وحدة التفكير
مشكلةٌ صادفتها الفلسفة في كل عصورها، وعلى أَيدِي رجالها أجمعِين. وهي مشكلةٌ قد تبدو بعيدةً عن أرض الواقع، مع أنها — شأن سائر المشكلات الفلسفية — بهذه الأرض لصيقة اللمسة عميقة الجذور، وأعني بها مشكلة الوحدة التي تضم في طيتها كثرةً كثيرة الأجزاء والعناصر؛ فما من شيء حولك إلا وهو كثرةٌ في وحدة؛ هذه المنضدة التي أمامي هي أجزاء صغرى تراكَمَت، وحالاتٌ كثيرةٌ تعاقَبَت حالة في إثر حالة، أو تعاصَرَت حالة إلى جوار حالة، وهذا النهر المتدفق بمياهه ما زال منذ أبعد العصور مُتجدِّد الماء، تَتجمَّع فيه قطَرات المطر ملايينَ ملايين، ثم تنساب تيارًا واحدًا يَندفِق في البحر ليتصل السير والجريان، وأنت وأنا وكل كائنٍ حيٍّ من نبات وحيوان، كتلة جَمعَت من الأجزاء ما لا يكاد العدد يُحصيه، لكن المنضدة التي أمامي «واحدة» والنهر العتيد «واحد» وأنت وأنا وكل كائنٍ حيٍّ كيانٌ «واحد». ولقد تمضي عنك هذه الحقيقة لا تأبه لها، حتى يجيئك فيلسوفٌ يُنبِّهك إلى أن «واحدية الكثرة» مشكلة تريد النظر والتفسير، فكيف ترتبط كثرة الأجزاء والعناصر في كيانٍ واحد؟
والأمر في هذه المشكلة كالأمر في سائر المشكلات الفلسفية، من حيث اختلاف الرأي وتَعدُّد الحلول. وحسبنا هنا أن نَذكُر اتجاهَين رئيسيَّين شائعَين يقسمان الفلاسفة مجموعتَين؛ فاتجاهٌ منهما — وهو أكثر من الآخر شيوعًا — يرى أصحابُه أن لا مناص من افتراض وجود كائنٍ يخفى على البصر، ويكمن وراء الظواهر الكثيرة في الشيء الواحد، هو الذي — بواحديته وثباته — يخلع الواحدية على الشيء مهما كثُرت ظواهره. ويُطلِق الفلاسفة على هذا الكائن المختبئ وراء الظواهر البادية اسم «الجوهر». ولا فرق في ذلك بين شيء وشيء؛ فلئن كنا نعتقد أن الفرد الواحد من بني الإنسان، يكمن في جوفه «رُوحٌ» هو الذي يجعله فردًا واحدًا منذ ولادته وإلى أن يموت، برغم كثرة أجزائه وكثرة حالاته وتعدُّد مراحله التي يجتازها في نموه وذبوله، فقد لزم علينا أن ننظر النظرة نفسها إلى كل شيءٍ آخرَ فيه واحديةٌ تجمع ظواهره الكثيرة في كِيان. وإنه ليجوز لك في هذه الحالة — بعد أن تجعل لكل شيءٍ جوهرًا يضم أشتاته — يجوز لك في هذه الحالة أن تُفاضِل بين جوهرٍ وجوهر، أو ألَّا تفاضل، لكنك في كلتا الحالتَين قد اختَرتَ لنفسك طريقة الحل في مشكلة الوحدة التي تضم في ردائها كثرة.
وأمَّا الاتجاه الثاني في حل المشكلة، فهو ألَّا نفرض وجود كائنٍ غيبيٍّ وراء الظواهر الكثيرة ونحاول أن نَرُدَّ الواحدية التي تجعل من الأجزاء الكثيرة شيئًا واحدًا، إلى شبكة العلاقات التي تربط تلك الأجزاء بعضها ببعض؛ فحتى لو تشابَهَت الأجزاء الصغيرة وتجانَسَت، فهي من كثرة العدد بحيث نستطيع أن نتصور — على أساسٍ رياضيٍّ — ملايين التشكيلات المُمكِنة التي يجوز لتلك الأجزاء أن تتشكَّل بها.
