الجزء الأول
جاء ليفار من أجل العشاء. وذكر بيرتي أن جميع الحيتان مصابةٌ بداء الزُّهري.
في المساء، عُدنا إلى حانة هاري، حيث أمتعَنا مضيِّفنا بمشروب مكوَّن من الشمبانيا وبراندي الكرز. قال لي هاري على انفراد: «للحصول على التأثير الصحيح، يجب أن يكون أسوأ أنواع براندي الكرز.» وقد كان كذلك بالفعل.
كانت معرفتي بمضيِّفنا قبل هذا مقتصِرةً على مجال الصيد. فبدا غيرَ مألوف في صدرية الشاطئ الخضراء والسترة البيضاء التي كانت في حالة من الفوضى.
استقلَلْنا السيارةَ لتناوُل الشاي في فيلا مالكونتينتا، على الطريق الجديد عبر البحيرات بجانب السكة الحديدية. قبل تسع سنوات، وجد لاندسبيرج فيلا مالكونتينتا، التي يُحتفى بها في كل كتاب عن بالاديو، في حالة من الخراب، بلا أبواب أو نوافذ، وكانت مخزنَ حبوب لمحاصيل زراعية غير محدَّدة. وقد جعلها منزلًا صالحًا للسكنى. النِّسب بين أبعاد القاعة الكبرى والحجرات الفاخرة ترنيمةٌ رياضية. لو كان رجلًا آخَر، لملأها بما يُسمَّى زعمًا أثاثًا إيطاليًّا، أثاثًا مُذهَّبًا من نُفاياتِ تجَّار التحف. كان لاندسبيرج قد أمَر بصناعة الأثاث من خشبٍ عادي في القرية المحلية. لا يوجد شيء «من نفس الحِقبة» إلا الشموع، وهي ضرورية في غياب الكهرباء.
في الخارج، يتجادل الناس حول جانبَي المنزل ويتَّفقون على استهجان الخلفية. أما الواجهة، فلا خلاف عليها. فهي سابقة لعصرها، وبمثابة معيار في حدِّ ذاتها. يمكنك تحليلها، فلا شيء يمكنه أن يكون أكثر وضوحًا، لكن لا يمكنك المجادلة في أمرِها. وقفت مع ديان على العُشب أسفلَ الرواق؛ حيث للحظةٍ قبل الغسق حدَّد التوهُّج تحديدًا أكثر وضوحًا كلَّ مرحلة من مراحل التصميم. لم يكن بوسع أوروبا أن تقدِّم لي وداعًا يجعلني أقعُ في غرامها أكثرَ من هذا الإقرار المبتهِج بالنصر للفكر الأوروبي. قالت ديان، مدرِكةً أنها أثبتت الفكرة بما هو قائم بالفعل: «من الخطأ تركُ الحضارة.» فغمرني الحزن.
بالداخل، أُضيئت الشموع ورقَص ليفار. عُدنا بالسيارة عبر عاصفةٍ مُمطِرة، وأويت إلى الفِراش بعد أن ضبطتُ المنبِّه.
صاحبت مغادَرةَ هذا المركب من ميناء ترييستي مَشاهدُ وقعت لأول مرة في العهد القديم. حيث كان اللاجئون اليهود من ألمانيا يغادرون إلى فلسطين. من ناحية، كان يوجد حاخام مدهِش موقَّر، حدَّدت جدائلُ شَعره الأرثوذكسيةُ الطويلة وقبَّعتُه المستديرةُ من فرو القندس الأزياءَ السائدة لتلاميذه حتى سن الثامنة؛ ومن ناحية أخرى، كانت توجد مجموعةٌ لافتة للأنظار من الفتيان والفتيات بملابس الشاطئ، الذين أخمدوا مشاعرهم بالغناء. كان حشدٌ قد تجمَّع لتوديعهم. عندما فُتح المركب، نسي كلُّ شخص شواغله الشخصية، وحقائبَ السفر المفقودة، والركن المُختلَس. انطلق الحاخام المدهِش وبطارقته المرافقون في تلويحٍ واهن القوى متعذِّر ضبطُه، وبدأ الأولاد والبنات في غناءِ ترنيمة وقورة تكرَّرت فيها كلمة أورشليم بنبرة انتصار. انضم إليهم في الغناء الحشدُ الواقف على الشاطئ، وهو يسلك رصيف الميناء إلى حافته، حيث وقف حتى غابت السفينة في الأفق. في تلك اللحظة، وصل أيضًا رالف ستوكلي، مُعاوِن المفوَّض السامي في فلسطين، إلى رصيف الميناء ليجد أن المركب قد فاته. وقد خفَّف اضطرابه، وملاحقته التالية للمركب في زورق بخاري، من حدَّة التوتر.
تضرب ريح شمالية البحرَ الياقوتي بموج أبيض، وأسكتت أولئك اليهود المتحمِّسين بالأسفل. أمس أبحَرْنا مارِّين بالجُزر الأيونية. بدت الشواطئ المألوفة قاحلةً وغير مأهولة، ولكنها ذات جمال لا مثيل له في الضباب الوردي. عند الزاوية الجنوبية الغربية لليونان انعطفنا شرقًا، ومررنا بمدينة كالاماتا في خليجها، وبلغنا رأس ماتابان، التي رأيتها آخر مرة من جبل تايجتوس وقد أبرزها البحر البعيد كما لو كانت رسمًا على خريطة. تحوَّلت الوجوه الصخرية إلى ذهبٍ أحمرَ داكن، والظلال إلى زُرقة شفَّافة. غرقت الشمس في الأفق، وصارت اليونان صورةً ظليةً متعرِّجة، وبدأ ضوء المنارة الواقعة في أقصى جنوب أوروبا يتلألأ. حول المنعطَف، في الخليج التالي، ومضت كهرباءُ بلدة جيثيون.
روى ستوكلي حكايةً لرئيسه، الذي أصيب بطلقاتٍ نارية في ساقَيه أثناء حرب البوير، وتُرِك لمدة ست وثلاثين ساعةً قبل أن تأتيه النجدة. كان آخرون قد أصيبوا بطلقاتٍ نارية مماثلة؛ لأن البوير كانوا يطلقون النارَ على ارتفاع منخفض. مات بعضهم وحصدتهم النسور. ما دام كان بإمكان الجرحى التحرُّك، مهما كان ضَعفهم، كانت الطيور تبقى بعيدة. وحين لا يعود بوسعهم الحركة، كانت أعينهم تُقتلَع وهم ما زالوا أحياءً. وصف رئيس ستوكلي مشاعره إزاء ترقُّبه لهذا المصير، بينما كانت الطيور تحلِّق على ارتفاع بضع أقدام فوقه.
هذا الصباح، تتقاطع قِمم سانتوريني المزدوجة مع ضوءِ فجرٍ أحمر. وتُرى جزيرة رودس على مرمى البصر. نصل إلى قبرص في منتصف نهار غد. سأحظى بأسبوع لنفسي هناك قبل وصول الفحَّامين إلى بيروت في ٦ سبتمبر.
