نظرة محايدة إلى قضية الشعر الحديث
المقصود بالشعر الحديث في هذه المقالة هو هذا الذي لا يزيد عمره على ستة عشر عامًا، إذ يجري عرف بين أصحابه أن أول غارس لأول بذرة من بذوره هو بدر شاكر السياب بديوانه «أزهار ذابلة» الذي أخرجه سنة ١٩٤٧م، وقد يذهب بعض هؤلاء إلى أن صاحبة البذرة الأولى هي نازك الملائكة بقصيدتها «الكوليرا» التي نشرتها سنة ١٩٤٧م كذلك، وإذن فلا اختلاف بينهم على مولد هذا الشعر الحديث من حيث التاريخ.
ولقد أَردتُ أن أسوق هذا التحديد في صدر المقالة حتى لا يختلط علينا الأمر؛ فلو أننا أطلقنا عبارة «الشعر الحديث» أو «الشعر الجديد» إطلاقًا بغير تحديد، لسأل سائلٌ بحق: لماذا قصرت الحديث على هذه الفترة الوجيزة مع أن التجديد في الشعر قد بدأ منذ البارودي؛ فمن ذا يستطيع أن يُؤرِّخ لشعرنا الحديث ولا يبدأ القصة من هذه البداية التي جاءت بغير شكٍّ حدًّا فاصلًا بين عهدَين؟ وحتى إذا اعترض معترضٌ بأن البارودي إنما جاء ناسجًا على منوال القدماء؛ بحيث لا يجوز إدراجه في زمرة المُجدِّدِين بمعنى التجديد الذي يتناول الأصول والجذور، استطعنا أن نُزحزح البداية قليلًا لنقف بها عند مطران الذي دعا إلى التجديد دعوةً صريحةً حين قال إننا إذا كنا نستعمل اللغة نفسها التي استعملها القدماء، فلن يكون معنى ذلك أننا نتصور الأمور على نحو ما تصوروها «وإن خُطَّة العرب في الشعر لا يجب أن تكون خطتنا، بل للعرب عصرهم ولنا عصرنا، ولهم أدبهم وأخلاقهم وحاجاتهم وعلومهم، ولنا آدابنا وأخلاقنا وعلومنا؛ ولهذا وجب أن يكون شعرنا مُمثلًا لتصوُّرنا وشعورنا لا لتصوُّرهم ولشعورهم، وإن كان مُفرغًا في قوالبهم محتذيًا مذاهبهم اللفظية» (من مقالٍ له نُشر في المجلة المصرية شهر يوليو سنة ١٩٠٠م).
وأنت تعرف أن قيود القافية في القصيدة العربية مرهقة، وكثيرًا ما وجدتها عقبةً في اطراد الفكرة. إن الفن ينضج في جوٍّ من الحرية، وهذه القيود الثقيلة، قيود القافية الواحدة والوزن الواحد تتعارض مع حرية الفن. على أن للقدماء طريقتهم فما لنا لا نحاول أن تكون لنا طريقتنا. وسأجتهد وُسْع الطاقة في أن أُدخل على القديم ما يُلحِقه بالتجديد؛ وعندئذٍ سأضع التجديد في الوزن والقافية والشكل وفي المعاني أيضًا.
لكن مطرانًا لم يبلُغ بالتجديد فعلًا ما قد تمناه له قولًا؛ فهو لا يَبعُد بشعره كثيرًا عن شوقي وحافظ والرصافي والزهاوي؛ فكل هؤلاء لم يبلغوا في محاولات التجديد الجوهر والصميم، حتى إذا ما جئنا إلى زمرة العقاد والمازني وشكري، ألفينا تجديدًا يضرب إلى الأعماق؛ لأن الشعر على أيديهم قد أصبح — لأول مرة في تاريخه — شعرَ تجربةٍ نفسية، ثم جاءت بعد ذلك جماعة أبولو فسارت شوطها في شعر التجربة النفسية، ولكن هؤلاء وأولئك — مهما بلغت ثورتهم الشعرية من حيث المضمون — فما يزال الإناء هو الإناء وإن تغيرت الخمر فيه.
