فلسفة العقاد من شعره
تستطيع الفلسفة والشعر أن يتباينا أشد ما يكون التبايُن بين شيئين، كما يستطيعان أن يتقاربا حتى ليُوشِك الناظر إليهما أن يختلط عليه الأمر، فيحسب الشعر فلسفة والفلسفة شعرًا.
ذلك أن للفلسفة معنيَين عُرِفَت بهما؛ فهي إمَّا أن تُفهَم بمعنى الحكمة التي استخلصها صاحبها من تجربته الحية كما مارسها في حياته وعاناها، فتجيء عبارته بيانًا عن ذات نفسه وما اختَلجَت به تجاه الكون والإنسان، وإمَّا أن تُفهَم بمعنى التجريدات الصورية التي يستخلصها المُفكِّر من مفاهيم العلم وقضاياه، ابتغاءَ أن يصل إلى المبادئ الأُولى التي تقع من العلوم مواقع الجذور من الشجر، دون أن يدع شيئًا من أهوائه وميوله يتسلل إلى عمله، فإذا كانت الفلسفة بمعناها الأول كاشفةً عن سرائر كاتبِيها، فهي بالمعنى الثاني ذكيةٌ لكنها لا تُفصِح عن شيء من خوالج السريرة. إنها بالمعنى الأول حياة ومضمونها، وهي بالمعنى الثاني فكر وصورته، بالمعنى الأول هي قلب ولسان وجَنان ووجدان، بالمعنى الثاني هي ذهن وذكاء ومنطق وتحليل. إنها بالمعنيَين معًا تعمم الأحكام، لكن التعميم في الحالة الأولى يرتكز على خبرة حياةٍ مشخصةٍ في فردٍ واحد، وأمَّا التعميم في الحالة الثانية فلا ذِكر فيه للأفراد. وإن الفلسفة والشعر لَيتباعدان أَشدَّ ما يكون التباعُد بين شيئَين حين تدور الفلسفة في مثل هذا التجريد المُفرغ العاري، وإنهما لَيتقاربان حين تكون الفلسفة هي حكمة الحياة عند صاحبها. إنهما لَيتباعدان حين تريد الفلسفة أن تقول الحق خالصًا لا جمال فيه، ويريد الشعر أن يصوغ الجمال خالصًا لا حق فيه، لكنهما يتقاربان حين يريد الفيلسوف أن يسوق الحق مكسوًّا بثوب الجمال، أو حين يريد الشاعر أن يصوغ الجمال مُنطويًا على حق.
ومن قَبيل الفلاسفة بهذا المعنى كان العقاد الفيلسوف، ومن قَبيل الشعراء بهذا المعنى كان العقاد الشاعر؛ فالعقاد — رحمه الله — كان فيلسوفًا وكان شاعرًا.
•••
مِحوران دار حولهما الفكر الفلسفي الحديث في بلادنا، وهما: الحرية والعقل. أمَّا الحرية فلا تكون إلا فِكاكًا من قيود، وأمَّا العقل فلا يكون إلا التزامًا للقواعد والقيود، فكيف يكون الجمع بين فكاك الحرية وانطلاقتها، وقيود العقل وقعوه؟ ذلك هو السؤال الذي يُحاول الفكر الفلسفي في نصف القرن الأخير عندنا أن يجيب عنه، حتى لَيجوز لنا أن نقول إنه إذا كان أسلافنا الفلاسفة المسلمون قد جعلوا محور نشاطهم أن يوافقوا بين العقل والنقل، فمحور نشاطنا الفلسفي اليوم هو التوفيق بين العقل والحرية؛ بحيث يجيء الفعل حرًّا وعاقلًا في آنٍ معًا.