ينتمي المشهد الطبيعي إلى آسيا وليس إلى الجُزر اليونانية الأخرى. فالأرض باهتةٌ حدَّ البياض، ولا يخفِّف من عزلتها القاحلة إلا رقعةٌ خضراء من الكروم أو قطيعٌ من الماعز الأسود والأسمر المصفر. زُرعت أشجار على طول الطريق المعبَّدة البالغة النظافة التي أوصلتني من لارنكا إلى نيقوسيا، أشجار الكازوارينا والسَّرْو. لكنَّ الريح دحرتْها، هبَّة حارَّة عنيفة ترتفع من البحر عصر كل يوم وتُدوِّر سواقي المياه التي لا حصر لها. تقف هذه الهياكل الحديدية الهزيلة في الأيكات في أطراف البلدات، وصريرها الجماعي هو أغنية الجزيرة الرئيسية. من بعيد توجد دائمًا جبال. وفوق المشهد بأكمله، يُخيِّم ضوءٌ غريب، طبقةٌ ملساء من الفولاذ والليلك، تزيد من حدة المعالم والمنظورات، وتجعل كلَّ ماعز عابر، وكلَّ شجرة خروب منعزلة، تبرُز عن اليابسة البيضاء كما لو كانت تُرى عبر مِجسام.
المشهد جميل من الناحية المجرَّدة، لكنه عنيف ووعر كموطن للإنسان. حتى الأزهار غير موجودة في هذا الموسم، باستثناء زهرة بروق صغيرة، «رمادية» اللون ومائلة كإيماءة شبح. يُسميها اليونانيون «زهرة الشمعة». الجانب الشمالي من الجبال، بين نيقوسيا والساحل، أكثرُ ملاءمة. هنا، الأرض حمراء كما لو كانت أكثر تغذية، وتنتشر في الحقول المدرَّجة أشجارُ الخروب. كان حصاد الخروب على قدم وساق بينما كنت مارًّا، حيث يجُزُّ الرجال الثمار بعِصيٍّ طويلة؛ وتعبِّئها النساء في أكياس وتُحمِّلها على الحمير. يُصدَّر الخروب لصناعة علف الماشية. شكله يشبه الموزة الذابلة، وطعمُه، في رأيي، كمِمسحةِ أرجُل من الجلوكوز.
زرتُ رئيس الأساقفة في نيقوسيا كي أطلب منه رسالة إلى رجل الدين في قرية كيتي. لم يكن مرافقوه متعاونين؛ لأن الكنيسة تقود المعارضة للإنجليز، ولم يكونوا قد عرفوا أنني تحدَّثت لصالح قضيتهم في الصحف الإنجليزية. لكن رئيس الأساقفة، مع كِبَر سنِّه وما يعانيه من صمم، بدا سعيدًا باستقبال زائر، وجعل سكرتيرًا يكتب الرسالة على الآلة الكاتبة. عندما انتهت كتابة الرسالة، أحضروا له قلمًا مغموسًا في الحبر الأحمر، وبه وقَّع عليها، بمقتضى امتيازٍ منحَه الإمبراطور زينو في القرن الخامس: «+سيريل قبرص». ومنذ ذلك الحين، اغتصب حكام الجزيرة العلمانيون هذا الامتياز. فعلَ الأتراك ذلك تكديرًا، بينما فعله الإنجليز تباهيًا.
ذهبت إلى قرية بيلا بايز هذا الصباح لرؤية الدَّير. وذهب سائقي لرؤية خطيبته، التي تعيش في القرية المجاورة. قدَّمت لي هي وعمَّتها القهوة وقطعة من الجوز المُحلى المحفوظ. جلسنا في شرفة محاطين كما هو الحال دائمًا بأواني الريحان والقَرَنفل، ونُطلُّ عبر أسطح القرية على البحر. ظل ابن العمة، البالغ من العمر عامين، يدفع الكراسي في كل مكان ويصرخ: «أنا سفينة بخارية، أنا سيارة.» وعندما غادرت السيارة الحقيقية، وأنا بداخلها، انطلق بخيبةِ أمل في عواء تبعني إلى سفح الجبل.
عصر هذا اليوم، عند القلعة، كان يوجد رجلٌ نبيل يعتمر قبعةً بيضاء من الفلين، وله لحية بيضاء قيل لي إن اسمه السيد جيفري. ولأنه كان مسئولًا عن آثار الجزيرة، عرفته بنفسي. فأبدى نفورًا. حاولت ترضيته بذكر كتابه عن حصار كيرينيا. فردَّ قائلًا: «لقد كتبت العديدَ من الأشياء. ربما لا أستطيع تذكُّرها. لكن في بعض الأحيان، كما تعلم، أقرؤها وأجِدها «مشوقة للغاية».»
تابعنا المسيرَ إلى القلعة، حيث وجدنا بعضَ السجناء يباشرون أعمال حفر عشوائية. عندما ظهرنا، ألقَوا مجارفَهم على الأرض، وخلعوا ثيابهم، وخرجوا ركضًا من بابٍ جانبي إلى البحر لممارسة نشاط سباحتهم لفترة ما بعد الظهيرة. قال السيد جيفري: «يا لها من حياة سعيدة. إنهم يأتون هنا فقط عندما يرغبون في الراحة.» أخرج مخطَّطًا لأساساتِ مباني القرن الثالث عشر، كما كشفت عنها أعمال الحفر التي اضطلع بها المساجين. لكن البقاء بالخارج جعله يشعر بالجفاف، وذهبنا إلى المكتب لشرب الماء. قال: «أسوأ ما في الماء أنه يجعلك تشعر بالعطش الشديد.»
يمنحنا هذا أسبوعًا إضافيًّا. سأقضيه في القدس. أظن أن كلمة «المُشغِّل» تعني جهاز الفحم. أخذًا في الاعتبار تكلفة البرقية، لا يمكنني إلا أن أفترض أنه لا يعمل. وإلا فلمَ الاهتمامُ بنفي الأمر؟
منذ فترة طويلة، في مقرِّ المفوضية اليونانية في لندن، تعرَّفت على صبيٍّ عصبي يرتدي رداءً طويلًا، وكان يحمل كأسًا من عصير الليمون. كان هذا صاحبَ الغبطةِ مار شمعون، بطريرك الآشوريين؛ وبما أنه الآن منفي في قبرص، ذهبت لزيارته هذا الصباح في فندق كريسنت. حيَّاني شخصٌ ملتحٍ قويٌّ يرتدي سروالًا من قماش الفانيلا بلهجةٍ خاصة بالجامعات الإنجليزية (كامبريدج في حالته). أعربتُ له عن تعازيَّ. قال مشيرًا للأحداث الأخيرة: «كما قلت للسير فرانسيس همفريز، كانت المنشورات في بغداد تجهَر بالجهاد ضدنا منذ شهور. سألته عما إذا كان يمكنه ضمان سلامتنا، فقال إنه يستطيع وما إلى ذلك. لقد وضعوني في السجن منذ أربعة أشهر، وحتى في ذلك الحين لم يفعل شيئًا، رغم أن الجميع كانوا يعرفون ما هو آتٍ. من هنا سأذهب إلى جنيف لمناصرة قضيتنا وما إلى ذلك. أبعدوني بالطائرة على غير رغبتي، لكن ماذا سيحدث لأبناء شعبي المسكين، سيغتصبونهم، أم سيطلقون عليهم النار بالرشاشات وما إلى ذلك، لا أعلم.» وما إلى ذلك.