•••
وسواءٌ أأخذت بفكرة الجوهر أو بفكرة العلاقات في تفسيرك لواحدية الشيء الواحد، فالأمر الذي يهمنا هو أنك — لا بد — باحثٌ عن وحدةٍ تضم الأشتات فيما تظنه كيانًا واحدًا، ليس لك في ذلك اختيار؛ فمن الوجهة العملية لا تستطيع أن تستخدم الأشياء وأن تنتفع بها إلا إذا تناولتَها من حيث هي وحدات، غاضًّا بصرك عما تحتويه تلك الوحدات من أجزاءٍ تدخل في تركيبها؛ فالمناضد والمقاعد والكتب والأوراق والأقلام والأشجار وأفراد الناس والمدن والقرى والأنهار والبحار إلخ لا مناص من النظر إليها — في العمل والتعامُل — على أنها وحدات؛ تقول — مثلًا — إنني أعيش في «القاهرة» ولا تبالي أن يكون هذا الاسم مُطلَقًا على مجموعةٍ كبرى من العناصر والأفراد، يدخلها كل ساعة أُلوفُ الناس ويخرج منها ألوف، وتُبنى بها بيوت وتُهدم فيها بيوت، لكنها في العمل والتعامُل قاهرةٌ واحدةٌ. ومن الوجهة النفسية لا تستطيع إلا أن تنظر إلى نفسك بكل ما فيها من أُلوف الخبرات والتجارب على أنها نفسٌ واحدة، ثم تعود فتخلع واحديةَ نفسِك هذه على سائر الأشياء، بل قد تخلع واحدية نفسك هذه على الكون كله فتجعله كونًا واحدًا على غرار ما تُحسه في نفسك من واحديةٍ تضم حالات الخبرة والتجربة في تيارٍ واحد. ومن الوجهة المنطقية لا تستطيع أن تتحدث إلى سواك بجملةٍ واحدةٍ إلا إذا صُغت كلماتك على نحوٍ يوهم بواحدية الأشياء؛ تقول — مثلًا — قابَلتُ أخي وكتَبتُ مقالًا، وتناوَلتُ الغداء، وفي كل جملةٍ من هذه الأقوال توحيدٌ لما هو مُكوَّن من أجزاءٍ كثيرة. ولو وقَفتَ لِتُحلِّل كل وحدة إلى أجزائها قبل أن تنطق لتتفاهم، لما نَطَقتَ بجملةٍ واحدةٍ لمن تريد أن تتحدث إليه،. ومن الوجهة الأخلاقية لا يُتاح لنا أن نحاسب الناس على أعمالهم إلا إذا فرضنا في كل فردٍ منهم واحديةً تجعل إنسان اليوم هو نفسه إنسان الأمس، وإلَّا لما تحمل إنسان اليوم تبعة الفعل الذي أتاه بالأمس،. ومن الوجهة الجمالية مُحالٌ أن ينشأ في الأثر الفني جمالٌ ما لم نلتمس في أجزائه وحدةً تجعل منه كيانًا واحدًا،. ومن الوجهة السياسية لا يستقيم أمرٌ إلا إذا سَلكَت مجموعة من الأفراد في أمةٍ واحدة. وقد تتداخل الوحدات السياسية؛ فما هو كلٌّ هنا قد يكون جزءًا هناك؛ فالفرد الواحد كُلٌّ من أجزاء، لكنه يعود فيكون جزءًا واحدًا من كُلٍّ أعمَّ وأشمل هو الأمة، والأمة الواحدة التي هي مجموع أفرادٍ تعود فتصبح عضوًا واحدًا في وحدةٍ سياسيةٍ أعم وأشمل وهَلُم جَرًّا.
•••
ومن أنواع الوحدة التي نُوحِّد بها الأشتات لتستقيم لنا الحياة، وحدة التفكير التي نلتمسها عند الشخص الواحد أو عند الأمة الواحدة، لنربط بها وحداتٍ فكريةً صغرى تتفرق في موضوعاتها وفي وجهات النظر إلى تلك الموضوعات، لكنها على تَفرُّقها وتبايُنها تنضم برباط لتكون حياةً فكريةً واحدة، وإلَّا لما تكامَلَت لأحدٍ شخصيته الفريدة التي تُميِّزه من سائر الأفراد ولا تكامَلَت لأمةٍ خصائصها التي تُفرِدها بين سائر الأمم.