حتى كانت هذه الحركة الأخيرة فأرادت في تجديدها أن تُلحِق الشكل بالمضمون، وأن تغير الإناء والخمر معًا، وهذه هي الحركة التي يقال إنها شهدت النور لأول مرة منذ ستة عشر عامًا (أي في سنة ١٩٤٧م)، والتي نقصر حديثنا هنا عليها وحدها، لا لأننا نعتقد أن الجِدة مقصورة عليها، بل لأننا لا نريد للحديث أن يتشعَّب في غير جدوى؛ ذلك أننا نقصد بهذه المقالة تقويمًا نقديًّا لهذه الموجة الأخيرة، سواء أكانت هي وحدها الحديثة أم شاركها في الحداثة سواها، على أننا نلاحظ أول ما نلاحظ، أنها أحدث عهدًا من أن يُستطاع لمعاصريها أن يُقوِّموها تقويمًا مضمون الثبات على مر الزمن؛ فكثيرة جدًّا هي الحركات الأدبية التي قال عنها معاصروها رأيًا، وإذا بالزمن بعد ذلك يُثبِت رأيًا آخر.
•••
وأول ما يستوقف النظر في الشعراء المحُدَثِين، هو إصرارهم على أن يستدبروا الماضي بصورةٍ قاطعةٍ، حتى لَيحرِصون على أَلَّا يُطلقوا على مؤلَّفاتهم الشعرية اسم «الدواوين» خشية أن تفوح من هذه التسمية رائحة القديم؛ فلئن كان فيما مضى يقال: ديوان المتنبي وديوان البارودي وديوان شوقي وهكذا؛ فهم اليوم يقولون — مثلًا — الناس في بلادي، مدينة بلا قلب، أنشودة المطر، البئر المهجورة … إلخ.
لقد كان — في الحق — محالًا أن يتغير الجو الثقافي في العالم كله كل هذا التغير الذي طرأ عليه في القرن العشرين بصفةٍ عامةٍ، وفي العشرات الأخيرة من السنين بوجهٍ خاصٍّ، دون أن يجد ذلك التغيُّر صداه فيما يقوله كل مُتكلِّم مُثقَّف، لا فرق بين شاعر وناثر؛ ذلك أن عواملَ كثيرةً — وفي مقدمتها الوثبة العلمية في المائة والخمسين عامًا الأخيرة، وهي وثبةٌ غيَّرَت من وجه الحياة ما لم تستطع أن تُغيِّره سبعة آلاف من الأعوام قبل ذلك — أقول إن عواملَ كثيرةً، وفي مقدمتها الوثبة العلمية قد أدَّت إلى هَزِّ قوائم الحياة الإنسانية هزًّا عنيفًا، كان من شأنها أن تغيَّرَت أوضاع الناس وأقدارهم، بعد أن ثبتت على صورةٍ واحدةٍ تقريبًا، ثباتًا أوهم كثيرِين أن تلك الأوضاع جزءٌ من الطبيعة التي لا قِبل للإنسان بتغييرها؛ فمن ذا كان يظن يومًا أن العجلة ستدور بحيث يرتفع العامل إلى مناصب الحكم التي كان يُظَن أنها حقٌّ إلهيٌّ يهبط على أصحابه من السماء؟ من ذا كان يَظُن أن العاملين بسواعدهم سيكونون أندادًا للعاملين بعقولهم، مع أن السواعد جسد والعقول روح، وبين الجسد والروح ما بينهما من بُعدٍ كبُعد الأرض عن السماء؟ من ذا كان يَظُن أن نظريةً في تطوُّر الأحياء ستُقرِّب بين الإنسان وبين أجداده الحيوان، حتى لَيصبح الإنسان — كأجداده — مُسيَّرًا في حياته بغريزته بعد أن كان معدودًا كائنًا متميزًا وحده بالعقل؟ من ذا كان يظن أن نظريةً في نسبية الحقائق ستقلب الفكرة العلمية عن الطبيعة قلبًا سرعان ما انتهى إلى تحطيم الذرة، فإلى بناء الصواريخ، فإلى غزو الفضاء الكوني الفسيح، حتى لَيجوز اليوم أن نقول للإنسان ما قاله أبو العلاء:
نعم انتهى الإنسان إلى هذا الموقف الذي لم يقف موقفًا شبيهًا به في آلاف الأعوام الماضية، وهو أن يرى الكون الفسيح قد أوشك أن يضع في يده أطراف الزمام، ومع هذه القوة الجبارة التي أَوشَكَت أن تُسلم له قيادها؛ فما زال هو هو الإنسان اللاعاقل الضعيف المُتقاتِل على التوافِه، المُتناحِر على الأشلاء والجيف، ما زال هو هو الإنسان الذي يفتك قَوِيُّه بضعيفه، والذي يَتضوَّر منه الملايين جوعًا لينعم الأَقلُّون، والذي يُفاضل بين بَشرة وبَشرة، وعقيدة وعقيدة، وسُلالة وسلالة، كأنما هو ما يزال في أول الطريق يحبو.