مَعلمٌ آخر في عصر خيانة السياسة الخارجية البريطانية. ألن تتوقَّف أبدًا؟ لا شكَّ أن الآشوريين كانوا عنيدين. لكن النقطة التي أوضحها مار شمعون، والتي أعتقد أنها صحيحة، هي أن السلطات البريطانية كانت تعرف، أو كانت لديها وسائل عديدة لمعرفةِ ما كان ينويه العراقيون، ولم تتَّخذ أيَّ خطوات لمنعه.
لو كانت قبرص مملوكةً للفرنسيين أو الإيطاليين، لزارَ العديدُ من القوارب السياحية فاماجوستا كما هو الحال الآن في رودس. في ظل الحكم الإنجليزي، تعيق الزائرَ نزعةٌ فلستية مُتعمَّدة. لا تزال النواة القوطية للبلدة في عزلة تامة. حقيقة أن هذه النواة لا يزال من الممكن أن يطمسها أيُّ مبنًى يرغب أيُّ أحد في تشييده، وأن قذارة المنازل الجديدة تفوق القديمة، وأن الكنائس تستأجرها عائلات فقيرة، وأن الحصون تُغطِّيها يوميًّا فضلاتٌ بشرية، وأن القلعة هي محلُّ نجارة تابع لمديرية الأشغال العامة، وأنه لا يمكن الوصول إلى القصر إلا عبر مركز الشرطة، فمظاهرُ العناية البريطانية هذه، وإن لم تكن فنية، تتمتَّع على الأقل بميزةِ مناهضةِ جو المتحف المفتقر إلى الحيوية. كذلك يُعد غيابُ المرشدين وبائعي البطاقات البريدية وعُصبتهم أحدَ عوامل الجذب. ولكن حقيقة أنه، في جميع أنحاء البلدتين، يوجد رجلٌ واحد فقط يعرف حتى أسماء الكنائس، وهو مدرِّس يوناني يشعر بالريبة لدرجة تجعل الحوار العقلاني مستحيلًا، وأن الكتاب الوحيد، للسيد جيفري، الذي يمكن أن يُطلِع الزائرَ على تاريخ المكان وتضاريسه، ليس معروضًا للبيع إلا في نيقوسيا على بُعد أربعين ميلًا، وأن كل كنيسة، باستثناء الكاتدرائية، مغلقةٌ دائمًا ويحتفظ بمفاتيحها، إن كان من الممكن تتبُّع مكانها بأي حال من الأحوال، لدى الكاهن الرسمي المنفصل، أو العائلة المُخوَّل استخدامها لها، والتي توجد عادةً، ليس في فاماجوستا، ولكن في فاروشا؛ فإن هذه المظاهر كانت تفوق الاحتمالَ حتى في حالتي أنا؛ مع أنني أتحدَّث بعض اليونانية — الأمر الذي ليس في مقدور معظم الزائرين — فشلت فشلًا تامًّا خلال ثلاثة أيام كاملة أن أكمل جولةً في المباني. ينطوي مشهد بهذا القدر من عدم الأهمية على اهتمام خاص، لطلاب الكومنولث الإنجليزي. لكنه ليس نوع الاهتمام الذي يستقطب سفنًا محمَّلةً بالسائحين الذين يُدرُّون الربح. فلا يوجد سوى مصدرِ جذب واحد لهم، هو «برج عطيل»، وهو مَعلم مصطنَع سخيف يعود تاريخه إلى الاحتلال الإنجليزي. ولا يدعم هذا الاصطناع سوى سائقي سيارات الأجرة. هناك لافتةٌ رسمية على المبنى، بدت وكأنها مكتوبٌ عليها كلمة «شاي» أو «سادة نبلاء». هذه اللافتة هي التوجيه الوحيد الذي يمكن للسلطات، أو أي شخص آخر، أن يمنحه.
أقف على متراس مارتينينجو، وهو سدٌّ عملاق بواجهة من حجارة مشذبة ومحمي بخندق مائي محفور في الصخر على عمق أربعين قدمًا، كان البحر يصبُّ فيه قديمًا. من أحشاء هذا التحصين الجبلي، تخرج عربتا نقل تسيران تحت الأرض إلى ضوء النهار عند قدمَيَّ. وإلى اليمين واليسار تمتد حواجزُ الجدران المحيطة، وتقطَعها سلسلةٌ من الأبراج الدائرية السميكة. مقدِّمة المشهد مُقفِرة، تتحرك عبرها سلسلة من الجمال التي يقودها رجلٌ تركي يرتدي سروالًا فضفاضًا. وثَمَّة منخفض صغير تشغله امرأتان تركيتان تطهيان شيئًا تحت شجرة تين. وبعدهما تبدأ البلدة، حيث مزيجٌ من البيوت الصغيرة، بعضها من الطين، وبعضها من حجارةٍ منهوبة من الآثار، وبعضها من جصٍّ أبيضَ جديد ومسقوفة بأسقف باللون الأحمر. لا يوجد تخطيط ولا مراعاة للمرافق. وأشجار النخيل قائمة بين المنازل، وتحيط بها قِطع الأراضي. ومن هذه الفوضى العارمة، تظهر معقوفات ودعامات معمارية لكاتدرائية قوطية، تتقاطع حجارتُها البرتقالية مع الاتحاد البعيد للونَي السماء والبحر، الفيروزي والياقوتي. وتمتد سلسلة جبال بنفسجية على الساحل جهة اليسار. يخرج مركبٌ من المرفأ نحوها والبخار يتصاعد منه. وتنبثق من الأرض عند قدميَّ عربةٌ يجرُّها ثور. تبرُك الجِمال. وتحدِّق سيدة، ترتدي ثوبًا ورديًّا وقبَّعة ذات حافة عريضة، برِقة في اتجاه نيقوسيا من أعلى البرج بعد التالي.
قدتُ السيارة متوجهًا إلى كيتي، على بُعد ثمانية أميال، حيث تلقَّى الكاهن وحافظ غرفة المقدَّسات، اللذان كان كلاهما يلبس سروالًا فضفاضًا وحذاءً ذا رقبة طويلة، باحترامٍ رسالةَ رئيس الأساقفة. اصطحباني إلى الكنيسة، التي بها فسيفساء جميلة الصنع، ويبدو لي أن أسلوبها يعود إلى القرن العاشر، مع أنَّ آخرين ينسبونه إلى القرن السادس. رداء العذراء ذو لون بنفسجي فاتح، وهو غالبًا ملوَّن بالفحم. وترتدي الملائكة بجانبها أقمشةً بيضاء، ورمادية، وصفراء بُنية فاتحة، ويتكرَّر اللون الأخضر لأجنحتها التي تتخذ شكل أجنحة الطاووس على الكرات الخضراء التي تحملها. وقد استُخدمت في تشكيل الوجوه والأيادي والأقدام مكعَّباتٌ أصغر من تلك المستخدَمة في بقية التكوين. يتميز التكوين بأكمله بتناغم استثنائي. أبعاده صغيرة، لا تزيد عن الحجم الطبيعي، وسقف الكنيسة منخفِض للغاية حتى إنه يمكن تفحُّص محتويات قنطرتها من مسافة عشر أقدام تقريبًا.
