الحياة في كامبريدج
[تمتد حياة والدي في كامبريدج من بداية الفصل الدراسي الشتوي في عام ١٨٢٨، حين أتى إليها طالبًا مستجدًّا، إلى نهاية فصل مايو عام ١٨٣١، حين نال شهادته وغادر الجامعة.
ويظهر من سجلات الكلية أنَّ والدي «قد التحق بها في فئة الطلاب الحاصلين على إعانةٍ صغيرة، تحت إمرة كبير المُعلِّمِين شو» في ١٥ أكتوبر ١٨٢٧. ولم يحضر والدي للإقامة حتى الفصل الدراسي الشتوي عام ١٨٢٨؛ لذا، بالرغم من أنه قد اجتاز اختباراته في موعدها المحدد، فلم يتمكن من نيل شهادته في الموعد المعتاد؛ بداية الفصل الدراسي الشتوي عام ١٨٣١. وفي مثل هذه الحالة، عادةً ما ينال الشخص شهادته قبل أربعاء الرماد، وهو يُسمى حينها «حاصل على الدرجة العلمية في يوم الرماد»، ويُصنَّف ضمن الحاصلين على الدرجة العلمية لذلك العام. بالرغم من ذلك، يرد اسم والدي في قائمة الحاصلين على الشهادة «في يوم المعمودية»، أو الذين حصلوا على الدرجة العلمية في الفترة بين أربعاء الرماد ويوم القديس يوحنا المعمدان (الرابع والعشرين من يونيو). (إذ قد ورد في «سجل كامبريدج»، بتاريخ الجمعة، ٢٩ أبريل، ١٨٣١ ما يلي: «في يوم الثلاثاء الماضي، حصل تشارلز داروين الطالب بكلية كرايست على درجة الليسانس.») ومِن ثَمَّ فقد ورد تصنيفه ضمن الحاصلين على درجة الليسانس عام ١٨٣٢.
لقد ظل مقيمًا، على مدى فصلٍ دراسي أو اثنَين، في النُّزل الموجود أعلى متجر بيكون للتبغ، وهذا المتجر ليس هو ذلك المتجر الموجود في منطقة السوق، والذي يعرفه جيِّدًا الآن جميع أهل كامبريدج، بل كان في شارع سيدني. ثم أقام بغرفةٍ سكنية جيدة تُطل على الطرف الجنوبي لأقدمِ ساحاتِ كلية كرايست، وظل مقيمًا بها إلى أن انتهى من دراسته. (تقع الغرفة في الطابق الأول، على الجانب الغربي من الدرج الأوسط، وقد سُمح مؤخَّرًا بتعليق ميدالية (وهبها أخي للكلية) على جدار غرفة الجلوس بها.)
في بداية فصل أكتوبر الدراسي عام ١٨٣٠، حدث أمرٌ كانت له عواقبُ مزعجة بعض الشيء بالنسبة لي، وإن كانت هَزْلية. كان داروين قد طلب مني أن أذهب معه في جولةِ سيرٍ طويلة في منطقة فينز للبحث عن بعض المواد الطبيعية التي كان يرغب في الحصول عليها. وبعد يومٍ طويل ومرهق جدًّا من العمل، تناولنا العَشاء معًا متأخِّرًا في المساء في غرفته بكلية كرايست، وحالما انتهينا من العَشاء، ارتمينا على مقعدَين مريحَين وغرق كلٌّ منا في نومٍ عميق. استيقظتُ أنا أولًا في نحو الثالثة صباحًا، ولأنني أدري بالقواعد الصارمة في كلية سان جون وهي التي تقضي بأن يعود الطلاب إلى الكلية قبل منتصف الليل، فحين نظرتُ إلى ساعتي، اندفعتُ عائدًا إلى غرفتي بأقصى سرعة خوفًا من العواقب، وأملًا في أن يقبل العميد عذري حين أخبره بالحقيقة. لكنه كان متعنِّتًا ورفض أن يستمع إلى توضيحي للأمور أو إلى أيِّ دليل قد أقدمه، وبالرغم من أنه لم يصدر عني أني قد حضرت إلى الكلية متأخِّرًا على الإطلاق خلال فترة دراستي، وقد أصبحت الآن طالبًا مجتهدًا على وشك الحصول على الليسانس، ولديَّ خمسة طلاب أو ستة، فقد قرَّر حبسي داخل جدران الكلية وعدم الخروج منها حتى نهاية الفصل الدراسي. لم يكن لاستياء داروين حدود، ولم يتسبب تعسُّف العميد وظلمه في إثارة مشاعر الغضب لدى أصدقائي فحسب، بل كان موضوع احتجاجِ عددٍ من الأعضاء البارزين في الجامعة.
يبدو أنَّ والدي لم يكن يُواجه صعوبةً في التعامل مع جميع الأشخاص الذين تعاقَبوا على رئاسة كلية كرايست التي أعادت تأسيسها الليدي مارجريت. وقد كان انطباع المعاصرين لوالدي عن كلية كرايست في أيامهم، هو أنها كانت كليةً لطيفة وهادئة نسبيًّا، ويسود فيها ميل إلى «الاهتمام بالخيول»؛ فقد اعتاد الكثير من الطلاب الذهاب إلى نيوماركت خلال السباقات، بالرغم من أنَّ المراهنة لم تكن من الممارسات المعتادة. ولم يكن كبير المُعلِّمين السيد شو، يثبطهم عن ذلك على الإطلاق؛ فعادةً ما كان هو نفسه يُرى حاضرًا في هذه المناسبات. وقد كان بهذه الكلية نسبةٌ مرتفعة بعض الشيء بين الطلاب العاميِّين الذين يدفعون نفقاتِ تعليمهم؛ فقد كانوا ثمانية أو تسعة، والطلاب الذين يتقاضَون إعانة؛ فقد كانوا ستين أو سبعين، مما يعني أنها كانت كليةً غير مناسبة للرجال الذين يملكون المال ولا يُفضِّلون الالتزام الصارم بالنظام.
وتُوضِّح الطريقة التي كانت تُقام بها الشعائر في الكنيسة، أنَّ العميد على الأقل، لم يكن مفرط الحماس؛ فقد سمعتُ أبي وهو يحكي كيف أنَّ العميد كان يقرأ في شعائر المساء بالكنيسة آياتٍ بديلة من سفر المزامير، دون أن يتظاهر حتى بانتظار الحشد لكي يحظَوا بفرصتهم في ترديدها. وإذا طال الوقت المخصص لقراءة الإنجيل، فإنه كان ينهض ويبدأ في قراءة سفر نشيد الأنشاد بعد أن يكون الطالب قد قرأ خمس عشرة أو عشرين آية.