وسر الوحدة الفكرية — فيما نرى — هو في غلبة أهدافٍ على أهداف؛ فالإنسان كائنٌ عضويٌّ هادف، يُوجِّه نشاطه الحيوي نحو غاياتٍ بعينها، تصبح هي الخيوط الرابطة لأَوجُه النشاط على اختلافها. فإذا وضعنا المعنى الذي نُريده في جملةٍ مركزة، مختصرة، قلنا إن وحدة التفكير هي في وحدة الهدف، وإن ذلك لَيَصدُق بالنسبة للفرد الواحد كما يصدق بالنسبة للأمة الواحدة. فإذا تعددت الأهداف تَعدُّد النقائض، بحيث أراد الشخص الواحد شيئَين نقيضَين فقد وقع في تفكُّكٍ وتمزق، يريد بعضه شيئًا ويُريد بعضه الآخر شيئًا آخر، وليس ذلك بالنادر الحدوث؛ فما أكثر ما يُريد الشخص أن يأكل الفطيرة وأن يظل محتفظًا بها في آنٍ واحد — كما يقولون — لكنها تُعَد حالةً مَرضيةً أن تتوزع النفس بين النقائض. وطريقة الشفاء إنما تكون في أن يعرف المرء حقيقة نفسه ليعلم أي النقيضَين يريد.
نقول إن سر الوحدة الفكرية هو في غلبة أهداف على أهداف، أو بعبارة أخرى هو في تركيز الانتباه في غاياتٍ معينةٍ وإقصاء ما يناقضها أو ما يعوقها عن مجال النظر. وبغير تركيز الانتباه في هدف محدد، يَتعذَّر — بل يستحيل — على الإنسان أن يختار من مختلف العناصر التي تعرض له في حياته ما يخدم الغرض المنشود؛ إذ كيف أختار الوسائل إلا إذا سبقَت عندي الغاية التي أتوسل إلى بلوغها بهذا أو بذاك من العناصر التي تعرض لي في الطريق؟ ولا تناقُض في أن ينشُد الفرد الواحد سلسلةً من الغايات يأتي بعضها في إِثرِ بعض؛ فكلما حقق إحداها جعلها وسيلةً لما بعدها.
فإذا سُئلنا: متى تتوافر «للفردية» شُروطُها — سواءٌ كانت فردية إنسانٍ واحدٍ أو مجموعة أناسي في أمةٍ واحدةٍ فريدة — أجبنا بأن أهم هذه الشروط التي تجعل من الفرد فردًا هو أن يستهدف غايةً معينةً واحدةً في الوقت الواحد؛ فلسنا نعني بقولنا عن كائن إنه كائنٌ عضويٌّ واحد، إلَّا أن في سلوكه توافقًا بين الأجزاء يُمكِّنه من أن يُركِّز كيانه كله جملةً واحدةً في شيءٍ واحدٍ في الوقت الواحد. إن الكائن العضوي وهو ينشط بعملٍ معين، لا يرى من نفسه إلَّا فعلًا، دون النظر إلى الأعضاء المتفرقة التي تتعاون في أداء هذا الفعل. خذ نفسك وأنت تنظر إلى شيءٍ ما، فأنت لا تعي عندئذٍ إلا فعل الرؤية، دون أن تُدرك شيئًا من العين التي ترى، بل الكيان العضوي كله الذي هو أنت حين تنظر لترى؛ فليس في وعي الفاعل وهو يُؤدِّي الفعل إلا حالة الانتباه إلى هدفٍ مقصود. وقد نستعين بعد ذلك بالتحليل العقلي لنعلم أن الانتباه الصرف هو الجانب الذاتي من مجمل الموقف، وأن الشيء الذي نصب عليه انتباهنا هو الجانب الموضوعي. أما لحظة الفعل فالموقف واحد؛ لأن الفاعل وفعله شيءٌ واحد.