يوجد ٩٠٠ راكب على السفينة. أخذني كريستوفر في جولة في مهجع الدرجة الثالثة. لو كان شاغلوها من الحيوانات، لكان أيُّ رجل إنجليزي صالح قد أبلغ «الجمعية الملكية لمنع القسوة على الحيوانات» بالأمر. لكن أسعار التذاكر رخيصة، وكونهم يهودًا، فالمرء يعرف أنه بإمكانهم جميعًا دفعُ المزيد إن أرادوا. الدرجة الأولى ليست أفضل حالًا بكثير. أتشارك مقصورةً مع محامٍ فرنسي، لا تترك زجاجاته ولوازم تأنُّقه مكانًا لإبرة. أعطاني محاضرةً عن الكاتدرائيات الإنجليزية. دورهام كانت تستحق المشاهدة. «أما البقية، يا سيدي العزيز، فليس بها شيء سوى أنابيب السباكة.»
على العَشاء وجدتُ نفسي بجوار رجل إنجليزي، فبدأت معه محادثةً بأنني آمُل أن يكون قد قام برحلة بحرية جيدة.
ردَّ قائلًا: «أجلْ بالفعل. لقد تبِعنا الخير والرحمة طوال الوقت.»
شقَّت امرأة متعَبة طريقَها بجهد جهيد، وهي تقود طفلًا عنيدًا. قلت: «أشفِق دائمًا على النساء اللواتي يسافرن ومعهن أطفال.»
«لا أوافقك الرأي. فمن وجهة نظري، الأطفال الصغار مثل بريق الشمس.»
رأيتُ الرجل لاحقًا، يقرأ الكتاب المقدَّس على أحد كراسي سطح المركب. هذا ما يُسميه البروتستانتيون بالمبشِّر.
استشاط حشدٌ مسعور حول رأس سلم السفينة. جسديًّا، يمكن أن يبدو اليهود أفضل سلالات البشر أو أسوأها في العالم. هؤلاء كانوا الأسوأ. كانت رائحتهم منفِّرة، ويحدِّقون، ويتدافعون، ويصرخون. بدأ رجل، كان هناك لخمس ساعات، في النحيب. عندما فشل حاخامه في تهدئته، عرض عليه كريستوفر الويسكي والصودا من نافذة البار. فرفض. نُقلت أمتعتنا، شيئًا فشيئًا، إلى قارب. فتبِعته. وكان على كريستوفر العودة للحصول على بطاقة النزول. كانت هناك موجةٌ شديدة عندما مررنا بالشعاب المرجانية على حدود الأمواج المتكسرة التي تشكِّل «ميناء» يافا. تقيأت امرأة مصابةٌ بالغثيان على يدي. تعهَّد زوجها طفلهما، بينما كان يدعَم بذراعه الأخرى نبتةَ فيرونيكا طويلةً في إناء.
«للأعلى، من فضلكم!» انقسم الغوغاء المتعرِّقون الغريبو الخِلقة إلى طابورين. بعد نصف ساعة وصلت إلى الطبيب. اعتذر عن التأخير، وأعطاني شهادةً طبية دون فحص. بالأسفل، كان رجال القوارب يحدِثون صخبًا طلبًا للمال. تكلفة نقلنا والأمتعة جنيه إسترليني وسِنْتان. سأل ضابط الجمارك، مشتبِهًا في كوني مؤلِّفًا للأعمال المشينة الخاضعة للرسوم: «هل تؤلِّف الكتب؟» قلت إنني لست اللورد بايرون، واقترحت عليه مواصلة عمله. وأخيرًا، وجدنا سيارة، وبعدما ارتدينا القَلَنْسوتَين تمجيدًا للأرض المقدَّسة، انطلقنا إلى القدس.
«إشعار عن الديكور الداخلي لفندق الملك داود، القدس»
كان الهدف هو استحضار أجواء الفترة المجيدة للملك داود عبر ذكرى الأنماط السامية القديمة.
كانت إعادة البناء المطابِقة للأصل مستحيلة؛ لذا حاول الفنان أن يُكسِب الذوقَ الحديث أساليبَ يهوديةً قديمة مختلِفة.
- (التأثير الآشوري): قاعة المدخل: حِقبة الملك داود.
- الرَّدهة الرئيسية: حِقبة الملك داود (التأثير الحثي).
- غرفة القراءة: حِقبة الملك سليمان.
- الحانة: حِقبة الملك سليمان.
- المطعم: على الطراز اليوناني السوري.
- قاعة الولائم: الطراز الفينيقي (التأثير الآشوري)، إلخ.
يمكن مقارنةُ جَمال القدس من حيث مناظرها الطبيعية بجَمال طُلَيطلة. المدينة قائمة في الجبال، وهي عبارة عن مشهد من القِباب والأبراج المحاطة بجدران مزوَّدة بفتحات للرماية والجاثمة على لوحٍ صخري فوق وادٍ عميق. وفيما يخص تلال موآب البعيدة، تشبه ملامح المنطقة تلك الموجودة على خريطة طبيعية، حيث تكتسح المنحدرات في منحنياتٍ منتظمة وطبقية، وتلقي بظلال كبيرة على الوديان التي تظهر بغتة. تعكس الأرض والصخور أضواءَ حجر أوبال ناري. إن مثل هذا التكوين في موضعٍ حضري، سواء أكان عرَضيًّا أو مخطَّطًا له، قد أنتج تحفةً فنيةً.
من ناحية التفاصيل، حتى طُليطلة لا تُقارَن بها في شوارعها المتعرِّجة الشديدة الانحدار، المرصوفة بالحصى في درجاتٍ واسعة وضيقة للغاية، حتى إن جملًا واحدًا يتسبَّب في نفس القدر من الاضطراب الذي تتسبَّب فيه حافلة في جادة إنجليزية. لا يزال الحشد، وهو يشق طريقه صعودًا وهبوطًا في شارع الملك داود، من الفجر وحتى الغروب، صورةً ﻟ «الشرق»، بمنأًى حتى الآن عن مدِّ البِذلات اليومية والنظارات ذات الأطر البارزة من الجانبين. ها هو ذا عربيُّ البادية، بشاربه الكث، يمرُّ بردائه الضخم المصنوع من شَعر الإبل المشغول بالذهب؛ والمرأة العربية، بوجهها الموشوم ولباسها المطرَّز، تحمل سلةً على رأسها؛ ورجل الدين المسلم، المشذَّب اللحية، ويلُف عمامةً بيضاء أنيقة حول طربوشه؛ واليهودي الأرثوذكسي، بالسوالف المجدولة، وقبَّعته من فرو القندس ومِعطفه الأسود؛ والكاهن اليوناني والراهب اليوناني، بلحيتَيهما وكعكتَي شعرهما أسفل قبَّعتَيهما السوداوين الطويلتين الشبيهتين بفوَّهة المدخنة؛ والقساوسة والرهبان من مصر والحبشة وأرمينيا؛ والأب اللاتيني في رداءٍ بُنِّي وقبَّعة بيضاء من الفلين، والمرأة من بيت لحم، التي يُقال إن غطاء رأسها المائل للخلف تحت غطاء أبيض هو إرثٌ من مملكة النورمان؛ ووسط هؤلاء جميعًا، كخلفية للوضع المعتاد الأساسي، البِذلة اليومية العابرة، والمِعطف المصنوع من قطن الكريتون، والسائح الذي يعلِّق الكاميرا في عنقه.