ومن اللافت للنظر أنَّ أبي غالبًا ما كان يتحدث عن حياته في كامبريدج كما لو أنها كانت مضيعة للوقت، ناسيًا أنه، بالرغم من أنَّ معظم الدراسات المقررة كانت عقيمةً بالنسبة له، قد حظي بالقدر الأكبر من أفضل مزايا الحياة الجامعية؛ من التواصل مع الآخرين، وكذلك فرصة أن ينمو ذهنه ويتطوَّر بقوة. والواقع أنه كان يُكنُّ عظيم التقدير للمزايا التي اكتسبها من معرفته بالبروفيسور هنزلو وآخرين غيره، لكنه على ما يبدو كان يرى ذلك على أنه إحدى نتائج وجوده في كامبريدج التي كانت وليدة الصدفة، لا مزية يمكن أن يُنسب الفضل فيها إلى كليته. وكان من أصدقاء والدي في كامبريدج، الراحل السيد جيه إم هربرت، وهو قاضٍ بمحكمة المقاطعة في جنوب ويلز، وقد أسعدني الحظ بأن حصلتُ منه على بعض الملاحظات التي تساعدنا على تكوينِ فكرةٍ عن مدى إبهار أبي لمُعاصريه؛ فقد كتب السيد هربرت يقول: «أعتقد أنني قابلتُ داروين لأول مرة في ربيع عام ١٨٢٨، إمَّا في غرفة ابن عمي ويتلي في سان جون أو في غرفة شخصٍ آخر من زملاء دراسته القُدامى في شروزبيري، وهم الذين كانت تجمعني بمعظمهم أواصرُ صداقةٍ متينة. لكن من المؤكد أنه في صيف هذا العام قد توطَّدَت علاقتنا إلى حدِّ الحميمية، وذلك حين تَصادَف أن كنا معًا في باراموث نقضي العطلة الصيفية في القراءة مع مُعلِّمَينا الخصوصيَّين: هو مع معلمه الخاص للرياضيات والأعمال الكلاسيكية؛ باترتون من سان جون، وأنا مع ييت من سان جون.»
لقد انتهى التفاعُل بينهما بصورةٍ عملية في عام ١٨٣١، حين ودع أبي هربرت في كامبريدج، وذلك حين انطلق في رحلة «البيجل.» وقد التقيتُ بالسيد هربرت ذات مرة وكان رجلًا عجوزًا حينذاك، ولقد أدهشني الدفء الواضح والمودة الصافية التي تذكَّر بها أبي. وتنتهي الملاحظات التي استشهدتُ بها بهذا الثناء الكريم: «لن يكون من المُجدي أن أتحدث عن قدراته الفكرية الهائلة … غير أنني لا أستطيع أن أُنهي هذا الوصف السريع والمتشعب دون أن أدلي بشهادتي، وأنا لا أشك بأن جميع زملائه من الكلية الذين لا يزالون على قيد الحياة سيتفقون معي أنه كان أصدق الأصدقاء، وأطيبهم قلبًا، وأكرمهم، وأكثرهم مودة، وأنه كان يؤيد كلَّ ما هو خيِّر وحقيقي، وأنه كان يمقُت كلَّ ما هو زائف أو دنيء أو قاسٍ أو شرير أو غير شريف. إنه لم يكن عظيمًا فحسب، بل كان خيِّرًا دون نزاع، وكان عادلًا ومحبوبًا.»
وتُوجد قصتان سردهما السيد هربرت تُوضِّحان أنَّ مشاعر أبي تجاه المعاناة، سواء كانت معاناة إنسان أو حيوان، قوية للغاية وبالدرجة نفسها منذ شبابه وحتى أيامه الأخيرة، وأولاهما كالتالي: «قبل أن يغادر كامبريدج، أخبرني بأنه قد قرر ألا يمارس الصيد بعد الآن؛ إذ إنه قد قضى يومَين في الصيد في ضيعة صديقه السيد أوين في وودهاوس، وفي اليوم التالي، بينما كانا يمران بجانب من الأرض التي اصطادا عليها في اليوم السابق، وجد طائرًا لم يمت، بل كان يعاني من طلقةٍ قد أصابته في اليوم السابق. وقد ترك ذلك انطباعًا أليمًا للغاية في ذهنه، حتى إنه لم يستطع التصالُح مع ضميره بشأن استمراره في أن يستمد المتعة من هذه الرياضة التي تُخلِّف مثل هذه المعاناة القاسية.»
حين كنتُ أنا وهو في بارماوث، ذهبنا إلى عرض ﻟ «الكلاب المدربة». وفي خِضَم هذا العرض الترفيهي، عجز كلب عن تنفيذ الخدعة التي أمره صاحبه بتنفيذها. وحين وبخَّه الرجل، أبدى الكلب تعبيرًا مثيرًا للشفقة كما لو كان خائفًا من ضربه بالسوط. وحين رآه داروين، طلب مني أن أغادر معه قائلًا: «هيا بنا، لا أستطيع أن أتحمل هذا أكثر من ذلك؛ لا بد أنهم يُبرِّحون هذه الكلاب المسكينة ضربًا.»
ومن اللافت للنظر أنَّ هذا الشعور نفسه قد راود أبي بعد مرور هذه الحادثة بخمسين عامًا حين رأى عرضًا للكلاب في المُتحف المائي في ويستمينستر، وفي هذه المرة، كان المدير قد أكَّد له أنَّ الكلاب قد تدرَّبَت بالإثابة أكثر من العقاب. ويستطرد السيد هربرت في ملاحظاته قائلًا: «لقد كان يُحرِّك لدى المرء أعمق المشاعر، حين يتحدث عن أهوال تجارة العبيد مهاجمًا ومستنكرًا، أو يتحدث عن مظاهر القسوة التي يتعرض لها البولنديون في وارسو … هذه الأمور وغيرها من الأدلة قد تركَت في ذهني اقتناعًا بأنه لم يَعشْ من قبله إنسانٌ أكثر منه رقة وعطفًا على الإنسانية.»
ويتفق أصدقاؤه القدامى من الكلية في الحديث بعاطفة دافئة عن طبيعته الودودة الكريمة وهو شاب. وبناءً على ما تمكنوا من إخباري به، فقد تشكَّل لديَّ انطباع عن شاب يفيض بالحيوية، ويعيش حياة صحية متنوعة المشارب، لا حياة ليس فيها إلا العمل الدءوب في الدراسات المقررة في الكلية، بل هي مليئة بالاهتمامات الأخرى، التي كانت تُمارَس بحماسٍ مبهج. الاهتمام بالحشرات وركوب الخيل والصيد في المستنقعات ومناسبات العَشاء ولعب الورق وموسيقى كنيسةِ كينجز كوليدج والصور المنقوشة في متحف فيتسويليام وجولاته مع البروفيسور هنزلو؛ كل هذه الأمور قد اجتمعت معًا لتملأ حياته بالسعادة. ويبدو أنه كان ينقل حماسه للآخرين؛ إذ يحكي السيد هربرت كيف أنه خلال هذا الصيف الذي قضياه في بارماوث، قد انضم بصفة مؤقتة إلى خدمة «العلم»، وهو ما كان يعني به أبي جمع الخنافس. كانا يقومان بجولاتهما اليومية معًا بين التلال الواقعة خلف بارماوث، أو يتنقلان بالقارب عند مصب نهر ماوذاك، أو يبحران إلى سارن بادريج ليرسوا هناك في المياه الضحلة، أو يذهبان لصيد الذباب في بحيرات كورس-واي-جيدول. «في هذه المناسبات، كان داروين يمارس اهتمامًا بالحشرات بدأبٍ شديد، فلا يبرح يلتقط العديد من الكائنات في أثناء سيره، ويضع في حقيبته جميع الأشياء التي يبدو أنها تستحق الاهتمام بها، أو المزيد من الفحص. وبعد فترةٍ قصيرة، زودني بزجاجة من الكحول، والتي كان عليَّ أن أضع بها أي خنفساء يبدو لي أنها من نوعٍ غير معتاد. وقد أديتُ هذه المهمة ببعض الاجتهاد في جولاتي التي كنتُ أقوم بها سيرًا على الأقدام، لكن للأسف نادرًا ما كانت قدرتي على التمييز تمكنني من الحصول على مكافأة؛ فقد كانت النتيجة المعتادة حين يفحص محتويات زجاجتي، هي التعجب قائلًا: «حسنًا يا تشيربيري العجوز» [مشيرًا بالطبع إلى هربرت لورد تشيربيري] (وهو اللقب الذي منحني إياه وكان يخاطبني به في العادة) ويضيف: «لن ينفعني شيء من كل هذا.»» ومرةً أخرى، يقول الكاهن تي باتلر، الذي كان أحد أعضاء نادي القراءة ببارماوث في عام ١٨٢٨: «لقد نقل إليَّ الاهتمام بعلم النبات، الذي قد لازمني طوال حياتي.»
