ذكريات من حياة والدي اليومية
أسعى في هذا الفصل لأن أُقدِّم لمحة عن حياة والدي اليومية. وقد رأيتُ أنني يمكنني القيام بذلك من خلال رسمِ صورةٍ سريعة للحياة اليومية في منزل داون، التي سوف تتخللها بعض الذكريات التي تستدعيها الذاكرة. والعديد من تلك الذكريات، التي هي ذات معنًى لمن كانوا يعرفون والدي، ستبدو مملةً وتافهة للغرباء. وبالرغم من ذلك، فسوف أذكُرها لعلها تُبقي على ذلك الانطباع عن شخصيته الذي ما زال باقيًا لدى من عرفوه وأحبوه؛ وهو انطباعٌ واضح جدًّا ولا يمكن ترجمته إلى كلمات في آنٍ واحد.
بالنسبة إلى مظهره الشخصي (وفي ظل هذه الأيام التي نشهد فيها انتشار الصور الفوتوغرافية)، ليس هناك داعٍ لأن نقول الكثير. لقد كان يبلغ من الطول ستة أقدام تقريبًا، لكنه لم يكن يبدو طويلًا للغاية؛ إذ كان ظهره محنيًّا بدرجةٍ كبيرة، وقد استسلم في آخر أيامه لهذا الانحناء، لكنني أستطيع أن أتذكره قبل ذلك بفترةٍ طويلة، وهو يقف مستقيمًا مع بعض الاهتزاز يطيح بذراعَيه إلى الخلف ليفتح صدره. لقد كان يُخلِّف عنه انطباعًا بأنه نشيطٌ أكثر مما هو قوي، ولم تكن كتفاه عريضتَين بما يتناسب مع طوله، لكنهما لم تكونا صغيرتَين بالتأكيد. لا بد أنه كان يتمتع بقدرةٍ كبيرة على التحمُّل حين كان شابًّا صغيرًا؛ ففي إحدى الجولات الاستكشافية الشاطئية، التي كان يقوم بها في رحلة «البيجل»، كان الجميع يُعانون من ندرة المياه، وكان هو أحد الرجلَين اللذَين كانا أكثر قدرةً على المثابرة بحثًا عن الماء. لقد كان نشيطًا حين كان صبيًّا، وكان يمكنه أن يقفز حاجزًا يحاذي ارتفاعه «تفاحة آدم» الموجودة في رقبته.
كان يسير متأرجحًا، وهو يستند على عصا كعبها من الحديد الثقيل، وهي التي كان يدق بها على الأرض بصوتٍ عالٍ، فتُصدِر حين كان يمشي بها على «الممشى الرملي» في داون طقطقة متواترة الإيقاع، والتي ظلت ذكرى واضحة للغاية لدى كلٍّ منا. وعند عودته من جولته التي كان يقوم بها في منتصف النهار، حاملًا في معظم الأحوال معطفه الواقي من المطر أو عباءته؛ وذلك لشعوره بالحر الشديد، يستطيع المرء أن يرى أنه يُحافظ على خطوته المتأرجحة تلك ببعض الجهد. كانت خطوته في داخل المنزل بطيئة ومجهَدة في أغلب الأحيان، وحين كان يصعد الدرَج في العصر، كان صوت وقع أقدامه يتردد ثقيلًا، كما لو أنه كان يبذل مجهودًا كبيرًا في كل خطوة. أمَّا حين كان ينهمك في عمله، فقد كان يتحرك بسرعة وسهولة كافيتَين. وكثيرًا ما كان يُهروِل داخلًا إلى الردهة في أثناء قيامه بالإملاء لِيشتمَّ بعض النشوق، تاركًا باب المكتب مفتوحًا وصائحًا بالكلمات الأخيرة من جملته في أثناء سيره. وأحيانًا، كان يستخدم في داخل المنزل عصا مصنوعة من خشب البلوط تشبه عصا التسلُّق الصغيرة، وقد كانت تلك علامةً على أنه يشعر بالدُّوار.
بالرغم من قوته ونشاطه، فإنني أعتقد أنه لم يكن يتمتع قط بالرشاقة في الحركة؛ فلم يكن بارعًا في استخدام يدَيه، ولم يكن يُجيد الرسم على الإطلاق. (إن الشكل الذي يمثل محتويات الخلية مجمعة في كتابه «النباتات آكلة الحشرات» من رسمه.) وقد كان يشعر بالأسف الشديد لذلك، وطالما كان يؤكِّد الأهمية القصوى لأن يسعى الشباب من الباحثين في التاريخ الطبيعي إلى إجادة الرسم.
كان بارعًا في التشريح تحت المِجهر البسيط، لكنني أعتقد أنَّ ذلك يعود إلى ما كان يتمتع به من صبرٍ وما يُوليه من عنايةٍ بالغة. لقد كان يعتقد أنَّ العديد من التفاصيل الصغيرة المتعلقة بالبراعة في التشريح لهي أمرٌ يكاد يفوق مستوى القدرات البشرية. وكان يتحدث كثيرًا بإعجابٍ عما شهده من براعة نيوبورت في تشريحِ نحلةٍ طنانة؛ إذ استخرج جهازها العصبي بعد أن جزَّها بضع مراتٍ فقط بمقصٍّ رفيع كان يمسكه، كما اعتاد والدي أن يُوضِّح، وهو يرفع مِرفَقه، وبأسلوب يضمن تحقيق درجةٍ كبيرة من الثبات الضروري بالطبع. لقد كان والدي يعتقد أنَّ إعداد المقاطع التشريحية إنجازٌ عظيم، وفي العام الأخير من حياته، أبدى طاقةً مدهشة وبذل قُصارى جهده لكي يتعلم كيفيةَ إعدادِ مقاطع من أوراق النباتات وجذورها. لم تكن يداه ثابتتَين بما يكفي للإمساك بالشيء المراد قطعُ جزءٍ منه، وقد كان يستخدم مِشراحًا دقيقًا عاديًّا، تكون البقعة المخصصة للإمساك بالشيء مثبتةً بإحكام، وتنزلق الشفرة على سطح زجاجي عند إعداد المقاطع. وقد اعتاد على السخرية من نفسه ومهارته في إعداد المقاطع، وهي التي كان يقول عنها: «إنها تجعله عاجزًا عن الكلام من فَرْط الإعجاب بها.» بالرغم من ذلك، فلا بد أنه كان يتمتع بدقة النظر والقدرة على تنسيق حركاته؛ إذ كان بارعًا في التصويب بالبندقية حين كان شابًّا، وفي الرمي حين كان صبيًّا. لقد قتل ذات يوم أرنبًا بريًّا كان يجلس في حديقة الزهور في شروزبيري، وذلك برميه بقطعةٍ صغيرة من الرخام، وحين أصبح رجلًا، قتل ذات مرة طائرًا ملتوي المنقار برميه بقطعة من الحجارة. لقد كان مستاءً للغاية لقتله هذا الطائر بلا جدوى، حتى إنه لم يذكر الأمر لسنوات، ثم وضَّح بعد ذلك أنه ما كان ينبغي له أن يرميه بقطعة الحجارة، إذا لم يكن متأكِّدًا من أنه فقد مهارته القديمة في الرمي.
كان يتململ بأصابعه في أثناء السير، وقد وصف ذلك في أحدِ كُتبه بأنها عادةُ رجلٍ عجوز. وكثيرًا ما كان يُمسك أحدَ مِعصمَيه بيده الأخرى حين كان يجلس، وقد كان يجلس واضعًا ساقًا على ساق، وقد كانت الساقان تتصالبان بدرجةٍ كبيرة من شدة نحافتهما، ويتضح ذلك في إحدى صوره الفوتوغرافية. وقد كان يرفع كرسيه الموجود في المكتب وفي غرفة الاستقبال إلى مُستوًى أعلى من المعتاد في الكراسي الأخرى؛ ذلك أنَّ الجلوس على كرسيٍّ منخفض الارتفاع أو حتى في الارتفاع المعتاد كان يتسبب في شعوره بعدم الارتياح. وقد اعتدنا أن نسخر من قيامه بزيادة ارتفاع كرسيه في غرفة الاستقبال أكثرَ وأكثرَ بوضع عددٍ من مساند القدمَين فوقه، ثم معادلة النتيجة بأن يضع قدمَيه على كرسيٍّ آخر.
كانت لحيته كثةً وغير مُهذَّبة في معظمها، وقد كان شعره رماديًّا يمتزج بالأبيض، ناعمًا لا خشنًا، وكان مموَّجًا أو مجعَّدًا. وكان شاربه يبدو مشوَّهًا بعض الشيء، بقصته القصيرة العريضة. وقد أصابه الصلع فيما بعد، ولم يَتبقَّ في رأسه سوى بعضٍ من الشعر الداكن بالخلف.
كان وجهه متورد اللون، ولعل ذلك قد جعل الناس يظنون أنه أقل اعتلالًا مما كان عليه. لقد كتب إلى الدكتور هوكر (١٣ يونيو ١٨٤٩) يقول: «إنَّ الجميع يظنون أنني أبدو جميلًا مُشرِق الوجه، ويظن معظمهم أنني أدَّعي المرض، لكنك لم تكن قط واحدًا من هؤلاء.» ويجب أن نتذكر أنه كان مريضًا للغاية في تلك الفترة وكان مرضه فيها أشدَّ كثيرًا من مرضه في السنوات الأخيرة من حياته. كانت عيناه بلونٍ رمادي يميل إلى الزرقة، ويتدلى من فوقهما حاجبان بارزان وكثيفا الشعر. كان أعلى جبينه متغضِّنًا، لكن وجهه كان خاليًا من الخطوط أو العلامات فيما عدا ذلك. ولم تكن تعابيرُ وجهه تدل على ما يعانيه من تعبٍ مستمر.
حين كانت محادثةٌ ممتعة تثير فيه الحماس، كانت سلوكياته كلها تُصبِح مشرقة ومفعمة بالحيوية على نحوٍ رائع، وقد كان وجهه ينخرط بشدة في هذه الحيوية العامة. كانت ضحكته طلقةً ورنانة، كضحكة مَن يُكرِّس نفسه بكل ودٍّ واستمتاع للشخص والشيء اللذَين يُمتعانه. وغالبًا ما كانت تبدُر عنه إيماءة وهو يضحك، كأن يرفع يدَيه أو يُنزِل إحداهما بضربةٍ بها. وأعتقد أنه كان يميل إلى استخدام الإيماءات بنحوٍ عام، وكثيرًا ما كان يستخدم يدَيه في شرحِ أي شيء (تلقيح الزهور، على سبيل المثال)، وقد كان يبدو أنه يستخدمهما كوسيلةٍ مساعدة له وليس للمستمع. وكان يفعل ذلك في مناسباتٍ كان معظم الأشخاص فيها يُوضِّحون شروحاتهم باستخدامِ رسوماتٍ تخطيطية مرسومة بالقلم الرصاص.
كان يرتدي ملابسَ فَضفاضةً داكنة اللون. وفي سنوات حياته الأخيرة، توقَّف عن ارتداء القبعة الطويلة حتى في لندن، وكان يرتدي قبَّعةً سوداء ناعمة في الشتاء، وقبعةً كبيرة من القش في الصيف. وكان لباسه في خارج المنزل يتألف عادة من العباءة القصيرة التي تظهر في الصورة الفوتوغرافية التي التقطها له إليوت وفراي، وهو يميل على عمود في الشرفة. وهناك أمران غريبان فيما يتعلق بلباسه داخل المنزل، وهما أنه كان يضع شالًا على كتفَيه في أغلب الأحيان، وأنه كان يمتلك حذاءً عالي الرقبة واسعًا للغاية، ومصنوعًا من القماش ومبطَّنًا بالفراء، وهو الذي كان يرتديه فوق حذائه في داخل المنزل. ومثل غيره من الأشخاص الرقيقي الصحة، فقد كان يُعاني من الحرارة ومن البرودة على حدٍّ سواء؛ كما لو أنه لا يستطيع تحقيق التوازن بين الحرارة الشديدة والبرودة الشديدة. وغالبًا ما كان يشعر بالحر الشديد عندما تشغل ذهنه بشدةٍ مسألةٌ ما؛ فكان يخلع معطفه إذا حدث أيُّ خطبٍ في مسار عمله.
كان يستيقظ مبكِّرًا وأعتقد أنَّ ذلك يعود بصفةٍ أساسية إلى أنه لم يكن يستطيع أن يستلقي في السرير، وأعتقد أنه كان سيُحب أن ينهض أبكر مما كان يفعل. وكان يذهب في جولةٍ قصيرة قبل الإفطار، وتلك عادةٌ اكتسبها حين ذهب لأول مرة إلى مصحةٍ للعلاج المائي، وقد حافظ عليها حتى آخر حياته تقريبًا. وقد كنتُ أحب أن أذهب معه وأنا فتًى صغير، والآن تُرادوني ذكرى بعيدةٌ ومبهمة لحمرة شروق الشمس في فصل الشتاء، وذكريات الرفقة الممتعة، إضافةً إلى شعوري بالزهو والافتخار فيما يتعلق بهذا. وقد كان يُسلِّيني وأنا فتًى صغير بأن يخبرني كيف أنه رأى في جولاتٍ سابقة له، في بواكير الصباح في الشتاء، مرةً أو مرتَين الثعالب وهي تُهرول إلى منازلها عند الفجر.
وبعد أن يتناول الإفطار بمفرده في الثامنة إلا الربع تقريبًا، كان يذهب إلى العمل على الفور، وكان يرى أنَّ الساعة والنصف بين الساعة الثامنة والتاسعة والنصف هي من أفضل الأوقات التي يعمل فيها. وفي التاسعة والنصف، كان يذهب إلى غرفة الاستقبال لِقراءةِ ما ورده من خطابات، مبتهجًا إن لم يكن لديه الكثير منها، وقلقًا في بعض الأحيان إن كانت كثيرة. ثم كان يستمع إلى أيِّ خطابات خاصة بالعائلة تُقرأ عليه بصوتٍ عالٍ وهو مُستلقٍ على الأريكة.
وكانت فترة القراءة بصوتٍ عالٍ، وهي التي كانت تتضمن أيضًا قراءة جزءٍ من رواية، تستمر حتى العاشرة والنصف تقريبًا، ثم يعود والدي إلى العمل حتى الثانية عشرة أو الثانية عشرة والربع. وبحلول هذا الوقت، كان يعتبر أنَّ يوم عمله قد انتهى، وغالبًا ما كان يقول بصوتٍ راضٍ: «لقد أنجزتُ قدْرًا جيِّدًا من العمل هذا اليوم.» بعد ذلك، كان يذهب إلى الخارج سواءٌ أكان الجو صَحوًا أم مطيرًا، وكانت كلبته التيرير البيضاء بولي، تذهب معه حين يكون الجو صَحوًا، لكنها كانت ترفُض الذهاب معه في المطر، أو كانت تقف في الشرفة متردِّدة، وعلى وجهها تعبيرٌ يمتزج فيه الاستياء والخزي من افتقادها للشجاعة، غير أنَّ ضميرها كان يسود في الغالب، وفور أن يتضح لها أنه قد ذهب بالفعل، لم تكن تُطيق أن تتخلف عنه.
لقد كان أبي دائمًا شغوفًا بالكلاب، وحين كان شابًّا، كان ماهرًا في سرقة حب الحيوانات الأليفة التي تُربيها أخته؛ ففي كامبريدج، فاز بحُبِّ كلبِ ابن عمه دابليو دي فوكس، وربما كان ذلك هو الوحش الصغير الذي اعتاد على أن يتسلَّل إلى سريره، وينام عند قدمَيه كلَّ ليلة. وكان لوالدي أيضًا كلبٌ نكِد، وقد كان مخلصًا له للغاية، لكنه لم يكن ودودًا مع أيِّ شخصٍ آخر، وحين عاد من رحلة «البيجل»، تذكره الكلب لكن بطريقةٍ غريبة كان أبي مغرمًا بروايتها، وهي أنَّه قد دخل إلى الفِناء ونادى عليه بطريقته القديمة، فاندفع الكلب ورافَقه في سيره دون أن يُبدي أيَّ انفعالٍ أو إثارة، كما لو أنَّ ذلك الأمر نفسه قد حدث في اليوم السابق، لا قبل خمس سنوات. وقد عرض أبي هذه القصة في كتابه «نشأة الإنسان»، الطبعة الثانية، صفحة ٧٤.
لم يَبقَ في ذاكرتي سوى كلبَين هما اللذان أذكر أنهما قد تعلَّقا بوالدي. وكان أحدهما كلب ريتريفر كبير نصف أصيل، يجمع بين اللونَين الأبيض والأسود، وكان يُدعى بوب، وكنا ونحن أطفالٌ نحبه بإخلاص. وهو الكلب الذي تُعرض قصة «انفعال الصوبة الزراعية» الخاصة به في كتاب «التعبير عن الانفعالات».
لكنَّ الأكثر تعلُّقًا بوالدي من الكلاب هي الكلبة بولي التي سبق ذكرها. وقد كانت كلبةً بيضاء من نوع فوكس تيرير، وكانت قويةً وحادة الذكاء وعطوفة. كانت إذا اعتزم صاحبها السفر، تكتشف دائمًا هذه الحقيقة من علاماتِ حزم الأغراض التي تجري في غرفة المكتب، ويُصيبها الحزن تبعًا لذلك. وكانت تبتهج أيضًا إذ ترى علاماتِ إعداداتِ غرفة المكتب استعدادًا لعودته إلى المنزل. لقد كانت كائنًا صغيرًا ماكرًا، وقد اعتادت على أن ترتجف أو تُبدي التعاسة حين يمُر بها أبي، بينما تنتظر عَشاءها، وكأنها تعرف أنه سيقول (كما كان يفعل في معظم الأحوال) إنها «كانت تتضور جوعًا.» وقد اعتاد أبي على أن يجعلها تُمسك قطع البسكويت من فوق أنفها، وقد كان يشرح لها بكل عطف ووقار أنَّ عليها أن تكون «كلبةً مطيعة للغاية». كانت لديها علامةٌ على ظهرها هي موضع حرقٍ قديم، وقد نما فيها الشعر من جديد باللون الأحمر بدلًا من الأبيض، وقد كان أبي يثني على وجود هذه الخصلة من الشعر؛ إذ إنها تتوافق مع نظريته عن شمولية التكوين؛ فقد كان أبوها من نوع بول تيرير أحمر، ومِن ثَمَّ فإنَّ ظهور الشعر الأحمر بعد الحرق يُوضِّح وجود بريعماتٍ حمراء كامنة. لقد كان أبي رقيقًا مع بولي بنحوٍ رائع، ولم يُبدِ أي ضجر على الإطلاق مما كانت تَتطلَّبه من رعاية؛ مثل السماح لها بالدخول من الباب أو الخروج إلى الشرفة والنباح على «الأشخاص الأشقياء»، وهو واجب قد ألزمت به نفسها وقد كانت تستمتع به كثيرًا. وقد تُوفيت، بل الأدق أننا اضطُررنا إلى إنهاءِ حياتها بعد وفاته بأيامٍ قليلة.