نقول إنه كان محالًا أن يتغير الجو الثقافي كل هذا التغيُّر، وأن يظل الإنسان في محنته الأزلية من ضعف وتشويه وشر وخبث، ثم لا ينطق الشعراء بما في أعماقهم من قلقٍ لهذا الوضع الشاذ العجيب، وبما يشعرون به في أنفسهم من غربة وتوحُّد وحرمان واضطهاد، فلا عجب أن جاء الشعر الحديث كله ورنين اليأس يسري في نيرانه ونغماته.
إن من شأن الفكر الفلسفي دائمًا أن يُناصِر الأدب في التعبير عما يضطرب في دخائل النفوس، كلٌّ بطريقته وأسلوبه، وهذا هو ما حدث في أوروبا؛ إذ نرى قسطًا كبيرًا من الفكر الفلسفي منصرفًا به أصحابه إلى التعبير عن أسف الإنسان الحديث وحسرته على هذا التناقُض الشاذِّ بين قوة الإنسان وضعفه، بين تفوُّقه وخِذلَانِه، بين نصره وهزيمته. وأمَّا في البلاد الناطقة بالعربية فلم تَضطِلع الفلسفة بِقِسْطها في ذلك، وكان على الشعراء وحدهم أن يحملوا العبء دون سواهم، ولعل ذلك هو ما قَصدَت إليه سلمى الخضراء حين قالت نيابةً عن الشعراء المُحدَثِين جميعًا: قد حملنا العبء الكبير.
الحزن العميق الصادق لِمَا أصاب الإنسان في حياته الحديثة من حَيرةٍ واضطرابٍ وشدٍّ وجذب، تراه سائدًا عند شعراء الموجة الأخيرة فيما يسمونه بالشعر الحديث، فهذا صلاح عبد الصبور يقول: «فالحُزنُ قد قَهرَ القِلاعَ جَميعهَا وسَبى الكُنوز.» ويقول: «إنه حُزنٌ طويل كالطريقِ مِن الجحيمِ إلى الجحيم.» ألا إن حياتنا الحديثة في عصرنا هذا القائم، بكل ما فيه من علاماتٍ تكشف عن قوة الإنسان وجبروته، لَحياةٌ تُوحي كذلك بما يبعث في النفوس عوامل التشكُّك في حسن المصير، ولا عجب بعد هذا أن تلمح في شعر الشعراء المُحدَثِين ما يعكس وَهَن الإيمان في القلوب؛ فقوة العقيدة تنبع من التفاؤُل بآخرة الإنسان، وأما وهذه الآخرة قد زَعزَعَتها عوامل العلم والسياسة في عصرنا، فقِيَم الإيمان بعقيدة إن صَلحَت للنفس المطمئنة الراضية فهي لا تصلح للنفس القلقة اليائسة، يقول يوسف الخال: «أخاف أن تكون هذه الهُنَيْهة التي نعيشها هي الحياة كلها.» وتتساءل سلمى الخضراء الجيوسي قائلةً إذا حل موعد القَدَر «فَمَا الَّذِي تُجْدِي الْقَرَابِينُ وَبَاقَاتُ الزَّهَر؟» ومثل هذا المزيج من الحزن والقلق والتشكُّك في حسن المصير، تراه عند ملك عبد العزيز التي تُوشك أن ترى كل شيء عبثًا في عبث: «لَيتَ أَنَّا ما سَكَتنا، لَيتَ أَنَّا ما نَطَقنا، كلما يومًا قَعَدْنا، كلما يومًا مَشَيْنا، كلما يومًا رَضِينَا، كلما يومًا أَبَيْنا، كلما يَوْمًا طَرَحْنا، كلما يومًا أَخَذْنا، كلما يومًا رَفَضْنا، كلما يومًا أَرَدْنا، عَاثتِ الكِلْمةُ فِي أرواحنا حَفْرًا وهَدْمًا.»