أمَّا رئيس الشمامسة واتكينز، وهو صديقٌ آخر من أصدقاء والدي القدامى من الكلية، فيتذكر والدي وهو يُفتِّش عن الخنافس في أشجار الصفصاف بين كامبريدج وجرانتشيستر، ويتحدث عن خنفساءَ معينة يتذكر أنَّ اسمها هو «خنفساء الصليب» [خنفساء الصليب الأرضية]. لا بد أنَّ أبي كان قد ابتهج بحماس شديد بشأن هذه الخنفساء لدرجة أن ينطبع اسمها في ذهن صاحبه فيتذكره بعد نصف قرن! ويستطرد واتكينز قائلًا: «لا أنسى المحادثات الطويلة الشائقة التي دارت بيننا عن المناظر الطبيعية والنباتات الاستوائية بجميع أنواعها في البرازيل. وكذلك لا أنسى كيف أنه كان يحك ذَقنه بحدة حين كان يتحمس بشأن هذه المواضيع، وكان يتحدث بفصاحة عن النباتات المتسلقة الخشبية والسحلبيات وغير ذلك.»
توطدت علاقته بهنزلو، البروفيسور في علم النبات، ومن خلاله، توطدت علاقته بغيره من الأعضاء الأقدم في الجامعة. وفي هذا الشأن، يكتب السيد هربرت قائلًا: «بالرغم من ذلك، فقد حافظ على علاقته المتينة بأصدقائه الذين هم في نفس مكانته، وفي تجمُّعاتنا المتكررة على الإفطار أو حفلات النبيذ أو العَشاء، كان دائمًا من أكثر الحاضرين ابتهاجًا وأكثرهم أُلفةً وترحيبًا.»
لقد شكَّل والدي ناديًا للعَشاء مرة في الأسبوع، وكان يُسمى نادي جورميه (لكن يذكر السيد هربرت أن اسمه كان نادي «جلوتون»). وقد كان أعضاؤه بخلاف والدي والسيد هربرت (الذي أقتبس منه ذلك) هم: ويتلي من كلية سان جون، الذي أصبح الآن يشغل منصب الكاهن الفخري في دُرم (والذي كان سابقًا أستاذ الفلسفة الطبيعية المساعد في جامعة دُرم)؛ وهيفيسايد من سيدني، وهو الآن كاهن نوريتش؛ ولوفيت كاميرون من كلية ترينيتي، وهو الآن قس شورهام؛ وبلين من كلية ترينيتي، والذي شغل منصبًا كبيرًا خلال حرب القرم؛ وإتش لو (وهو الآن شيربروك) — وهو أخو لورد شيربروك — من كلية ترينيتي هول؛ وواتكينز من كلية إيمانويل، وهو الآن رئيس شمامسة يورك. ويبدو أنَّ أصل تسمية النادي محاط بالغموض؛ إذ يقول السيد هربرت إنه قد اخُتير للسخرية من «مجموعة أخرى من الرجال الذين أطلقوا على أنفسهم اسمًا يونانيًّا طويلًا يدل على «ولعهم بالفاخر من الطعام»، غير أنهم قد كذبوا ادعاءهم لمثل هذه التسمية، وذلك من خلال عادتهم الأسبوعية بتناول العشاء في نُزُل على جانب الطريق على بعد ستة أميال من كامبريدج، فيتناولون قطعًا من لحم الضأن، أو الفاصولياء مع اللحم المقدد.» ويخبرني عضوٌ آخر من أعضاء النادي أنَّ اسم النادي قد ظهر لأنَّ أعضاءه كانوا يميلون إلى تجربة «الطيور والحيوانات التي لم تكن معروفة من قبلُ للذوق الإنساني.» وهو يقول إنهم قد جرَّبوا الباز والواق، لكنَّ حماسهم قد تلاشى بعد أن جرَّبوا بومة بنية عجوز، «وهي التي كان يتعذر وصف طعمها.» على أي حال، يبدو أنَّ التجمُّعات كانت ناجحة وأنها كانت تنتهي ﺑ «لعبةٍ خفيفة من ألعاب الورق: لعبة الواحد والعشرين.»
ويُقدِّم السيد هربرت سردًا ممتعًا للاختبارات الموسيقية التي وصفها أبي في «ذكريات»، وهو يؤكد حب أبي للموسيقى ويضيف: «إنَّ ما كان يمنحه القَدْر الأكبر من البهجة، هو الاستماع إلى سيمفونية أو افتتاحيةٍ عظيمة لموزارت أو بيتهوفن، والاستمتاع بما فيها من تناغُم.» وفي إحدى المناسبات، يتذكر هربرت: «مرافقته إلى شعائر ما بعد الظهيرة في كنيسة كينجز كوليدج، وحينها سمعنا ترنيمةً جميلة للغاية. وفي نهاية أحد الأجزاء، وهو الذي كان مدهشًا للغاية، استدار إليَّ قائلًا وهو يتنهد تنهيدةً عميقة: «كيف حال ظهرك؟»» لقد كان يتحدث كثيرًا عن شعوره بالبرد أو القشعريرة في ظهره عند سماع موسيقى جميلة.
وإضافة إلى حبه للموسيقى، فقد كان يُكنُّ بالطبع في ذلك الوقت حبًّا للآداب الرفيعة. ويخبرني السيد كاميرون أنه قد اعتاد أن يقرأ لوالدي أعمال شكسبير في غرفته في كلية كرايست، وكان أبي يستمتع بذلك كثيرًا. وهو يتحدث أيضًا عن «حبه الكبير للصور المنقوشة الرفيعة المستوى، لا سيما أعمال رافاييل مورجين ومولر، وكان يقضي الساعات في متحف فيتسويليام مستعرضًا للمطبوعات في هذه المجموعة.»