عادةً ما كان أبي يبدأ الجولة التي يقوم بها في منتصف النهار، بزيارة الصوبة الزراعية، وهناك كان يفحص أي بذورٍ نابتة أو أي نباتاتٍ تستدعي الفحص بين الحين والآخر، لكنه نادرًا ما كان يجري أيَّ ملاحظاتٍ جادة في هذا الوقت. بعد ذلك، كان يذهب في جولته، سواء حول «الممشى الرملي» أو خارج أرضه بجوار المنزل. كان «الممشى الرملي» عبارة عن شريطٍ ضيق من الأرض، يبلغ امتداده فدَّانًا ونصفًا، ويحيط به ممشًى من الحصى. وعلى جانبٍ منه، تُوجد أجمةٌ قديمة بها عددٌ من أشجار البلوط الكبيرة الحجم إلى حدٍّ ما، وهي التي كانت بمنزلة ملاذٍ ظليل للمشي، وأمَّا الجانب الآخر، فقد كان يفصله عن حقل العشب المجاور سياجٌ منخفض من شُجيرات الزعرور، وقد كان يُطل على وادٍ هادئ ينتهي عند الأرض المرتفعة باتجاهِ حافةِ تل ويسترام، مع أَيْكة من أشجار البندق وأَجَمة من أشجار اللاركس، وهي بقايا غابةٍ كبيرة كانت تمتد على طريقِ ويسترام. وقد سمعتُ والدي يقول إنَّ سحر هذا الوادي الصغير البسيط قد ساعده على الاستقرار في داون.
زرع والدي في الممشى الرملي مجموعةً متنوعة من الأشجار، مثل أشجار البندق والحور الرومي والليمون والنير والقضبان والحناء والقرانيا، مع صفٍّ من أشجار البهشية على طول الجانب المكشوف. كان أبي قبل ذلك يقوم بعددٍ مُعيَّن من الدورات في كلِّ يومٍ وكان يحسب عددها باستخدامِ كومةٍ من صخور الصوان؛ إذ كان يركل واحدةً منها على الطريق كلما مرَّ بها. أمَّا في السنوات الأخيرة، فأنا لا أعتقد أنَّه حافظ على عددٍ معين من الدورات، وإنما كان يقوم بأكبرِ عددٍ ممكن تساعده عليه صحته. كان الممشى الرملي هو الفِناء الذي نلعب فيه حين كنا صغارًا، وفيه كنا نرى والدي باستمرار وهو يقوم بجولاته. كان يُحب أن يرى ما كنا نفعله، وكان مستعدًّا على الدوام لأن يُشارك فيما نلهو فيه. وإنه لمن الغريب أنَّ أول ما لديَّ من ذكريات تتعلق بوالدي والممشى الرملي تتوافق مع آخر ذكرياتي، وهو ما يُوضِّح مدى ثبات عاداته وعدم تغيرها.
في بعض الأحيان، حين يكون بمفرده، كان يقف ساكنًا أو يمشي بهدوء ليراقب الطيور والحيوانات. وفي مرة من هذه المرات، تسلَّقَت على ظهره وساقَيه بعض السناجب اليافعة، بينما راحت أمها تنادي عليها بالتياع، وهي لا تزال في موقعها بالشجرة. لقد كان يعثُر دائمًا على أعشاش الطيور، حتى في سنواته الأخيرة، وقد كنا نظن، ونحن ما نزال أطفالًا، أنه يتمتع بموهبةٍ فذة في ذلك الأمر. وفي تلك الجولات الهادئة التي كان يقوم بها، شاهد بعض أنواع الطيور الأقل شيوعًا، لكنني أعتقد أنه لم يكن يخبرني بذلك حين كنت ولدًا صغيرًا؛ إذ إنه أدرك ما كنتُ أُعانيه من ضيقٍ شديد إن لم أتمكن من رؤية طائر السيسكن أو الحسون أو أيًّا ما كان الطائر الذي رآه. وقد كان يحكي لنا كيف أنه كان يسير بهدوء في «بيج-وودز» حين رأى ثعلبًا نائمًا بالنهار، وهو الذي قد كان مندهشًا للغاية حتى إنه حدَّق في أبي قبل أن يبتعد. وقد كان يُرافق أبي في هذه الجولة كلبٌ من نوع سبيتز، لكنه لم يُبدِ أيَّ علامة تدُل على الإثارة تجاه الثعلب، وقد كان أبي يُنهي القصة بتعجُّبه من وَهنِ عزيمة الكلب.
لقد كان أبي يستمتع كثيرًا بالتريُّض على مهل في الحديقة بصحبة أمي أو بعض أطفاله، أو التنزُّه معهم جميعًا بالجلوس على أحد المقاعد الموجود على العشب، لكنه عادةً ما كان يجلس على العشب مباشرة، وأنا أتذكر أنه كان كثيرًا ما يستلقي تحت إحدى أشجار الليمون الكبيرة، واضعًا رأسه على الرابية الخضراء الموجودة عند قاعدتها. وحين كنا نجلس في الخارج في أجواء الصيف الجافة، عادةً ما كنا نسمع البكرة الضخمة الموجودة في البئر وهي تدور؛ ولهذا فقد أصبح هذا الصوت مرتبطًا بتلك الأيام السعيدة. لقد كان يُحب مشاهدتنا ونحن نلعب كرة المضرب على العشب، وكثيرًا ما كان يُلقي لنا بأيِّ كرةٍ شاردة، مستخدمًا مقبض عصاه المقوس.
لم يكن يَسعُه ألا يضفي السمات البشرية على الأشياء الطبيعية. وقد كان هذا الشعور يتجلى مدحًا أو ذمًّا؛ فقد كان يقول مثلًا عن بعض الشتلات: «تلك الشتلات الوضيعات، إنهن يفعلن بالضبط ما لا أريده منهن.» وبنبرةٍ تجمع بين الغيظ والإعجاب، كان يتحدث عن براعةِ ورقةِ نبات الميموزا في القيام بالالتواء حول نفسها والخروج من حوضِ ماءٍ كان قد حاول تثبيتها فيه. وتتضح هذه الروح أيضًا في حديثه عن نبات الندية وديدان الأرض وغير ذلك. (يقارن ليسلي ستيفن في كتابه «سويفت»، طبعة عام ١٨٨٢، صفحة ٢٠٠، بين ما كان يُجريه سويفت من بحثٍ حول سلوكيات الخدم وعاداتهم وبين ملاحظة أبي للديدان، فيقول: «إنَّ الفرق هو أنَّ داروين لم يكن يُكنُّ للديدان سوى المشاعر الطيبة.»)
وفي حدود ما أتذكره، فقد كان النشاط الترفيهي الوحيد الذي يقوم به أبي خارج المنزل، إضافة إلى المشي، هو ركوب الخيل، الذي قد بدأ ممارسته بناءً على نصيحة الدكتور بينس جونز، وقد حالفنا الحظ فعثَرنا له على جوادٍ قصير قوي القوائم، وقد كان في غاية السلاسة والهدوء، واسمه «تومي». لقد كان يستمتع بهذه الجولات استمتاعًا بالغًا، وكان يقوم بعددٍ من الجولات القصيرة كي يتمكن من العودة إلى المنزل في وقت الغداء. ويتناسب ريفنا مع هذا الأمر؛ فهو يمتلئ بالوديان الصغيرة، مما يُضفي التنوُّع على الطريق الذي سيكون مملًّا في أي أرضٍ منبسطة. وأعتقد أنَّ والدي لم يكن بطبيعته مُغرَمًا بالخيل، ولم يُكنَّ كثير التقدير لذكائها، وقد كان يسخر كثيرًا من «تومي» لما كان يُبديه من وَجلٍ حين كان يمر مرةً بعد أخرى بتلك الكَومة التي تتألف من بقايا تقليم السياج، في أثناء دورانه حول الحقل. وأعتقد أنَّ أبي كان يُدهش من نفسه حين يتذكر جسارته في ركوب الخيل، ثم يتذكر ما حل به من التقدُّم في العمر واعتلال الصحة؛ إذ انتزعا منه جَلَده. لقد كان يقول إنَّ ركوب الخيل كان أنجع من السَّير في منعه عن التفكير؛ إذ كان ينشغل بالجواد بالدرجة الكافية التي تمنعه عن أيِّ تفكيرٍ حقيقي جاد. وكذلك كان تغيير المناظر جيِّدًا لصحته ومعنوياته.
ولسوء الحظ، سقط تومي بقوة وهو على ظهره ذات مرة في منطقة كيستون كومان، وقد حدثت له حادثةٌ أخرى مع جوادٍ آخر، فأضرَّتا بأعصابه، ونُصح بالتوقُّف عن ركوب الخيل.
وإذا ذهبتُ إلى ما هو أبعد من تجربتي الخاصة ورحتُ أستعيد ما سمعتُه منه عن حبه للرياضة وغير ذلك، فأستطيع أن أتذكر القدر الكثير، لكنَّه سيكون تكرارًا لما ورد في عمله «ذكريات». لقد كان مولعًا وهو في المدرسة بلعبة ضرب الكرة بالمضرب، وتلك هي اللعبة الوحيدة التي كان بارعًا بها. وكان مُولعًا كذلك ببندقيته وهو لا يزال صبيًّا، وأصبح قناصًا جيِّدًا. وقد اعتاد أن يحكي كيف أنه تمكن وهو في أمريكا الجنوبية من اصطياد ثلاثة وعشرين من طيور الشنقب بأربع وعشرين طلقة فحسب، وقد كان حريصًا على أن يضيف أنه لم يكن يعتقد أنها بضراوة طيور الشنقب الإنجليزية.
كانت وجبة الغداء تُقدم في داون بعد الجولة التي كان أبي يقوم بها في منتصف النهار، ويمكنني هنا أن أتحدث قليلًا عن وجباته بصفةٍ عامة. لقد كان يحب الحلوى كالأطفال، وذلك من سوء حظه؛ إذ إنه دائمًا ما كان يُمنع من تناوُلها. ولم يكن ناجحًا في الحفاظ على ما اتخذه من «عهود»، كما كان يُسمِّيها، بالامتناع عن تناوُل الحلوى، ولم يكن يعتبر أنها ملزمة له على الإطلاق، ما لم يقطعها على نفسه بصوتٍ عالٍ.
لم يكن يشرب من الخمر إلا قليلًا جدًّا، لكنه كان يستمتع به، وقد كان هذا القدر القليل يُنعشه ويُعيد إليه حيويته. لقد كان يرتعب من احتساء الخمر، ودائمًا ما كان يُحذِّر أبناءه من الإفراط فيه؛ إذ يسهُل على المرء الانقياد إلى ذلك. وأنا أتذكر أنني سألته ببراءة ذات مرة وأنا طفلٌ صغير، عما إذا كان قد شعر بالانتشاء من الخمر قبل ذلك، وقد أجابني بجديةٍ شديدة أنه يشعر بالخزي إذ أفرط في الشراب ذات مرة في كامبريدج. وقد ترك ذلك لديَّ انطباعًا عميقًا؛ ولهذا فإنني لا زلتُ أتذكر المكان الذي سألتُه فيه هذا السؤال.
وبعد أن يتناول غداءه، كان يقرأ الجريدة مستلقيًا على الأريكة في غرفة الاستقبال. وأعتقد أنَّ الجريدة هي المادة غير العلمية الوحيدة التي كان يقرؤها بنفسه، أمَّا المواد الأخرى من روايات وأدب رحلات وتاريخ، فقد كانت تُقرأ عليه بصوتٍ عالٍ. لقد كان يهتم بأمور الحياة اهتمامًا كبيرًا؛ ولهذا فقد هناك الكثير مما يهمه في الجريدة، رغم أنه كان يسخر من الإسهاب في المجادلات، وأعتقد أنه لم يكن يقرؤها إلا إجمالًا. وكان يولي السياسة قدْرًا لا بأس به من الاهتمام، لكنَّ رأيه في مثل هذه الأمور كان يتشكَّل وفقًا للظروف، لا بعد أي قدْرٍ من التفكير.
بعد قراءة الجريدة، يحين الوقت المخصص لكتابة الخطابات. وقد كان يكتب هذه الخطابات، وكذلك مخطوطاتِ كتبه، وهو يجلس على كرسيٍّ ضخم مصنوع من شعر الخيل بجوار المدفأة، ويسند ورقته على لوح يضعه على ذراعَي الكرسي. وحين تكون الخطابات التي يجب أن يكتبها طويلةً أو كثيرة، فإنه كان يمليها من مُسوَّدة يكتبها على ظهر أوراق مخطوطاته أو بروفات الطباعة، وقد كان يصعُب قراءة خطه في هذه المُسوَّدات، حتى على نفسه أحيانًا. وقد وضع قاعدةً تقضي بالاحتفاظ ﺑ «جميع» الخطابات التي كان يستقبلها، وقد تعلَّم هذه العادة من والده، وقال إنها أفادته فائدةً عظيمة.
كان يتلقى خطابات عديدةً من بعض الحمقى وعديمي الأخلاق، وكان يرُد عليها جميعًا. وقد كان يقول إنه إن لم يرُدَّ عليها، فسوف يثقل ذلك ضميره فيما بعد. ولا شك في أنَّ الكياسة التي كان يبديها في الرد على جميع هذه الخطابات كان لها تأثيرٌ عظيم، وهو ما تولَّد عنه ذلك الانطباع العام الواسع الانتشار عن لطف طبيعته، وهو ما تجلى بقوة عند موته.
وقد كان يراعي مراسليه في أمورٍ أخرى أقل أهمية؛ فحين كان يُملي عليَّ خطابًا لشخصٍ غريب على سبيل المثال، كان يقول لي في معظم الأحيان: «عليك أن تُحاول الكتابة بأسلوبٍ جيد؛ إذ إنَّ الخطاب مُوجَّه لشخصٍ غريب.» وعادةً ما كانت تُكتب خطاباته بافتراضِ أنها ستُقرأ دون عناية؛ لذا فحين كان يُملي عليَّ، كان يحرص على إخباري بأن أبدأ أي قسمٍ مهمٍّ بفقرةٍ واضحة «كي تلفت الانتباه»، كما كان يقول غالبًا. لكم كان يُفكِّر في المشقة التي يعانيها الآخرون إذ يطرح عليهم الأسئلة؛ وهو ما سيتضح جيدًا من خطاباته. ومن الصعب أن نقول أي شيءٍ عن النبرة العامة في خطاباته، لكنها ستتحدث عن نفسها. ومن اللافت للنظر فيها، هي الدماثة التي لا تتغيَّر التي كُتبت بها، ولديَّ دليلٌ على هذه السمة في المشاعر التي كان يُكنُّها له محاميه السيد هاكون؛ فبالرغم من أنه لم يلتقِ أبي على الإطلاق، فقد كان يُكِن له مشاعر صداقةٍ خالصة، وكان يتحدث بصفةٍ خاصة عن خطاباته، على أساسِ أنها من النوع الذي يندُر أن يتلقاه المرء في مجال الأعمال، فكان يقول: «كل ما كنتُ أفعله كان صوابًا، وكان يشكرني شكرًا غامرًا على كل شيء.»
كان لديه نموذجٌ مطبوع للرد على المراسلِين المزعجِين، لكنه نادرًا ما كان يستخدمه على الإطلاق، وأعتقد أنه لم يجد قط فرصةً مناسبة تمامًا ليستفيد من استخدامه فيها. أَتذكَّر أنه قد تلقَّى خطابًا من شخصٍ غريب يقول فيه إنَّه قد أخذ على عاتقه تأييد نظرية التطور في إحدى الجمعيات النقاشية، ولمَّا كان رجلًا يافعًا ومشغولًا وليس لديه من الوقت ما يكفي للقراءة، فقد كان يأمل في أن يحصل على مُلخَّصٍ لآراء والدي. وحتى هذا الشاب العجيب قد حظي بردٍّ مهذَّب، لكنني لا أعتقد أنه قد حصل على الكثير من المواد لحديثه. وقد كانت القاعدة التي يتبعها والدي هي أن يشكر من يُهدون له كُتبًا، لا نشرات. وقد كان يُعبِّر في بعض الأحيان عن اندهاشه من قلة عدد الأشخاص الذين كانوا يشكرونه على كُتبه التي كان يُهديها لهم بأريحية، لكن الخطابات التي كان يتلقاها ممن يفعلون ذلك كانت تمنحه سعادةً كبيرة؛ فعادةً ما كان تقديره لقيمة جميع أعماله متواضعًا للغاية، حتى إنه كان يندهش بوجهٍ عام مما تثيره من اهتمام.
وأمَّا فيما يتعلق بأمور المال والأعمال، فقد كان حريصًا ودقيقًا على نحوٍ ملحوظ. كان يحتفظ بالحسابات بعنايةٍ بالغة، ويُصنِّفها ويُسوِّيها في نهاية العام مثل أيِّ تاجر. إنني أَتذكَّر السرعة التي كان يصل بها إلى دفتر حساباته ليُسجِّل أي شيك قد جرى دفعه، وكأنه في عجَلة لتسجيله قبل أن ينساه. ولا بد أنَّ والده قد جعله يعتقد أنه سيكون أفقر مما كان عليه في واقع الأمر، ولا بد أنَّ بعض الصعوبة التي واجهها أبي لإيجاد منزل في الريف، كان يعود إلى المبلغ المتواضع الذي شعر بأنه مستعد لتقديمه لهذا الغرض. بالرغم من ذلك، فقد كان يشعر بأنَّ أحواله المالية ستتحسن بعد ذلك؛ إذ إنه يذكر ذلك في عمله «ذكريات» على أنه أحد الأسباب التي جعلَته لا يقبل على ممارسة الطب بحماس كما لو كان سيفعل لو أنه كان في حاجةٍ ماسة لكسب عيشه منه.
