أزمة القيم في عصر الانطلاق
لا أُريد أن هنالك أزمةً قائمةً بالفعل بين جديد القيم وقديمها، لكني أُريد أزمةً نقيمها ونخلقها خلقًا؛ فليس أهونَ على الإنسان من أن يحيا في عالمَين؛ فعالمٌ خارجيٌّ عامٌّ يضطرب فيه مع الناس في أوجه النشاط والعمل، يحكمه في التعامل معهم مجموعةٌ من القوانين واللوائح، وعالمٍ داخليٍّ خاصٍّ يعيش فيه مع أهله وخُلصائه، تضبطه معهم مجموعة من المعايير، قد تتفق وقد لا تتفق مع معايير العالم الخارجي حيث سائر المُواطنِين الذين لا تربطه بهم صلة القربى القريبة أو الصداقة الحميمة. فإذا كان مما يجوز له هنا أن ينفض نفسه نفضًا بحيث يمدح ما يمدحه عن صدق ويذم ما يذمه عن صدق، فلا يجوز له هناك أن يمدح أو يذم إلا ما يريده له الناس من مدحٍ وذم. وإذا كانت علاقته هنا مع أفراد أُسْرته ومع أصدقائه هي أن يقف الواحد منهم إلى جانب الآخرِين في صفٍّ واحد، أقدامهم كلهم دائسةٌ على الأرض، ورءوسهم كلهم معتدلة القامة لا تنحني تحت حِملٍ يثقلها من أعلى، فعلاقته هناك مع سائر المُواطنِين في المكتب والمصنع والشركة والمصرف، بل وفي الملعب وفي الطريق هي أن يقفوا في عمودٍ رأسيٍّ، الواحد منهم على أكتاف من دونه. وإذا كان مما لا يجوز له هنا أن يسرق الوقت والجهد والمال من سواه، فتلك كلها أمورٌ جائزةٌ له هناك، لا يمنعه من أدائها إلا خشية العقاب.
نعم، ليس أَهونَ على الإنسان من أن يعيش في عالمَين، لكل عالمٍ منهما قواعده وقوانينه. ويغلب أن تكون القواعد والقوانين التي تضبط السلوك في العالم الخارجي العام هي تشريعاتٌ مسنونةٌ من صاحب السلطان، وأن تكون القواعد والقوانين التي تضبط السلوك في العالم الداخلي الخاص هي مُواضَعاتٌ خُلقيةٌ وعُرفٌ وتقليد. ويَغلِب كذلك أن تكون للأُولى من ألوان العقاب المُقرَّرة ما يردع الناس عن مجاوزة الحدود المشروعة، وألَّا يكون للثانية من ألوان العقاب إلا لَذَعَات الضمائر واستهجان الآخرِين. وإنه لمن المألوف لهذا الازدواج أن يكون هو الحالة الطبيعية التي لا تُثير دهشةً عند أحد (إلا أن يكون من المُشتغلِين بفلسفة الأخلاق) في العلاقات بين أمة وأمةٍ أُخرى، كأنما ليس ثَمَّةَ من ضَيرٍ على الإنسان أن يُعامِل مُواطنِيه على نحو، وأن يُعامِل أبناء البلاد الأخرى على نحوٍ آخر؛ فالفعل الواحد المُعيَّن يفعله في بلده فيكون خيانةً كبرى يستحق عليها الإعدام، والفعل نفسه يفعله في بلدٍ آخرَ فيستحق به من مُواطنِيه أوسمة التقدير. أقول إنه من المألوف لهذا الازدواج في القيم أن يكون هو الحالة الطبيعية بين أفراد أمةٍ مع أفراد أمةٍ أخرى، لكنه لا يكون هو الحالة الطبيعية بين أبناء الأمة الواحدة إلا إذا كان في الأمر جانبٌ خبيءٌ يحتاج لأن يُكشف عنه الغطاء لتقع عليه الأبصار في ضوء النهار، وكَشْف الغطاء عما في أنفسنا من ازدواجٍ في القيم، من شأنه أن يُحدِث الأزمة التي أَشرتُ إليها في أول المقال.