وتُوضِّح خطابات والدي إلى فوكس مدى شعوره العظيم بالقلق عند المذاكرة لأحد الاختبارات: «إنني أجتهد كثيرًا في المذاكرة، لكنني لا أرغب في عملِ أيِّ شيء. والواقع أنني لم أفحص خنفساءَ واحدةً في هذا الفصل الدراسي.» ولا بد أنَّ يأسه من الرياضيات كان عميقًا، وذلك حين عبَّر عن أمله أن يكون صمت فوكس راجعًا إلى «انغماسك الشديد في سبر أغوار الرياضيات، وإذا كان الأمر كذلك، فليكن الله في عونك؛ فأنا أيضًا على هذه الحال، مع اختلافٍ وحيد وهو أنني عالق بوحل القاع، وسوف أظل هناك.» ويقول السيد هربرت: «أعتقد أنه لم يكن يميل بطبيعته إلى الرياضيات، وأنه قد توقَّف عن دراسة الرياضيات قبل أن يتقن الجزء الأول من الجبر؛ إذ كانت لديه خصومةٌ كبيرة مع الجذور الصمَّاء ونظرية ذات الحدَّين.»
ولدينا بعض الأدلة من خطابات والدي إلى فوكس التي تُوضِّح نيةَ أبي في أن يصبح كاهنًا؛ فهو يكتب في ١٨ مارس ١٨٢٩: «إنني سعيد لأنك تقرأ في اللاهوت، وأَودُّ أن أعرف الكتب التي تقرؤها، وآراءك فيها، وعليك ألا تخشى من أن تبدأ في وعظي قبل الأوان.» ويُوضِّح وصف السيد هربرت أنَّ أبي كانت تُساوِره الشكوك بشأن إمكانية أن يصبح كاهنًا؛ فهو يكتب: «لقد خضنا محادثة جادة بشأن دراسة الكهنوت، وأنا أتذكر أنه سألني بخصوص السؤال الذي طرحه الأسقف في احتفال الترسيم: «هل تثقون بأنَّ الذي يُحرِّككم من الداخل هو الروح القدس، وما إلى ذلك؟» وعما إذا كان يمكنني الإجابة بالإثبات أم لا. وحين أجبتُ بأنني لا أستطيع ذلك، قال لي: «ولا أنا أيضًا يمكنني ذلك؛ ومِن ثَمَّ لا يمكنني أن أُصبح كاهنًا».» ويبدو أنَّ هذه المحادثة قد وقعت عام ١٨٢٩، وإن كان ذلك صحيحًا، فلا بد أنَّ هذه الشكوك قد هدأَت بعد ذلك؛ ففي مايو عام ١٨٣٠، كان يتحدث عن تفكيره في دراسة اللاهوت مع هنزلو.
إنَّ العدد الأكبر من الخطابات التالية موجه من أبي إلى ابن عمه، ويليام داروين فوكس. ويُوضِّح تسلسُل النسب الوارد في الفصل الأول، علاقة السيد فوكس بوالدي. ويبدو أنَّ درجة القرابة قد ظلت تمثل مشكلة بالنسبة لوالدي؛ فهو يوقِّع في أحد الخطابات بالتوقيع «ابن العم/ن٢.» والواقع أنَّ الصداقة التي جَمعَت بينهما كانت تعود إلى كونهما طالبَين معًا. وتدل خطابات والدي على مدى صدق مشاعر الصداقة التي جَمعَت بينهما. وفي السنوات اللاحقة، حالت بينهما المسافة، والأسرة الكبيرة، واعتلال الصحة، لكنَّ مشاعر الصداقة الدافئة قد ظلت بينهما. لم تتوقف بينهما المراسلات أبدًا، بل استمرت حتى وفاة السيد فوكس عام ١٨٨٠. رُسِّم السيد فوكس كاهنًا، وعمل رجل دينٍ في الريف، إلى أن أجبره المرض على مغادرة مسكنه في غابة ديلامير فوريست. وقد ظل حبه للتاريخ الطبيعي قويًّا، وأصبح مربِّيًا ماهرًا للعديد من أنواع الطيور وغيرها. ويُوضِّح فهرس «تباين الحيوانات والنباتات تحت تأثير التدجين» وكذلك مراسلات أبي المتأخرة، مقدار ما تَلقَّاه من صديقه القديم من الكلية، من مساعداتٍ كثيرة.]
من تشارلز داروين إلى جيه إم هربرت
مساء السبت
[١٤ سبتمبر ١٨٢٨]
عزيزي الغالي تشيربيري
إنني على وشك الوفاء بوعدي بالكتابة إليك، لكن يؤسفني أن أُضيف أنه يُوجد دافعٌ أناني للغاية وراء ذلك. سوف أطلب منك أن تُسدي إليَّ معروفًا عظيمًا، ولا يمكنك أن تتخيل مقدار ما ستتفضل به عليَّ بتوفير المزيد من عيناتِ بعض الحشرات التي يمكنني أن أقول إنني أستطيع وصفها. في البداية، يجب أن أخبرك بأنني قد حصلتُ على بعضٍ من أندر الحشرات البريطانية، ووجودها بالقرب من بارماوث هو حقيقة لا يعرفها علماء الحشرات؛ أعتقد أنَّ عليَّ أن أكتب بذلك إلى بعض علماء الحشرات المُتميزين.
والآن لنعُد إلى المهمة المطلوبة منك. مطلوبٌ منك «الكثير» من العينات الإضافية إذا كان بإمكانك أن تُوفِّرها لي دون الكثير من العناء، وهي للحشرات التالية: الخنفساء ذات اللونَين الأسود والبنفسجي، وهي تُوجد على كريج ستورم [وهي قمة التل الذي يقع خلف بارماوث مباشرة، والكلمة كلمةٌ إنجليزية ويلزية هجينة] وتحت الصخور، يُوجد أيضًا خنفساءُ كبيرةٌ ملساء لونها أسود تشبهها كثيرًا؛ وأيضًا خنفساء الجعران بلونها المعدني المائل للزرقة، وهي منتشرة «جدًّا» على جوانب التل. وإذا كان «بإمكانك» أن تتكرم بركوب المعدية والعبور بها، فسوف تجد تحت الصخور الموجودة على الأرض البور عددًا كبيرًا من الخنافس الطويلة الملساء شديدة السواد (أريد الكثير من هذه الخنافس)، وفي الظروف نفسها أيضًا، تُوجد حشرةٌ صغيرة جدًّا وردية اللون وبها بقع سوداء، ولها صدر منحنٍ يبرز تحت الرأس. وعلى الأرض السبخة أمام المعدية، وبالقرب من البحر، وتحت الأعشاب البحرية القديمة والصخور وما إلى ذلك، ستجد خنفساءَ صغيرةً شفافة يميل لونها إلى الصفرة، وعلى ظهرها علامتان أو أربعٌ باللون الأسود. وتحت هذه الصخور، يُوجد نوعان؛ أحدهما أكثر دكانة من الآخر، والنوع الذي أريده هو النوع فاتح اللون. إنَّ هذين النوعَين الأخيرَين من الحشرات، «غاية في الندرة»، وإنك لتتكرم عليَّ «للغاية» بحسن صنيعك هذا وتكبُّدك هذا العناء قريبًا للغاية. أبلِغ أرقَّ تحياتي إلى باتلر وأخبره بنجاحي، ويمكنني أن أقول إنكما ستُميزان هذه الحشرات بسهولة. أتمنى أن تكون يساريعه بخير، وأعتقد أنَّ العديد من الخادرات تستحق الاحتفاظ بها. إنني لأخجل حقًّا من كتابةِ مثل هذا الخطاب الطويل عن أموري فحسب، لكنني أرجو أن ترُدَّ الخبيث بالطيب، وأن ترسل لي خطابًا طويلًا تخبرني فيه بجميع شئونك.