ذلك أننا فيما قبل نهضتنا الفكرية الحديثة، كنا مُثقَلِين بشتى أنواع القيود، بعضها مفروضٌ على النفس من خارجها، وبعضها الآخر كامنٌ في خفايا النفس من داخلها؛ فمن القبيل الأول كان استبداد المُستبدِّين من مستعمر وحاكم، استبدادًا شلَّ فينا حركة الحياة النامية، ومن القبيل الثاني كانت أغلال الجهل والخُرافة تُعمي أبصارنا فلا نتبين الرشد من الغي، وتُقيِّد خطانا فيسير الركب ونحن وقوفٌ لا نسير، فكان لا بد لنا من مِعولَين في وقتٍ واحد؛ فمِعولٌ يفك عنا قيود المُستعمِر والمُستبِد، وذلك هو مِعول الحرية، ومِعولٌ آخرُ يُزيح عنا غِشاوة الجهل والخرافة، وذلك هو مِعول العقل؛ ومن ثَمَّ كانت الحرية والعقل معًا هما المِحورَين الرئيسيَّين اللذَين أدرنا عليهما كل نشاطنا الفكري في الأعوام التي انقضت من هذا القرن العشرين، بل وقبل ذلك بقليل. وكان العقاد — رحمه الله — في مقدمة الطليعة التي أضاءت سراج الفكرتَين معًا؛ أضاءهما كاتبًا ناثرًا، وانبعث ضَوءُهما عنده شاعرًا.
•••
على أن الفكرتَين تلتقيان على يدَيه التقاءً يجعل تصوُّرنا لإحداهما أمرًا محالًا بغير تصوُّر الأخرى؛ فمن آرائه التي أشاعها في كل ما كتب أو نظم أن الحياة بأسرها عملٌ فني، تسوده الأصول نفسها التي تسود الأعمال الفنية جميعًا على اختلافها، فالحياة تحكمها الأصول التي تحكم بيت الشعر ولحن المُوسيقى وصورة المُصوِّر، من حيث التآلُف فيها بين الحرية والضرورة، وهو التآلف الذي إذا ما تحقَّق في شيء يجعل منه فنًّا جميلًا؛ فليست حرية الفن أو حرية الحياة إلا أن تكون هناك القيود والقواعد التي تحكم السير، ثم ترانا مع ذلك نخطو في خفةٍ وانطلاقٍ كأنه لم تكن تقيدنا في السير قيود وتقعدنا قواعد، يقول العقاد: انظر إلى بيت الشعر وتصرُّف الشاعر فيه. إنه مَثلٌ حقٌّ لما ينبغي أن تكون عليه الحياة بين قوانين الضرورة وحرية الجمال؛ فهو قيودٌ شتى من وزن وقافية واطراد وانسجام، غير أن الشاعر يُعرِب عن طلاقة نفسٍ لا حد لها حين يخطر بين هذه السدود خطرة اللعب، ويَطفِر من فوقها طفرة النشاط، ويطير بالخيال في عالمٍ لا قائمة فيه للعقبات والعراقيل، وهكذا فلتكن الحياة وعلى هذا المعنى فلنفهم ضروراتها وقوانينها؛ فما الضرورات والقوانين إلا القالب الذي تُحصَر فيه الحياة عند صبها وصياغتها ليكون لها حيزٌ محدودٌ في هذا الوجود، ولِتسلَم من العدم المطلوب الذي تصير بها الفوضى إليه. وإلَّا فتصور عالمًا لا موانع فيه ولا أثقال ثم انظر ماذا لعله يكون؟ إنه لا يكون إلا فضاءً بغير فاصل، أو هيولى بغير تكوين. فلنعلم كيف نحمل الحياة بقيودها، ونجري بها كأنها لا تعوقنا عن بلوغ ما نريد.
هكذا تلتقي الحرية والقيد في كيانٍ واحدٍ عند العقاد، حتى ليرى الحياة في الكائن الحي مجموعة قيود، لكنها ليست القيود التي تُكبِّل النفس الحية الواثبة النابضة، بل هي القيود التي تُنظِّم الوثب والطيران. وهذا هو في قصيدته «حانوت القيود» لا يرى الحياة في جوهرها إلا حانوتًا يوزع على الأحياء قيودهم أشكالًا وألوانًا؛ إذ بغيرها لا تكون حياة؛ فمنها قَيْد العقل — «ومَا الْعَقْلُ إِلَّا مِن عِقَالٍ مُؤَربٍ (أي مُعَقَّد)» — ومنها قَيد التجارب التي تَحدُّ من هَوَس الغِرِّ في اندفاعه، ومنها قَيد الحب:
ومنها قَيد الجاه والسلطان، وقَيد الأبوة:
وهكذا الحياة كالنهر الدافق تُوضَعُ له الجسور والسدود فيستقيم جريانه «فالقِياد قِيادةٌ لِمن كان يمشي فِي مَجاهلِ غَيْهب».