ومع ذلك، فإن القدس هي أكثر من مجرَّد منظرٍ خلَّاب، أكثر من مجرَّد مدينة رديئة الطراز ضمن عديد من المدن الشرقية. ربما توجد بها قاذورات، لكن لا يوجد قِرْميد أو جص، ولا توجد انهيارات ولا تغيُّر في الألوان. المباني جميعها من الحجارة، وهي حجارة ضاربة إلى البياض أشبه بالجُبن، ناصعة ومضيئة، وتحوِّلها الشمس إلى جميع درجات اللون الذهبي الضارب إلى الحمرة. لا مكانَ للسحر والرومانسية. فكل شيء صريحٌ ومتناغم. تتلاشى روابط التاريخ والاعتقاد، المتجذِّرة في ذكرياتِ الطفولة الأولى، أمام الظهور الفعلي. لقد غلَّف تدفُّق الإيمان، ومراثي اليهود والمسيحيين، وإخلاص الإسلام للصخرة المقدسة، «روح المكان» دون غموض. هذه الروح هي انبثاق مهيب يستدعي إجلالًا خرافيًّا؛ ومن ثَم ربما مستدام، ولكنها موجودة باستقلالية عنه. تعاطفها مع القادة الرومان وليس مع الكهنة. والقادة الرومان موجودون هنا مرة أخرى. يرتدون سراويل قصيرة وقبَّعات فلين، ويرُدُّون، عند مخاطبتهم، بلهجةِ يوركشاير.
في هذه البيئة المتوهِّجة، تبدو كنيسة القيامة أكثرَ الكنائس تواضعًا. يبدو ظلامُها أحلكَ مما هو عليه، وعِمارتها أسوأ، وعبادتها أدنى شأنًا. الزائر في صراع مع نفسه. فالتظاهر بالتجرد عجرفة، والتظاهر بالتوقير رياء. يكمُن الاختيارُ بينهما. ولكن فيما يخصُّني فقد تجنَّبت هذا الاختيار. قابلت صديقًا عند المدخل، وكان هو مَن أراني كيفيةَ التعامل مع الأماكن المقدسة.
كان صديقي راهبًا برداءٍ أسود، ذا لحيةٍ قصيرة وشَعرٍ طويل، وقبعةٍ أسطوانيةٍ مرتفعة.
قلت باليونانية: «مرحبًا، هل أتيتَ من جبل أثوس؟»
أجاب: «نعم، من دير دوتشياريو. اسمي جابرييل.»
«هل أنت أخو أرستارخوس؟»
«نعم.»
«وهل مات أرستارخوس؟»
«نعم. ولكن مَن أخبرك؟»
لقد وصفتَ أرستارخوس في كتابٍ آخر. كان راهبًا في فاتوبيدي، أغنى أديرة جبل آثوس، حيث وصلنا بعد خمسة أسابيع على الجبل المقدَّس، متعَبَين ونعاني سوءَ التغذية. اعتنى بنا أرستارخوس. كان فيما مضى خادمًا على متنِ يختٍ إنجليزي، وكان ينادي علينا كلَّ صباح بهذا السؤال: «في أي وقت تريدان تناوُلَ الغداء اليوم يا سيدَيَّ؟» كان شابًّا وكفؤًا، وماديًّا، ولم يكن مناسبًا على الإطلاق لرسالةِ الرهبنة، وكان عازمًا، إن استطاع، على أن يوفِّر ما يكفي من المال لانتقاله إلى أمريكا. كان يكره الرهبانَ الكبار الذين أذلُّوه.
في أحد الأيام، بعد عام أو عامين من زيارتنا، حصل على مسدس وأطلق النار على اثنين من هؤلاء المتنمِّرين الموقَّرين. هكذا تقول القصة. المؤكَّد في الأمر أنه انتحر بعد ذلك. ظاهريًّا، لم يكن يوجد رجلٌ قَط أرجح عقلًا من أرستارخوس، وقد عمَّ الخزي والتكتم على المأساة مجتمعَ جبال آثوس.
قال جابرييل وهو ينقر بأصابعه على رأسه: «كان أرستارخوس معتوهًا.» كنت أعرف — لأن أرستارخوس قد أخبرني — أن جابرييل كان سعيدًا في رسالته، ولم يكن يرى في عنفِ أخيه سوى انحراف. تابع قائلًا، مغيِّرًا الموضوع: «هل هذه هي زيارتكما الأولى للقدس؟»
«وصلنا هذا الصباح.»
«سآخذكما في جولة في المكان. أمسِ كنت في «القبر» نفسه. غدًا سأذهب مرةً أخرى في الحادية عشرة. من هذا الطريق.»
كنا الآن في غرفةٍ دائريةٍ واسعة بارتفاع كاتدرائية، وكانت قبَّتها الضحلة مدعومةً بحلقة من دعامات ضخمة. في منتصف الأرضية الفارغة كان يوجد المَقدِس، وهو عبارة عن كنيسة مصغَّرة تشبه محرِّك سكة حديدية من طراز قديم.
سأل جابرييل: «متى كانت آخر مرة كنت فيها على جبل آثوس؟»
«في عام ١٩٢٧.»
«أتذكَّر ذلك. لقد أتيتَ إلى دوتشياريو.»
«أجل. وكيف حال صديقي سينسيوس؟»
«في خيرِ حال. لكنه ما زال صغيرًا جدًّا على أن يصبح شيخ كنيسة. تعالَ ادخل إلى هنا.»
وجدت نفسي في غرفةٍ رخامية صغيرة، منحوتة على الطراز الباروكي التركي. كان يقطع الطريقَ إلى الحرم الداخلي ثلاثةُ رهبان فرنسيسكان راكعين.
«مَن تعرف أيضًا في دوتشياريو؟»
«أعرف فرانكفورت. هل هو بخير؟»
«فرانكفورت؟»
«فرانكفورت، قِط سينسيوس.»
«آه! قِطه … لا تُبالِ بهؤلاء الرجال؛ إنهم كاثوليك. إنه قطٌّ أسود …»
«أجل، ويقفز.»
«أعرف. ها نحن ذا. انتبهْ لرأسك.»
خطا جابرييل، مارًّا عبر الفرنسيسكان كما لو كانوا نباتات قُرَّاص، وغاص في حفرةٍ ارتفاعها ثلاث أقدام، ينبعث منها ضوءٌ ساطع. وتَبِعته. كانت الغرفة الداخلية بمساحةِ سبع أقدام مربَّعة تقريبًا. وعلى لوحٍ منخفِض من الحجر، كانت تركع امرأة فرنسية في نشوة. وبجوارها وقف راهب يوناني آخر.