كان يحب الاقتصاد في استخدام الورق، لكنَّ ذلك كان على سبيل الهواية، لا الاقتصاد الحقيقي. كان يحتفظ بجميع ما كان يجده في الخطابات التي تَرِده من صفحاتٍ فارغة، ويضعها في حافظةٍ خاصة لكي يستخدمها في كتابة الملاحظات. إنَّ احترامه للورق هو الذي دفَعه إلى كتابة هذا القَدْر الكثير على ظهور صفحات مخطوطاته القديمة، غير أنه بذلك قد أدَّى لسوء الحظ إلى تدمير أجزاءٍ كبيرة من المخطوطات الأصلية لكتبه. وقد امتدت مشاعره تجاه الورق لتشمل المخلَّفات الورقية، وقد كان يعترض بنحوٍ شبه مازح، على تلك العادة التي تتسم باللامبالاة والتي تتمثل في إلقاء أيِّ لِفافةٍ ورقية في نار المِدفأة بعد استخدامها لإشعال شمعة.
لقد كان أبي سخيًّا وكريمًا للغاية مع جميع أطفاله فيما بتعلق بالمال، ولديَّ سببٌ خاص لأتذكر لطفه، وذلك حين أتذكر الطريقة التي سدَّد لي بها بعض ديوني في كامبريدج؛ إذ جعل الأمر يبدو كما لو كان فضيلةً مني أن أُخبره بشأنه. وفي سنواته الأخيرة، وضع مخطَّطًا ينمُّ عن لطفه وكرمه، وهو تقسيمُ ما يزيد عن حاجته من مالٍ في نهاية العام على أبنائه.
كان يُكنُّ احترامًا عظيمًا للبراعة في ممارسة الأعمال وإدارتها، وكثيرًا ما كان يتحدث بإعجاب عن أحد الأقارب الذي استطاع مضاعفة ثروته. وكثيرًا ما كان يقول عن نفسه مازحًا إنَّ ما كان يفتخر به «فعلًا» هو أنه استطاع ادخار بعض المال، وكذلك كان يشعر بالرضا عما جناه عن كُتبه من نقود. لقد كان قلقه بشأن الادخار نابعًا بدرجةٍ كبيرة من مخاوفه بألا يتمتع أبناؤه بقدْرٍ كافٍ من الصحة الجيدة التي تمكِّنهم من كسب عيشهم، وهو هاجسٌ ظل يُساوره لسنواتٍ عديدة. وأَتذكَّر على نحوٍ غيرِ واضح قوله: «أشكر الله على أنه سوف يكون لديكم خبزٌ وجبن.» وقد كنتُ صغيرًا للغاية حينها، فكنتُ أميل إلى فهمها بمعناها الحرفي.
بعد أن كان ينتهي من الخطابات في نحو الساعة الثالثة من بعد الظهيرة، كان يستريح في غرفة نومه؛ إذ كان يستلقي على الأريكة ويُدخِّن لِفافةً من التبغ، ويستمع إلى رواية أو كتابٍ غيرِ علمي. لم يكن يُدخِّن إلا في وقت الراحة، أمَّا النشوق، فقد كان بمنزلة منبه وكان يستخدمه في أثناء العمل. لقد ظل يتناول النشوق على مدى سنواتٍ عديدة من حياته؛ إذ اكتسب هذه العادة وهو لا يزال طالبًا في إدنبرة. وقد كان لديه علبةٌ فضيةٌ جميلة للنشوق، كانت قد أهدتها له السيدة ويدجوود وهي سيدة من مير، وقد كان يعتز بهذه العلبة كثيرًا، لكنه لم يكن يحملها إلا نادرًا؛ إذ كانت تُغريه بتناوُل الكثير منه. وقد تحدَّث في أحد خطاباته المبكِّرة عن توقُّفه عن تناوُل النشوق لمدة شهر، وتحدَّث عن شعوره بأنه أصبح «بليدًا وغبيًّا وكئيبًا لأقصى حد.» وقد أخبرني جارنا وكاهننا السابق، السيد برودي إنيس، أنَّ والدي قد قرَّر ذات مرة ألا يتناول النشوق إلا وهو بعيد عن المنزل، وأضاف: «إنه ترتيب مناسب لي تمامًا؛ إذ إنني أحتفظ بعلبة في مكتبي يمكنني الوصول إليها من الحديقة دون أن أستدعي أحد الخدم، كما أنَّ ذلك كان يتيح لي فرصةً أكبر في أن أتبادل الحديث لدقائق مع صديقي العزيز.» وعادةً ما كان يتناول النشوق من جرةٍ زجاجية موضوعة على منضدة البهو؛ إذ كان قطع هذه المسافة من أجل نشقة أمرًا مثبِّطًا بعض الشيء، وقد كان صوت انفتاح الغطاء مألوفًا للغاية. وأحيانًا كان يخطر له وهو يجلس في غرفة الاستقبال أنَّ نار مدفأة المكتب قد خمدت بعض الشيء، وحين كان أحدنا يعرض أن يعتني بأمرها، يتضح أنه كان يرغب أيضًا في الحصول على بعض النشوق.
لم يبدأ أبي في التدخين باستمرار إلا في سنواته الأخيرة، بالرغم من أنه كان قد تعلَّم التدخين مع رجال الجاوتشو في جولاته على الخيول في سهول البامبا، وقد سمعتُه يتحدث عن الراحة العظيمة التي كان يجلبها تناوُل قدح من المتة مع لِفافة من التبغ حين كان يتوقَّف بعد جولةٍ طويلة ولا يستطيع الحصول على طعام لبعض الوقت.
غالبًا ما كانت القراءة بصوتٍ عالٍ تبعثه على النوم، ولقد كان يشعر بالأسف إذ يغفُل عن أجزاءٍ من إحدى الروايات؛ فقد كانت أمي تُواصل القراءة خشية أن يوقظه توقُّف الصوت. كان ينزل من غرفته في الرابعة ليرتدي ثيابه استعدادًا لجولة المشي الخاصة به، وقد كان مواظبًا للغاية حتى إنَّنا لنتوقع سماع وقع خطواته نازلًا على الدرج في غضونِ دقائقَ من الرابعة.
كان يعمل من الساعة الرابعة والنصف حتى الخامسة والنصف، ثم يأتي إلى غرفة الاستقبال ولا يقوم بشيء حتى يحين الوقت (في السادسة تقريبًا) كي يصعد مجدَّدًا لفترةِ استراحةٍ ثانية، يستمع فيها إلى رواية تُقرأ عليه مع تدخين لِفافة من التبغ.
في السنوات الأخيرة، تخلَّى عن تناوُل وجبة العَشاء، وكان يكتفي بتناوُل قدح من الشاي مع بيضة أو قطعةٍ صغيرة من اللحم في السابعة والنصف بينما كنا نتناول العَشاء. ودائمًا ما كان يغادر الغرفة بعد العَشاء مُعتذرًا بقوله إنه سيدةٌ عجوز ويجب أن يُسمح لها بمغادرة الغرفة مع السيدات. وقد كان ذلك إحدى العلامات والنتائج العديدة لما يُعانيه من ضعف واعتلال مُستمرَّين في الصحة. وكان، إذا تحدث لقرابة نصف ساعة، شعر بإرهاقٍ شديد بحيث لا يتمكن من النوم طَوالَ الليل وقد يفقد قدرته على إنجاز نصف العمل في اليوم التالي.
بعد العَشاء، كان يلعب لُعبة الطاولة مع والدتي؛ فكانا يلعبان جولتَين كلَّ ليلة، وقد ظلا يحتفظان على مدى سنواتٍ عديدة بسجلٍّ لعدد الجولات التي فاز بها كلٌّ منهما، وقد كان أبي يحظى بالنصيب الأكبر منها. وقد أصبح أبي متحمِّسًا للغاية تجاه هذه الجولات؛ فكان عند الخسارة ينعى حظه السيئ بمرارة، وينفجر بغضبٍ زائف من حظ أمي الجيد.
بعد لعب الطاولة، كان يقرأ بنفسه كتابًا علميًّا في غرفة الاستقبال أو في المكتب، إن كانت الغرفة صاخبة.
وفي المساء، بعد أن يكون قد قرأ قدر ما سمحت به قواه، وقبل أن تبدأ المطالعة بصوت عالٍ، عادة ما كان يستلقي على الأريكة ويستمع إلى أمي وهي تعزف على البيانو. لم يكن يتمتع بأذن موسيقية جيدة، لكنه كان يُكنُّ حبًّا حقيقًا للموسيقى الجيدة. ودائمًا ما كان يشكو أنَّ استمتاعه بالموسيقى قد قل مع تقدمه في العمر، غير أنني أتذكر أنَّ حبه للألحان الجيدة كان قويًّا. ولم أسمعه يدندن قط إلا بلحنٍ واحد وهو لحن الأغنية الويلزية «طوال الليل» («آر هيد ي نوس») والذي كان يؤديه بنحوٍ صحيح، وقد اعتاد أن يدندن أيضًا بلحن أغنيةٍ أوتاهيتية قصيرة. ونظرًا لافتقاره إلى الأذن الموسيقية، لم يكن يستطيع تمييز اللحن إن استمع إليه مرة أخرى، لكنه ظل يحب الألحان نفسها التي أحبها من قبل، وعند الاستماع إلى إحدى المقطوعات القديمة المفضلة لديه، فإنه غالبًا ما كان يقول: «إنها مقطوعة جميلة، ما اسمها؟» لقد كان يحب أجزاءً من سيمفونيات بيتهوفن بنحو خاص، وأجزاءً صغيرة لهاندل، وقد أعد قائمة قصيرة بجميع المقطوعات التي كان يحبها من بين المقطوعات التي كانت تعزفها أمي، مع كتابة كلمات قليلة عن الانطباع التي كانت تتركه عليه كلٌّ منها، لكنَّ هذه الملاحظات قد ضاعت مع الأسف. كان يلاحظ الاختلافات الطفيفة في أسلوب العزف، وكان يستمتع كثيرًا بعزف الراحلة السيدة فيرنون لاشينجتون. وحين أتى هانس ريختر لزيارة داون في يونيو من عام ١٨٨١، أثار فيه أداؤه الرائع في العزف على البيانو حماسًا عظيمًا. وكان يستمتع كثيرًا بالغناء الجيد، وكانت مشاعره تتأثر حتى تكاد أن تذرف دموعه عند سماع الأغنيات العظيمة أو الحزينة. ولم يكن يمَل قط من سماع ابنة أخيه الليدي فارار وهي تغني أغنية سوليفان «هل سيأتي؟» («ويل هي كام؟»). لقد كان متواضعًا للغاية فيما يتعلق بذوقه الفني؛ لذا فقد كان يُسر كثيرًا حين يجد أنَّ آخرين يتفقون معه.
كان تعبه يشتد في المساء، لا سيما في السنوات الأخيرة، وكان يغادر غرفة الاستقبال في نحو العاشرة، ويذهب إلى السرير في العاشرة والنصف. وعادةً ما كانت حالته تسوء في الليل؛ فيجلس في السرير مستيقظًا لساعات وهو يعاني من التعب. وكان يعاني في الليل من نشاط أفكاره، ويضنيه عقله من التفكير في مسألة كان قد قرر أن يتجنب التفكير فيها. وبالليل كذلك، كان يطارده كل ما حيره في النهار أو أزعجه، وأعتقد أنه كان يعاني حينئذ إن لم يكن قد أجاب عن خطاب من أحد الأشخاص المُزعجين.
إنَّ القراءة المنتظمة، التي ذكرتُها من قبل، قد استمرت على مدى سنواتٍ عديدة، وقد مكَّنَته من التعرُّف على قدْرٍ كبير من ضروب الأدب الخفيفة. لقد كان مُولعًا للغاية بالروايات، وأتذكر جيِّدًا كيف أنه كان يتلهف على شعوره بالسرور للاستماع إلى روايةٍ جديدة تُقرأ عليه، بينما هو مستلقٍ أو يُدخِّن لِفافة من التبغ. لقد كان يهتمُّ اهتمامًا كبيرًا بالحبكة والشخصيات، ولم يكن يحاول قط أن يعرف نهاية الرواية قبل أن يصل إليها، وكان يرى أنَّ إلقاء نظرة على نهاية القصة قبل نهايتها سمةٌ أنثوية سيئة. لم يكن يستمتع بالروايات التي تنتهي بنهاياتٍ حزينة؛ ولهذا فلم يكن يستمتع كثيرًا بروايات جورج إليوت، بالرغم من أنه كثيرًا ما كان يتحدث جيِّدًا عن روايتها «سايلاس مارنر» ويُثني عليها. أمَّا روايات والتر سكوت والآنسة أوستن والسيدة جاسكيل، فقد كانت تُقرأ عليه مِرارًا وتَكرارًا، حتى لا يُعد من الممكن قراءتها مرةً أخرى. كان يحتفظ بكتابَين أو ثلاثة يقرؤها في الوقت نفسه؛ رواية مثلًا مع كتابِ سيرةٍ ذاتية وكتاب عن الرحلات. ولم يكن من عادته أن يقرأ الكتب غير المألوفة أو الكتب القديمة، وإنما كان يكتفي غالبًا بالكتب المعاصرة التي كان يحصل عليها من مكتبات الإعارة.
إنني لا أعتقد أنَّ ذوقه وآراءه فيما يتعلق بالأدب كانت في نفس مستوى غيرها من الجوانب الذهنية لديه. لقد كان هو نفسه يعتقد أنه غير حريٍّ بأن يدلو بدلوه فيما يتعلق بالمسائل المتعلقة بالذوق الأدبي، وذلك بالرغم من وضوح رأيه فيما يتعلق بما يروق له وما لا يروق له، وكثيرًا ما كان يتحدث عمن هم حريٌّ بهم أن يُدلوا بدلوهم فيها، وعما يحبون ويكرهون، وكأنهم يشكلون طائفة لا يملك هو أن ينتمي إليها.
وفيما يتعلق بجميع أمور الفن، فغالبًا ما كان يميل للسخرية من النقاد المعترف بهم، قائلًا إنهم يُشكِّلون آراءهم وَفقًا للنمط السائد؛ لذا، فقد اعتاد أن يقول عن الرسم مثلًا كيف أنَّهم في أيامه كانوا يحتفون احتفاءً كبيرًا ببعض الروائع الفنية وقد أصبحت الآن مهملة. إنَّ حبه للصور حين كان شابًّا صغيرًا يُعد دليلًا على أنه كان يُكنُّ التقدير لفن رسم الصور الشخصية على أساس أنه عملٌ فني، لا مجرد محاكاة للأصل. بالرغم من ذلك، فقد كان يسخر كثيرًا من ضآلة قيمة الصور الشخصية المرسومة، قائلًا إنَّ صورةً فوتوغرافية واحدة تساوي الكثير من الصور المرسومة، كما لو كان غافلًا عن القيمة الفنية للصور الشخصية المرسومة. لكنه غالبًا ما كان يقول ذلك لإقناعنا بالتخلي عن فكرةِ رسمِ صورةٍ شخصية له؛ إذ كان يجد ذلك أمرًا مزعجًا للغاية.
لقد عزَّز من هذه الطريقة في النظر إلى نفسه على أنه جاهل في جميع أمور الفن، عدم ميله إلى الادعاء، وهو ما كان جزءًا من شخصيته. وفيما يتعلق بأمور الذوق وكذلك الأمور الأكثر جدية، فلطالما كانت لديه الشجاعة في التعبير عن آرائه. بالرغم من ذلك، فإنني أتذكر مثالًا يبدو مناقضًا لذلك، وذلك عندما كان يشاهد رسومات تيرنر في غرفة نوم السيد راسكين، ولم يعترف حينها، كما فعل لاحقًا، بأنه لا يفهم على الإطلاق ما يراه السيد راسكين جميلًا فيها. لكنَّ هذا القدر القليل من الادعاء لم يكن لغرض في نفسه، وإنما كان مجاملة لمضيفه. لقد ابتهج كثيرًا حين أحضر له السيد راسكين بعدها صورًا فوتوغرافية لبعض الرسومات (أعتقد أنها كانت صورًا شخصية لفاندايك)، وقد بدا أنه كان يعتز بآراء والدي فيها ويقدِّرها.
لقد كانت معظم قراءاته العلمية باللغة الألمانية، وقد كان يجد في ذلك مشقة عظيمة؛ فحين كنت أطلع على أي كتاب بعده، فإنني كثيرًا ما كنت أندهش، بالنظر إلى العلامات التي يضعها بالقلم الرصاص كل يوم في المكان الذي توقف عنده، من أنه لم يكن يستطيع أن يقرأ في المرة الواحدة سوى القدر القليل. وقد اعتاد أن يطلق على اللغة الألمانية كلمة «اللعينة» وينطقها كما لو كانت كلمة إنجليزية. كان شديد السخط على الألمان لاقتناعه بأنهم يستطيعون الكتابة بصورة مبسطة إن أرادوا، وكثيرًا ما كان يثني على الدكتور إف هيلدبراند؛ إذ كان يكتب الألمانية بالوضوح نفسه الذي تتسم به اللغة الفرنسية. وقد كان في بعض الأحيان يعطي لإحدى صديقاته، وهي سيدة ألمانية محبة لوطنها، جملة بالألمانية وكان يتندر عليها إن لم تستطع ترجمتها بفصاحة. أمَّا هو، فلم يتعلم الألمانية إلا عن طريق المجاهدة باستخدام قاموس، وقد كان يقول إنَّ طريقته الوحيدة هي أنه كان يقرأ الجملة الكثير والكثير من المرات، حتى يتراءى المعنى له في النهاية. وحين بدأ في تعلُّم الألمانية قبل وقتٍ طويل، راح يفتخر بذلك (كما اعتاد هو أن يقول) أمام السير جيه هوكر، الذي ردَّ عليه قائلًا: «أوه، يا رفيقي العزيز، لا يُعد ذلك شيئًا؛ فقد بدأتَ في تعلُّمها مراتٍ عديدة.»