الْحَظِ الفاعل المُنتبِه إلى موضوع فعله تجِدْه قد اتخذ لجسده وضعًا يُلائم الفعل المقصود؛ بحيث يجعل من الجسد كله أداةً واحدة، حتى لَيَسهُل عليك أن تنظر إلى شخصٍ وتقول: إنه مستغرق في حالة من الرؤية أو من الإنصات أو من التأمُّل؛ وذلك لأنك ترى من وضعه البدني ما يدلك على التركيز في هذا أو ذاك، وبغير هذا التركيز يتعذر الانتقاء والاختيار لما هو في صالح الموقف الذي يكون عندئذٍ مدار الانتباه. والانتقاء أو الاختيار إنما يتم بجانبَيه الإيجابي والسلبي في آنٍ واحد؛ فالشخص المنتقي لهذا هو في الوقت نفسه مُجتنبٌ لذاك؛ فالشاخص ببصره إلى شيءٍ يُمعِن فيه النظر، تفوته رؤية بقية الأشياء، والمُصيخُ بأذنه إلى شيءٍ يستمع إليه، يفوته سمع بقية الأصوات، وهذا التفويت ضروري ضرورة العنصر المختار، وإلَّا فقد تختلف العناصر المواتية وغير المواتية فيضطرب الأمر على الفاعل اضطرابًا يشل قدرته على الأداء الناجح. وإنه لَسرٌّ للحياة عجيبٌ أن يستجمع كل عضو من أعضاء الإدراك بقية الكائن العضوي ليُركِّزه بأجمعه فيما يبتغي. إنك إذ تستغرق في سمع، تتعطل الرؤية أو تكاد، وإذ تستغرق في رؤية يتعطل السمع أو يكاد. والاستغراق في فعلٍ معين كالاستغراق في فكرةٍ معينة، كلاهما يستقطب الكيان العضوي كله بحيث لا يترك شيئًا منه إلى سواه. وهل تستطيع — مثلًا — أن تنوء بحملٍ ثقيلٍ ثم تُركِّز فكرك — في الوقت نفسه — في مسألةٍ تريد حلها؟ أو هل تستطيع أن تُدقِّق النظر في كتابةٍ صغيرة الأحرف، وأنت تجري أو تقفز؟ كلا إنك لا تستطيع ذلك، لضرورة أن يتركز الكيان العضوي كله في عملٍ واحدٍ في الوقت الواحد (ما لم يكن العمل آليًّا لا يسترعي من صاحبه الانتباه).
وخلاصة القول هي أن وحدة التفكير لا تتحقق إلا بوحدة الهدف؛ لأن هذا الهدف الواحد يقتضي بدوره أن نختار ما يُوصل إليه وأن نجتنب ما يحول دون بلوغه. وفي وحدانية الهدف يكون الانتباه المُركز، الذي بغيره لا تتوحد الشخصية الإنسانية في كيانٍ عضويٍّ واحد. وإن في قولنا عن شخص ما إنه مُشتَّت الانتباه مُقسَّم الجهود لَقولًا بأنه مُوزَّع النفس مُفكَّك الأوصال مفقود الوحدة مُتهافِت البنيان.
•••
وحدة التفكير هي التي تجعل من الفرد الواحد فردًا ومن الأمة الواحدة أمة، ومن العصر الواحد من عصور التاريخ عصرًا؛ فلولا أن أبناء العصر الواحد يلتقون عند مشكلاتٍ معينةٍ يُحاوِلون حلها، وعند أسئلة معينة يحاولون الإجابة عنها، لما وَجَد العصر ما يُميِّزه من سوابقه ولواحقه، وإلَّا فعلى أي أساسٍ نقول عصر اليونان الأقدمِين والعصر الوسيط وعصر النهضة وعصر التنوير إذا لم يكن ذلك على أساس أمهات المَسائل التي عندها اجتَمعَت جهود المُفكِّرِين، فلما حُلَّت المسائل أو استُنفِدَت فيها قدرات المُفكِّرِين، دون أن تُحل، ثم نَشأَت مسائلُ أخرى تسترعي الانتباه، كان ذلك بمثابة زوال عصرٍ وحلول عصرٍ جديد. إن الذي يتغير في تاريخ الفكر عصرًا بعد عصر ليس هو درجة الذكاء البشري بحيث نقول عن الأقدمِين إنهم أقل ذكاءً من الحاضرِين، بل الذي يتغير هو النقطة التي يَتركَّز فيها الانتباه لكونها هي المشكلة القائمة التي تتطلب من القادرِين