•••
بهذا جمع العقاد بين الحرية في تلقائيتها والعقل في انضباطه، جمع بينهما في كل كائن حيٍّ وفي كل آيةٍ فنية، على اختلاف الدرجات في الكائنات الحية وفي آيات الفنون؛ فكلما ارتفع الكائن الحي في سُلَّم الكمال، وكذلك كلما ارتَفعَت آية الفن في سُلَّم الإبداع، ازداد وازدادت إمعانًا في كثرة القوانين التي تحكمها من جهة وفي طلاقة الحرية التي تسير بها نحو هدفها مُحقِّقةً أغراضها من جهةٍ أخرى. وإذا أُحكِم التناسُقُ بين الفاعلية الحرة والقوانين تضبط اتجاهها وسيرها، كان لنا بذلك كائنٌ هو في حكم الكائنات العضوية الحية، من حيث كثرة الحركة مصبوبةً كلُّها في نسقٍ ينظمها، وهؤلاء هم الأفراد أو المفردات التي منها يتألف الكون، كأفراد الناس وأفراد الحيوان ومُفرَدات النبات وقصائد الشعر ولوحات المُصوِّرين. فإذا شئت أن تضعَ لنفسك مقياسًا تعلم به الأصيل من الزائف في الكائنات جميعًا، فهذا هو مقياسك: انظر إلى الكائن باحثًا عن خصائص تفرُّده، فإذا وَجدتَها وعلِمتَ أن هذا الكائن فريد لا تَكرار له بين سائر الكائنات، فقل إنه مطبوع بطابع الحياة المُبدِعة الخلَّاقة، وإلا فهو نسخةٌ نُقِلَت عن أصل، ومحاكاةٌ جاءت لِتُقلِّد نموذجًا، وعندئذ يكون الفضل، وتكون القيمة كل القيمة، للأصل والنموذج.
فالتفرُّد بالخصائص الفذَّة الفريدة هو من أَميَزِ ما يُميِّز الحياة والفن معًا. ولو أن نفسًا مُحِيَت خصائصها المُميِّزة لها ثم زعموا لها الخلود، لكان خلودها هذا هو الموت بعينه؛ لأن الخلود إذا لم يكن للفرد في فرديته التي تَفرَّدَت بخصائص إحساساتها وإدراكاتها، فليس هو إلا الفناء. وها هو ذا العقاد يخاطب من يَنشُد الخلود لمجرد البقاء الدائم بغض النظر عن فردية كيانه التي أَلِفَها في نفسه إبَّان الحياة:
على أن ذوات الأفراد عند العقاد لا تتساوى منزلةً ولا تتعادل رتبة؛ لأنها تتفاوت في فرديتها بمقدار ما احتوت عليه من أصالة. ولو كان لنا أن نتصور سلم الترتيب كما تصوره العقاد، لقلنا إن أعلى الآحاد أحدٌ صمدٌ هو سر الحياة وينبوعها، وأدنى الآحاد أفراد من الناس يتبعون ويُحاكون، وفي وسطٍ بين الأعلى والأدنى تجيء منزلة الشاعر، أو قل منزلة الفنان أو منزلة المُلهَمِين بصفةٍ عامة؛ فالشاعر يستلهم الأعلى لِيُلهِم الأدنى؛ ذلك أن شعر الشاعر مقتبس من نفس الرحمن، لِيعُود الشاعر بدوره فينقل القبس إلى سائر الناس، يقول العقاد في الشعر والشاعر من قصيدةٍ طويلة:
•••
وهنا نقف مع العقاد عند هذه الأبيات التي يصف بها مهمة الشعر والشاعر — وهي أبياتٌ مأخوذةٌ من قصيدةٍ طويلةٍ في الجزء الأول من ديوانه، عنوانها «الحب الأول» — لأن هذه الأبيات تُلقي لنا ضوءًا على نظرته الفلسفية التي نحن الآن بصدد تحليلها وعرضها.