قال جابرييل لرفيقه، الذي صافحني من فوق جسدِ المرأة الفرنسية: «لقد ذهب هذا السيد المحترم إلى جبل آثوس. كان ذلك قبل ست سنوات وهو يتذكَّر قِط سينسيوس … هذا هو «القبر»» — وأشار إلى لوحٍ من الحجر — «سأكون هنا طَوال اليوم غدًا. يجب أن تأتي وتقابلني. لا يوجد متسع، أليس كذلك؟ هيا نخرج. الآن سأريك الأماكن الأخرى. هذا الحجر الأحمر هو الموضع الذي غسَّلوا فيه الجسد. أربعة من المصابيح يونانية، والأخرى كاثوليكية وأرمينية. مُجسَّم صلْب المسيح في الطابق العُلوي. اطلب من صديقك أن يأتي. هذا هو الجزء اليوناني، وذلك الكاثوليكي. لكن هؤلاء الذين عند المذبح اليوناني كاثوليك؛ لأن مُجسَّم صلْب المسيح كان هناك. انظر إلى النقش فوق الصليب. إنه من الماس الحقيقي، وقد أُهدي من القيصر. وانظر إلى التمثال. يأتي الكاثوليك ويقدِّمون للسيدة العذراء هذه الأشياء.»
أشار جابرييل إلى علبةٍ زجاجية. رأيت في داخلها تمثالًا شمعيًّا للعذراء، ملفوفًا في دعامة من السلاسل والساعات والقِلادات.
أخبرت جابرييل بخبث: «صديقي هذا كاثوليكي.»
«أوه، أحقًّا؟! وماذا عنك؟ هل أنت بروتستانتي؟ أم لا شيء على الإطلاق؟»
«أعتقد أنني سأكون أرثوذكسيًّا أثناء وجودي هنا.»
«سأخبِر الربَّ بذلك. أترى هاتين الفتحتين؟ وضعوا المسيح فيهما، كلُّ ساق في واحدة.»
«ولكن هل ذلك في الكتاب المقدَّس؟»
«بالتأكيد هو في الكتاب المقدَّس. هذا الكهف هو مكان الجُلجُثة. ذلك هو المكان الذي شقَّ الزلزال فيه الصخرة. كان لأمي في ساموس ثلاثة عشر ولدًا. لم يتبقَّ منهم الآن سوى أخي في أمريكا، وأختي في القسطنطينية، وأنا. ذلك الذي هناك هو قبر نيقوديموس، وذلك قبر يوسف الرامي.»
«وما القبران الصغيران؟»
«هما لأبناء يوسف الرامي.»
«ظننت أن يوسف الرامي قد دُفن في إنجلترا.»
ابتسم جابرييل وكأنه يقول: «قُل ذلك للبحرية.»
وتابع قائلًا: «ها هي ذي صورة للإسكندر الأكبر وهو يزور القدس، وفي استقباله أحد الأنبياء، لا أتذكَّر أيُّهم.»
«ولكن هل سبق أن زار الإسكندر القدس؟»
«بالتأكيد. أنا لا أخبرك إلا بالحقيقة.»
«أعتذر. ظننت أنها قد تكون أسطورة.»
خرجنا أخيرًا إلى ضوء النهار.
«إذا أتيت وقابلتني بعد غد، فسأخرج من القبر مرةً أخرى. إنني أخرج في الساعة الحادية عشرة، بعد أن أمضي الليل كلَّه بالداخل.»
«ولكن ألن ترغب في أن تنام؟»
«نعم. أنا لا أحب النوم.»
الأماكن المقدَّسة الأخرى هي حائط المبكى وقبَّة الصخرة. بإيماء الرءوس والنحيب فوق كتبهم، وإقحام رءوسهم في صدوع البناء الحجري الضخم، ليس المنتحِبون اليهود أكثرَ جاذبيةً من المصلين في الضريح. ولكن يوجد ضوء على الأقل؛ حيث تشرق الشمس، والجدار نفسُه يشبه جدران إمبراطورية الإنكا. تخفي قبَّة الصخرة جُرفًا هائلًا، انطلق منه النبي محمد في معراجه إلى السماء. وها هو ذا أخيرًا، بغضِّ النظر عما يرتبط به، أثرٌ جدير بالقدس. مِنصة من الرخام الأبيض، تمتد على مساحةِ عدة أفدنة، وتُطِلُّ على أسوار المدينة وجبل الزيتون، وعلى مقربة منها من جوانب مختلِفة ثماني مجموعات من درجات السلالم تبرزها خطوطٌ من الأقواس. في منتصف المِنصة يقف، متضائلًا بسبب المساحة المحيطة به، مُثمَّنٌ منخفِضٌ متلألئ ببلاطات زرقاء، ويشكِّل دعامة لأسطوانة من البلاط الأزرق، عَرضُها حوالَي ثُلث المُثمَّن. أعلى الأسطوانة، توجد قبَّة بصليةُ الشكل بعض الشيء، ومنثور عليها طلاء ذهبي قديم. على أحد الجوانب ينتصب مُثمَّن آخر مصغَّر، كما لو كان ابن المُثمَّن الأكبر، مرتكِزًا على أعمدة ويظلِّل نافورة. يحمل الجزء الداخلي طابَعًا يونانيًّا؛ فلا بد أن الأعمدة الرخامية، التي تدعم التيجان البيزنطية، والقناطر من الفسيفساء الذهبية، المزينة بأرابيسك مُدوَّر، من أعمالِ حِرفيين يونانيين. وتُخلِّد الحواجز الحديدية ذكرى فترةٍ مسيحية فاصلة، حوَّل فيها الصليبيون المكان إلى كنيسة. أما المسجد، فقد تأسَّس في القرن السابع. غير أن عصورًا كثيرة قد أسهمت في هيئته الحالية. في وقت متأخر، أُعيدت زخرفة التيجان البيزنطية لتصبح مشرقةً للغاية. سيخفُّ لمعانُها بمرور الوقت.
عندما رأينا المسجد لأول مرة، كان قد فات أوان دخوله، ولكن كان بإمكاننا فقط أن نلقي نظرةً سريعة عليه من المدخل في نهاية شارع الملك داود. اعترض رجلٌ عربي طريقنا، وبدأ في إخبارنا بالمعلومات. قلت إنني أفضِّل أن «أرى» المسجد في الوقت الحالي، وأن أسمع عنه غدًا، فهل يتلطَّف ويتنحَّى جانبًا؟ ردًّا على هذا أجاب: «أنا عربي وسأبقى حيث أريد. هذا مسجدي وليس مسجدك.» يا له من لُطف عربي.
ذهبنا هذا المساء إلى بيت لحم. كان الغسق قد حلَّ بالفعل، ولم نتمكَّن من تمييز صفوف الأعمدة المهيبة التي تقوم عليها الكنيسة. كان المرشدون أكثرَ إزعاجًا مما كانوا عليه في الضريح. تركت كريستوفر وحدَه لرؤية المِذود، أو أيًّا كان ما يعرِضونه.
أقام ستوكلي حفلَ عشاء الليلةَ الماضية؛ حيث برهن ضيفان عربيان أنهما صحبة طيبة. أحدهما، الذي كان يعمل في وزارة الخارجية التركية، كان يعرف كمال ووالدته في الأيام الخوالي. أثناء الحرب كان قنصلًا في سالونيك، التي رحَّله منها ساريل إلى تولون، وهي معاناة بلا داعٍ؛ لأن الحدود التركية كانت قريبة جدًّا، وقد نتج عنها أنه فقدَ جميعَ أثاثه وممتلكاته. تحوَّل الحديث عن الزعيم اليهودي أرلوسوروف، الذي أُطلِق عليه النار على رمال يافا بينما كان يسير مع زوجته. من المفترض أن القتلة كانوا من التصحيحيين اليهود، وهو حزبٌ متطرِّف يريد التخلص من الإنجليز وإقامة دولة يهودية. لا أعرف إلى متى يظنون أن العرب سيتحمَّلون وجودَ يهودي واحد بمجرد رحيل الإنجليز.