بالرغم من عدم معرفته بقواعد اللغة الألمانية، فقد تمكَّن من فهم الجمل بنحو رائع، وأمَّا الجُمل التي لم يستطع فهمها، فقد كانت جُملًا صعبة بالفعل. لم يحاول قط أن يتحدث الألمانية بنحو صحيح، وإنما كان ينطق الكلمات بنطقها الإنجليزي، وقد كان ذلك يمثل صعوبة ليست بالهينة بالنسبة له حين كان يقرأ جملة بالألمانية طالبًا ترجمتها. لم يكن بالتأكيد يحسن سماع الأصوات الملفوظة؛ لذا فقد كان محالًا بالنسبة له أن يدرك الاختلافات الطفيفة في النطق.
كان يهتم اهتمامًا كبيرًا بالعديد من فروع العلوم التي لم يكن متخصِّصًا بها؛ لذا، فقد كان لآرائه تأثيرٌ كبير وواسع في مجال العلوم الحيوية؛ إذ إنه كان يجد شيئًا مثيرًا للاهتمام في معظم أقسام هذا المجال. لقد قرأ قدْرًا كبيرًا من العديد من الأعمال المميَّزة، وأجزاءً كبيرة من المراجع مثل كتاب هكسلي «تشريح اللافقاريات» أو كتاب مثل كتاب بالفور «علم الأجنة»، بالرغم من أنَّ التفاصيل الواردة فيه لا تقع في مجال تخصُّصه على الإطلاق. وبالرغم من أنه لم يدرس الكتب المفصلة والمتخصصة في موضوع واحد، فقد كان يُكنُّ لها أكبر درجات الإعجاب.
وأمَّا فيما يتعلق بالعلوم غير الحيوية، فقد كان يشعر بالتعاطُف مع الأعمال التي لا يستطيع الحكم عليها. على سبيل المثال، كان يقرأ مجلة «نيتشر» بأكملها تقريبًا، بالرغم من أنَّ القَدْر الأكبر من محتواها يناقش مسائل الرياضيات والفيزياء. وكثيرًا ما سمعته وهو يقول إنه كان يشعر ببعض الرضا حين يقرأ مقالًا لا يستطيع فهمه. أتمنى لو أنني أستطيع أن أقلد طريقته في السخرية من نفسه.
ومن الجدير بالملاحظة أيضًا، كيف أنه قد حافظ على اهتمامه بموضوعاتٍ كان قد عمل عليها سابقًا، وقد كان هذا هو الحال بنحوٍ لافت للنظر مع الجيولوجيا. وفي أحد خطاباته إلى السيد جود، كتب إليه أبي يرجوه أن يزوره قائلًا إنه أصبح نادرًا ما ينغمس في محادثة عن الجيولوجيا منذ موت لايل. ومن الأمثلة الأخرى على ذلك، ملاحظاته عن الحصى العمودي في الترسُّبات المجروفة عند ساوثامبتون، والتي لم يقُم بها إلا قبل وفاته ببضع سنوات وناقشها في خطاب إلى السيد جيكي. ومرة أخرى في خطاباته إلى الدكتور دورن، يوضح أنَّ اهتمامه بالبرنقيلات لا يزال حاضرًا. وأعتقد أنَّ ذلك كله يعود إلى حيوية ذهنه ومثابرته، وهما سمتان قد سمعته يتحدث عنهما كما لو أنه يشعر بأنه موهوب للغاية في هذا الجانب. لم يكن يتحدث عن نفسه مفتخرًا بامتلاكه لمثل هذه الملكات، لكنه كان يقول إنه يتمتع بالقدرة على الاهتمام بأي موضوع أو مسألة بنحو أو بآخر لعددٍ طويل من السنوات. ويتضح مدى امتلاكه لهذه القدرة حين ننظر في عدد المسائل المختلفة التي حلها، مع مراعاة الفترة المُبكِّرة التي بدأ فيها بالتفكير في بعضها.
لقد كان سكونه في غير أوقاته المعتادة للراحة، علامةً مؤكدة على اعتلال صحته؛ إذ لم يكن لنظام حياته أن يختل على الإطلاق طالما كان بصحةٍ جيدة إلى حدٍّ ما. وقد كان يقضي أيام الآحاد كغيرها من أيام الأسبوع، ولكلٍّ منها الأوقات المخصصة للعمل وتلك المخصصة للراحة. ومن المُحال تقريبًا لمن لم يشهد حياته اليومية أن يدرك مدى أهمية نمط حياته اليومية الذي ذَكرتُه لسلامه النفسي، وكذلك مدى الألم والصعوبة التي كان يجدها في محاولةِ إنجازِ أيِّ شيء فيما دونه. لقد كان أيُّ ظهورٍ عامٍّ يرهقه، حتى ولو كان بسيطًا للغاية؛ فقد ذهب في عام ١٨٧١ إلى كنيسة القرية الصغيرة لحضور زفاف ابنته الكبرى، لكنه استطاع بالكاد أن يتحمل المشقة الناتجة عن وجوده في مثل هذا الاحتفال القصير. وينطبق الأمر نفسه على غير ذلك من المناسبات القليلة التي حضر فيها احتفالاتٍ مماثلة.
إنني أتذكره قبل أعوامٍ طويلة في احتفال بتعميدِ طفل، وهي ذكرى لم تغب عني؛ إذ بدا ذلك حادثًا استثنائيًّا وغريبًا للغاية بالنسبة إلينا كأطفال. وأتذكَّر أيضًا نظرته في جنازة أخيه إيرازموس بوضوح شديد، وهو واقف بين الثلج المتناثر ملتفًّا بمعطفه الأسود الطويل المُخصَّص للجنائز، وقد ارتَسمَت على وجهه نظرةٌ وقورة تَنمُّ عن استغراقٍ حزين.
وحين حضر مجدَّدًا بعد سنواتٍ عديدة، اجتماعًا للجمعية اللينية، شعر كأنها مهمةٌ خطيرة، وقد كانت كذلك بالفعل؛ فلم يكن ليتخذ قرارًا كهذا دون الشعور بالقلق والخوف ولم يكن لِيُنفِّذه دون أن يتحمل عاقبة ذلك من المعاناة والتعب. وبالمثل، فقد تَسبَّب له حفل إفطارٍ قد دُعي إليه لدى السير جيمس باجيت، مع بعض الضيوف المميَّزين للمؤتمر الطبي عام ١٨٨١، بالإجهاد الشديد.
لقد كان الصباح المبكر هو الوقت الوحيد الذي يتمكن فيه من بذلِ مثلِ هذا المجهود، مع بعض الحصانة مما كان يليه من تعب وإرهاق؛ بالتالي، كان يُفضِّل أن يقوم بزياراته إلى أصدقائه من رجال العلم في لندن، في أبكرِ وقتٍ ممكن مثل العاشرة صباحًا. ولهذا السبب أيضًا، كان يبدأ رحلاته في أولِ رحلةِ قطار في الصباح، وقد اعتاد أن يصل منازل أقربائه في لندن بينما كانوا ما يزالون يبدءون يومهم.
كان يحتفظ بسجل دقيق للأيام التي كان يعمل فيها والأيام التي كان فيها اعتلال صحته يحول بينه وبين العمل؛ ومِن ثَمَّ يتمكن من حساب عدد الأيام التي ضاعت سدًى في أي سنةٍ محددة. وكان هذا السجل عبارة عن مفكرةٍ صفراء ليتس صغيرة، كان يتركها مفتوحة على رف المدفأة، ومن تحتها مفكرات الأعوام السابقة، وقد كان يُسجِّل فيها أيضًا اليوم الذي يبدأ فيه عطلته ويوم عودته منها إلى المنزل.
كانت أكثر عطلاته تواتُرًا هي زياراته إلى لندن لمدة أسبوع لزيارة منزل أخيه (٦ شارع كوين آن) أو منزل ابنته (٤ شارع بريانستون). وعادةً ما كانت أمي هي التي تقنعه بأخذ هذه العطلات القصيرة حين يتضح من زيادة تواتُر «الأيام السيئة» أو دوار الرأس الذي يصيبه أنه قد أنهك نفسه في العمل أكثر من اللازم. كان يذهب دون رغبةٍ حقيقية منه، ويظل يعقد معها صفقاتٍ شديدة؛ فيشترط مثلًا أن يعود إلى البيت بعد خمسة أيام بدلًا من ستة. وحتى إن كان مسافرًا لأسبوع واحد فقط، كان لا بد من البدء في حزم الأمتعة مبكِّرًا في اليوم السابق للسفر، وكان يقوم هو بنفسه بالجزء الأكبر من هذا فيما يتعلق بأمتعته. وكان الجزء الأكبر من مشقة الرحلة يتمثل بالنسبة له، في السنوات الأخيرة على الأقل، في الترقُّب، وفي ذلك الشعور الغامر بالبؤس الذي كان يعاني منه قبل الرحلة مباشرة؛ فرحلةٌ طويلة بعض الشيء، مثل تلك الرحلة التي قام بها إلى كونيستون، لم ترهقه إلا بالقدر القليل على نحوٍ يثير الدهشة، مقارنةً بمدى الاعتلال الذي كان يعاني منه، ولا شك في أنه قد استمتع بها إلى حدٍّ غريب وبطريقةٍ صبيانية بعض الشيء.
وبالرغم من أنَّ بعض قدراته الجمالية بحسب قوله قد أخذت تضعُف بالتدريج، فإنَّ حبه للمناظر الطبيعية ظل حاضرًا وقويًّا؛ فكل جولة كان يقوم بها في كونيستون كانت تمنحه متعةً جديدة، وهو لم يمَل قط من الثناء على جمال الريف المتقطع بالتلال الموجود عند رأس البحيرة.
ومن الذكريات السعيدة في هذا الوقت (١٨٧٩) تلك الخاصة بزيارتنا المبهجة إلى جراسمير، والتي كتبَت عنها أختي: «إن اليوم المثالي واستمتاع والدي المفعم بالحيوية وانطلاقه قد رسما صورة في ذهني أحب أن أتذكرها. إنه لم يكن يُطيق أن يجلس ساكنًا في العربة عند دورانها، بل كان ينهض كي يستمتع بالمنظر من كلِّ نقطةٍ جديدة، وحتى أثناء العودة، ظل يتحدث عن جمال بحيرة رايدال ووتر، رغم أنه لم يكن ليسمح بالقول بأنَّ جراسمير تتساوى على الإطلاق مع محبوبته كونيستون.»
وإلى جانب هذه العطلات الطويلة، كان يقوم بزيارات أقصر منها إلى الأقارب، مثل زيارته إلى منزل زوج أخته بالقرب من تل ليث هيل، ومنزل ابنه بالقرب من ساوثامبتون. وهو دائمًا ما كان يستمتع على وجه الخصوص بالتجوُّل بأراضي الريف المفتوحة الخشنة، مثل الأراضي العامة الموجودة بالقرب من تل ليث هيل وساوثامبتون، أو الأراضي البور المغطاة بنبات الخلنج التابعة لغابة آشداون أو الأرض «الخشنة» المبهجة بالقرب من منزل صديقه السير توماس فارار. لم يكن متكاسلًا حتى وهو في هذه العطلات، وكان يجد أشياءً ليقوم بملاحظتها؛ ففي هارتفيلد، أخذ يشاهد نبات الندية وهو يمسك بالحشرات وما دونها، وفي توركي، كان يلاحظ تلقيحَ أحد أجناس السحلبيات (اللولوبة)، وكذلك تَوصَّل إلى العلاقات بين الجنسَين فيما يتعلَّق بنبات الزعتر.
كان يبتهج دومًا بعودته إلى البيت بعد عُطلاته، وكان يستمتع كثيرًا بما كان يلقاه من ترحاب من كلبته بولي، التي كانت تصبح جامحة من فَرْط الإثارة، فتظل تلهث وتنبح بصوتٍ حاد، وتندفع في الغرفة صعودًا على الكراسي وهبوطًا منها، وقد اعتاد أن ينحني إلى الأسفل حتى يصل إليها ويُقرِّب وجهه إلى وجهها ويتركها تلعقه، بينما يتحدث إليها بصوتٍ رقيق وملاطف للغاية.
لقد كان أبي يتمتع بالقدرة على أن يضفي على هذه العطلات الصيفية سحرًا تشعر به جميع الأسرة بقوة. لقد كان ضغط العمل الذي يعاني منه في البيت يتطلب منه أن يتحلى بأقصى حدٍّ من قدرته على التحمُّل، وحين كان يتحرر منه، فإنه كان يستقبل العطلة باستمتاعٍ شبابي يجعل صحبته أمرًا باعثًا على البهجة، وكنا نشعر بأننا نرى منه في أسبوع العطلة ما لا نراه على مدى شهر في البيت.
بالرغم من ذلك، فقد كان لبعض هذه الغيابات عن المنزل تأثيرٌ مُثبِّط عليه؛ إذ يبدو أنَّ غياب هذا الإجهاد المعتاد الذي كان يتعرض له قبلها إن أنهكه العمل في المنزل أكثر من اللازم، كان يجعله يغرق في حالةٍ غريبة من المرض الشديد.
وإلى جانب العطلات التي ذكرتها، كانت هناك زياراته إلى مصحات العلاج المائي؛ فحين مرِض بشدة في عام ١٨٤٩ وأصبح يعاني من اعتلالٍ مستمر، حثه صديقٌ له على أن يُجرِّب العلاج المائي، وقد وافق أخيرًا على أن يذهب إلى مصحة الدكتور جالي في مولفرن. وتُوضِّح خطاباته إلى السيد فوكس ما كان للعلاج من تأثيرٍ جيد عليه، ويبدو أنه قد ظن أنه وجد علاجًا لمتاعبه، لكنه كجميع العلاجات، لم يكن له سوى تأثيرٍ مؤقت عليه. بالرغم من ذلك، فقد كان في البداية يجد أنَّ تأثيره جيِّدٌ للغاية، حتى إنه حين عاد إلى المنزل بنى لنفسه منضحة وتعلَّم رئيس الخدم كيف يُحمِّمه.
في المؤسسات العامة كمؤسستي، كان يُحاط بالطبع بالعديد من الشخصيات المختلفة من الجنسَين، وغالبًا ما كانوا يختلفون عنه اختلافًا كبيرًا؛ باختصار كانوا من عامة الناس، مثلما تكون الأغلبية في كلِّ مكان، لكنهم كانوا بالنسبة له على الأقل، رفاقه في الإنسانية وفي المرض. ولم يكن هناك مَن هو أكثر لطفًا وتفهُّمًا وودًّا وجاذبية منه بنحوٍ عام … إنه لم يَسعَ أبدًا، كما هو الحال غالبًا مع المتحدثِين الجيِّدِين، إلى احتكار الحديث، بل كان يجد متعة أكبر في العطاء والأخذ، وقد كان مستمعًا جيِّدًا بقَدْرِ ما كان مُتحدثًا جيِّدًا. ولم يقُم على الإطلاق بإلقاء العظات أو الخطب، وإنما كان حديثه، سواء أكان في الجد أو المرح (وقد كان كلٌّ يأتي في دوره)، حيويًّا وموحيًا ومشرقًا ومثيرًا.
يمكننا رسم صورة عن علاقته بأُسرته وأصدقائه مما سبق ذكره، ومن المحال أن نحاول رسم صورةٍ كاملة عن هذه العلاقات، لكننا يمكننا أن نكتب عنها بتفصيل أكثر قليلًا. بالنسبة إلى حياته الزوجية، فلا أستطيع أن أتحدث عنها إلا بأقل القليل. لقد كانت علاقته مع أمي تُظهر طبيعته الرقيقة والودية في أجمل صورها. لقد كان يجد سعادته في حضورها، ومن خلالها وجد الرضا والسرور الهادئ في حياته، التي كان من الممكن أن تُظلِّلها الكآبة لولا وجودها.
يُوضِّح كتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان» كيف أنه كان يراقب أطفاله عن قرب. وقد كان من سماته المميزة (كما سمعته يتحدث بذلك)، أنه بالرغم من تلهُّفه على أن يلاحظ تعبير البكاء لدى أحد الأطفال ملاحظةً دقيقة، فإن تعاطفه مع الحزن الذي يشعر به الطفل، كان يفسد عليه ملاحظته. ويتضح لنا من دفتره الذي كان يُسجِّل فيه العبارات التي كان يقولها أطفاله، ما كان يستمده منهم من سرور. ويبدو أنه كان يحتفظ بذكرى مفعمةٍ بالأسى عن أيام طفولتهم التي خبَت؛ لذا فقد كتب في عمله «ذكريات»: «حين كنتم صغارًا للغاية، كنت أستمتع باللعب معكم جميعًا، وأعتقد والحسرة تعتصرني أن مثل هذه الأيام لن تعود ثانيةً.»
طفلتنا المسكينة، آني، وُلدت في شارع جاور في الثاني من مارس ١٨٤١، وتُوفيت في مولفرن في منتصف نهار الثالث والعشرين من أبريل عام ١٨٥١.
إنني أكتب هذه الصفحات القليلة، إذ أعتقد أننا في السنوات اللاحقة إذا عشنا فستساعدنا هذه الانطباعات التي أُدوِّنها هنا على تذكُّر سماتها الأساسية بوضوح أكبر. إنني حين أتأملها من أيِّ جانب، فإنَّ السمة الأساسية التي تنبثق في ذهني على الفور، هي مرحها المبهج الذي يمتزج بسِمتَين أخريَين هما حساسيتها التي قد يغفُل عنها بسهولة الغرباء، وعاطفتها القوية. كان مرحها وحيويتها يشعَّان من كاملِ سيمائها، وكانا يجعلان كل حركةٍ لها مليئةً بالمرونة ومُفعَمة بالحياة والنشاط. لقد كانت مشاهدتها أمرًا ممتعًا ومبهجًا، وها هو وجهها الغالي ينبثق الآن أمامي؛ إذ كانت في بعض الأحيان تَهبِط على السلَّم جريًا، وهي تحمل لي جرعةً من النشوق قد اختَلسَتها لأجلي، وجميع تكوينها يشعُّ بهجة من كونها تمنح الآخرين البهجة. وحتى حين كانت تلعب مع أبناء عمومتها وتنهمك في اللعب والمرح إلى حدِّ الصخب، كانت نظرةٌ واحدة من عيني، لا نظرة سخط بالطبع (إذ أحمد الله أنها لم تَرَ مني هذه النظرة أبدًا)، وإنما نظرة تستدعي تعاطُفها، كانت كفيلة بتغيير جميع قسماتها لبضع دقائق.