فالصورة كما يتصورها العقاد هي وحدةٌ تضم الكائنات جميعًا في نسقٍ واحدٍ، لا لِتُغرِق الأفراد الآحاد في طوفانها، بل لِتُبقي على ذواتهم المستقلة مع قيام صلاتٍ بينها كما تقوم الصلات بين أفراد المجتمع الواحد، ولكن من ذا يُتاح له أن يرى هذه الوشائج الحميمة بين الأشياء؟ إنه الشاعر، مُوحًى إليه من باريه، ليعود بدوره فيوحي بالحقيقة نفسها إلى كل ذي أذنٍ تسمع، والصلة الرابطة بين الأعلى والأوسط والأدنى هي صلة الحياة، كأنما هي صلة الرحم التي تجمع الكل في أُسرةٍ واحدةٍ، فالشاعر:
ولعلنا نزيد موقف العقاد الفلسفي إيضاحًا إذا ذكرنا أن وقفات الفلاسفة من الوجود صنفان؛ فوقفةٌ يرى بها صاحبها الوجود وكأنه روحٌ تَفرَّعَت عنها مادةٌ تَجسَّدَت في الكائنات التي تراها من حولك، ووقفةٌ أخرى يرى بها صاحبها الوجود وكأنه مادةٌ تَفرَّعَت عنها روحٌ تتمثل في الموجودات اللامادية التي نعرفها من عقل وحياة وغيرهما، والعقاد ينتمي إلى الصنف الأول، لكن هذا الصنف الأول يتشعب فروعًا مختلفة باختلاف الصفة الجوهرية التي تُوصف بها الروح؛ أهي في جوهرها عقل، أم هي إرادة؟ أم هي شعور ووجدان؟ والعقاد — كما يبدو لي من تتبُّع شعره — مؤمن بأن الأصل الروحاني الأول قِوامه وجدان وعاطفة؛ لأن جوهره الحب، ومن الحب تنشأ الحياة، وأن هذه الحياة لَتظَل في كائناتها الأحياء — برغم جمالها — كالخرساء التي لا تنطق لِتُفصح عن سِرها، حتى يُتاح لها الشاعرُ الذي يُحِسُّها عميقةً غزيرةً في نفسه:
أقول إن الأصل عند العقاد هو الحياة الشاعرة، لا الحياة العاقلة. والحقيقة الباطنية نُدركها بوجدان الشاعر وقلبه لا بمنطق العالم ورأسه لأن هذَين مقصوران على الحقائق الظاهرة وحدها فأنت حيٌّ ما حَرَصتَ على خوالج شعورك وانفعالات عاطفتك، ميتٌ ما اقتصرتَ على حِجاج العقل وحِسابه:
إن غزارة الحياة فينا تُقاس بجَيَشان العاطفة لا برجاحة العقل؛ فزمامنا في عواطفنا لا في عقولنا، حتى لترى الإنسان يميل بالعاطفة أولًا ثم يطلب من العقل بعد ذلك أن يَخلُق له الحُجج والمُسوِّغات التي تُبرِر ما قد مال إليه بالعاطفة من قبلُ. وما العقل إلا وليدٌ نَسَلَتْه الحياة في مجرى التطوُّر ليخدمها لا ليجيء سيدًا عليها ممسكًا بزمامها، ومن عجبٍ أن نرى هذا الوليد على حداثة سنه بالنسبة إلى أزلية الحياة، نراه قد شاخ وما زالت الحياة طِفلةً في تلقائيتها وفاعليَّتها:
إلَّا أن الفارق لَبعيدٌ بين حقيقةٍ نُدركها بالوجدان فندركها حيةً نابضةً دافئة، وحقيقةٍ نُدركها بالعقل الصِّرف فندركها أعدادًا رياضية باردة كالثلوج؛ ففي قصيدة «القمة الباردة» في الجزء الثالث من ديوانه، يقول العقاد ما معناه أن للجبال قمةً باردةً تعلوها الثلوج، وكذلك للمعرفة قمةٌ باردةٌ تفتُر عندها الحياة، فإذا نظر الإنسان إلى حقائق الأشياء — وهو على قمة الإدراك العقلي — لم يَرَ شيئًا ولم يشعر بشيء؛ لأن حقيقتها كلها هناك هي أنها ذراتٌ متشابهة التكوين متشابهة الحركة، ولكن هل يكون معنى ذلك أن نطمس عقولنا لنكتفي ببصيرة الوجدان؟ كلا، بل نستخدم العقل إلى غاية مداه، وبعد ذلك وفوق ذلك نركن إلى إدراك الوجدان؛ لأنه وحده صِنو الحياة، وُجِد معها منذ وُجِدَت:
فإذا كانت الحقيقة الأولى أَقرَب إلى أن تُدرَك بالوجدان لا بالعقل، إذن فإدراك البداهة الفِطرية — لا تدليلات المنطق وبراهينه — هي التي نُعوِّل عليها في قضايا الحياة الكبرى، وشاهِدُنا على ذلك ما نراه في لَمَحَات الفلسفة وَلَمَعَات الفنون؛ فعلى أي أساسٍ يبني الفيلسوف العظيم فلسفته إن لم يكن على لمحة يلمحها ببداهته، وعلى أي أساسٍ نكتنه سر الفن إن لم يكن على اتصالنا بلُبابه العميق عن طريق البداهة؟ وهذا ما يرمي إليه العقاد في قصيدته عن «الموسيقى» في الجزء الثالث من ديوانه؛ فليست الموسيقى طربًا للأسماع وكفى، بل هي في أعماقها مخاطبة لبداهتنا بمعاني الحياة، فنتعلمها عنها دون اللجوء إلى الذهن وأدواته من لغةٍ وغيرها:
فانظر إلى اللمحة الأفلاطونية في هذه الأبيات، التي تجعل وراء هذا العالم عالمًا أعلى وأكمل، نقبس منه المعاني التي لا نجدها في محيط الطبيعة من حولنا، بل نقبس منه القيم العليا والمعايير المثلى التي نقيس بها أوضاع هذه الحياة الدنيا لنعلم مقدار قربها أو بعدها عن الكمال، وسبيلنا إلى إدراك ذلك العالم الماورائي الأسمى، هو اللمح بالبصيرة النافذة، كما يحدث لأعلام الفلسفة والفن.
فالموسيقيُّ الفذ — مثلًا — إنما يبلغ ذروة العبقرية الفنية حين يوحي من خلال ألحانه بمعانٍ يستمدها من عالَم الروح، أو عالَم القيم، وهو عالَم المثل والنماذج، فيتساوى في إدراكها العالم والجاهل؛ لأن البداهة الفطرية في كليهما سواء:
•••
من ذلك نرى أن فلسفة العقاد روحانية، سواءٌ أكان ذلك في نظرته إلى الوجود أم كان في نظرته إلى وسيلة الإنسان إلى معرفة ذلك الوجود؛ فالكون عنده روح نلمسها بيدٍ من المادة أي إن الروح هي حقيقة الوجود، والمادة وسيلتنا إلى معرفتها؛ فكأنما هذه الطبيعة بكل ما فيها ألسنةٌ تنطق بالروح الكامنة وراءها، وهو كثيرًا ما يشير إلى ذلك الأصل الروحاني الكامن المُبدِع الخلَّاق بكلمة «الحياة» لأنه هو «الحي» الذي ندركه عن طريق الحياة التي تَدِبُّ في أوصالنا؛ فالحياة المُطلَقة أسبق وجودًا من الحياة المُتجزِّئة في الكائنات الحية التي نحن من أفرادها:
أَرأَيتَ إذن كيف أن الحياة الخلَّاقة قد تبدَّت في الطبيعة صورًا وأشكالًا؛ بحيث تستطيع إذا أَرهَفتَ الحس إلى الكائنات التي حولك أن تُدرك الحقيقة من أعلاها إلى أدناها. والعجب أن تكون الدنيا مليئةً بالشواهد، ثم نرى من الناس من يَتخطَّاها ويود لو جاوَز حدودها لعله يشهد ما وراءها، كأنما هو قد استنفد ما حوله رؤيةً واعتبارًا:
وإذا كان سر الكون روحًا أو ما يندرج تحت الروح من صفات لا مادية، فإن أداة معرفتنا لذلك السر لن تكون إلا جانبًا فينا يكون قد استعد بطبيعته لإدراك الحقائق الروحية، كالحدس، أو الوجدان أو البصيرة، أو البداهة، أو الفطرة والغريزة، أو ما إلى هذه الأشياء من وسائل لا نركن فيها إلى حاسةٍ من الحواس الظاهرة كالبصر والسمع، ولما كانت المعرفة العلمية كلها قائمة أساسًا على هذه الحواسِّ الظاهرة من حيث إدراك الشواهد ثم تطبيق القوانين العلمية على دنيا الواقع؛ كان لا بد لنا من الاعتراف بوجود نوعَين من الإدراك لنوعَينِ من الحقائق؛ فإذا كان الأمر أمر طبيعةٍ وظواهرها، وعلمٍ وقوانينه، فأداتنا هي الحواسُّ فالعقل، وأمَّا إذا كان الأمر أمر حياةٍ تكمن وراء الطبيعة وتسري في الكائنات الحية من حيث تدري ولا تدري، فأداتنا هي اللمْح الوجداني، أو هي الحدْس — إذا أردنا مصطلحًا يستخدمه الفلاسفة في هذا الصدد — الذي هو عِيانٌ روحانيٌّ مباشر، لا يُطلَب فيه تحليل ولا تعليل ولا مقدمات ولا نتائج، وذلك هو الإدراك الصوفي، كما أنه هو أيضًا الإدراك الفني لحقائق الوجود. وإنه ليكون خلطًا مَعيبًا مُضلِّلًا، إذا نحن حاولنا بالعقل العلمي أن ندرك ما قد خُصَّ بإدراكه إلهام البصيرة وحدها، أو أن نحاول إدراك حقائق العلم التحليلية التفصيلية التجريبية بواجدان المُتصوِّفين والشعراء؛ فلكل من الجانبين أداته ووسيلته، وإلا ضللنا السبيل عن الحق حتى ليتعدد فيما بيننا، ونقول — مع العقاد — في حَيرة:
•••
هذه هي ملامح الفلسفة العقادية كما أراها في شعره؛ فمن حيث طبيعة الوجود الخارجي، يكون تسلسل الكائنات على النحو التالي: في القمة كائنٌ أسمى حيٌّ رحيمٌ عطوف، يجيء بعده في الرتبة أفرادٌ أخص صفاتهم إدراك حقيقة الكائن الأسمى بوجداناتهم وقلوبهم، وهؤلاء هم أصحاب النظرة الصوفية والنظرة الفنية، ثم يجيء بعد ذلك أفرادٌ متفاوتو الإدراك فيما بينهم كأنهم المرايا تعكس على أسطحها حقيقةً واحدة، مع اختلافٍ في درجة الوضوح على كل مرآة، وتكون مهمة الفنان أن يُعِين هذه الطبقة الدنيا من الكائنات على إدراك الحقيقة في صورةٍ أَنصَع. وأمَّا من حيث المعرفة الإنسانية لهذا الوجود فهي عند العقاد معرفةٌ بالوجدان والإلهام فيما يتصل بإدراك كُنه الحياة وصميمها الباطن، وهي بالحواسِّ وبالعقل إذا كانت معرفةً بالظواهر البادية للعِيان.
إنها فلسفةٌ متفائلةٌ في صميمها؛ فالمُتفائِل وحده هو الذي يَرُدُّ الوجود كله إلى الحب والتعاطُف بين سائر الكائنات، ويجعل أداة إدراكه القلب والوجدان، لكن دواوينه مليئةٌ بقصائدَ يسري فيها التشاؤم المُر، وتعليل ذلك — فيما أرى — حزن يأخذ الشاعر كلما رأى الناس من حوله غافلِين عن كرامتهم الإنسانية؛ فها هو ذا العالم قد فتح أمامهم مصادر لا تَنفَد من حب وجمال، ففيم تصغيرهم من قِيَم أنفسهم؟ وإذن فتشاؤمه على السطح، يزول بزوال الغفلة من أفراد البشر كما عرفتهم حضارة اليوم. وأمَّا حين يغوص العقاد إلى سر الوجود فهو متفائل حتى في لقاء الموت:
رحم الله العقاد الفيلسوف الشاعر.