هذا الصباح ذهبنا إلى تل أبيب ضيوفًا على السيد جوشوا جوردون، المروِّج الأكبر للوكالة اليهودية. في البلدية، حيث استُقبل كريستوفر باعتباره ابنًا لأبيه، كان معلِّقًا على الجُدران صورًا شخصية لدعاة الصهيونية: بلفور، وصامويل، وألنبي، وأينشتاين، وريدينج. وأظهرت خريطةٌ تطوُّر المكان عبر السنين، من مدينةٍ فاضلة مكافحة تضم ٣٠٠٠ نسمة فقط إلى مجتمعٍ متفجِّر يضم ٧٠٠٠٠ نسمة. ونحن نتناول نبيذَ هوك الأبيض من يافا في فندق فلسطين، اختبرت الحجج العربية على السيد جوردون. كان مزدريًا لها. كانت قد شُكِّلَت لجنة لرعاية العرب الذين لا يملكون أراضي. ولم تتمكَّن من العثور إلا على بضع مئات منهم. في نفس الوقت، كان عرب إمارة شرق الأردن يتوسَّلون إلى اليهود كي يذهبوا إلى هناك ويطوِّروا المنطقة.
سألته عما إذا كان ذلك يمكن أن يدفع اليهود، حتى ولو على مضض، لاسترضاء العرب بغيةَ تحقيق السلام في المستقبل. أجاب السيد جوردون بالنفي. فالأساس الوحيد الممكن لتفاهمٍ عربي يهودي هو معارضة مشتركة للإنجليز، وهذا ما لن يُقرَّه قادة اليهود. «إذا كان للمنطقة أن تتطور، فلا بد للعرب أن يعانوا؛ لأنهم لا يحبون التطور. ولا نقاش في ذلك.» قد حظي أبناء الصحراء في الآونة الأخيرة بما يكفي من المدافعين عن قضيتهم. وأجد أنه من المنعشِ أكثر أن أفكِّر في ميزانية موسعة — الميزانية الوحيدة في العالم في الوقت الحالي — وأن أهنِّئ اليهود.
كان الإيطاليون فئةً مخادعة أخرى في نظر السيد جوردون. فمنذ وقتٍ مضى، حاول هو وآخرون إنشاء خط ملاحي أنجلو فلسطيني، يمكن أن يحمل البريد بدلًا من القوارب الإيطالية. ولكنهم فشلوا لعدم تعاون الإنجليز. يقدِّم الإيطاليون تعليمًا مجانيًّا في روما لجميع الفلسطينيين، وبأسعار مخفَّضة. ومما لا يمكن إنكاره أن حوالي ٢٠٠ فقط يذهبون سنويًّا. لكن السيد جوردون شعر بالمرارة عندما فكَّر في الصعوبات التي يواجهها أيُّ طالب يرغب في إنهاء تعليمه في لندن، حتى على نفقته الخاصة.
بعد زيارة حزام أشجار البرتقال ودار الأوبرا، ذهبنا للسباحة. فجأةً، من بين الحشد الذي على الشاطئ، خرج السيد آرانسون من العبَّارة «إيطاليا». «مرحبًا، مرحبًا، هل أنتم هنا أيضًا؟ القدس خاملة جدًّا في هذا الوقت من العام، أليس كذلك؟ لكني قد آتي في زيارةٍ سريعة غدًا. إلى اللقاء.»
لو كانت تل أبيب في روسيا، لتكلَّم العالم بحماسةٍ بالغة عن تخطيطها وعمارتها، وحياتها المجتمعية الباسمة، ومساعيها الفكرية، وأجواء الشباب التي تكلِّلها. لكن الاختلاف عن روسيا هو أن هذه الأشياء ليست مجرد هدف مستقبلي، وإنما حقيقة واقعة.
ذهبت للسباحة في جمعية الشبان المسيحيين المقابِلة للفندق. استلزم هذا أن أدفع شلنين، وأن أتخلَّى عن شرط الفحص الطبي، وأن أغيِّر ملابسي وسط كثير من الأقزام المشعرين الذين كانت تفوح منهم رائحة الثوم، وأخيرًا أن آخذ حمَّامًا ساخنًا مصحوبًا بجدال حادٍّ لأنني رفضت فرْك جسمي بقطعة من الصابون المبيد للحشرات. وصلت بعد ذلك إلى المسبح، وسبحت بضع ياردات دخولًا وخروجًا من محيطِ مباراة كرة قدم مائية أدارها مدرِّب التربية البدنية، وخرجتُ تفوح مني رائحة المُطهِّر حتى إنني اضطُررت إلى الإسراع في العودة والاستحمام قبل الخروج لتناول العشاء.
تناولنا العشاء مع المفوَّض السامي بسرورٍ شديد. لم يكن يوجد أيٌّ من تلك الشكليات الرسمية التي تكون جيدة جدًّا في التجمعات الكبيرة، ولكنها تكون محرجةً في الصغيرة منها. في الواقع، لولا الخَدم العرب، لكانت الأجواء أشبهَ بتناولنا الطعامَ في منزل ريفي إنجليزي. هل كان بيلاطس البنطي يُذكِّر ضيوفَه بإقطاعي إيطالي؟
كان الناس يرقصون في الفندق عندما عُدنا. قابل كريستوفر أحدَ أصدقاء الدراسة في البار، والذي رجاه، بحق مدرستهما، أن يحلق لحيته. «ما أقصد أن أقوله، يا سايكس، كما تعلم، قطعًا، لا، لا أحب أن أقول ذلك، حسنًا، ما أقصده، بالتأكيد، لا عليك، قطعًا أفضِّل ألا أقول ذلك، كما ترى يا صديقي القديم الأمر وما فيه، أعني قطعًا كنت سأحلق تلك اللحية لو كنت مكانك؛ لأن الناس قطعًا يظنون أنك، كما تعرف، أقصد، لا، صدقًا لن أقول ذلك، قطعًا لا يمكنني، لن يكون من العدل، قطعًا لن يكون كذلك، حسنًا إذَن، إذا كنت تريد حقًّا أن تعرف، فقد اضطررتني أن أقول ذلك، أليس كذلك، قطعًا، الأمر وما فيه، أقصد أن الناس قد تظن أنك سوقيٌّ نوعًا ما كما تعلم، قطعًا.»
عندما أوى الجميع إلى الفِراش، مشيت إلى البلدة القديمة. كان الضباب يكتنف الشوارع؛ فكادت تبدو مثل لندن في شهر نوفمبر. في كنيسة القيامة، كان يوجد قدَّاس أرثوذكسي عند القبر، بمصاحبة جوقة من الفلاحات الروسيات. غيَّرت تلك الأناشيد الروسية كلَّ شيء، وأصبح المكان مهيبًا وحقيقيًّا عندما خرج الأسقف ذو اللحية البيضاء في تاجه الماسي البصلي الشكل وردائه المطرَّز، من باب المَقدِس إلى وهج الشموع الخافت. ظهر جابرييل، ودفعني بعد القدَّاس إلى غرفة المُقدَّسات لاحتساء القهوة مع الرجل العجوز وأمين الخزينة. كانت الساعة الثالثة والنصف عندما عُدت إلى الفندق.