وأمَّا السمة الأخرى في شخصيتها والتي جَعلَت من مرحها وحيويتها سببًا للبهجة، فهي عاطفتها القوية، والتي كانت تتجلى في طبيعتها شديدة التعلق والمحبة للملاطفة. وقد اتضح ذلك منذ أن كانت طفلة رضيعة؛ إذ لم تكن لتهدأ قط دون أن تلمس والدتها حين كانت ترقد معها في السرير، ثُمَّ أَصبحَت مؤخَّرًا، حين تمرض، تظل ممسكة بإحدى ذراعي أمها تداعبها مهما طال الوقت. وحين كان يشتد بها المرض، فإنَّ استلقاء والدتها بجوارها في السرير يبدو أنه كان يهدئها بطريقة مختلفة إلى حدٍّ كبير عما كان ليهدئ أيًّا من أطفالنا الآخرين. وكذلك كان الأمر معي، إذ كانت تقضي في أي وقت من الأوقات ما يزيد عن نصف ساعة في ترتيب شعر رأسي، وذلك كي «تجعله جميلًا»، كما اعتادت أن تقول، أو تسوية ياقتي أو أكمامي؛ أي، أنها باختصار كانت تقضي هذا الوقت في ملامستي ومداعبتي.
وإلى جانب مزاجها المرح هذا، كانت ودودة وصريحة ومنطلقة وأمينة وتلقائية، دون مقدار ذرة من التحفظ. كان عقلها نقيًّا وشفافًا؛ فكان المرء يشعر أنه يعرفها تمامًا ويمكن أن يثق بها. ولطالما كنت أعتقد أنه، مهما يكن من أمر، فيجب أن يكون لدينا حين يتقدم بنا العمر، على الأقل جانبٌ محبٌّ في روحنا ما كان لأي شيء أن يُغيِّره أبدًا. لقد كانت جميع حركاتها تتسم بالعنفوان والنشاط وفي الغالب الرشاقة. وحين كانت تذهب معي في جولتي حول الممشى الرملي، وبالرغم من أنني أسير بسرعة، فإنها غالبًا ما كانت تسبقني وهي تسير متراقصة بأجمل طريقة ممكنة، وكان وجهها الغالي يشرق دومًا بأجمل الابتسامات. لقد كانت تتدلَّل عليَّ أحيانًا في أعذب صورة وهي التي ما تزال ذكراها تَأسِرني. وكثيرًا ما كانت اللغة التي تستخدمها مفعمة بالمبالغة، وكنتُ حين أمازحها بالمبالغة فيما قالته، كانت ترفع رأسها لأعلى قليلًا، وهو ما يتجلى بوضوح أمام عيني الآن، ثم تقول متعجبةً: «أوه! يا أبي! يا له من أمرٍ مخجل!» وفي مرضها الأخير الذي دام فترة قصيرة، كان سلوكها ملائكيًّا بحق؛ لم تتذمر ولو لمرةٍ واحدة، ولم تشاكس أبدًا، ودائمًا ما كانت تراعي مشاعر الآخرين، وكذلك كانت تُعبِّر عن شكرها لكل ما يُقدَّم لها بمنتهى الرقة وبطريقة تبعث على الأسى. وحين كان يصيبها الإنهاك الشديد حتى يكون من الصعب عليها الحديث، كانت تُثني على كل ما يُقدَّم لها، وقد قالت عن قدح من الشاي إنه «جيد بنحوٍ جميل.» وحين قدَّمتُ لها بعض الماء قالت: «أشكرك بشدة»، وأعتقد أن تلك كانت هي آخر كلماتها الثمينة التي تَحدَّثَت بها إليَّ تلك الشفاه العزيزة على قلبي.
لقد فقدنا بهجة المنزل وسَلْوانا حين يتقدم بنا العمر. لا بد أنها كانت تعرف مقدار حبنا لها. آه، لو أنها تعرف الآن مدى الحب الخالص العميق الذي لا نزال، وسنظل دومًا، نُكِنُّه لوجهها البهيج العزيز! فلتحل عليها البركة!
لقد كنا، نحن أطفاله، نستمتع كثيرًا بالألعاب التي كان يلعبها معنا، لكنني لا أعتقد أنه كان يصخب كثيرًا معنا؛ إذ أعتقد أنَّ صحته كانت تعوقه عن أي لعب عنيف. كان يحكي لنا بعض القصص أحيانًا، وقد كان ذلك أمرًا مبهجًا للغاية، ويعود السبب في ذلك جزئيًّا إلى ندرة حدوثه.
وتتضح الطريقة التي اتبعها في تنشئتنا من خلال قصة قصيرة عن أخي ليونارد، والتي قد كان أبي مغرمًا بحكيها. كان أبي قد دخل إلى غرفة الاستقبال ذات مرة ووجد ليونارد يتراقص على الأريكة، وهو ما كان ممنوعًا للحفاظ على النوابض؛ فقال له أبي: «أوه، ليني، ليني، إنَّ ذلك يخالف جميع القواعد.» فأجابه أخي قائلًا: «إذن، أعتقد أنَّه من الأفضل لك أن تخرج من الغرفة.» أعتقد أنه على مدى حياته كلها، لم يتحدث مطلقًا إلى أيٍّ من أطفاله بأي كلمةٍ غاضبة، لكنني متيقن من أنه لم يخطر ببالنا على الإطلاق أن نعصيه. أتذكر جيِّدًا أنَّ أبي قد وبَّخَني ذات مرة على إهمالي في أَمرٍ ما، وما زلتُ أَتذكَّر ما اعتراني من مشاعر الحزن، وكذلك اهتمام أبي بأن يُبدِّدها عني؛ إذ سرعان ما تحدَّث إليَّ بعدها بعطفٍ كبير. وقد ظل يعاملنا بطريقته المُبهِجة العطوفة علينا طوال حياته. إنني أتعجب أحيانًا أنه تمكن من ذلك؛ إذ إنَّ عائلتنا تتسم بالتحفظ، لكنني أرجو أن يكون قد عرف مدى السرور الذي كان يبعثه فينا عطفُه وكلماته المُحِبة. وبعد أن أصبحت رجلًا، كثيرًا ما كنت أتمنى أن يمرر أبي يده ويمسح بها على شعري، بينما هو واقف خلف الكرسي الذي أجلس عليه، كما كان يفعل حين كنت طفلًا. لقد كان يسمح لأبنائه الكبار بأن يضحكوا ويمزحوا معه، وكان بوجهٍ عام يتعامل معنا من منطلق المساواة التامة بيننا وبينه.
لقد كان يهتم دائمًا بخطط ونجاحات كل منا. وقد كنا نمزح معه قائلين بأنه لا يثق بأبنائه، لأنه على سبيل المثال، كان يتردد بعض الشيء بشأن توليهم بعض المهام التي لم يكن يثق في أنهم يلمون بالقدر الكافي من المعرفة عنها. بالرغم من ذلك، فغالبًا ما كان يميل إلى استحسانِ ما نقوم به. وحين كنتُ أرى أنه قد أَولَى قيمةً كبيرة لأي شيءٍ قمتُ به، كان يستاء ويكاد أن ينفجر في غضبٍ مصطنع. لقد كانت شكوكه جزءًا من تواضُعه بخصوص أي شيء يتعلق به، وأمَّا آراؤه المُحابية لما نقوم به، فقد كانت نتيجة لطبيعته التي تتسم بالتعاطُف، والتي جعلته متساهلًا مع الجميع.
كان يحافظ دائمًا على التعبير عن شكره لأبنائه بطريقته الرائعة، ولم يحدث قط أن كتبتُ له خطابًا أو قرأتُ عليه شيئًا، دون أن أتلقى منه بضع كلماتٍ رقيقة تُعبِّر عن امتنانه. وقد كان حبه وعطفه تجاه حفيده الصغير برنارد عظيمًا، وكثيرًا ما كان يتحدث عما كان يجده من سرور لرؤية «وجهه الصغير أمامه» على الغداء. وقد اعتاد هو وبرنارد أن يقارنا بين أذواقهما؛ كيف أنهما على سبيل المثال يفضلان السكر البني على الأبيض وما إلى ذلك، والنتيجة هي: «إننا نتفق دومًا، أليس كذلك؟»
إن أول ذكرى لي عن والدي هي استمتاعنا بلعبه معنا. لقد كان متعلِّقًا بأطفاله بصورةٍ عاطفية، بالرغم من أنه لم يكن من محبي الأطفال بوجه عام. وقد كان بالنسبة لنا جميعًا أكثر رفاق اللعب إمتاعًا، وأكثر من لديه القدرة على التعاطف. إنه لأمر محال بالطبع أن نصف بشكل كافٍ، مدى البهجة التي كان يمنحها لعائلته، سواء وهم أطفال أو في المراحل اللاحقة من حياتهم.
ومن الأدلة على مدى توافقنا معه ومدى تقديرنا له كرفيق للعب، أنَّ أحد أبنائه عندما كان في نحو الرابعة من عمره قد حاول أن يرشوه بستة بنسات كي يأتي ويلعب معنا في وقت العمل. وقد كنا جميعًا نعلم مدى قداسة وقت العمل بالنسبة له، غير أنه قد بدا لنا من المستحيل أن يرفض أي شخص ستة بنسات.
لا شك أنه كان أكثر المُمرِّضِين صبرًا وأقدرهم على بعث البهجة. إنني أتذكر ما كان يبدو لي ملاذًا من الأمان والراحة حين يصيبني المرض؛ إذ أَتدثَّر على الأريكة في غرفة مكتبه بينما أتطلع بتراخٍ إلى الخريطة الجيولوجية القديمة المعلقة على الحائط. لا بد أنَّ ذلك كان في أثناء وقت عمله؛ إذ إنني أرى صورته في ذهني دومًا وهو جالس على الكرسي ذي الذراعَين المصنوع من شعر الخيل، بجوار ركن المِدفأة.
ومن الدلائل الأخرى على ما كان يتسم به من صبر لا متناهٍ، هو رد فعله حينما كنا نشن غارات على غرفة المكتب عندما نكون في حاجةٍ ملحة للحصول على شريطٍ طبي لاصق أو خيط أو دبابيس أو مقص أو طوابع أو مسطرةٍ قدمية أو مطرقة. كانت غرفة المكتب لا تخلو من هذه وغيرها من الأغراض الضرورية، وهي المكان الوحيد الذي كنا نعرف يقينًا أننا سنجد فيه هذه الأغراض. وقد كنا نشعر أنه ليس من الصواب أن ندخلها في أوقات العمل، لكننا كنا نفعل أحيانًا إن كانت الحاجة لذلك ملحة للغاية. وأنا أتذكر نظرته الصبورة حين قال ذات مرة: «لا تظني أنه لا يمكنكِ الدخول مجدَّدًا، لقد قوطعتُ كثيرًا من قبل.» كنا نرهب الدخول للحصول على شريطٍ طبي لاصق، ذلك أنه كان يكره أن يرانا وقد جرحنا أنفسنا، لخوفه علينا ولحساسيته الشديدة لرؤية الدم كذلك. وأنا أتذكر جيِّدًا بقائي مترصدة في الممر حتى يصبح هو على بُعد مسافةٍ آمنة؛ فأذهب خلسة للحصول على الشريط الطبي اللاصق.
حين أعيد النظر في حياتنا، يبدو لي أنها كانت منتظمة للغاية في هذه الفترة المبكرة، وباستثناء الأقارب (وعدد قليل من الأصدقاء المقربين)، فإنني لا أعتقد أنَّ أحدًا كان يأتي إلى المنزل. وبعد تلقي الدروس، كان يُسمح لنا دائمًا بالذهاب حيثما نريد، وغالبًا ما كنا نذهب إلى غرفة الاستقبال والحديقة، وذلك حتى نكون بالقرب من أبي وأمي كليهما. لقد كنا نستمتع كثيرًا حين كان يحكي لنا قصصًا عن رحلة «البيجل» أو عن أيامه المبكرة في شروزبيري؛ مثل قصصه عن أيام المدرسة وعن اهتماماته في فترة الصبا. وفي بعض الأحيان أيضًا، كان يقرأ على أطفاله بعض الكتب مثل رواياتِ سكوت، وأَتذكَّر أيضًا بضع محاضراتٍ عن المُحرِّك البخاري.
لقد كنتُ مريضةً بعض الشيء على مدى خمسِ سنواتٍ في الفترة بين سن الثالثة عشرة والثامنة عشرة، وعلى مدى فترةٍ طويلة للغاية (أظن أنها قد امتدت لسنوات)، اعتاد أن يلعب معي كلَّ عصرٍ جولتَين من لعبة الطاولة. وقد كان يلعب معي بحماسٍ شديد، وأتذكر أننا اعتدنا في وقت من الأوقات على الاحتفاظ بسجل للجولات التي فاز بها كلٌّ منا؛ ولمَّا كان هذا السجل في صالحه، فقد احتفظنا بقائمةٍ للمرات التي حصل فيها كلٌّ منا على رقمَين متماثلَين على النرد؛ إذ كنت مقتنعة بأنه أفضل مني في رمي النرد.
كان صبره وتعاطُفه لا حدود لهما في هذه الفترة المرهقة من المرض، وعندما كان المرض يشتد عليَّ أحيانًا، كنت أشعر أنَّ تعاطفه عميق للغاية. وحين كانت حالتي تسوء للغاية، كنا نذهب إلى بيت عمتي في هارتفيلد، في ساسيكس، وفور وصولنا بأمان، كان يذهب إلى مور بارك لقضاء أسبوعَين في مصحة العلاج المائي. إنني أتذكر الآن كيف أنني ما كنت أتحمَّل وجوده في غرفتي بعد عودته؛ فقد كان تعبير وجهه الذي يفيض بالمشاعر والتعاطف الرقيق، يثير مشاعري للغاية، إذ كان يتجدد بعد غيابه القصير.
كان يهتم بجميع مساعينا واهتماماتنا، وقد كان يشاركنا حياتنا بطريقة قلما يفعلها الآباء. لكنني على يقينٍ أنَّ أحدًا منا لم يشعر أنَّ مثل هذه الحميمية تتدخل بأقلِّ قدْرٍ مع احترامنا أو طاعتنا له؛ فجميع ما كان يقوله، كان يمثل حقيقة وقانونًا لنا. وكان دائمًا يولي ذهنه كليًّا للإجابة عن أي من أسئلتنا. وقد أدركت من إحدى المناسبات التافهة مِقدارَ اهتمامه بما كنا نهتم به؛ فهو لم يكن يحب القطط كثيرًا، رغم أنه كان محبًّا لما تفعله القطط الصغيرة من أمورٍ لطيفة. بالرغم من ذلك، فقد كان يعرف جميع ما يتعلق بقططي العديدة ويتذكرها، وكان يستطيع التحدُّث عن عادات القطط المميزة منها، وكذلك طباعها حتى بعد موتها بسنوات.
ومن الصفات الأخرى التي كان يتسم بها في معاملته لأطفاله، احترامه لحريتهم وشخصيتهم، وأتذكر أنني كنتُ أستمتع بهذا الإحساس بالحرية، حتى وأنا ما زلت طفلةً صغيرة. لم يكن أبي وأمي يرغبان حتى في معرفةِ ما نفعله أو نفكر فيه ما لم نرغب نحن في إخبارهما. لقد كان أبي يشعرنا دومًا بأنَّ كلًّا منا كيان له آراؤه وأفكاره التي يُقدِّرها هو؛ لذا فإنَّ أفضل ما فينا كان يتجلى في سماء حضوره.
لا أعتقد أنَّ مبالغته في تقدير صفاتنا الجيدة، من الناحية الفكرية أو الأخلاقية، قد جعلنا مُتكبرِين، كما قد يتوقع البعض، بل زادنا تواضُعًا وامتنانًا له. والسبب في ذلك بلا شك هو أنَّ التأثير الذي كانت تُخلِّفه فينا طباعه وطبيعته العظيمة وإخلاصه، كان أدومَ وأعمقَ من أيِّ قدْرٍ يسير من إعلاء الذات كان من الممكن أن يتسبب فيه مدحه لنا أو ثناؤه علينا.
وأمَّا بصفته سيد المنزل، فقد كان يحظى بالحب والاحترام من جميع الخدم؛ لقد كان يتحدث إليهم دائمًا باحترام، مستخدمًا عبارة «هلَّا تَكرَّمت» حين يطلب من أحدهم القيام بأي شيء. ونادرًا ما كان يغضب من أحد الخدم، ومما يدل على ندرة ذلك أنني سمعتُه ذاتَ مرة حين كنتُ صغيرًا يُوبِّخ أحد الخدم ويتحدث إليه بغضب؛ فشَعرتُ بأنه أمرٌ مُروِّع، وأتذكر أنني عدوتُ هاربًا إلى أعلى إذ ترك ذلك عندي إحساسًا عامًّا بالرهبة. لم يكن يشغل نفسه برعاية الحديقة والأبقار وما إلى ذلك، وكان يعتبر أنَّه مسئول عن الخيول بدرجةٍ طفيفة للغاية؛ حتى إنه كان يتساءل بتشكك عما إذا كان بإمكانه أن يحصل على حصان وعربة ليرسلهما إلى كيستون لإحضار بعض نباتات الندية أو إلى مشاتل ويسترام طلبًا لبعض النباتات أو ما شابه.
وأمَّا فيما يتعلق بالضيافة، فقد كان أبي يتمتع بجاذبيةٍ خاصة كمضيف: لقد كان حضور الزائرين يبعث فيه الحماس ويُظهر أفضل ما فيه. لقد كان يقول دومًا عن منزل شروزبيري إنَّ والده كان يرى أنه يجب العناية بالضيوف، وهو يتحدث في أحد خطاباته إلى فوكس عن استحالة كتابة خطاب بينما المنزل مليء بالضيوف. وأعتقد أنه دائمًا ما كان يشعر بشيء من عدم الارتياح لعدم قدرته على الترفيه عن ضيوفه والترحيب بهم بدرجة أكبر، لكنَّ النتيجة كانت جيدة؛ فللتعويض عن أي خسارة، فقد كان المغنم أنَّ الضيوف كانوا يشعرون بكامل الحرية في التصرف كما يحلو لهم. كان الضيوف المألوفون لدينا تمامًا هم الذين يبقون من يوم السبت إلى الاثنين، وأمَّا مَن كانوا يقيمون لفترةٍ أطول، فقد كانوا عادةً من الأقارب، وكان يُنظر إليهم على أنهم مسئولية أمي بدرجةٍ أكبر.