حلًّا. فإذا كان الأقدمون قد صرفوا انتباههم إلى العلم الرياضي حتى أنتجوا هندسة إقليدس ومنطق أرسطو، ثم إذا كان المُحدَثون قد أَولَوا العلم الطبيعي عنايتهم حتى كشفوا عن الذرة وحطَّموها فبنَوا الصواريخ وأخذوا في غزو الفضاء، فإن الفرق بين الحالتَين هو في موضوع الاهتمام لا في درجة القُدرة الفكرية. وموضوع الاهتمام هو بمثابة الهدف الواحد في العصر الواحد، وتركيز الانتباه فيه هو بمثابة التفكير المُوحَّد الذي يكسب العصر لونه وطابعه ومناخه العام؛ فليس المناخ الفكري في القرن السابع — عند المُسلمِين الأوائل — شبيهًا به في القرنَين التاسع والعاشر؛ فبينما كانت مسائل الكفر والإيمان وحق الإمامة سائدة في الحالة الأولى، أصبَحَت مسائل الفلسفة والعلم سائدةً في الحالة الثانية، وليست هاتان الحالتان معًا بشبيهتَين من حيث اللون الثقافي الغالب بالمناخ الفكري في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، حين خُشِي على الثقافة الإسلامية من الضياع نتيجةً لغزو التتار في الشرق وسقوط إسبانيا في أيدي المسيحية في الغرب؛ فما لَبِث اهتمام الباحثِين والمُفكِّرِين أن تعلَّق بإنشاء الموسوعات والقواميس التي تجمع الثقافة الإسلامية وتصونها من عوامل الهدم والتخريب.
وإن عصرنا الراهن لقائمٌ ماثلٌ أمام أعيننا شاهدًا على أن العصر إنما يتميز من سابقه بمشكلاته الخاصة التي تجتذب انتباه المُفكِّرِين، وتجمع جهودهم وتُوحِّد اهتمامهم، فيكون للعصر بهذا كله طابعه الفريد؛ فلم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرًا أطل على الناس بقوته الذرية الجبارة الماردة التي إمَّا أن تُميت الإنسانية وإما أن تفتح لها أبواب حياةٍ جديدةٍ لا عهد للناس بمثلها من قبلُ. ولم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرًا دق فيه الإنسان أبواب الفضاء بما ينطوي ذلك عليه من نتائجَ الله وحده أعلم بمداها. لقد كان يُحاضرنا في التاريخ ونحن طلابٌ أستاذٌ صادقُ الحس نافذُ البصيرة فقال لنا ذات يوم وهو يُحاضرنا عن رحلة كولمبس في كشف أمريكا: إنها جاءت رحلةً ذات نتائجَ خطيرةٍ لم تظهر كلها بعدُ، وكان بذلك يرمي إلى ما قد تُغيِّره الحضارة العلمية العملية الأمريكية من أسس الحضارة الإنسانية. فإذا صدق قولٌ كهذا على رحلةٍ كهذه كل ما صنَعَته هو أن عبَرَت المحيط من يابس إلى يابس، فإنه يصدق ألفَ ألفِ مرةٍ على رحلةٍ أخرى يخرج بها الراحلون عن نطاق الأرض كلها ليَدنوا من أفلاك السماء. ونحسب كذلك أن لم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرًا انشق فيه الرأي على نُظُم الحكم كيف تكون كما انشق عليها الرأي اليوم. ثم لم يشهد التاريخ قبل هذا العصر عصرًا اهتز بالثورات أشكالًا وألوانًا؛ فقد كانت خلافات الملوك — ولا أقول الشعوب — تُحل قديمًا بالحروب. وأمَّا اليوم فالخلافات قائمةٌ لا بين ملوك وملوك، بل هي قائمة بين طبقةٍ وطبقة وحضارةٍ وحضارة؛ ولذلك فإنها تُحَل بثورات الشعوب على شتى أنواع الفوارق. وهكذا وهكذا تستطيع أن تَلتمِس ملامح عصرنا التي ما يَنفكُّ فلاسفة العصر وأدباؤه يلتمسونها فيما يكتبون ويُذيعون.