في الأسبوع الأول، اصطدتُ خمسة وسبعين طائرًا، وهو عددٌ ضئيل للغاية، لكنه لا يُوجد سوى عددٍ قليل جدًّا من الطيور. بالرغم من ذلك، فقد قتلتُ زوجًا من الطهيوج الأسود. ومنذ ذلك الحين، وأنا أُقيم في منزل فوكس بالقرب من ديربي، وهو منزلٌ لطيف للغاية، وقد سار الاجتماع الموسيقي على نحوٍ جيد جدًّا. أريد أن أعرف ما إن كان ييتس قد أحب بندقيته، أم لا، وكذلك فيمَ استخدمها.
إن لم تكن الزجاجة كبيرة بالدرجة الكافية، فيمكنك أن تبتاع لي غيرها. ويمكنك أن تترك هذه الكنوز حين تمر بشروزبيري. وأتمنى أن تمكث معي يومًا أو يومَين، إن كان هذا بإمكانك؛ فأنا أتمنى ألا أحتاج إلى أن أخبرك بمدى السعادة التي سأشعر بها عند رؤيتك مجدَّدًا. لقد علَّق فوكس بأنه لا بد أنَّ أصدقائي في بارماوث يتمتعون بالكريم من الطباع، وإن لم أكن أعرف هذا فيك أنت وباتلر، لما فكرتُ في أن أطلب منكما بذل هذا العناء.
أبلغ تحياتي إلى جميع الأصدقاء.
لقد انتظرتُ حتى اليوم حتى تتسنى لي الفرصة في كتابةِ خطاب، لكني لن أنتظر أكثر من ذلك. أُهنِّئك بصدق وإخلاص على الانتهاء من جميع مَهامِّك. أعتقد أنك قد نلتَ مكانةً «جيدة للغاية»، بالنظر لما حققته من التفوق على العديد من الرجال الذين بدءوا معك في الدراسة. أتمنى حقًّا لو أنني كنت الآن في كامبريدج (بالرغم من أنها أمنيةٌ أنانية للغاية؛ إذ إنني لم أكن حاضرًا معك في متاعبك وبؤسك) لأكون حاضرًا في كل هذا النجاح والسعادة، وهو ما لم يتأتَّ إلا بعد ما مضى من مصاعب. يا لحديثنا وجولاتنا وعملنا في مجال علم الحشرات! يجب أن تكون سافو هي أفضل الكلبات، وداش هو أفضل الكلاب، ثم «ليحل السلام على الأرض، والخير على البشر»، وأنا أعتقد بالمناسبة أنَّ ذلك هو أفضل ما يمكن أن تجود به الكلمات في وصف السعادة.]
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كامبريدج، الخميس [٢٦ فبراير
١٨٢٩]
عزيزي فوكس
حين وصلتُ هنا يوم الثلاثاء، اكتشفتُ ببالغ الأسى والدهشة، خطابًا على الطاولة كنت قد كتبته إليك قبل أسبوعَين، ولم يكلِّف الحاجب الغبي نفسه عناء إرساله. أظن أنك ما برحت تحسبني جاحدًا دنيئًا، لكنني على يقين بأنك ستشفق عليَّ الآن؛ إذ لا شيء أكثر كدرًا من كتابة أحد الخطابات سدًى.
في الخميس الماضي، غادرت شروزبيري متوجِّهًا إلى لندن، ومكثتُ هناك حتى يوم الثلاثاء، والذي جئت فيه إلى هنا عبر عربة بريد «ذا تايمز». قضيتُ أول يومَين بأكملهما مع السيد هوب [مؤسس كرسي أستاذية هوب في علم الحيوان في أكسفورد]، وقد قضينا جُل وقتنا في التحدث عن الحشرات ومراقبتها. إنَّ مجموعته رائعة للغاية، وهو أكرم عالم حشرات على الإطلاق؛ فقد أعطاني نحو ١٦٠ نوعًا جديدًا، والحقيقة أنه غالبًا ما كان يرغب في إعطائي أندر الحشرات، والتي لم يكن لديه منها سوى عيِّنتَين. إن حديثه إليَّ لطيف للغاية، وهو يتمنى أن تزوره معي ذات مرة، متى كنا في لندن. وهو يثني على أعمالنا في علم الحشرات ثناءً عظيمًا، ويقول إننا قد حظينا بعددٍ مدهش من الحشرات الجيدة. وأمَّا يوم الأحد، فقد قضيته مع هولاند الذي أعارني حصانًا لكي أركبه معه في الحديقة.
في مساء يوم الاثنين، تناولت الشاي مع ستيفنز [جيه إف ستيفنز، مؤلف كتاب «دليل الخنافس البريطانية»، ١٨٣٩، وغيره من الأعمال.] إنَّ خزانته أكثر روعة مما يمكن أن يحلم به أكثر علماء الحشرات حماسة، وقد كان رجلًا قصيرًا لطيفًا ومرحًا. وخلال إقامتي في المدينة، زرتُ المعهد الملكي والجمعية اللينية والحدائق الحيوانية وغيرها العديد من الأماكن التي يجتمع فيها علماء التاريخ الطبيعي. لو أنك كنت معي، لكنتُ رأيت لندن مكانًا أكثر بهجة، وبالرغم من كل شيء، فقد وجدتها ألطف مما كنت أحسب أنَّ هذه البقعة الموحشة من المنازل ستكون عليه.
بينما كنتُ في شروزبيري، تمكنتُ من صيدِ واحدةٍ من البط الغواص (بلقشة أنثى، كما أحسب أنك تعرف.) لقد حنَّطَها شو، وحين تسنح الفرصة، سوف أرسلها إلى أوزموستون. وقد اصطدنا أيضًا خمسة من طيور الواكسوينج البوهيمية، وقد عرض شو ثلاثة منها للبيع؛ فهل سترغب في شراء واحدة منها؟ إنني لم أشكرك بعدُ على خطابك الأخير الطويل والممتع للغاية، غير أنه كان سيصبح أمتع كثيرًا لو أنه كان يتضمن خبرًا مبهجًا بمجيئك إلى هنا. إنَّ المرتَين اللتَين تناولتُ فيهما إفطاري بمفردي، قد جعلتاني أُدرِك بالفعل كم أنني سأفتقدك للغاية.