وإضافة إلى الضيوف، فقد كان هناك بعض الزوار من الأغراب والأجانب أحيانًا، وقد كنا نستضيفهم على الغداء ثم يرحلون بعد الظهيرة. وكان حريصًا على أن يوضح لهم مدى بعد المسافة بين لندن وداون ومدى المشقة التي سيتعرضون لها في الرحلة، مسلمًا بنحو لا واعٍ بأنهم سيجدون الرحلة شاقة كما كان يحدث معه. وإن لم يتراجعوا بالرغم من ذلك، فإنه كان يرتب لهم رحلاتهم، ويخبرهم بالموعد الذي يمكنهم المجيء فيه، وبنحو عملي، يخبرهم أيضًا بموعد رحيلهم. لقد كان من الممتع رؤيته وهو يصافح ضيفًا يرحب به للمرة الأولى؛ لقد كانت يده تندفع بطريقة تُشعِر المرء بأنها تسارع لتقابل يدي الضيف. ومع أصدقائه القدامى، كانت يده تمتد لتقابل اليد الأخرى بتلويحةٍ حميمية، ودائمًا ما كانت طريقته في المصافحة تبعث فيَّ الراحة عند رؤيتها. وأمَّا السمة الأساسية في وداعه، فقد كانت تتمثل في طريقته العذبة إذ يقف على الباب موجِّهًا الشكر إلى ضيوفه على زيارتهم له.
أعتقد أنَّ تواضعه قد تسبب للبعض في معاناة فعلية؛ فقد رأيت الراحل فرانسيس بالفور منزعجًا للغاية؛ إذ نُسبت إليه معرفة نقطة ما كان أبي قد أعلن أنه يجهلها تمامًا.
سيكون من الصعب أن نحيط بالسمات التي كانت تتصف بها محادثات أبي.
كان يخشى من تكرار قصصه أكثر من معظم الناس، ودائمًا ما كان يقول: «لا بد أنك قد سمعتني أقول» أو «يمكنني أن أقول إنني أخبرتك»، وقد كان ذلك من السمات المميزة التي كان لها تأثير غريب على محادثاته. غالبًا ما كانت أول بضع كلمات من جملته تذكره بوجود استثناء أو سبب معارض لما كان في سبيله إلى الإدلاء به؛ ومِن ثَمَّ، فإنَّ ذلك كان يستحضر جملةً أخرى، فتصبح الجملة مكونة من جملةٍ اعتراضية ضمن جملةٍ اعتراضية، فيستحيل على المستمع في معظم الأحيان أن يفهم سياقَ ما كان يقوله إلى أن ينتهي من جملته. وقد كان يقول عن نفسه إنه ليس سريعًا بما يكفي لينخرط في جدال مع أي شخص، وأعتقد أنَّ ذلك كان صحيحًا. فإذا لم يكن موضوع الجدال من القضايا التي كان يدرسها في ذلك الوقت، فإنه لم يكن يستطيع الحفاظ على متابعة الجدال بسرعة كافية. ويتضح ذلك حتى في خطاباته؛ ففي حالة الخطابين اللذين بعث بهما إلى البروفيسور سيمبر عن تأثير الانعزال، لم يتذكر مجموعة الحقائق التي أراد أن يتذكرها إلا بعد بضعة أيام من إرسال الخطاب الأول.
أحيانًا كان يجمع بين تعبيراته المجازية بطريقة غريبة؛ فيستخدم مثلًا عبارة «صامد مثل الحياة»، وهي مزيج بين «صامد من أجل حياته» «وصامد مثل الموت الزؤام.» وقد كان ذلك نابعًا من رغبته المتلهفة للتأكيد على ما كان يقوله، مما كان يعطي انطباعًا بالمبالغة في بعض الأحيان، حيث لم يكن يقصدها، لكنه كان يعطي كذلك انطباعًا نبيلًا بالاقتناع القوي الفياض، وذلك على سبيل المثال حين كان يقدم أدلته عن تشريح الحيوانات الحية أمام المفوضية الملكية، وقال كلماته عن القسوة: «إنها جديرة بالمقت والاشمئزاز.» وعندما كانت تصبح لديه آراء قوية وواضحة بشأن أي مسألة مماثلة، لم يكن يثق بقدرته على الحديث؛ إذ كان يغضب بسهولة، وقد كان يكره ذلك للغاية. لقد كان مدركًا لحقيقة أنَّ غضبه كان يميل لأن يتضاعف ويتضاعف، ولهذا السبب، فقد كان يخشى أن يوبخ أحد الخدم على سبيل المثال.
ومن أكبر الأدلة على تواضع والدي في أسلوبه في الحديث، أنه حين حضر لزيارته عدد من الزوار من طرف السير جون لاباك بعد ظهيرة يوم من أيام الآحاد، لم يبدُ عليه قط أنه كان يقوم بالوعظ أو إلقاء محاضرة، بالرغم من استحواذه على النصيب الأكبر من الحديث. وكان يتمتع بجاذبية خاصة حين «يغيظ» بمزاح أحدًا، وقد كان يفعل ذلك بفرح كبير. وكان يتسم بخفة روح صبيانية في مثل هذه الأوقات، وتتجلى رقة طبيعته بقوة شديدة. وحين كان يتحدث مع سيدة يُسر بالحديث معها ويستمتع به، كان من الممتع جدًّا مشاهدة سلوكه الذي يجتمع فيه المرح مع الاحترام.
حين كان يحضر لأبي عدد من الضيوف، فإنه كان يحسن التصرف: فيتحدث مع كلٍّ منهم على حدة لبعض الوقت، أو يجمع بين اثنين أو ثلاثة منهم معًا حول كرسيه. ودائمًا ما كان حديثه في هذه المحادثات مفعمًا بوجهٍ عامٍّ بقَدْرٍ كبير من المرح أو الود الغامر بالبهجة. وربما يكون تذكُّري لعنصر الفكاهة السائد هو الأكثر حيوية في ذهني؛ فقد كانت أفضل الحوارات تدور مع السيد هكسلي، الذي كان يتسم بنزعته المماثلة إلى الدعابة، حتى إن لم تكن حاضرةً في الحديث. كان أبي يستمتع بدعابة السيد هكسلي للغاية، وكثيرًا ما كان يقول عنه: «يا لروعة حس الدعابة لدى هكسلي!» وأعتقد أنه كان يندمج في جدالات تغلب عليها الطبيعة العلمية (على هيئة العراك) مع لايل والسير جوزيف هوكر.
كان يقول إنه يحزنه ألا يشعر تجاه أصدقائه في آخر حياته بتلك المشاعر الدافئة التي كان يشعر بها في شبابه. لا شك في أنَّ خطاباته الأولى التي أرسلها من كامبريدج كانت تُبرهِن على مدى صداقته القوية جدًّا مع هربرت وفوكس، ولم يكن لأحدٍ سواه بالطبع أن يعترف بأنَّ مشاعره تجاه أصدقائه لم تكن على الدرجة نفسها من الدفء طوال حياته. لم يكن يدخر وُسعًا في سبيل تقديمِ أيِّ خدمة لأحدٍ من الأصدقاء، وكان يبذل في ذلك جهده ووقته الثمينَين عن طيب خاطر. لا شك في أنه كان يتمتع بقدرة غير عادية على أن يجعل أصدقاءه يتعلقون به. لقد حظي في حياته بالعديد من الصداقات الدافئة، لكنَّ أواصر المودة التي جمعته بالسير جوزيف هوكر، كانت أقوى مما نراه عادةً بين الرجال. لقد كتب في عمله «ذكريات» يقول: «لا أظن أنني قد عرفتُ من الرجال مَن هو أكثر جدارة بالمحبة من هوكر.»
كانت تجمعه بأهل القرية علاقةٌ جيدة، وكان يعاملهم بلطف أفرادًا وجماعات كلما تواصل معهم، وكذلك كان يهتم بجميع ما يتعلق بشئونهم ومعيشتهم. وبعد مرور بعض الوقت على انتقاله إلى المعيشة في داون، ساعد في تأسيس «نادٍ خيري»، وعمل أمينًا لصندوقه على مدى ثلاثين عامًا. وقد بذل عناءً كبيرًا في رعاية أمور هذا النادي، من الإشراف على حساباته وتسجيلها بدقةٍ بالغة، والاستمتاع بما وصل إليه من أحوالٍ مزدهرة. وقد اعتاد النادي في يوم اثنين العنصرة على القيام بمسيرة والتجوُّل مع فرقة موسيقية ورايات والتجمُّع على الأرض المُعشوشِبة أمام منزلنا. وهناك، كان يلتقي بهم ويشرح لهم وضعهم المالي في حديثٍ قصير تتخلله بعض الدعابات المعتادة. وفي أحيانٍ كثيرة، لم يكن يتمتع بصحةٍ جيدة، مما كان يجعل من هذا الاحتفال القصير مجهودًا شاقًّا بالنسبة له، لكنني لا أعتقد أنه قد تخلف مرة عن لقائهم.
كان يقوم أيضًا بمهامِّ أمين الصندوق لنادي الفحم، فكان ذلك يشغله بعض الشيء، كما أنه قد عمل لبعض السنوات قاضيًا محليًّا.
حين أصبحتُ كاهن داون في عام ١٨٤٦، أصبحنا صديقَين واستمرت صداقتنا حتى وفاته. وكان يعاملني أنا وأُسرتي بعطف لم يتغير أبدًا، وقد كنا نُبادِله ذلك بمودتنا الدافئة.
كان يهم بالمساعدة في جميع أمور الأبرشية، وكان على استعدادٍ دائم لتقديم مساهماته السخية في جميع الأمور المتعلقة بالمدارس والأعمال الخيرية وغيرها من الأعمال، وبالنسبة إلى الاختلافات التي كانت تحدث في الأبرشية أحيانًا كما يحدث في غيرها من الأبرشيات، فقد كنتُ دائمًا على يقين من مساندته لي. لقد كان يرى أنه ما دام الاعتراض ليس بالأمر المهم، فإنَّه سيُساند رجل الدين، لأنه الأكثر دراية بالظروف، وهو الذي يتحمل المسئولية بأكملها.
كان حديثه مع الغرباء يتسم بالتهذيب المتحوِّط واتباع الآداب الرسمية إلى حدٍّ ما، لكنه في الواقع لم يتسنَّ له الالتقاء بغُرباء إلا في مناسباتٍ قليلة.
لا بُد لي أن أقول شيئًا عن أسلوبه في العمل: من أهم السمات التي كانت تُميِّزه هي احترامه للوقت؛ فهو لم يَنسَ قط قيمته الثمينة. ويتضح ذلك على سبيل المثال في محاولته التقليل من عطلاته، وكذلك يتضح أكثر في محاولته لاختصار مدتها. وكثيرًا ما كان يقول إنَّ ادخار الدقائق هي الطريقة التي يمكن بها إنجاز العمل، وقد اتضح حبه لادخار الدقائق فيما كان يشعر به من فرق بين العمل لمدة ربع ساعة والعمل لمدة عشر دقائق؛ فهو لم يُهدِر قط بضعَ دقائقَ إضافية نتيجة لتفكيره بأنها لا تستحق استغلالها في العمل. وكثيرًا ما كنت أندهش من طريقته في استنفاد جميع قواه في العمل إلى أقصى حدٍّ حتى إنه كان يتوقف عن الإملاء فجأة قائلًا: «أعتقد أنَّ عليَّ ألا أعمل أكثر من ذلك.» وتتضح رغبته الشديدة في توفير الوقت مرةً أخرى من خلال سرعته في الحركة في أثناء العمل، وأتذكر أنني لاحظت ذلك على وجه التحديد حين كان يقوم بتجربة على جذور الفول، التي كانت تتطلب بعض العناية في التنفيذ؛ إذ كان من الضروري أن يُجرى تثبيت أجزاء البطاقات الصغيرة على الجذور بحرص وبطء، لكن الحركات البينية كانت تتم كلها بسرعة، مثل تناوُل حبةٍ جديدة ورؤية ما إن كان الجذر سليمًا أم لا، وخرقه بدبوس ثم تثبيته على فلينة ورؤية ما إذا كان رأسيًّا أم لا، وكذلك بعض الأمور الأخرى؛ وكان يقوم بكل هذه الأمور بنوع من التلهف المكبوح. ودائمًا ما كان يعطي الانطباع بأنه يستمتع بالعمل دون أي ضجر. ولديَّ صورة عنه كذلك، وهو يسجل نتائج تجربة ما، إذ كان ينظر بتلهف إلى كل جذر وما إلى ذلك، ثم يكتب بالدرجة نفسها من اللهفة ملاحظاته، وأتذكر أيضًا حركة رأسه السريعة صعودًا وهبوطًا للنظر إلى الأغراض ثم تدوين الملاحظات.
لقد كان يُوفِّر كثيرًا من الوقت من خلال عدم القيام بالشيء نفسه مرتَين. وبالرغم من أنه كان يُكرِّر بصبرٍ التجارب حين يُرجى من ذلك أيُّ نفع، فإنه لم يكن يتحمل تَكرارَ تجربةٍ كان لها أن تنجح من المرة الأُولى إن كان قد أولاها كامل عنايته، مما كان يُسبِّب له قلقًا مستمرًّا من أن تضيع التجربة سدًى؛ فقد كان يشعر بأنَّ التجربة لها قداستها، مهما كانت بساطتها. وكان يأمل أن يتعلم من التجربة بأقصى درجةٍ ممكنة؛ لذا فإنه لم يكن يقيد نفسه بملاحظة النقطة المحددة التي صُممت التجربة لملاحظتها، وقد كان يتمتع بقدرةٍ رائعة على ملاحظة العديد من الأشياء. لا أعتقد أنه كان يهتم بالملاحظات الأولية أو التحضيرية، والتي كان الغرض منها استخدامها كدلائل، ثم يجب أن تُعاد مرةً أخرى. وكان لا بد أن يكون لكل تجربةٍ يجريها بعض النفع، وأتذكر في هذا السياق مدى حثه على ضرورة الاحتفاظ بالملحوظات المدونة عن التجارب التي فشلت، وقد كان يلتزم بهذه القاعدة دائمًا.
لقد كان يعاني من الهلع نفسه بخصوص إهدار الوقت فيما يتعلق بالجانب الأدبي من عمله، وكذلك كان يشعر بالحماس نفسه تجاه ما كان يقوم به في اللحظة الحاضرة، مما جعله حريصًا على ألا يضطر إلى أن يعيد قراءة أي شيء، دونما ضرورة إلى ذلك.
كان يميل إلى استخدام الطرق البسيطة وعدد قليل من الأدوات. وقد زاد استخدام المجهر المركب بدرجة كبيرة منذ شبابه، وذلك على حساب المجهر البسيط. وإننا لنجده الآن أمرًا غريبًا أنه لم يأخذ معه مجهرًا مركبًا في رحلة «البيجل»، لكنه قد اتبع في ذلك نصيحة روبرت داون، الذي كان من الثقات في مثل هذه الأمور. ودائمًا ما كان شديد التفضيل لاستخدام المجهر البسيط، وكان يرى بأنه مهمل للغاية في هذه الأيام، وأنَّ على المرء أن يرى أكبر قدر ممكن بالمجهر البسيط قبل أن يستخدم المجهر المركب. وهو يتحدث عن هذا الأمر في أحد خطاباته ويقول إنه يرتاب دومًا في عملِ أيِّ شخص لا يستخدم المجهر البسيط أبدًا.
كانت منضدة التشريح الخاصة به عبارة عن لوح سميك، مثبت بإحدى نوافذ غرفة المكتب؛ وقد كانت أقل ارتفاعًا من المنضدة العادية؛ لذا فلم يكن يتسنى له العمل عليها واقفًا، لكنه لم يكن ليفعل ذلك على أي حال للحفاظ على قواه. كان يجلس إلى منضدة التشريح على كرسي خفيض غريب بلا ذراعين أو ظهر كان ملكًا لوالده، والذي كان مقعده يدور حول محور رأسي، وهو مثبت على عجلات كبيرة لكي يتسنى له الاستدارة بسهولة من جانب إلى آخر. كانت أدواته المعتادة وما إلى ذلك تتناثر على المنضدة، وكان يُوجد في الجوار عدد من النثريات على منضدةٍ مستديرة مليئة بالأدراج المتشعبة، التي كانت تدور على محورٍ رأسي، وتُوجد على جانبه الأيسر، حين يجلس إلى منضدة المجهر. أمَّا الأدراج، فقد كانت تحمل العناوين: «أفضل الأدوات»، «الأدوات التقريبية»، «العينات»، «تحضيرات العينات» … إلخ. والأمر الأكثر غرابة بشأن محتويات هذه الأدراج، هي العناية الكبيرة في الاحتفاظ ببعض الجذاذات الصغيرة وغيرها من الأغراض العديمة القيمة تقريبًا؛ فقد كان يؤمن بالاعتقاد الشائع أنك إن رميتَ شيئًا، فسوف تحتاج إليه مباشرة؛ ولهذا فقد تراكمت الأغراض هناك.
لو نظر أيُّ شخصٍ إلى أدواته وغيرها من الأغراض المتناثرة على الطاولة، فإنه كان ليندهش من البساطة والارتجال والغرابة.
على جانبه اليمين، كانت تُوجد بعض الرفوف مع عدد من النثريات، والأكواب والصحون وصناديق البسكويت المعدنية لاستنبات البذور، وبطاقات من الزنك وصحون مليئة بالرمل وغير ذلك. وبالنظر إلى ما كان أبي عليه من تنظيم ومنهجية في الأمور الأساسية، فإنه من الغريب أن نجد أنه قد تحمل وجود العديد من الأشياء المستعملة قبل ذلك؛ فبدلًا من الحصول على صندوقٍ مصنوع على شكل محدد، ومصبوغ باللون الأسود من الداخل، فإنه كان يبحث عن شيءٍ مشابه لما كان يريده ويصبغه بالأسود من الداخل باستخدام دهان الأحذية. ولم يكن يهتم بالحصول على أغطيةٍ زجاجية مصنوعة بشكلٍ خاص لأوعيةِ استنبات البذور، وإنما كان يستخدم قطعًا مكسورة ذات أشكالٍ مختلفة، وأحيانًا كان يُوجد بها زاويةٌ ضيقة تبرز بلا جدوى من أحد الجانبَين. بالرغم من ذلك، فإنَّ معظم التجارب التي كان يُجريها، كانت من النوع البسيط ولم تكن تستدعي أغراضًا غايةً في الإتقان. وأعتقد أنَّ عادته في هذا الصدد كانت تنبع بدرجةٍ كبيرة من رغبته في حفظ قواه وعدم إهدارها على أمورٍ غير ضرورية.
