مقدمة
في هذا الكتاب وجهة نظر إلى طائفة من قضايا الفكر في حياتنا. ومجرد قولنا إنها «وجهة نظر» يتضمن الاعتراف باحتمال أن يكون هنالك وجهاتٌ أخرى للنظر؛ وبالتالي فهو يتضمن كذلك أن الصواب ليس مكفولًا لها وحدها، أكثر مما هو مكفول لغيرها، لكن ذلك لا ينقص مثقال ذرةٍ من يقين الكاتب عن نفسه بأنه قد حاول الدقة في عرض وجهة نظره ما استطاع إلى الدقة من سبيل، وبأنه كان صادقًا في الإعراب عن نفسه ما أسعَفَته القدرة على استخدام اللفظ في أن ينقل إلى الناس ما أراد أن ينقله.
ولعل أهم قضيةٍ فكريةٍ تصادفنا، هي قضية الشخصية العربية الجديدة ومُقوِّماتها؛ فماذا تكون معالمها وقسماتها؟ إننا بإزاء ماضٍ طويلٍ مجيدٍ غنيٍّ بآثاره، وكذلك نحن بإزاء حضارةٍ علميةٍ صناعيةٍ لم يكن للعالم كلِّه عهدٌ بمثلها؛ فماذا نأخذ وماذا ندع؟ إننا ما كِدنا نلتقي في أوائل نهضتنا الحديثة بطلائع العلم الحديث، حتى انقسمنا على الفور شُعبًا ثلاثًا: أُولاها جَفلَت من العلم الجديد الوافد عليها فرفَضَته لائذةً بالماضي ومجده. وفَرِحَت الثانية به فرحة الأطفال اندفاعًا وتفاؤلًا، فأقبَلَت عليه إقبالًا أنساها كل شيءٍ ما عداه. وأمَّا الثالثة فهي التي ألقت بالبصر إلى بعيد، لترى أمل البعث معقودًا على دمج الجانبَين في ثقافةٍ عربيةٍ جديدة، لا هي الموروث وحده ولا هي الحضارة العلمية وحدها. وقد لَبِث كاتب هذه الصفحات أمدًا من حياته طويلًا، يسلُك نفسه في زمرة المؤمنِين بالعلم الجديد وحده مستغنيًا به عن كل موروثٍ قديم، وهو اليوم يُغيِّر من وجهة نظره، ليرى استحالةً تامةً في أن تتكون شخصيةٌ متميزةٌ فريدة — سواءٌ أكانت شخصية فردٍ واحدٍ أم كانت شخصية أمةٍ بأَسْرها — من العلم الجديد وحده؛ لأن العلم عامٌّ ومشترك؛ وإذن فلا بد أن يجيء التميز من خصائصَ أخرى، فماذا تكون تلك الخصائص المميزة إن لم تكن مستمدة من أسلوب الحياة وموازين التقويم التي تجعل عند الناس شيئًا أهم من شيء، وفكرة أنبل من فكرة؟ ولمَّا كان هذا الأسلوب وهذه الموازين لا تُخلَق كل ساعة وكل يوم، بل هي على شيء من الدوام النسبي، فدوامها النسبي هذا معناه أنها مأخوذة من الماضي، وهذا بدوره هو الذي يحفظ للأمة استمرارها في سيرةٍ متصلة، مرتبطٍ حاضرها بماضيها.
على أنني إذ أرى ضرورة اجتماع العلم المشترك والقيم الخاصة الموروثة في مُركَّبٍ واحد، منه تتكون الشخصية العربية الجديدة، لا أنسى أن العلم ليس هو القِيَم؛ فالأول موضوعي، والثانية ذاتية، دون أن تكون موضوعية الأول فخرًا له، ولا ذاتية الثانية مسيئة لها. ولست أنوي الإفاضة في هذه التفرقة، بل إني لم أذكر عنها شيئًا في هذا الكتاب، وكفاني ما قُلتُه عنها وما لَقِيتُه بسببها.
والقضية المهمة الثانية التي أَبدَيتُ فيها وجهة نظري، هي قضية تقويم العمل الذي اضطلع به رجال الفكر والأدب منذ الثورة العرابية إلى ثورة ٢٣ يوليو سنة ١٩٥٢م، وعندي أنها فترةٌ طويلةٌ من الجهاد المستميت في سبيل الحرية. غير أن «الحرية» المنشودة أخذ معناها يتسع ويعمُق، كلما ازددنا لها كسبًا، وازددنا في المستقبل أملًا: فمن حريةٍ كادت تقتصر على معنى التحرُّر من المستعمر، إلى حريةٍ متعددة الفروع: في الأدب والفن والعلم، إلى حريةٍ اجتماعيةٍ شاملة. وإذا كان ذلك كذلك فليس صحيحًا أن رجال الفكر والأدب خلال تلك السنوات كلها — وفيما بين ثورتَي ١٩١٩م و١٩٥٢م بصفةٍ خاصة — كانوا يضربون في الهواء بغير هدفٍ مقصود.