…
إنني أحيا حياةً يومية هادئة؛ أقرأ قليلًا في كتاب التاريخ الشهير الخاص بجيبون صباحًا، وأقرأ قدْرًا كبيرًا لفان جون في المساء، وأحيانًا أقوم بجولة مع سيمكاكس، إلى جانب جولتي المنتظمة مع ويتلي، وتلك هي جميع الأعمال التي أقوم بها عادةً في هذه الأيام. ألتقي كثيرًا بهربرت وويتلي، وكلما زاد لقائي بهما، ازداد كل يوم ما أُكِنُّه من احترام لسجاياهما الكريمة وقدرتهما الممتازة على فهم الأمور. وقد أقاما حفلتَين مبهجتَين للغاية؛ وقد حضر ما يقرب من ستين رجلًا في كلتا الليلتَين.]
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كلية كرايست [كامبريدج] ١ أبريل
[١٨٢٩]
عزيزي فوكس
لقد ذكرتَ في خطابك إلى هولدن أنك سُرِرتَ إذ لاحظتَ «أنَّه من بين جميع الأنذال الذين عرفتهم، كنت أنا أكثرهم نذالة.» لن أُبدي أيَّ تعليق على هذه الملاحظة، غير أنني أُثني عليك كثيرًا في التصرُّف بناءً عليها بدقةٍ شديدة. والآن أَودُّ أن أعرف كيف تكون بأيِّ حالٍ أقل مني نذالة؟ أنت أيها العجوز البائس الكسول، لمَ لَمْ تُجب على خطابي الأخير، وأنا على يقينٍ من أنني قد أرسلتُه إلى كليفتون قبل ما يقرب من ثلاثةِ أسابيع؟ لو لم أكن متلهِّفًا بالفعل على معرفةِ ما تفعله، لكنتُ قد سمحتُ لكَ بأن تظل صامتًا حتى ترى أنه قد حان الوقت لكي تتعامل معي كرجلٍ محترم. والآن بعد أن نفَّستُ عن غضبي في تقريعك، وأخبرتُك ما يجب عليك أن تعرفه، وأخبرتُك بمدى رغبتي وتلهُّفي على معرفة أحوالكَ أنت وأُسرتك في كليفتون، يكون الهدف من هذا الخطاب قد انتهى. ولو أنكَ فقط تعرف كم أُفكِّر فيك، وكم آسفُ على غيابك، لكنتَ قد أرسلتَ لي منذ فترةٍ طويلة، وأنا على يقينٍ من ذلك.
إنني أجد الأجواء في كامبريدج تتسم بالسخافة، ولأنني لا أعرف هنا تقريبًا أيَّ أحدٍ يمكن أن يتجول معي، إضافة إلى حالةِ شَفتَيَّ المريضتَين، فقد أدَّى بي ذلك إلى الدخول في حالةٍ من البيات الشتوي … لقد اكتشفتُ أن السيد هاربور قد ترك … يحظى بالمجموعة الأولى من الخنافس؛ ومِن ثَمَّ فقد حظِينا بوداعنا الأخير، وقد تمثل دوري في هذا المشهد المؤثِّر في إخباره بأنه كان وغدًا وضيعًا، والإشارة إلى أنني سأركله على الدَّرَج إن رأيته في غرفتي ثانية، ويبدو أنَّ الرجل قد فوجئ بذلك تمامًا. ليس لديَّ أخبارٌ أحكيها لك؛ فلا شك في أنه حين تنقطع الخطابات لفترةٍ كما انقَطعَت بيننا، يكون من الصعب القيام بالخطوة الأُولى مجدَّدًا. في الليلة الماضية، نشِب حريقٌ فظيع في لينتون، على مسافةِ أحد عشر ميلًا من كامبريدج. وحين رأينا انعكاس الحريق واضحًا بقوة في السماء، قرَّرنا أنا وهول ووودير وتيرنر أن نذهب لنراها. انطلقنا في الساعة التاسعة والنصف، وركبنا إلى هناك وكأنَّنا شياطينُ متجسدة، ولم نعُد حتى الثانية صباحًا. لقد كان منظرًا مُريعًا تمامًا. ولا يمكنني أن أُنهي خطابي دون أن أخبرك أنه من بين جميع الأنذال الذين قابلتُهم، فإنك الأعظم والأفضل.
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
[كامبريدج، الخميس، ٢٣ أبريل،
١٨٢٩]
عزيزي فوكس
لقد أجَّلت الرد على خطابك الأخير على مدى هذه الأيام القليلة؛ فقد رأيتُ أنَّ الكتابة إليك في ظل هذه الظروف الحزينة، لن تسبب لك على الأرجح سوى المتاعب. في هذا الصباح، تلقيتُ خطابًا من كاثرين تخبرني فيه بهذا الحدث [وفاة أخت فوكس، السيدة بريستو]، والذي كنت أتمنى لو أنك تخبرني في خطابك بعدم صحته. إنني أُكنُّ لك ولعائلتك خالص المشاعر الصادقة، وفي الوقت نفسه، فإنني على يقينٍ أنك ستعرف أين تبحث عن الدعم الذي يمكن للمرء أن يجده في مبادئه الحسنة وفي الدين. وبعد هذه الطمأنينة النقية والمقدَّسة التي يمنحنا الإنجيل إياها، فإنني على يقينٍ أيضًا أنَّ مشاعر التعاطُف والمواساة التي يُقدِّمها جميع الأصدقاء تبدو بلا جدوى، بالرغم من أنها خالصة وصادقة؛ إذ إنني أرجو أن تُصدِّق أنني قادر على الشعور بها. وفي مثل هذا الوقت العصيب، لن أقول أكثر من ذلك، فيما عدا أنني أثق في أنَّ أباك والسيدة فوكس سيتحملان هذه المحنة، بالقدْر الذي يمكن أن نأمله في مثل هذه الظروف.
يؤسفني يا عزيزي فوكس أننا لن نلتقي إلا بعد وقتٍ طويل. وإلى ذلك الحين، لك خالص مودتي على الدوام.
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
شروزبيري، الجمعة [٤ يوليو،
١٨٢٩]
عزيزي فوكس
لقد كان من المفترض أن أكتب لك قبل ذلك، غير أنني كنت منهمكًا للغاية في أثناء الرحلة الاستكشافية، وقد كانت خاتمتها مؤسفة جدًّا، لدرجة أنني كنت تعيسًا للغاية؛ فقررتُ ألا أكتب لك حتى أحظى بالهدوء في المنزل هذا الأسبوع. وأخيرًا، قد منحني التفكير في ذهابي إلى وودهاوس الأسبوع المقبل الشجاعة لكي أحكي عن قصتي المؤسفة.