ويُمكننا أن نذكر هنا شيئًا عن طريقته في تمييز الأغراض. إذا كان لديه عددٌ من الأغراض التي يرغب في التمييز بينها، مثل أوراق الشجر والزهور وغير ذلك، فإنه كان يربط حول كلٍّ منها لونًا مختلفًا من الخيوط. وكان يستخدم هذه الطريقة بالتحديد حين يرغب في التمييز بين فئتَين فقط من الأشياء؛ ولهذا ففي حالة التلقيح المتبادَل والتلقيح الذاتي للزهور، كان يُميِّز إحدى المجموعتَين بخيطٍ أسود والأخرى بخيطٍ أبيض يربطه حول ساق الزهرة. أتذكر جيدًا منظر مجموعتَين من أغلفة البذور، وقد جَمعَهما في انتظارِ قياسِ وزنهما وعدِّ محتوياتهما وما إلى ذلك، وقد استخدم قطعتَين من الخيط الأبيض والأسود للتمييز بين الأواني التي ستُوضعان فيها. وعندما كان عليه أن يقارن بين مجموعتَين من الشتلات قد زُرعتا في الإناء نفسه، فإنه كان يفصل بينهما بحاجز من صحائف الزنك، مع وضع بطاقة الزنك التي توضح التفاصيل الضرورية عن التجربة على جانب محدد دائمًا؛ وذلك حتى يتسنى له أن يعرف على الفور أيهما يمثل «التلقيح المتبادل» وأيهما يمثل «التلقيح الذاتي»، دون حاجة إلى قراءة البطاقة.
لقد تجلى على نحو واضح حبه لكل تجربة ورغبته المتلهفة على ألا يهدر ثمارها، في تجارب التلقيح المتبادل التي كان يقوم بها، وذلك من خلال حرصه الدقيق على ألا يحدث أي خلط في وضع أغلفة البذور على الأواني الخاطئة، وما شابه ذلك. ويمكنني أن أتذكر منظره وهو يحصي البذور تحت المجهر البسيط بانتباه شديد لا تستدعيه في العادة مهمة آلية مثل العدِّ. أعتقد أنه كان يتصوَّر كل بذرة على أنها عفريت صغير يحاول الإفلات منه إلى الكومة الخاطئة، أو الهرب منه تمامًا، وقد كان ذلك يضفي على العمل الإثارة التي تتسم بها الألعاب. كان يثق بالآلات ثقة عظيمة، ولا أظن أنه كان ليُفكِّر في أن يرتاب في دقةِ مقياس أو كوبٍ للقياس أو ما شابه ذلك. وقد اندهش حين اكتشف أنَّ أحد الميكرومترات يختلف في قياسه عن الآخر. لم يكن يحتاج إلى الدقة العالية في معظم قياساته، ولم يمتلك أدوات قياس جيدة: كان يمتلك مسطرةً قدميةً قديمة طولها ثلاثة أقدام، وقد كانت ملكيةً عامة للمنزل بأكمله، وكنا نقترضها باستمرار لأنها هي الوحيدة التي كنا نعرف يقينًا أنها موجودة في مكانها؛ هذا بالطبع إن لم يكن آخر من اقترضها قد نسي أن يضعها مجدَّدًا في مكانها. ولقياس ارتفاع النباتات، فإنه كان يستخدم قضيبًا خشبيًّا طوله سبعة أقدام، كان قد استعان بنجار القرية في تدريجه. ثم بدأ بعد ذلك في استخدام المقاييس الورقية التي تتدرج إلى ملليمترات. وبالنسبة إلى الأغراض الصغيرة، فقد كان يستخدم الفرجار ومنقلة عاجية. وقد كان من سماته أنه يتحمل عناءً كبيرًا في اتخاذ قياساته باستخدام أدواته التقريبية بعض الشيء. ومن الأمثلة البسيطة على ثقته في المراجع أنه كان يحسب «البوصة على أساس الملليمترات»، وذلك من كتاب قديم، والذي قد اتضح عدم دقته. وكان لديه ميزان كيميائي يعود تاريخه إلى عهد عمله في الكيمياء مع أخيه إيرازموس. وبالنسبة إلى قياسات السعة، فقد كان يأخذها باستخدام وعاء زجاجي صيدلاني للقياس، وما زلت أتذكر جيِّدًا مظهره الخشن وتدريجه السيئ، وأتذكر أيضًا ما كان يوليه أبي من عنايةٍ كبيرة ليصبح خط السائل على التدريج. إنني لا أقصد بهذا الحديث عن أدواته أنَّ أيًّا من تجاربه قد عانت من نقصان في دقة القياسات، وإنما أقدم به مثالًا على وسائله البسيطة وثقته في الآخرين؛ ثقته على الأقل في صانعي الأدوات، والتي كانت صناعتهم بأكملها لغزًا بالنسبة له.
ويحضرني الآن عدد من سماته الذهنية، والتي تتعلق بصفة خاصة بطريقته في العمل. هناك سمة ذهنية يبدو أنها كانت ذات فائدة عظيمة ومميزة في قيادته إلى التوصل للاكتشافات، والتي تتمثل في قدرته على ملاحظة الاستثناءات على الدوام، وعدم إغفالها على الإطلاق. إنَّ الجميع يلاحظون وجود الاستثناءات حين تكون واضحة للغاية ومتكررة، لكنه كان يتمتع بحدس خاص للانتباه إلى وجود أي استثناء. إن أي نقطة تبدو بسيطة وغير مرتبطة بالعمل الحالي، تغيب عن انتباه العديد من الرجال بشكلٍ غير واعٍ تقريبًا، ويعزون السبب فيها إلى تفسيرٍ غير محكم، والذي هو في واقع الأمر ليس تفسيرًا على الإطلاق، لكن مثل هذه الأمور، هي ما كان يتوقف عندها، ويبدأ بالعمل منها. وبطريقة ما، يمكننا أن نرى أنَّه لا شيء مميز في هذه العملية؛ فهي الطريقة التي أدت إلى التوصل للعديد من الاكتشافات، وإنما أذكرها فقط لأنني بينما كنت أشاهده وهو يعمل، فإنني قد تأثرتُ كثيرًا بقيمة هذه القدرة للعالم التجريبي.
ومن السمات الأخرى التي اتضَحَت في عمله التجريبي، هي قدرته على المثابرة في العمل على موضوع محدد، وقد كان يعتذر عن صبره قائلًا إنه لا يستطيع احتمال الهزيمة، كما لو كان ذلك من نقاط الضعف. وكثيرًا ما كان يستشهد بالقول: «إن الإصرار هو السبيل إلى النجاح»، وأعتقد أنَّ الإصرار يُعبِّر عن إطاره الذهني بنحوٍ أفضل من المثابرة؛ فالمثابرة لا تكفي للتعبير عن رغبته الشديدة في إجبار الحقيقة على الإفصاح عن نفسها. وكثيرًا ما كان يقول إنه من المهم للمرء أن يعرف النقطة الصحيحة التي يجب عندها التخلي عن أي بحث. وأعتقد أنَّ ميله إلى تخطي هذه النقطة هو ما كان يجعله يعتذر عن مثابرته، وأضفى طابع الإصرار على عمله.
لقد كان حب التجريب قويًّا لديه للغاية، وإنني لأستطيع تذكُّر الطريقة التي كان يقول بها: «لن أهدأ حتى أُخضع هذا للتجربة.» وكأنما كانت هناك قوةٌ خارجية تدفعه إلى ذلك. وكان يستمتع بإجراء التجارب أكثر من استمتاعه بالعمل الذي لا ينطوي إلا على التسويغ المنطقي، وحين كان ينخرط في تأليفِ كتابٍ يتطلب تقديم الحُجج وترتيب الحقائق، كان يشعر بأنَّ العمل التجريبي سيكون بمنزلة استراحة أو عطلة؛ ولهذا، فحين كان يعمل على كتابه «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين»، في الفترة بين ١٨٦٠ و١٨٦١، توصَّل إلى فهمه لتلقيح السحلبيات، وكان يرى نفسه متكاسلًا إذ أَولَى هذا الأمر هذا القَدْر الكبير من الوقت. وإنه لأمرٌ مثير أن ندرك أنه قد قام بجزءٍ مهم للغاية من العمل البحثي، على سبيل تمضية الوقت، والاستراحة من عملٍ أكثر جدية. وتتضمن خطاباته إلى هوكر في هذه الفترة بعض العبارات مثل: «فليسامحني الله على تكاسلي؛ فأنا مهتم بهذا العمل على نحوٍ سخيف.» ويتجلى استمتاعه الشديد باستيعاب أساليب التكيُّف للتلقيح بقوة في هذه الخطابات. إنه يتحدث في أحد الخطابات عن نيته في العمل على جنس الندية على سبيل الاستراحة من كتابة عمله «نشأة الإنسان» وقد وصف في عمله «ذكريات» شعوره الكبير بالرضا بعد أن توصَّل إلى حلِّ مسألةِ تفاوُتِ أطوال الأعضاء الجنسية في الزهور. وقد سمعتُه يذكر أنه قد استمتع بالطبيعة الجيولوجية لأمريكا الجنوبية أكثر من أيِّ شيءٍ آخر. ربما يكون ذلك السرور الذي كان يستمده من العمل الذي يستدعي الملاحظة الدقيقة هو ما جعلَه يقدِّر أي ثناءٍ يتلقاه على قواه في الملاحظة أكثر من أيِّ احتفاءٍ بملكاته الأخرى.
لم يكن يُكنُّ احترامًا كبيرًا للكتب، وإنما كان يعتبرها مجرد أدواتٍ تُستخدم في العمل؛ لذا لم يُجلِّدها، وإذا تهرَّأ أحد الكتب الورقية من كثرة الاستخدام، كما حدث مع كتاب «التلقيح» لمولر، فإنه كان يحفظه من التفكُّك التام من خلال وضع مشبكٍ معدني على ظهره. وبالمثل فإنه كان يقسم الكتب الثقيلة إلى نصفَين كي يسهُل حملها. وقد كان يتفاخر بأنه جعل لايل ينشر الطبعة الثانية من أحد كتبه في جزأَين بدلًا من واحد، وذلك بأن أخبره أنه اضطُر إلى تقسيمه إلى نصفَين. وكثيرًا ما كان يتعامل مع النشرات بقسوةٍ أكثر من الكتب؛ إذ كان يُمزِّق الصفحات التي لا يهتم بها، لتوفير الحيِّز الذي تشغله. ونتيجة لجميع تلك الممارسات، فإنَّ مكتبته لم تكن مُزيَّنة، وإنما كانت لافتة للنظر؛ إذ كان يبدو بوضوح أنها مجموعة من الكتب المخصصة للعمل.
كان أبي منهجيًّا في الطريقة التي يتبعها في قراءة الكتب والنشرات المرتبطة بعمله. فقد كان يخصص رفًّا يضع عليه جميع الكتب التي لم يَقرأْها بعدُ، وآخر تُنقل إليه بعد قراءتها وقبل تصنيفها. وكثيرًا ما يتحسر على كتبه التي لم يقرأْها، لأنه كان يعرف أنه لن يتمكن من قراءة العديد منها. وقد كانت كتب عديدة تُنقل إلى الكومة الأخرى في الحال، وقد كانت هذه الكتب تحمل علامة الصفر عند نهايتها لتدل على أنها لا تضمن أيَّ فقراتٍ قد حدَّدها، أو كان يكتب عليها أحيانًا «لم يُقرأ» أو «جرى تصفُّحها فقط». كانت الكتب تتراكم في الكومة المخصصة للكتب التي قُرئت حتى يفيض بها المكان، وبعد الكثير من الامتعاض، كان يُخصص يومًا لتصنيفها. كان يكره القيام بهذه المهمة، وحين يصبح القيام بها ضرورةً ملحة، فإنه غالبًا ما كان يقول في نبرة يأس: «يجب علينا بالفعل ترتيب هذه الكتب في وقت سريع.»
في كل كتاب كان يقرؤه، كان يُحدِّد بعض الفقرات المتعلقة بعمله. وحين كان يقرأ كتابًا أو نشرة أو غير ذلك، كان يرسم خطوطًا بالقلم الرصاص على جانب الصفحة ويضيف ملاحظاتٍ قصيرة في أغلب الأحيان، وفي النهاية، كان يكتب قائمة بالصفحات التي بها فقرات مميزة. وعندما يحين موعد تصنيف الكتاب ووضعه في المكان المُخصَّص، كان يعيد النظر في الصفحات التي تحتوي على ملاحظاته، ومِن ثَمَّ يُعد مُلخَّصًا سريعًا للكتاب. وقد يُكتب هذا الملخص تحت ثلاثةِ عناوين أو أربعة في صفحاتٍ مختلفة، وفيها يجري تصنيف الحقائق وإضافتها إلى الحقائق التي سبق جمعها في مختلف الموضوعات. وكانت لديه مجموعةٌ أخرى من المُلخَّصات التي كان يُرتِّبها وفقًا للدورية لا الموضوع. وحين كان يجمع الحقائق على نطاقٍ واسع في السنوات المُبكِّرة، كان معتادًا على القراءة وإعداد الملخَّصات بهذه الطريقة لِسلاسلَ بأكملها من الدوريات.
وفي بعض خطاباته المبكرة، كان يتحدث عن ملء العديد من الدفاتر بالحقائق لكتابه عن الأنواع، لكنَّ المؤكد أنه قد بدأ في وقتٍ مبكر في تَبنِّي خطته في استخدام حافظات الأوراق، والتي يصفها في عمله «ذكريات». وقد شعر كلٌّ من والدي ودي كوندول بالسرور لاكتشافهما أنهما قد استخدما الخطة نفسها في تصنيف الحقائق. ويصف دي كوندول هذه الطريقة في كتابه «علم النباتات»، وهو يذكر في وصفه لوالدي مدى الرضا الذي شعر به حين رأى خطته تُنفذ في داون.
وإضافةً إلى حافظات الأوراق التي يُوجد منها عشراتٌ مليئة بالملاحظات، تُوجد لفائف ضخمة من المخطوطات التي كان يضع عليها عنوان «مستخدمة»، وكان يضعها بعيدًا. كان يشعُر بقيمة مذكراته وكان لديه ذُعرٌ من أن تُدمِّرها النيران. أَتذكَّر حين حدث إنذار بالحريق ذات مرة، أنه كان يرجوني أن أتوخى شديد الحذر، ثم أضاف بجدية شديدة أنَّ حياته ستكون تعيسة إن تلَفَت مذكراته وكتبه.
وهو يعبر عن هذا الشعور نفسه فيما كتبه عن فقدان إحدى مخطوطاته، وقد كان فحوى كلامه: «لديَّ نسخة منها وإلا لكان قد قتلني فقدانها.» وحين كان ينوي تأليف كتاب، فإنه كان يبذل الكثير من الوقت والجهد في إعداد هيكل أو خطة للكتاب بأكمله، وكذلك في تكبير العناوين وتشعيبها، وذلك كما يصف في عمله «ذكريات». وأعتقد أنَّ هذا الترتيب الدقيق للخطة لم يكن جوهريًّا على الإطلاق في بناء حجته، لكنه كان ذلك لطريقة العرض وترتيب الحقائق. ولأنَّ كتابه «حياة إيرازموس داروين» قد طُبع في البداية في قصاصات، فإنَّ نمو الكتاب من مجرد هيكل كان واضحًا للغاية، وقد تغيَّر ترتيب الكتاب فيما بعد لأنه كان رسميًّا للغاية وذا طبيعةٍ حاسمة، وبدا وكأنه يعرض شخصية جده من خلال تقديم قائمة بصفاته، لا صورة كاملة.
وفي سنواته الأخيرة فقط، تبنى خطة للكتابة كان مقتنعًا بأنها الأنسب له، وهي التي وصفها في «ذكريات» والتي تتمثل في كتابةِ نسخةٍ مبدئية مباشرة دون أن يعير الأسلوب أي اهتمام. وكان من عادته أن يشعر بأنه لا يستطيع الكتابة بالقدر الذي يرغب فيه من العناية إن استخدم أفضل الأوراق؛ لذا فإنه كان يكتب على ظهر أوراق بروفات الطباعة أو المخطوطات. وبعد ذلك، كان يعيد النظر في النسخة المبدئية ويُعد نسخةً منقحة؛ ولهذا الغرض، فقد كان لديه أوراق فولسكاب واسعة المسافة بين السطور، وقد كانت السطور ضرورية لكي يتفادى الكتابة عن قرب، فيكون التصويب أمرًا عسيرًا. بعد ذلك، تُصوب النسخة المنقحة ويُعاد نسخها ثم تُرسَل إلى المطابع. وكان السيد إي نورمان هو الذي يتولى عملية النسخ، وكان قد بدأ هذا العمل قبل سنواتٍ عديدة حين كان مدرس القرية في داون. وقد أصبح والدي معتادًا للغاية على خط السيد نورمان حتى إنه لم يكن يستطيع تصويب أي مخطوطة، حتى حين يكون أحد أبنائه قد كتبها بوضوح، إلى أن يعيد السيد نورمان نسخها. وحين تعود المخطوطة من عند السيد نورمان، فإنها تُصوب مرةً أخرى ثم تُرسل إلى المطابع، ثم يأتي دور تنقيح بروفات الطباعة وتصويبها، وهو ما كان أبي يجده عملًا مملًّا للغاية.
وفي هذه المرحلة، كان يبدأ في التفكير بجدية في أسلوب كتابته. وحين كان يصل إلى هذه المرحلة، فإنه عادةً ما كان يبدأ في عملٍ آخر للترويح عن نفسه. والواقع أنَّ عملية تصويب القصاصات كانت تتم على مرحلتَين: وهما التصويب بالقلم الرصاص أوَّلًا، ثم إعادة النظر فيما جرى تصويبه وكتابته بالحبر.
وحين كان الكتاب يمر بمرحلة «القصاصات»، كان أبي يُسر بتلقي التصويبات والاقتراحات من الآخرين؛ ولهذا فقد ألقت أمي نظرة على بروفات الطباعة لكتاب «أصل الأنواع». وفي بعض الأعمال المتأخرة، كانت أختي السيدة ليتشفيلد هي التي تقوم بالجزء الأكبر من التصويب، وبعد زواج أختي، أصبح الجزء الأكبر من العمل من نصيبي.