•••
وأهم ما يُحدِث ازدواجًا في القيم بين أبناء الأمة الواحدة، هو أن تكون تلك الأمة في مرحلةٍ انتقاليةٍ من مراحل نموها وتطورها، والمعلوم في مثل هذه الحالة أنه وإن تكن أُسس التعامل بين الناس منبثقةً آخرَ الأمرِ من شبكة العلاقات الاقتصادية، فإذا تغيَّرت هذه العلاقات كان التغيُّر في أُسس التعامل كلها لاحقًا ضرورة وحتمًا، إلَّا أن التغيُّر المادي الاقتصادي أسرع دائمًا من نتائجه الخُلقية، حتى لكثيرًا ما يحدث أن يجيء التغيُّر الخلقي بعد أسبابه من التغيُّرات الاقتصادية بسنواتٍ طوال، بل إنه قد لا يجيء، ويظل الإنسان في حالةٍ قلقةٍ بين ما يكسب به العيش في عالمه الخارجي وبين ما يُدخِل الطمأنينة والسكينة على نفسه في عالمه الداخلي. لقد سارت الإنسانية في تطوُّرها من اقتصاد الرعي إلى اقتصاد الزراعة، ومن هذا إلى اقتصاد الصناعة، وكان لها في كل طَورٍ من هذه الأطوار أخلاقٌ تُلائم المحيط الاقتصادي، لكن ما أكثر ما تخلف في كل مرحلةٍ من أخلاق المرحلة السابقة عليها؛ ففي مجتمعنا الزراعي هنا في مصر، كانت تسود — إلى جانب ما تقتضيه حياة الزراعة من أخلاقيات — بقايا من مجتمع البداوة الرعوية احتفظ بها العرب من عهد بداوتهم ونقلوها إلى المجتمعات التي كانت قد استقرت في زراعتها أمدًا طويلًا. وها نحن أُولاء في حالة انتقالٍ من طَور الزراعة إلى طَور الصناعة، لكننا ما زلنا مُثقلِين بأخلاقيات المجتمع الزراعي جنبًا إلى جنبٍ مع ما تدعو إليه الحياة الجديدة — بعلمها وصناعتها — من أخلاقياتٍ جديدة.
لقد استقرأ «روستو» في كتابه «مراحل النمو الاقتصادي» مراحل السير التي اجتازتها البلاد — على اختلاف مكانها وزمانها — في تطوُّرها الاقتصادي بما يستتبع ذلك من تطوُّرٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ وسياسي، فوجدها خمس مراحل؛ هي: المرحلة التقليدية، تتلوها مرحلة التحوُّل، ثم مرحلة الانطلاق، وهذه تتلوها مرحلة النضج، وأخيرًا تجيء مرحلة الرفاهية على المستوى الحضاري الرفيع.
في المرحلة التقليدية الأُولى، تكون أوضاع الحياة مُحددةً ضيقة المجال، لكل شيءٍ قيوده من التقاليد والعرف، ولكل حركةٍ طريقها المرسوم، حتى لا يجوز للسائر أن يمشي بأسرع ولا أبطأ مما ينبغي، ولا للضاحك أن يضحك بصوتٍ أعلى مما يجب، العمل الرئيسي في هذه المرحلة زراعة، والسلطان الحقيقي في أيدي مُلَّاك الأرض، وصالح الأسرة في هذه المرحلة فوق صالح الأمة، ولكل أُسْرة مستواها الطبقي، فلا يؤذن لأبنائها أن يشرئبوا بأعناقهم إلى ما هو أعلى، ثم تسري أشعة العلم في جسم الحياة — إما قليلًا قليلًا أو دفعةً سريعةً — فيتبع العلمَ صناعةٌ تشغل بعض الأيدي عن فلاحة الأرض، وتجعل المدينة مركز القوة دون الريف وقُراه، بل إن حركة التصنيع لتمَسُّ الزراعة نفسها، فإذا الحقل بمكناته وجرَّاراته كأنه مصنع، وإذا القرية كأنها مدينةٌ صغيرة، وتلك هي معالم المرحلة الثانية: مرحلة التحوُّل.
حتى إذا ما كملت عملية التحوُّل، واستكمل المجتمع خلالها ملامح وجهه الجديد، دخل في مرحلة الانطلاق، وفيها تتجدد خلاياه كلها لتُلائم الحياة العلمية الصناعية الحضرية الجديدة، فتتغيَّر العلاقات الإنسانية بأَسْرها، وتتغير الحقوق والواجبات، تتغير قيمة العمل بالسواعد بالنسبة إلى أصحاب الفراغ، وتتغير مهمة الحاكم بالنسبة إلى المحكوم، وتتغير العلاقة بين الرجل والمرأة، بين أهل الريف وأهل الحضر. يتغير كل شيء في مرحلة الانطلاق لتندفع الملامح الجديدة التي نَشأَت في مرحلة التحوُّل، حتى تبلغ مداها، وهذه هي المرحلة التي نقف اليوم على مشارفها، لنجتازها في عددٍ من السنين يكثر أو يقل بحسب دوافع التطوُّر، ثم لننتهي منها إلى المرحلتَين الأخيرتَين؛ مرحلة النضج ومرحلة الرفاهية على مستوًى حضاريًّ رفيع.