…
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
شروزبيري، ١٨ يوليو ١٨٢٩
سوف أذهب الأسبوع القادم إلى مير لأقوم بجولتي المختصة بعلم الحشرات، وسوف أُقيم هناك أسبوعًا، وبالنسبة إلى بقية الصيف، فأنا أنوي أن أقضيه في الاستجمام والتجوال … ربما تدرك أن لي وَضْعَك نفسَه، مع اختلافٍ وحيد، وهو أنك تتخذ قراراتٍ جيدة، لكنك لا تلتزم بها أبدًا، أمَّا أنا، فأنا لا أتخذها أبدًا؛ لذا لا يمكنني الالتزام بها. إنه لمن الجيد جدًّا أن أستمر في الكتابة على هذا النحو، غير أنَّ عليَّ المذاكرة للاختبار التمهيدي. لقد ابتسم جراهام وانحنى بأدبٍ جم، حين كان يخبرني بأنه أحد الستة المكلَّفين بجعل الاختبار أشد صعوبة، وأنهم عزموا على أن يجعلوه مختلفًا للغاية عن أيِّ اختبارٍ سابق؛ ولذلك كله، فإنني أعتقد أنه ستكون هناك متاعبُ كبيرة لجميع الطلاب المتكاسلين والمهتمِّين بعلم الحشرات. إننا ننتظر وصول إيرازموس إلى البيت في غضونِ أسابيعَ قليلة. إنه يعتزم قضاء الشتاء القادم في باريس. لا تَنسَ أن تطلُب قائمتَي الحشرات اللتَين نشرهما ستيفنز: إحداهما طُبعت على الجانبَين والأخرى على جانبٍ واحد فقط؛ فسوف تجد أنَّ لهما نفعًا كبيرًا في العديد من الجوانب.
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كلية كرايست، الخميس [١٦ أكتوبر،
١٨٢٩]
عزيزي فوكس
أخشى أن تكون غاضبًا مني بشدة إذ لم أكتب لك خلال «ملتقى الموسيقى»، لكنني كنت منشغلًا للغاية بالفعل؛ فما كان لديَّ وقت. لقد وصلت إلى هنا يوم الاثنين، ووجدت غرفتي في حالة مريعة من الفوضى؛ إذ كانوا يجددون الأرضية، ولك أن تحسب أنه كان لديَّ الكثير لأقوم به في هذَين اليومَين. إنَّ «ملتقى الموسيقى» [في بيرمينجهام] هو أعظم تجربة قد خُضتُها، وأمَّا عن ماليبران، فإنَّ الكلمات لا تفي حقها من الثناء؛ إنها أكثر مَن عرفتهم جاذبية على الإطلاق. لقد حظينا بمقتطفات من عددٍ من أفضل الأوبرات، مع تمثيل بعض الأدوار فيها، ولا يمكنك أن تتخيل مدى الروعة التي أضفاها ذلك على الحفلات لتصبح أفضل من جميع ما رأيته على الإطلاق. أدَّى جيه [جوزيبي] دي بيجنَس دور «إيل فاناتيكو»، وحيث إنه كان يرتدي زيًّا غير معتاد، فإنَّ ذلك أضفي على تمثيله تأثيرًا أكبر. لقد ملأ المسرح بصيحات الضحك. لقد أعجبتني مدام بلاسيس للغاية، لكن ماليبران تظل هي الأفضل: لقد غنت بعض الأغنيات الكوميدية، ولا بد أن يكون قلب المرء قد قُدَّ من حجر لئلا يهيم تمامًا بها. لقد نزلتُ في مكانٍ قريب للغاية من عائلة ويدجوود وأقمت معهم بنحوٍ كلي، وقد كان ذلك لطيفًا، ولو أنك كنت هنا، لأصبح هذا مثاليًّا تمامًا. لقد أرهقني ذلك بشدة، ولن أحاول أبدًا بعد الآن أن أقوم بأمرَين في اليوم نفسه.
…
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
[كامبريدج] الخميس [مارس
١٨٣٠]
عزيزي فوكس
لقد نجحتُ في الاختبار التمهيدي! وأنا سعيد للغاية لدرجة أن أتواضع بالاعتذار عن عدم الكتابة في وقتٍ أبكر من ذلك، لكنني أؤكد لك أنه قبل أن أدخل الامتحان وحين كانت أعصابي في حالةٍ مرتبكة وضعيفة، كان شخصك المزعج عادةً ما يبرز أمام عيني ويُعنِّفني على كسلي. غير أنني قد نجحت؛ نجحت؛ نجحت، ويمكنني أن أملأ الورقة كلها بكتابة هذه الكلمة المبهجة. لقد ذهبت أمس، وعرفت هذه الأخبار السعيدة. لن أعرف الصف الذي سأنضم إليه إلا بعد أسبوع. إنَّ الاختبار بأكمله يتم وفقًا لنظامٍ مختلف، ولذلك مزيةٌ كبيرة، وهي أنه ينتهي في يوم واحد، غير أنهم يتسمون بالصرامة، ويسألون عددًا مهولًا من الأسئلة.
والآن، فإنني أريد أن أعرف شيئًا عن خطَطِك. إنك تعتزم بالطبع المجيء إلى هنا؛ كم أنا سعيد أننا سنحظى بالكثير من المرح معًا، ونمسك بالكثير من الخنافس، وسيُسعدني كثيرًا أن نذهب معًا مرةً أخرى إلى بعض أوكارنا التي كنا نرتادها. إنَّ لديَّ طالبَين واعدَين في علم الحشرات، وسوف نقوم بجولاتٍ منتظمة إلى منطقة فينز. فلتَحمِ السماءُ الخنافسَ والسيد جينينز؛ إذ إننا لن نترك له زوجًا واحدًا في الريف بأكمله. لقد تدَهورَت حالة خزانتي الجديدة، وذلك أمرٌ غريب بعض الشيء.
والآن في الوقت الحالي، أعتقد أنَّ عليَّ الذهاب إلى المدينة لبضعة أيام، للاستماع إلى أوبرا ولقاء السيد هوب، وأخي كذلك بالطبع، والذي يجب ألا يكون لديَّ مانع من رؤيته. إذا ذهبتُ في وقت مبكر جدًّا، فيمكنك أن تأتي بعدي، لكن إن أعددت خططك بنحو مؤكد؛ فسوف أرتب أموري وفقًا لها؛ لذا فلترسل لي الرد في الحال. وأنا أنوط بك أن تجعل الأمور مواتية؛ أي أن تأتي مباشرة. لقد رُسِّم هولدن وانطلق مسافرًا يوم الاثنين. لا أعتقد أنه بخير حال. وتشابمان يريد مني ومنك أن نذهب لرؤيته حين تأتي، وهو يرسل إليك خالص تحياته. يجب أن تعذرني على هذا الخطاب القصير؛ إذ لم يعُد لديَّ المزيد مما أخبرك به في خطاب هذا اليوم. أشتاق إلى رؤيتك مجدَّدًا، وإلى لقاءٍ قريب.