الشاعر من هؤلاء الشعراء المُحدَثِين ساخطٌ بإزاء هذا العبث الذي يصيب الإنسان على يد القَدَر الغشوم — ولا فرق بين أن يكون القدر صاعدًا من الأرض أو هابطًا من السماء — ولذلك فهو يقف من كل شيءٍ موقف الرفض الحاسم؛ رفض العالم القديم بكل ما فيه من جبروت العلم وطغيان السياسة وإن هذا الرفض اليائس ليبدو حتى في عنوان المجموعة الشعرية عند شاعرٍ مثل أنسي الحاج في مجموعته التي أسماها «لن».
إنه ليبدو لي أن الشعراء المُحدَثِين قد وُفِّقوا في القبض على حقيقة الشعور الإنساني اليوم بإزاء الدنيا المعاصرة وأحداثها وضواغطها وكوارثها، كما وُفِّقوا في تجسيد كثيرٍ من القيم الشعرية التي أجمع عليها البصيرون بأسرار فن الشعر، كالوحدة العضوية بكل معناها، وكالتعبير بالصور تعبيرًا غير مباشر عما يُراد الإيحاء به من المعاني دون التصريح الوعظي المُباشِر السخيف، وكتشخيص الحقائق الكونية العامة في خبراتٍ نفسيةٍ جزئيةٍ مُحدَّدة؛ هي الخبرات التي تمر بتجربة الشاعر نفسه دون ملق أو كذب أو رياء، وإنها لصفاتٌ كانت تنقص عددًا كبيرًا ممن كانوا ينظمون الشعر على منوال التقليد، ولكن نقطة هامة لا بد هنا من إبرازها بكل وضوح، وهي أن في هؤلاء الشعراء المُحدَثِين من هم صادقون في التعبير عن تجربتهم الحية، ومنهم المُقلِّدون الكاذبون، كما أن من التقليديِّين من صدقوا التعبير عن تجربتهم الحية ومنهم المُقلِّدون الكاذبون كذلك. وإذن فليس الأمر هنا أمر مُحدَث وتقليدي، ولكنه أمر شاعرٍ صادقٍ ومقلدٍ كاذبٍ في كلتا الطائفتَين. أقول هذا لأن من المُحدَثِين من يقول إنهم جاءوا ليثوروا على فراغ الشعر التقليدي من التجربة الإنسانية الملائمة لظروف العصر الجديد، كأنما الفراغ كل الفراغ في الشعر التقليدي وحده، والملاء كل الملاء في الشعر الحديث وحده.
على أنه لا مِراءَ في أن المُحدَثِين قد برع منهم نفرٌ في استخدام الرمز واستخدام الأسطورة بما لم يُتَحْ لأحدٍ من التقليديِّين. وإن شِئتَ فانظر إلى شعر الشاعر العراقي بدر شاكر السياب في ديوانه أنشودة المطر.
•••
إلى هنا وأحسبني قد وفَّيتُ الشعر الحديث بعض حقه في الإشادة بحسناته، لكنه — كأي شيء في هذه الدنيا الناقصة — قد أَعوزَته جوانبُ كثيرةٌ، وبخاصةٍ عند غير الممتازِين من الشعراء المُحدَثِين؛ فكثيرًا ما يوغلون في الإيحائية إلى حد الغموض المُغلَق الذي لا يُوحي بشيءٍ على الإطلاق، وكثيرًا ما يُسرِفون في التشاؤم واليأس إلى حد الإغراق الذي لا يُصدِّقه أحد؛ فلا ترى عندهم إلا الخراب والموت والفساد والوحل والحُطام والعفن والانهيار والمرض والشلل والضياع والبيوت المهجورة؛ فهل هذا السواد القاتم كله هو ما نُحِسُّه حقًّا بإزاء حياتنا المعاصرة، لا سيما حياتنا نحن العرب، وهي الحياة التي تُشيع الأمل في أنفس الناس جميعًا؛ فهي إن كانت حياةً كسيحةً اليوم فلنا كل الأمل في أن تستقيم وتنشط غدًا.