وأَوضَحُ ما يلفت أنظارنا في مرحلة الانطلاق هذه، ازدواج القيم التي نعيش على هداها؛ فقيمٌ تخَلفَت من المرحلة الأولى — مرحلة العرف والتقليد — وصَمدَت عبر المرحلة الثانية — مرحلة التحوُّل — وقيمٌ تقتضيها حياة العلم والصناعة؛ في الأولى تكون الأولوية لمن يملك على من لا يملك، وفي الثانية تكون لمن يعمل على من لا يعمل، في الأولى تواكلٌ واستسلامٌ للقدَر، وفي الثانية اعتدادٌ بحرية إرادة الإنسان، وتسليمٌ بنتائج العلم، في الأولى تغليبٌ للوجدان على منطق العقل، وفي الثانية تغليب للعقل على مشاعر الوجدان، في الأولى تشويه للماضي بالتهويل والخرافة، ثم الاحتماء بهذه الصورة المشوهة والتمسك بها لذاتها، وفي الثانية تنقيةٌ للماضي ليكون في أيدينا سلاحًا للحاضر وعدةً للمستقبل، في الأولى شخصيةٌ ضائعةٌ هضيمةٌ لمن يلتهمها، وفي الثانية تثبيتٌ للشخصية واعتزازٌ بها في غير صلفٍ أعمى، في الأولى قبول للواقع كما يقع لأنه من صُنع القدَر، وفي الثانية تغييرٌ للواقع عما وقع لأنه من صُنع أيدينا.
أقول إن أول ما يلفت أنظارنا، ونحن على مشارف المرحلة الثالثة من مراحل السير؛ مرحلة الانطلاق، ازدواج القيم؛ فنحن مشدودون اليوم بين قديم وجديد، نعمل بأجسادنا على نحو، ونُفكِّر بعقولنا ونُحِس بقلوبنا على نحوٍ آخر، كمن يعزف على القيثارة لحنًا لكنه يُغنِّي لحنًا آخر. نعم إنها سنة الحياة أن يُبطئ التغير الخُلقي بحيث لا يلحق بالتغير المادي إلا بعد أمدٍ قد يطول، فواجبنا أن نستحث الخطى لِنُسرع نحو التئام الفجوة بين خارج الإنسان وداخله.
•••
وحتى لا يكون حديثنا على مستوى التجريد والتعميم، ندعمه بأمثلةٍ مُجسَّدة مُعيَّنة مما وقع لنا في خبراتنا الحية، أمثلةٍ تُبيِّن أننا نقول بألسنتنا ما لا نُحِس صدقه بقلوبنا؛ إذ نُردِّد بالألسنة معايير المرحلة الجديدة من مراحل حياتنا، لكننا ما زلنا مُعلَّقِين في قلوبنا بمعاييرَ أُخرى ذهب زمانها:
جاءني من مكتبٍ حكوميٍّ خطابٌ يحدد لي موعدًا في الساعة التاسعة من صباح يومٍ معين. وذَهَبتُ قبل التاسعة ببضع دقائق لأكون حاضرًا عند تمام التاسعة كما ذُكر لي في الخطاب، لكنني وصلتُ لأجد المكان خاليًا من كل أثر للحياة والأحياء، وأَصَختُ السمع فإذا صوت رجلَين يتحدثان في غرفةٍ بعيدة، فسِرتُ نحو مصدر الصوت مارًّا في ممرٍّ ضيقٍ يفصل غرف المكاتب عن يميني ويساري، لا يقع فيها البصر إلا على مناضدَ ومقاعدَ قد خَلَت من آهِلِيها، ووَصَلتُ إلى مصدر الصوت فإذا خادمان يَسمُران، وحَيَّيتُ استحياءً؛ لأنني شعَرتُ بالذنب الذي يشعر به من يخوض حرمًا مُقدسًا لم يكن من حقه أن يخوضه، وسألتُ مستفسرًا: أين عساي أن أذهب؟ وأَبرَزتُ لهما الخطاب الذي جاءني بتحديد الموعد. وتناول أحدهما الخطاب وقرأ، وناوله لزميله ليقرأ، ثم رداه إليَّ، وأحدهما يقول — والآخر يُكرِّر قوله كأنه الصوت والصدى — هم يقولون التاسعة، لكنهم لا يقصدون التاسعة. هم لا يحضرون قبل الحادية عشرة، فإذا كان وراءك مشوارٌ فاذهب واقضِ حاجاتك ثم عُد، وإلَّا فانتظر في البهو الخارجي.»