وقضيةٌ ثالثة، هي الفردية وماذا تعني في المجتمع الاشتراكي؛ إذ هنالك من يحسب أن مثل هذا المجتمع يأبى الفردية ويلفظها. وفي رأينا أن الأمر يحتاج إلى تحليلٍ يُوضِّح لنا معنى الفردية الملفوظة؛ إذ مُحالٌ أن تكون مرفوضةً على إطلاقها، في الوقت الذي يُسمَّى كلُّ فرد باسمٍ خاصٍّ يُميِّزه من سائر الأفراد. وقد انتَهيتُ — بعد التحليل — إلى رأيٍ هو أن الفردية لا تتناقض مع المجتمع إلا إذا فُهِمَت على أنها جوهرٌ قائمٌ بذاته مُغلَقٌ على نفسه في حصنٍ حصينٍ لا تنفتح جدرانه على خارجه. وأمَّا إذا فُهمَت على أن قوامها وكيانها وصلبها وصميمها هو في مجموعه «العلاقات» التي تربط الفرد بسواه من الناس أو من الأشياء، رُفع التناقُض، وأصبح الأصوب أن نقول: «الفرد في المجتمع»، بدل قولنا: «الفرد تجاه المجتمع». وبقبول هذا المعنى للفردية، تتفرع لنا نتائج كثيرة عن «الأنا» و«الآخر»؛ إذ لا يعود أحد الطرفَين مفهومًا بغير الثاني، وعن «الخاص» و«العام»؛ إذ يُشترط في الخاص أن يخدم العام، كما يشترط في العام أن يخدم الخاص، وهكذا من التفصيلات الجزئية الكثيرة التي تعترض حياتنا الفكرية.
وقضيةٌ رابعةٌ هي قضية التزام الكاتب بمشكلات المجتمع، ووجهة النظر المعروضة هنا أن ذلك شرط يبلغ من البداهة حدًّا يجعل اشتراطه تحصيلًا لحاصل؛ فالكاتب غير الملتزم بفكرته ومبدئه لم تشهده الدنيا بعدُ، وحسبه التزامًا أنه يستخدم اللغة في التعبير عن فكرته، واللغة ظاهرة اجتماعية، وليست هي بالرموز السحرية التي يقررها الكاتب لنفسه بحيث لا يفهمها أحد سواه. فإذا كانت لديَّ فكرة عن التعليم الجامعي — مثلًا — وعبَّرتُ عنها في مقالة أو في كتاب، فمتى يكون هذا التعبير ملتزمًا ومتى لا يكون؟ قد يقال: لا، نحن لا نريد ذلك، وإنما نريد أولئك الكُتاب الذين يكتبون ليُمتعوا أنفسهم وقُراءهم في غير مشكلةٍ قائمة، لكني أسأل بدوري: أهي متعة لا تنطوي على «فكرة»؟ وإذا كان في ثناياها فكرةٌ مبثوثة، أليست هي فكرة الكاتب التي التزم أمام نفسه بعرضها على الناس في الصورة التي اختارها؟ وهل هي فكرة لا فرق بين قبولها ورفضها، أو أن قبولها يُشكِّل القارئ على نحو، ورفضها يُشكِّله على نحوٍ آخر؟ فإذا كان هذا هو أمرها، إذن فهي متصلةٌ بالناس وسلوكهم، وإذن فهو كاتبٌ التزم فكرته في تطوير المجتمع.
الحق أني أُعيد فصول هذا الكتاب من جديدٍ لو أَردتُ أن أَذكُر للقارئ في مُقدِّمته كل القضايا الفكرية المعروضة ووجهة النظر فيها، فيكفي ما ذكرته على سبيل المثال. ولولا أن العُرف قد جرى بين الكُتاب على أن يُقدِّموا لكتبهم بمُقدِّمات تأخذ القارئ من يده إلى أَوَّل أبواب الكتاب ليقرعه، فينفتح، فيدخل في صفحاته، فيُترك وحده بعد ذلك مع المحتوى وجهًا لوجه؛ أقول إنه لولا أن العرف قد جرى بذلك لما كَتَبتُ هذه الأسطُر القليلة لأفتح بها الباب نيابةً عن القارئ.
فلْيَدخل القارئ وحده، مُتنقلًا خلال الكتاب في أقسامٍ ثلاثة: أولها يقص عليه شيئًا من تاريخنا الفكري الحديث ومن تقويم ما أنتجه المفكرون والأدباء فيه. وثانيها يعرض عليه مجموعة من أهم الأفكار التي تَتردَّد في حياتنا الفكرية القائمة، فيراها وقد تناولها التحليل ليستخرج مضامينها، فيزيدها وضوحًا وجلاء. وأمَّا ثالثها فهو رحلةٌ قصيرةٌ مع نفرٍ من الأدباء، نسمُر معهم ونَقدُرهم قَدْرهم؛ فالنظرة في القسم الأول هي نظرة مؤرخ الفكر، وفي القسم الثاني هي نظرة فيلسوف التحليل، وفي القسم الثالث هي نظرة الأديب الناقد.
وفي كل موقف على الطريق، سيجد القارئ «وجهة نظر»؛ فإمَّا قبلها وإمَّا رفضها واتجه بنظره وجهةً أخرى، وكلاهما خير؛ لأن في كِلَيهما فكرًا.
يونيو ١٩٦٧م