لقد كان هذا العمل مُشوِّقًا للغاية في حدِّ نفسه، وقد كان العمل لأجله، أمرًا مبهجًا بنحوٍ لا يمكن التعبير عنه. لقد كان دائمًا على استعداد للاقتناع بأن أي تغييرٍ مقترح هو تحسين، وكان يُعبِّر دائمًا عن خالص امتنانه للجهد المبذول. ولا أعتقد أنه قد نسي أن يخبرني بمدى التحسين الذي قمتُ به في رأيه، ويكاد أن يعتذر إن لم يوافق على أحد التعديلات. وأعتقد أنني قد شَعرتُ برقته وتواضُعه الفريدَين من خلال العمل معه، بطريقةٍ لم أكن لأعرفها بأي سبيلٍ آخر.
لم يكن يكتب بسهولة، وكان يميل إلى عكس جمله سواء في الحديث أو الكتابة؛ إذ كان يضع العبارة الوصفية قبل أن يوضِّح ما تصفه. وكان يُصوِّب الكثير، وكان حريصًا على التعبير عن نفسه بأفضل نحو ممكن قدر الإمكان.
ولعل القَدْر الأكبر من التعديلات اللازمة كان يتمثل في النقاط المبهمة بسبب حذفِ رابطٍ ضروري في عملية التبرير المنطقي، ولا بد أنَّ ذلك كان يتمثل في شيء كان قد حذفه لمعرفته المفصلة بالموضوع. لم يكن هذا ناتجًا عن خطأ في تسلسُل الأفكار لديه، وإنما إلى أنه لم ينتبه إلى أنَّ الكلمات التي اختارها لا تُعبِّر عن الفكرة المعروضة وذلك لأنه قد ألِف الحُجة التي يسوقها. وكثيرًا ما كان يضع الكثير في الجملة الواحدة؛ فكان لا بد من تجزئتها إلى جملتَين.
بوجهٍ عام، إنني أرى أنَّ أبي كان يبذل قدْرًا عظيمًا من الجهد في الجزء الأدبي من عمله، وقد كان ذلك بارزًا للغاية. وكثيرًا ما كان يَسخَر من نفسه أو يَتذمَّر لما يجده من صعوبة في الكتابة باللغة الإنجليزية؛ فكان يقول مثلًا بأنه إذا كان ثَمَّةَ ترتيبٌ سيئ للجملة يُحتمل أن تكون عليه، فمن المؤكد أنه سيستخدمه. وفي إحدى المرات، شَعَر بالسرور والرضا عندما وجد أحدُ أفراد العائلة صعوبةً في كتابةِ منشورٍ قصير. وقد سُر بتصحيح أخطائه والسخرية من النقاط المُبهَمة والجمل المُعقَّدة وغير ذلك من العيوب؛ وبهذا فقد انتقم لنفسه من جميع النقد الذي كان عليه أن يتحمَّله. وقد اعتاد على أن يقتبس نصيحة الآنسة مارتينو إلى المؤلِّفين الشباب مُعبِّرًا عن دهشته منها، وهي أن ينطلقوا في الكتابة ثم يرسلوا المخطوطات إلى جهة الطبع مباشرة دون تصويبها. بالرغم من ذلك، فقد كان يتصرف على نحوٍ مشابه لذلك في بعض الأحيان. وحين كانت إحدى الجمل تتعقد على نحوٍ لا أمَل في إصلاحه، فإنه كان يسأل نفسه: «والآن، ما الذي تريد أن تقوله؟» وعادةً ما كانت إجابته التي يُدوِّنها هي التي تُزيل اللبس.
كان أسلوبه يحظى بالثناء؛ بالرغم من ذلك، فقد صرَّح لي خبيرٌ معروف بأنَّ أسلوبه ليس جيِّدًا. لكنه رغم كلِّ شيءٍ كان مباشرًا وواضحًا، وهو يُشبه صاحبه في بساطته التي تقترب من السذاجة، وفي غياب الادعاء عنه. وكان لا يؤمن على الإطلاق بالفكرة الشائعة القائلة بأنَّه يجب على أيِّ عالمٍ أن يكتب بلغةٍ إنجليزية سليمة، وكان يعتقد في الواقع أنَّ العكس هو الصحيح. وكان يستخدم في الكتابة أحيانًا، بعض التعبيرات القوية مثلما كان يفعل في الحديث؛ لذا، في الصفحة ٤٤٠ من كتاب «أصل الأنواع»، يرِد وصف لهدابيات الأرجل اليرقانية، يقول: «لها ستةُ أزواج من الأرجل جميلة التركيب المُهيَّأة للسباحة، وزوجٌ من الأعين المركَّبة الرائعة، وقرونُ استشعارٍ غاية في التعقيد.» وقد اعتدنا أن نسخر منه بسبب هذه الجملة، وشبَّهناها بأحد الإعلانات. وتظهر هذه النزعة في الاستسلام للميل الحماسي في أفكاره، دون الخوف من أن يكون مُضحكًا، في مواضعَ أخرى من كتاباته.
لقد كانت نبرته الدمثة والودية نحو قارئه بارزة للغاية، ولا بد أنَّ ذلك من الأمور التي أوشت بطبيعته العذبة إلى العديد ممن لم يروه أبدًا. ولطالما شعرت بأنها حقيقة غريبة أن يكون الرجل الذي غيَّر وجه العلوم الحيوية، وهو في هذا الشأن رائد العلماء المعاصرين، كان يكتب ويعمل بهذه الطريقة والروح اللتَين لا تتسمان بالعصرية في جوهرهما. وعند قراءة كتبه، فإنَّ المرء ليتذكر السابقين من علماء التاريخ الطبيعي، أكثر مما يتذكر كُتاب المدرسة الحديثة. لقد كان عالمًا في التاريخ الطبيعي بالمعنى القديم للكلمة؛ أي إنه رجل يعمل في العديد من فروع العلوم، ولا يتخصص في واحدٍ منها فقط؛ ولهذا، فبالرغم من أنه قد أسس فروعًا جديدة بأكملها من الموضوعات المميزة، مثل تلقيح الزهور والنباتات الآكلة الحشرات وثنائية الشكل وغير ذلك، فإنَّه حتى عند معالجته لمثل هذه الموضوعات لا يجعل القارئ يشعر بأنه يقرأ لعالمٍ متخصص، بل يشعر أنه صديقٌ يتحدث إليه صديقه الرجل الفاضل الدمث، وليس تلميذًا يُحاضِره أستاذه. لقد كانت النبرة التي استخدمها في كتابٍ مثل «أصل الأنواع» ساحرةً وعاطفية بعض الشيء؛ إنها نبرةُ رجلٍ يقتنع بصدق أفكاره ولا يتوقع كثيرًا أن يتمكن من إقناع الآخرين؛ فقد كان أسلوبه يُناقض تمامًا أسلوب المُتعصبين الذين يرغبون في إجبار الآخرين على الإيمان بآرائهم. إنَّه لا يُشعر القارئ بأيِّ ازدراءٍ على الإطلاق لأيِّ مقدارٍ من الشك يمكن له أن يتخيله، وإنما يتعامل مع هذا الشك باحترامٍ صبور. يبدو أنَّ القارئ المتشكك وربما حتى القارئ غير العقلاني، كانا حاضرين دائمًا في تفكيره. وربما نتيجةً لهذا الشعور، كان يبذل مجهودًا كبيرًا في النقاط التي كان يتصور أنها ستلفت نظر القارئ، أو توفر عليه المشقة فيغريه بالقراءة.
ولهذا السبب نفسه، كان يهتم اهتمامًا كبيرًا بالرسومات التوضيحية في كتبه، وأعتقد أنه كان يوليها أكثر من قدرها. إنَّ الرسومات التوضيحية في كتبه الأولى قد رسمها فنانون محترفون، وكان ذلك في كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» وكتاب «نشأة الإنسان» وكتاب «التعبير عن الانفعالات في الإنسان والحيوان». أمَّا في أعماله «النباتات المتسلقة» و«النباتات آكلة الحشرات» و«حركات النباتات» و«أشكال الزهور»، فقد كانت الرسومات التوضيحية الواردة فيها إلى حدٍّ كبير من رسم بعض أولاده؛ إذ كان أخي جورج هو من رسم معظمها. لقد كان من الممتع أن نرسم له؛ إذ كان يفرط في الثناء على أدائنا المتواضع جدًّا. وأنا أتذكر جيِّدًا طريقته العذبة التي كان يستقبل بها رسومات إحدى زوجات أبنائه، وكيف أنه كان ينهي عبارات الثناء قائلًا: «أخبر أ… أنَّ رسومات مايكل أنجلو لا تساوي شيئًا مقارنة بهذه.» وبالرغم من أنه كان يفيض في الثناء، فإنه كان يتفحص الرسومات وكان يكتشف بسهولةٍ أيَّ خطأ أو إهمال فيها.
كان لديه ذعر من الإسهاب الشديد، وكان يبدو منزعجًا ومضطربًا للغاية حين وجد أنَّ كتاب «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» يطول في يدَيه. وأتذكر أنه كان يتفق بشدة مع كلمات تريستام شاندي: «لا تدع أي إنسان يقول: هيا، فسوف أؤلف كتابًا بقطع الاثنَي عشر.»
كان تقديره للمؤلِّفين الآخرين من سماته المُميِّزة، مثلما كانت نبرته مع القارئ. فقد كان يتحدث عن جميع المؤلِّفين الآخرين كأشخاص يستحقون الاحترام. وفي الحالات، كما في حالةِ تجارب … على نباتات جنس الندية، التي لم يكن يعتدُّ كثيرًا بالمؤلف، كان يتحدث عنه بطريقةٍ لا تشي بذلك. وفي حالاتٍ أخرى، كان يتعامل مع الكتابات المرتبِكة للجهلاء، كما لو أنَّ الخطأ يقع على عاتقه أنه لم يفهمهم أو يُقدِّرهم. وإلى جانب هذه النبرة العامة من الاحترام، فقد كانت له طريقة عذبة في التعبير عن رأيه في قيمة العمل المستشهد به، أو امتنانه لمعلومة خاصة قُدمت إليه.
لم يكن شعوره الذي ينم عن الاحترام حميدًا من الناحية الأخلاقية فحسب، بل أعتقد أنه قد أفاده من الناحية العملية؛ إذ جعله ذلك مستعدًّا للتفكير في أفكار جميع ضروب البشر وملاحظاتهم. وكان يكاد أن يعتذر عن ذلك قائلًا إنه كان يميل في البداية إلى الإعلاء من قيمة أي شيء بنحو مرتفع للغاية.
ومن صفاته الذهنية الرائعة أنه بالرغم من شعوره القوي بالاحترام تجاه ما كان يقرؤه، فإنه كان يتمتع بغريزةٍ قوية للغاية بخصوصِ ما إذا كان الشخص جديرًا بالثقة أم لا. لقد بدا أنه يُكوِّن رأيًا محدَّدًا للغاية عن دقة المؤلِّفِين الذين كان يقرأ لهم، وكان يستخدم هذا الرأي في اختياره للحقائق التي يستخدمها في تقديم البرهان أو تقديم الأمثلة التوضيحية. وقد تولد انطباع لديَّ أنه كان يشعر بما لهذه القدرة في الحكم على جدارة الشخص بالثقة من قيمةٍ كبيرة.
كان يؤمن تمامًا بميثاق الشرف الذي ينبغي أن يكون بين المؤلفِّين، وكان لديه ذعرٌ من أي نوع من التراخي في الاستشهاد. كان يزدري الولع بالتشريف والتمجيد، وكثيرًا ما كان يُوجِّه اللوم إلى نفسه في خطاباته، وذلك لما كان يجده من سرور في نجاح كتبه، كما لو كان ذلك تخلِّيًا منه عن مُثله العليا: حب الحقيقة وعدم الاهتمام بالشهرة. وكثيرًا ما كان يسخر من نفسه لغروره وافتقاره إلى التواضع، وذلك حين كان يكتب إلى السير جيه هوكر، ما يسميه بخطاب متباهٍ. ويُوجد خطابٌ مثير بنحوٍ مدهش كان قد كتبه إلى أمي، وهو يوصيها في حالة وفاته أن تنشر مخطوطةَ أوَّلِ مقالٍ قد كتبه عن التطوُّر. وإنني أرى في هذا الخطاب رغبته الشديدة في نجاح نظريته بصفتها إسهامًا في المعرفة بعيدًا عن أيِّ رغبةٍ شخصية في الشهرة. لقد كان يتمتع بالطبع بتلك الرغبة الصحية في النجاح، والذي يتمتع بها كل إنسان يتمتع بقوة العزيمة. بالرغم من ذلك، فعندما نُشر كتاب «أصل الأنواع»، كان من الواضح أنه كان يشعر بارتياح غامر لما لاقاه من تأييدٍ وثناءٍ من رجال مثل لايل وهوكر وهكسلي وآسا جراي، وهو لم يكن يحلُم أو يرغب فيما حظي به من شهرةٍ واسعةٍ وكبيرة.
وإلى جانب بغضه للولع المفرط بالشهرة، فقد كان يبغض بالدرجة نفسها جميع المسائل التي تتعلق بالأسبقية؛ ففي خطاباته التي أرسلها إلى لايل في الوقت الذي نُشر فيه كتاب «أصل الأنواع»، نجد أنه يعبر عما كان يشعر به من غضب لعدم تمكنه من كبت شعوره بخيبة الأمل، لما كان يظنه من قيام السيد والاس بإحباط جميع سنوات عمله. ويتضح حسه بميثاق الشرف الأدبي بقوة في هذه الخطابات، وكذلك تظهر مشاعره المتعلقة بالأسبقية مرة أخرى فيما عبر عنه في عمله «ذكريات» من إعجاب بإنكار الذات الذي أبداه السيد والاس.
كان لديه رأيٌ واضح ومحدَّد بشأن الرد على الآخرين، بما في ذلك الرد على حالات الهجوم والمشاركة في جميع أنواع النقاشات. وهو يتضح ببساطة في خطاب قد كتبه إلى فالكونر (١٨٦٣ (؟)) يقول فيه: «إذا حدث وشعرت نحوك بالغضب، وأنا أُكنُّ لك مشاعر الصداقة الخالصة، فسوف أبدأ في الشك بأنني قد أُصبت بمس من الجنون. لقد شعرت بالأسف الشديد لردك، وأعتقد أنه كان خطأً في جميع الأحوال ويجب تركه للآخرين. وأمَّا عن إمكانية تصرُّفي على النحو الذي تصرَّفتُ به تحت تأثير الاستفزاز، فذلك أمرٌ مختلف.» لقد كان هذا الشعور ينبع بصورةٍ جزئية من رقته الفطرية، ومن ناحيةٍ أخرى، فقد كان ينبع أيضًا مما كان يُسبِّبه ذلك من إهدارٍ للوقت والطاقة وتغييرٍ للمزاج. وقد قال إنه يَدينُ بإصراره على عدم الخوض في المناقشات إلى نصيحة لايل، وهي التي كان ينقلها بين أصدقائه الذين كانوا يشتغلون بالكتابة. (لقد تخلى عن هذه القاعدة في عمله «ملاحظات عن عادات نقار خشب سهول البامبا «الكولب السهلي»»، والذي نُشر في دورية «بروسيدينجز أوف ذا زولوجيكال سوسايتي»، ١٨٧٠، الصفحة ٧٠٥: وكذلك في خطاب قد نُشر في دورية «ذا أثنيام» (١٨٦٣، الصفحة ٥٥٤)، وقد أسف بعد ذلك على أنه لم يلتزم الصمت. وأمَّا ردوده على الانتقادات، في الطبعات اللاحقة من كتاب «أصل الأنواع»، فهي لا تُعد خرقًا لهذه القاعدة.)
إذا أردنا أن نفهم طباع والدي في حياته العملية، فعلينا أن نضع في اعتبارنا دومًا ظروف مرضه والتي كان يعمل دومًا تحت تأثيرها. لقد تحمل مرضه بصبر ودون تذمر، حتى إنَّ أولاده، كما أعتقد، لم يدركوا مدى معاناته المعتادة. وفي حالتهم، فإنَّ ما يعزز من صعوبة إدراكهم لذلك الأمر، هي حقيقة أنهم يرونه على هذه الحال من المرض المستمر منذ أيام ذكرياتهم الأولى عنه، وقد رأوه أيضًا رغم ذلك ممتلئًا بالسعادة لجميع ما كان يسعدهم؛ ولهذا، ففي الفترات اللاحقة من حيواتهم، كان لا بد من الفصل بين إدراكهم لما كان يُعانيه، وبين الانطباع الذي تشكَّل في طفولتهم تأثرًا بما كان يُمدِّهم به دائمًا من عطفٍ صادق بينما هو يعاني من المصاعب التي لا يُدرِكونها. ولا أحد بالطبع يعرف سوى أمي مِقدارَ ما كان يتحمله من معاناة، وكذلك مقدار صبره المدهش. فهي، في جميع السنوات المتأخرة من حياته، لم تفارقه لليلة واحدة، وكانت تخطط يومها بما يسمح أن تشاركه ساعات راحته. وقد كانت تدرأ عنه كل مضايقة يمكن تلافيها ولم تبخل قط بأي شيء قد يجنبه بعض المشقة، أو يقيه الإجهاد المفرط، أو حتى قد يُخفِّف عنه المتاعب العديدة التي كان يلقاها من اعتلال صحته. إنني أشعر بالتردُّد إزاء التحدُّث بحرية عن شيء على هذه الدرجة من القداسة مثل الإخلاص مدى الحياة، والذي كان وراء رعايتها الدائمة له برقة وعطف. بالرغم من ذلك، فإنني أعود وأُكرِّر أنه لم يتمتع بصحة الأُناس العاديِّين ولو ليومٍ واحد على الإطلاق على مدى أربعين عامًا تقريبًا، وقد كان ذلك من السمات الجوهرية في حياته؛ ومِن ثَمَّ، فقد كانت حياته كفاحًا طويلًا ضد الإرهاق والإجهاد الناتجَين عن المرض. ولا يمكننا أن نتحدث عن ذلك دون ذكر الظرف الوحيد الذي مكَّنه من تحمُّل هذا الإجهاد والكفاح حتى النهاية.