آثَرتُ أن أنتظر في البهو الخارجي، فجَلَستُ على مقعدٍ كسيح القوائم مُعفَّر الأجزاء، إلى جوار منضدةٍ فُرِشَت بقطعة من «الجوخ» الأخضر، ويا ليتها ما فُرِشَت. وبعد نصف ساعة جاء مُوظَّف ودخل غرفةً من الغرف التي تفتح على البهو الذي كنت أجلس فيه، فانتظرتُ حتى رأيته قد استقر في جلسته وشَرِب قهوته، وبدأ يفتح الخزائن من حوله لِيُخرج من جوفها أوراقًا، ثم استأذَنتُ في الدخول ودَخَلتُ، وأَبرَزتُ له الخطاب الذي جاءني وسَأَلتُ: تُرى هل أخطأتُ المكان أو أَصَبتُ؟ فنظر في الخطاب، وقال وهو لا ينظر إليَّ: «بل أَصَبتَ، فانتظِر حيث كُنتَ، حتى يجيئوا» تُرى من هم أولئك الذين لا يتحدثون عنهم إلا بضمائر الغائب في نغمةٍ كأنها تُوحي بأنهم سيهبطون علينا من عالَمٍ مجهول؟ ومرَّ نصفُ ساعةٍ آخر، ودخل رجلٌ يحمل حقيبة، لكنه كان زبونًا مثلي — وإن يكن أحرص مني لأنه انتفع من زمنه بساعةٍ كاملةٍ أضعتها أنا عبثًا — وجلس على مقعدٍ بجواري، وكأنه أَلِفَ أن يقصد إلى هذا المكان لينتظر. وهكذا أَخَذَت أنصاف الساعات وأرباعها تمضي، والقادمون يحضرون واحدًا فواحدًا، ويدخلون الغرف المختلفة، وقارَبَت الساعة الحادية عشرة، وحالي هو كحالي منذ قَدِمتُ في الساعة التاسعة، إلا مللًا وسأمًا أخذا يزدادان معي حتى كِدتُ أنفجر، وكُنتُ عندئذٍ قد سمِعتُ حديثًا عالي النبرة وضحكاتٍ صادرةً عن قلوبٍ خاليةٍ من الهموم، فرجَّحتُ من جرأة الحديث والضحكات أنها لا بد صادرةٌ عمن لا يخشَون أحدًا، وإذن فلا بد أن يكونوا «هم» الذين أُشير إليهم بضمير الغائب. وجَرَرتُ قدمي جرًّا في حذر، إلى حيث الغرفة التي انبعث منها الحديث والضحك، فإذا ثلاثةٌ يجلسون على ثلاثة مكاتب، وعليهم جميعًا سمات الوقار والتهذيب، فأمَّلت خيرًا، ونَقَرتُ الباب نقرةً خفيفة، وحيَّيتُ وسَألتُ السؤال نفسه الذي سألته قبل ذاك مرتَين، فما كان أَشدَّ دهشتي أن رد على في عنفٍ شديدٍ أحد الرجال الثلاثة، قائلًا: من تكون أنت؟ فقُلتُ: أنا فلان — قلتها في هدوءٍ شديد، وشاء لي حسن الحظ أن يكون اسمي معروفًا له، وأن يكون قد قرأ لي شيئًا ما، فانقلب غضبه رقةً عذبةً، وراح يعتذر لي، مُعاتبًا إياي: كيف لمثلي أن يجلس في البهو منتظرًا، وكان ينبغي له أن يُفصِح عن شخصيته فور قدومه؟ وأصرَّ إصرارًا شديدًا على أن أجلس معهم قليلًا، وأن يستضيفني بفنجانٍ من القهوة. ولعله أراد أن يعيد إليَّ الثقة في نفسي، ففتح موضوعًا في الفلسفة زعم أنه يشغله منذ زمنٍ بعيد، وأراد أن ينتهز فرصة وجودي معهم ليستوضحني بما يُزيل عنه الشك والقلق. وبعد ذلك فَحَص أوراقي التي من أجلها جِئت.