لقد كنتُ أنوي أن أكتب لك كل ساعةٍ في الأسبوعَين الماضيَين، لكنني بالفعل لم يكن لديَّ أيُّ وقت. لقد غادرتُ شروزبيري في مثل هذا اليوم قبل أسبوعَين، ومنذ ذلك الوقت، وأنا أعمل من الصباح حتى المساء في صيد الأسماك أو الخنافس. إنَّ هذا اليوم بالفعل هو أَوَّل يومِ راحةٍ آخذه لنفسي؛ فأنا، في الأيام الممطرة، أذهب لصيد الأسماك، وفي الأيام الصحوة، أذهب لاصطياد الحشرات. ولعلك تذكر أنك في الأسبوعَين السابقَين لكلِّ هذا، قد طلبتَ مني ألا أكتب لك؛ لذا فإنني أرجو أن أكون قد قدَّمتُ دفاعي لكوني لم أجِبْ على خطابَيك الطويلَين والممتعَين للغاية في وقتٍ أبكر من ذلك.]
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
[كامبريدج، ٥ نوفمبر،
١٨٣٠]
عزيزي فوكس
إنَّ وقتي ضيق للغاية في الوقت الحاضر، ولكم يثير اشمئزازي أن أقرأ أني لا أرغب في الكتابة لأي شخص. إنني لم أكتب سوى مرةٍ واحدة لأهلي منذ أن جئت إلى هنا. لا بد أنَّ ذلك يغفر لي عدم الرد على خطاباتك الثلاثة، والتي أنا لها في غاية الامتنان …
إنني لم أمسك بأي حشرة في هذا الفصل الدراسي، ولم أشرع تقريبًا في أيِّ استقصاء. لو كان لديَّ وقت، لكنتُ قد أرسلتُ إليك بالحشرات التي وعدتُك بها منذ فترةٍ طويلة، لكنني بالفعل ليست لديَّ رغبة في القيام بأيِّ شيءٍ ولا وقت لذلك. إنَّ المذاكرة تصيبني بكثير من الإحباط؛ فتلك اللعنة التي تتمثل في دراسة جميع موادِّي هي أمر لا يُحتمل. إنَّ هنزلو هو معلمي، وهو مُعلِّم «بارع للغاية»، والساعة التي أقضيها معه هي أفضل ساعة في اليوم على الإطلاق، وأنا أعتقد أنه أكمل مَن عرفتُ من الرجال. لقد ذهبتُ إلى بعض التجمُّعات اللطيفة في منزله في هذا الفصل الدراسي. إنَّ حسن طباعه لا يحُدُّه حدود.
أعرف أنك ستشعر بالأسف الشديد لعلمك أنَّ والد ويتلي العجوز المسكين قد مات. من الناحية الدنيوية، فإنَّ ذلك سيكون له عواقبُ عظيمة على حياته؛ فسوف يعوقه ذلك لبعض الوقت عن الانضمام إلى جمعية الحقوق. (لا تنسَ الإجابة عن التالي:) كم دفعت ثمنًا للطوق الحديدي الذي طلبت صنعه في شروزبيري؟ لأنني لا أريد أن أدفع المبلغ الذي طلبه الرجل في كامبريدج كاملًا. لا تشغل نفسك بشأن فطر الفالوس؛ فقد ابتعتُ كلا النوعَين. لقد سمعتُ من بعض الرجال أنَّ هنزلو له آراءٌ دينية غريبة، لكنني لم أَرَ من ذلك شيئًا، فماذا عنك؟ لقد سرني أن أسمع أنك، بعد كل هذا التأخير، قد سمعتُ بأبرشية يمكنك أن تقرأ فيها جميع الوصايا دون أن تؤذي حلقك. ولكَم يسُرني أيضًا أن أسمع بأنَّ والدتك تستمر في التحسن بوتيرةٍ ثابتة. إنني أثق بأنه لن يكون لديك المزيد من الأسباب التي تدعو إلى الضيق. مع خالصِ أُمنياتي لك بالسعادة يا صديقي الغالي فوكس.
من تشارلز داروين إلى دابليو دي فوكس
كامبريدج، الأحد، ٢٣ يناير، ١٨٣١
عزيزي فوكس
أتمنى أن تعذرني في عدم الكتابة إليك قبل أن أنال درجتي؛ فقد كنت أشعر بنفورٍ شديد غيرِ مُبرَّر من الكتابة إلى أيِّ شخص. أمَّا الآن، فأنا أُهنِّئك من كل قلبي على النجاح في اختبارك، وأتمنى أن تجد أبرشيتك مريحة. وحتى لو لم يكن لديَّ سوى شلن واحد (وأنا ليس لديَّ الكثير على أيِّ حال)، فسوف آتي وأزورك.
لست أدري السبب في أنَّ الدرجات العلمية تسبب لنا التعاسة، سواء قبل نيلها أو بعده. إنني أتذكر أنك كنت تعيسًا بما يكفي قبلها، وأستطيع أن أؤكد [لك] أنني الآن كذلك، ومما يزيد من سخافة الأمر، أنني لا أعرف السبب في هذه التعاسة. إنني أعتقد أنه احتياطٌ جميل من الطبيعة ألا يأسف المرء كثيرًا على مغادرة مكان بجمال كامبريدج، والذي من بين جميع المسرات فيه، وأنا أقولها الآن وإلى الأبد، لا شيء أعظم من صداقتي بك. لقد أرسلتُ إليك بجريدة أمس، وهي التي سترى فيها الترتيب الجيد [العاشر] الذي حظيتُ به في قائمة الناجحين في الاختبار الخاص بالطلاب المتقدمين للحصول على تقدير مقبول. بالنسبة إلى كلية كرايست، هل رأيتَ من قبلُ مؤسسةً تعليمية تسعى لتخريج قادة ورواد؟ [يأتي «القائد» على رأس قائمة الناجحِين، وأمَّا الرواد، فهم آخر اثنَي عشر فردًا في الترتيب في اختبارِ درجة الشرف للرياضيات.] ولم يتعرض أيٌّ من الرجال للرسوب، لا في كلية كرايست ولا كلية إيمانويل. كاميرون وثلاثة من طلاب كلية ترينيتي فشلوا في أن يكونوا ضمن قائمة الناجحين في اختبار درجة الشرف للرياضيات لكنهم حصلوا على الدرجة العلمية بتقدير مقبول! لم أستقر بشأن خطَطي بعد. أعتقد أنني سوف أبقى هنا في هذا الفصل الدراسي، ثم أذهب إلى شروزبيري كي أوفر بعض النفقات، ثم أعود وأنال درجتي.
قد يُعذر المرء في الكتابة عن نفسه كثيرًا إن كان قد نجح لتوه في الاختبار؛ ولهذا عليك أن تعذرني. وبالمبدأ نفسه، عليك أن تكتب لي خطابًا تملؤه بالحكايات عن نفسك وخططك. إنني أريد أن أعرف بشأن اختبارك؛ فأخبرني عن حالة أعصابك، والكتب التي انتهيتَ من دراستها ومدى إتقانك لها. إنَّ مثل هذا النوع من الأمور يثير اهتمامي؛ فحين يأتي الوقت، سأعاني أنا أيضًا مثلك. إنَّ معلمك تومسون، يرسل إليك تحياته، هو وويتلي أيضًا. إذا أجبتَ على هذا الخطاب، فسوف أُرسل إليك كل ما يمكن أن ترغب فيه من الإجابات الغبية.