غير القابلة للتفسير. ومهمتنا في كلِّ جيلٍ أن نستكشف القليل من اليابسة، ليزيد اتساعُ أملاكنا ورسوخها. وتكفي نظرةٌ خاطفة على تاريخ العلوم البيولوجية خلال ربع القرن الأخير لتأكيد الزعم بأن أقوى وسيلةٍ توصَّل إليها البشر لتوسيع مجال المعرفة الطبيعية، منذ نشر كتاب نيوتن «المبادئ الرياضية»، هي كتاب «أصل الأنواع» لداروين.
لقد لاقى الكتاب استقبالًا سيئًا من الجيل الذي كان موجهًا له في البداية، وإنه مما يبعث على الحزن التفكير فيما أسفر عنه من فيضٍ من التُّرَّهات الغاضبة. إلا أن الجيل الحالي ربما يتصرف على النحو السيئ نفسه إن جاء داروين آخر، وطالبهم بأكثر ما يكرهه عموم البشر؛ ألا وهو ضرورةُ مراجعةِ قناعاتهم. إذن فليترفَّقوا بنا، نحن الجيل القديم؛ وإن لم يتعاملوا على نحوٍ أفضل مما فعل رجالُ عصري مع أيِّ رجلٍ مبدع جديد، فليتذكَّروا أن سخطنا لم يكن بالغًا، ونفَّس عن نفسه على نحوٍ أساسي من خلال استخدام اللغة البذيئة في توبيخٍ لا يخلو من ادِّعاء التقوى. وليقوموا بسرعةٍ بمراجعةٍ ذاتية استراتيجية، ويتبعوا الحقيقة أينما تأخذهم. سيكتشف معارضو الحقيقة الجديدة، كما يكتشف الآن معارضو داروين، أن النظريات لا تُبدِّل الوقائع، وأن الكون لا يتأثر حتى مع انهيار النصوص؛ أو، حيث إن التاريخ يُعيد نفسه، ربما يكتشفون أيضًا بما حظُوا به من براعة أن النبيذ الجديد من غلة كرم النبيذ القديم نفسها، وأن الزجاجات القديمة (عند النظر إليها بمنظارٍ صحيح) ما هي إلا أشياء صُنعت فقط للاحتفاظ بها.