انظر إلى هذه القصة العابرة وما قد تَجسَّد فيها من قيم، تجدها كلها قيمًا هي نفسها قيم المرحلة الأولى من المراحل الخمس التي أسلفتُ لك ذكرها؛ أعني مرحلة الاقتصاد الزراعي بكل ما تحمله من صفات. وحسبي هنا أن أستخلص منها قيمتَين اثنتَين: الأولى هي قيمة الزمن، والثانية هي قيمة التفاوت الطبقي بين المُواطنِين؛ أمَّا عن الأولى فلم يكن في اقتصاد الزراعة فرق بين الساعة التاسعة والساعة الحادية عشرة؛ لأن الزرع لا يختلف نموه إذا جاءه الري مبكرًا ساعتَين أو متأخرًا ساعتَين. وهنا أذكر ملاحظةً عجيبة كُنتُ قَرأتُها منذ أمدٍ بعيدٍ في كتاب الاستعماري الأكبر اللورد كرومر عن «مصر الحديثة» يقول فيها إنه على يقينٍ من أن مصر لن تتحول في أي يوم من الأيام بلدًا صناعيًّا؛ وذلك لسببٍ عنده عجيبٍ، هو أن الصناعة مرتكزة في أساسها وصميمها على دقة التوقيت، على حين أن المصريِّين تنقصهم هذه الدقة. إن العامل الصناعي وهو واقفٌ أمام الآلة الدائرة ليضع فيها شيئًا أو ليأخذ منها شيئًا كل دقيقةٍ مرةً أو كل دقيقتَين مرة، لا يستطيع أن يَغفُل عنها قائلًا للآلة: اصبري حتى أتهيأ لك؛ ومن ثَمَّ كان عنصر الزمن من أهم الأمور في مرحلة الصناعة.
وأمَّا عن القيمة الثانية: قيمة التفاوُت الطبقي بين المُواطنِين، فقد كانت كذلك نتيجةً طبيعيةً في مرحلة العُرف والتقليد التي سادها الاقتصاد الزراعي؛ لأن الزراعة بطبيعتها عندئذٍ كانت تتطلب صاحب أرض يسود وجماعةً من الفلاحين يُفلِحون له الأرض ويُسادون، وليس من المعقول عندئذٍ أن يتساوى في العرف سيد ومسود؛ فللسيد معاملة وللمَسُود معاملةٌ أخرى دون أن يُحس السيد أو المسود شذوذًا في هذا التفاوُت. ولكَم سمِعَت آذاننا في آلاف المواقف رجلًا يظن أنه قد أُهين، فيسأل من وجَّه إليه الإهانة: أتعرف من أنا؟ وذلك لأنه لا يكفيه أن يكون مواطنًا كسائر المُواطنِين، وأن تكون المعاملة الاجتماعية قائمةً على أساس المُواطَنة وحدها بغض النظر عمن تكون أنت ومن أكون أنا من حيث العمل الذي يُؤدِّيه كلٌّ منا.
هاتان قيمتان اثنتان استخرجناهما من موقفٍ واحد: قيمة الزمن وقيمة التفاوُت الطبقي، لندل بهما على ما زعمناه، وهو أننا نعيش في مرحلة الانطلاق بعلمها وصناعتها، على قيم المرحلة البائدة. ولن تستقيم الأمور وتتناغم جوانب حياتنا إلا إذا أحدثنا الثورة في القيم، كما أحدثناها في الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية. وإنها لثورةٌ لا تتم لنا إلا إذا خلقنا — نحن رجال الفكر والأدب — أزمةً في نفوس الناس ليُحسُّوا حدة التناقُض القائم.