كلا! إنها مغالاةٌ كاذبةٌ من شعرائنا المُحدَثِين، فإذا أَضَفتَ إلى الغموض المعيب والكذب على أنفسهم وعلينا. أقول إذا أضفتَ إلى هذَين الجانبَين جانبًا ثالثًا، هو عندي أهم جوانب النقص جميعًا، وأعني به ضعف البناء اللفظي، كانت لك بذلك عيوبٌ ثلاثةٌ لا أرى كيف يمكن أن تُتِيح للمصاب بها طول البقاء؟ فمن ذا الذي يماري في أن الشعر هو قبل كل شيء فنٌّ لفظي، يستخدم الألفاظ لذواتها قبل أن يستخدمها لما تعنيه؟ فإذا فات الشاعر أن يصوغ وعاء اللفظ فلن يبقى له الكثير من فنه حتى إذا بقي له أغزر مضمون شعوري وأخصبه. وأين نصب الخمر إذا لم تكن كأس؟ وأين نُشيع الحياة إذا لم يكن بدن؟ وأين يتبدَّى الخالق إذا لم يكن كونٌ منظورٌ مسموع؟ وقل هذا وأكثر منه في فن الشعر، فإذا لم يكن لفظٌ بارعٌ جيدٌ مختار، فلا شعر مهما يكن من أمر الخصائص الأخرى.
إنه ليس من قبيل المصادفات العمياء ألَّا تجد حتى من الشعراء المُحدَثِين أنفسهم من يحفظ شعر نفسه؛ لأنه شعرٌ فقد الشكل الذي يُغري بحفظه. إنك تحفظ التحفة المحكمة الدقيقة ولا تحفظ حفنةً من الرمال سائبةً، وفي هذا يقول أحد المُدافِعِين عن الشعر الحديث بغير تحفُّظ: إن جوهر الشعر الحديث ليس في أن تحفظه الذاكرة ولا في أن تَطرَب له الأذن. ونحن نُجيبه بأن الدنيا بأَسْرها لم تشهد شاعرًا نظم ما نظم وكل همه أن يجيء شعره مما يسهل حفظه لحسن وقعه على السمع، ولكن هذه خصيصةٌ تجيء نتيجةً حتميةً لتوافُر شرطٍ آخرَ هو الشرط الجوهري للشعر ولكل فنٍّ آخر، وأعني به شرط الصياغة الشكلية.
يقولون إن القصيدة القديمة قائمةٌ على الوزن الخارجي، وأما القصيدة الحديثة فقائمة على الإيقاع الداخلي. ونقول: إن حياة الكائن الحي — كل كائنٍ حيٍّ — قائمةٌ على الإيقاع الداخلي، ولكن ذلك لم يمنع أن يُصاغ الشكل الخارجي أيضًا «فِي أَحْسَنِ تَقْوِيم.» كما جاء في القرآن الكريم عن خَلْق الإنسان، أهناك تعارض؛ فإمَّا إيقاعٌ داخليٌّ وإمَّا وزنٌ خارجيٌّ؟ أهو مستحيل عند العقل أن يجتمع الجانبان معًا؟ كلا ليس ذلك مستحيلًا، بل إنه هو الذي حدث في كل قصيدةٍ من الشعر الجيد في كل آداب العالم جميعًا.
وخُلاصة الرأي عندي هي نفسها الخُلاصة التي خَتَمتُ بها مقالةً نشرتها ذات يوم عن شعر أحمد عبد المعطي حجازي، قلت فيها: أما بعدُ فوا خَسَارتاه! وا خَسارةَ هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب هكذا كما ينسكب السائل على الأرض فينداح، وتسيل أطرافه هنا وهناك، دون أن يجد القالَب الذي يضمه بجدرانه فيصونه إلى الأجيال الآتية ليقول الناس عندئذٍ: «هناك كان شاعرٌ تَكلَّم عن ذات نفسه فجاءت عباراته تعبيرًا عن قومه وعن عصره.»