•••
نريد أن ننتهي من هذا كله إلى سلسلةٍ من الحقائق يترتب بعضها على بعض؛ فأُولى الحقائق هنا أن كل فردٍ في هذا الوجود هو كثرة في وحدة. ويترتب على هذه الحقيقة حقيقةٌ ثانيةٌ وهي أن الرباط الذي يربط الكثرة في وحدةٍ واحدةٍ هو — فيما نرى — تركيز الكائن الواحد اهتمامه وانتباهه في هدفٍ واحد. وعن هذه الحقيقة الثانية، تتفرع نتيجة، هي أن الطابع المميز لأي كِيانٍ قائمٍ بذاته هو الهدف الذي يصب عليه اهتمامه وانتباهه، يَصدُق هذا على الأفراد وعلى الأمم وعلى عصور التاريخ.
وفي ضوء هذا الذي ذكرناه نزداد فهمًا لما نُردِّده بألسنتنا وبقلوبنا عن عقيدة وإيمان من أن الوحدة العربية صورتها وحدة الهدف (الباب التاسع من الميثاق) ووحدة الهدف هي وحدة التفكير، ووحدة التفكير هي في أن يتجه كل الانتباه وكل الاهتمام إلى المشكلات المشتركة؛ فلئن اختلفت الظروف السياسية في أجزاء الأمة العربية اختلافًا جعل الثورة السياسية في جزءٍ مختلفةً عنها في جزءٍ آخر؛ إذ ربما كانت ثورةً على مستعمرٍ هنا وثورةً على حاكمٍ مستبدٍّ من أهل البلاد نفسها هناك، فإن الظروف الاجتماعية في سائر أجزاء الأمة العربية سواء؛ لذلك كانت الثورة الاجتماعية — بعد مرحلة الثورة السياسية — هدفًا مشتركًا، يتطلب تفكيرًا مشتركًا مُوحدًا.
إن وجود الوحدة العربية — مجرد وجود — أمرٌ لا اختلاف عليه، «ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة اللغة التي تصنع وحدة الفكر والعقل. ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة التاريخ التي تصنع وحدة الضمير والوجدان. ويكفي أن الأمة العربية تملك وحدة الأمل التي تصنع وحدة المستقبل والمصير» (الميثاق).
ولكن الذي يُريد التحليل والتوضيح هو تحديد المشكلة التي نجعلها مدار الفكر والعمل، ونجعل حلها هدفنا الأخير. وإنه لهدفٌ يساعد على الوصول إليه «وضوح المسائل التي لا بد من تحديدها تحديدًا قاطعًا ومُلزِمًا في هذه المرحلة من النضال العربي» (الميثاق).
إن ثَمَّةَ موازاةً بين تكوين الفرد وتكوين المجتمع، حتى لَنقول عنهما إنهما جملةٌ واحدةٌ كُتبَت في الفرد بأحرفٍ صغيرةٍ وكُتبَت هي نفسها في المجتمع بأحرفٍ كبيرة. وإنك لتستطيع أن تفهم الفرد على غرار ما تراه في تكوين المجتمع، كما تفهم المجتمع على غرار ما تراه في تكوين الفرد، ويتوقف أمر الأسبقية على نوع المشكلة المعروضة. وقديمًا فهم أفلاطون — في جمهوريته — معنى العدل في الفرد الواحد على ضوء فهمه لمعنى العدل في المجتمع؛ لأن هذا المعنى أوضح في العلاقات بين أبناء المجتمع منه في العلاقات الداخلية الكائنة بين مُقوِّمات الفرد الواحد، لكننا هنا نعكس الوضع لنفهم الجماعة على ضوء فهمنا للفرد الواحد. ولك أن تسأل نفسك: ما الذي يجعل مني فردًا متكامل التكوين مُوحَّد الشخصية؟ لتجد أن الجواب هو ما أسلفناه لك في تحليلٍ مستفيض، وهو أن الذي يجعلك كذلك وحدة الهدف وما تستتبعه بالضرورة من وحدة التفكير. وإذن فعلى هذا الأساس نفسه يكون الجواب على من يسأل — إذا كان هناك من يسأل — ما الذي يجعل من الأمة العربية أمةً واحدةً متكاملة التكوين مُوحَّدة الشخصية؟ إذ الجواب هنا أيضًا هو: أن الذي يجعلها كذلك هو وَحدَة الهدف وما تستتبعه بالضرورة من وَحدَة التفكير.