•••
لكن رجال الفكر والأدب منا ليسوا — فيما أحسب — على تصوُّرٍ واضحٍ بعدُ، ماذا تكون القيم الجديدة التي يُحلِّلونها فيما يكتبون، ويُجسِّدونها فيما ينشئون من قصصٍ ومسرحيات، وينشدونها فيما ينظمون من قصائد، ولأضرب لك على اختلافهم في تصور القيم الجديدة مثلًا واحدًا. إن عصر الصناعة يقتضي حتمًا أن تزول الفوارق شيئًا فشيئًا بين القرية والمدينة؛ ذلك أن آلات الصناعة ستدخل شيئًا فشيئًا إلى الزراعة كما دَخلَت في سواها، ووسائل التعليم والإعلام واحدةٌ هناك، فما يُثقِّف فلاح المزرعة في القرية هو هو نفسه ما يُثقِّف عامل الصناعة في المدينة، ووسائل المواصلات أسرَعَت وازدادت، وطرق سيرها رُصِفَت؛ بحيث اشتدت حركة الانتقال بين القرية والمدينة شدةً كادت تمزج الفريقَين في جماعةٍ واحدةٍ كل يوم. إن الصحف التي تظهر في القاهرة تظهر في اللحظة نفسها في معظم القرى، والخبر المذاع في القاهرة يُذاع في كل ركنٍ من كل منزلٍ في طول البلاد وعرضها في آنٍ واحدٍ. أفلا يكون من الطبيعي والحالة هذه، أن تختفي قيمةٌ قديمةٌ كانت تتغنى ببراءة الريف وتندب حظ المدينة من الشر والسوء، لتظهر قيمةٌ جديدةٌ لا تمتدح البراءة في ريف (لاحظ جيدًا أن البراءة هنا تنطوي على سذاجة) ولا تندب شرًّا وسوءًا في مدينة؟ لقد كان بعض السر في القيمة القديمة أن يرضى أهل الريف بما هم فيه من طريقٍ للحياة مسدودٍ، لئلا تنفتح أعينهم على لذائذ العيش في المدينة. أما اليوم وقد سرنا في طريق يجعل القرية مدينةً صغيرة، فلم يعُد ما يُبرِّر أن يتغنى الشاعر بالريف دون المدينة، ولا يُبرِّر أن يكتب القصصي فإذا هو يرسم شخصيات الريف على أنها البريئة التي لم تُفسِدها المدنية بعدُ. هذه وجهة نظر أعرضها، قد تجد من يعارضها من القُراء ومن يؤيدها، فلا تكون معارضة المُعارضِين وتأييد المؤيدِين إلا إثباتًا لما أزعمه، وهو أننا لسنا جميعًا على تصوُّرٍ واضحٍ بعدُ، ماذا تكون القيم التي ندعو إليها ونُحلِّلها ونُجسِّدها فيما نكتب.
فليس رجال الفكر والأدب منا على اتفاق بعدُ في الأهداف. نعم، إننا جميعًا على اتفاقٍ ما دام الأمر أمر أحكامٍ عامةٍ مجردة، لكن اهبِط من هذا التعميم والتجريد إلى حيث التفصيلات الجزئية، تجِدْنا قد تفرَّقنا شيعًا وجماعات. وهل منَّا — مثلًا — من يعارض في أن تكون الاستنارة العقلية — أعني التعليم بكل معانيه — من أُولى القيم التي يجب أن نُذيعها بكل قوانا؟ لكن سل هذا وهذا وذاك: ماذا تعُدُّه وسيلةً للتنوير العقلي؟ تجِدْهم قد تباينوا رجالًا ثلاثة؛ فرجلٌ يجد التنوير في بعث القديم، وثانٍ يجده في الاغتراف من غربيِّ أوروبا، وثالثٌ يجده في الاغتراف من شرقيِّها، وربما وَجَدتَ رابعًا يأخذ بالأحوط فيقول: آخذ من كل شيءٍ بطَرَف بحيث تجتمع لي الثقافة التي تتناسب مع مشكلاتنا الخاصة وتحدِّياتنا الخاصة.
وأَخلُص من هذا كله بنتيجةٍ هي أننا بحاجةٍ شديدةٍ إلى احتكاك الآراء بكل ما استطعنا من حدة الجدل، لكي تتبلور في أذهاننا صورةٌ متجانسةٌ عن القيم المطلوبة للعصر الجديد، وعندئذٍ نصُبُّ جهودنا في كل مقال وفي كل قصة وفي كل مسرحية وفي كل قصيدة من الشعر، وفي كل صورة أو تمثال، نصُبُّ جهودنا في هذا كله لِنُوجِد في صدور الناس أزمةً نفسيةً يُحِسُّون بها ضرورة الانتقال في دنيا القيم كما انتقلوا في دنيا العمل، حتى لا يستنيموا للازدواج القائم أمدًا طويلًا.