يؤسفني أنني غادرت فلسطين. إنه لمن المنعِش للمعنويات أن تجد بلدًا يتمتَّع بجمال طبيعي رائع، وعاصمة يستحق مظهرها الشهرة التي تحظى بها، وزراعة مزدهرة وعائد متزايد زيادة مذهلة، وبذرة ثقافة محلية حديثة متمثِّلة في رسامين وموسيقيين ومعماريين، وحكومة يشبه سلوكها سلوك لورد ضيعة إقطاعية خيِّر مع مَن يعولهم. لا حاجةَ لأن تكون صهيونيًّا لترى أن الفضل في هذا الوضع الراهن يرجع لليهود. إنهم يتدفَّقون على البلاد. في العام الماضي، مُنح ٦٠٠٠ منهم تصاريح دخول: وصل ١٧٠٠٠ شخص، ودخل ١١٠٠٠ شخص إضافي عن طريق الحدود التي لا يمكن السيطرة عليها. بمجرد وصولهم إلى فلسطين، يرمون بجوازات سفرهم؛ ومن ثَم لا يمكن ترحيلهم. ومع ذلك، يبدو أن هناك وسائل لدعمهم. فهم يملكون روح المبادرة، والمثابرة، والتدريب التقني، ورأس المال.
يظهر في الأفق عداءٌ عربي. يبدو لأي مراقب من الخارج أن الحكومة، بإذعانها لحساسية العرب، تشجِّع إحساسهم بالغَبن، ولكنها لا تنال رضاهم. العرب يكرهون الإنجليز، ولا يهدرون أيَّ فرصة للتنفيس عن سوء أخلاقهم معهم. لا أستطيع أن أفهم كيف يدعم هذا قضيتهم لدى الحكومة. فليس لديهم عذر الهنود؛ أي التمييز العنصري.
في الليلة الماضية على العشاء، كان كريستوفر يتحدَّث عن بلاد فارس، عندما لاحظ مجموعة على الطاولة نفسها تحدِّق إلينا. وفجأةً سمِعهم يتحدثون الفارسية. حاول أن يتذكَّر، وهو يهمس لي، إن كان قد قال أي شيء فيه ازدراء للشاه أو بلده. يبدو أننا نوشك على التعامل مع استبداد يختص بحساسيات معاصرة، ولكنه يضاهي استبدادَ العصور الوسطى. حدثت مشكلة دبلوماسية عندما أخبرت السيدة نيكولسون الجمهور الإنجليزي أنها لا تستطيع شراء مربى المرملاد في طهران.
غادر خمسة رجال فندق ويست إند الليلة الماضية في حملةٍ استكشافية سرية. قد تكون أكثرَ حملة استكشافية رومانسية على الإطلاق.
غادروا لندن إلى مرسيليا والصحراء الكبرى. بعد ذلك، عرف بضعة رجال الوجهةَ التي ينبغي أن يتجهوا صوبها.
إعلان مبتسَر، قد يؤدي إلى تبِعات سياسية خطيرة …
هؤلاء الرجال الخمسة سيسافرون في شاحنتين تعملان بمحركات غاز محمولة. الوقود المستخدَم هو الفحم العادي، ولا حاجة للتزود بالوقود إلا كل خمسين أو ستين ميلًا. هذه هي المرة الأولى التي يُستخدم فيها هذا الاختراع الجديد، ولكن من المحتمل أن يُستخدم عالميًّا للنقل البري في المستقبل.
إنه لمن المزعج أن يجد المرءُ اسمه مرتبطًا بمثل هذا الهراء.
ننتظر الآن العبارة «شامبليون»، بالسيارات والجمع على متنها.
صعدت على متن العبارة «شامبليون» عند بزوغ الفجر. جولدمان؟ هندرسون؟ شاحنتان؟ لم يسمع بهم أحد. لكن رَتر كان هناك، وفي جَعبته حكاية كارثية وعبثية.
تعطَّلت العربتان في أبفيل. كان من الممكن أن تستمرا في العمل بالبنزين، لكنهما أُعيدتا سرًّا إلى إنجلترا؛ حيث من المقرَّر أن يُجرى مزيدٌ من التحسين على الاختراع، وأن يشهد بداية جديدة، دون علم الصحافة هذه المرة، في غضون شهر أو نحو ذلك. وخوفًا من أن أعود أنا أيضًا، وأن يكشف وجودي في لندن عن فشل الأمر، أُرسل رتر مقدمًا ليسهِّل وصولي بأمان إلى بلاد فارس. في الواقع، أنا مفوَّض مجاني بصلاحيات وسِمات مُبتز.
أمضينا معظمَ اليوم في البحر، نتعافى من الصدمة، وحجزنا أماكنَ في حافلة شركة نيرن المتَّجهة إلى بغداد يوم الثلاثاء.
جاء السيد نيرن بنفسه لتناول مشروب هذا المساء، متسائلًا في فضول عن السيارات التي تعمل بالفحم. بعدما ظل يسمع بالاختراع لسنوات عديدة، أو غيره من الاختراعات المشابِهة، كان متشككًا، ولم نتمكَّن حتى مع أفضل إرادة في العالم من التصدي لثقته الكبيرة في شكوكه. سوريا بأكملها متحمِّسة جرَّاء صور حافلة بولمان الجديدة، التي ستصل في شهر نوفمبر.
«أربعمائة قرش مقابل «تلك» الغرفة؟ هل قلت «أربعمائة»؟ يا إلهي! لنذهب! استدعِ السيارة. ثلاثمائة وخمسون؟ أتقصد «مائة» وخمسين؟ ثلاثمائة؟ هل أنت أصم، ألا تسمع؟ قلت مائة وخمسون. يجب أن نذهب. توجد فنادق أخرى. تعالَ، حمِّل الأمتعة. أشك في أننا سنبقى في بعلبك أصلًا.»
«لكن يا سيدي، هذا فندقٌ من فنادق الدرجة الأولى. أقدِّم لك عشاءً جيدًا جدًّا، من خمسة أطباق. وهذه أفضل غُرفنا يا سيدي، بها حمَّام ومُطلة على الآثار، إنها جيدة جدًّا.»
«رُحماك يا إلهي، هل الآثار ملكك؟ هل يجب أن ندفع ثمن الهواء الذي نتنفَّسه؟ خمسة أطباق على العشاء أكثر من اللازم، ولا أظن أن الحمَّام يعمل. ما زلت تقول ثلاثمائة! خفِّض السعر. أقول خفِّضه قليلًا. هذا أفضل، مائتان وخمسون. قلتُ مائة وخمسون. سأقول مائتان. سيتعين عليك دفع الخمسين الأخرى من جيبك، أليس كذلك؟ حسنًا «افعل»، من فضلك، سيسعدني ذلك. مائتان إذَن؟ لا؟ جيد جدًّا. (نركض إلى الطابق السفلي ونخرج من الباب). وداعًا. ماذا؟ لم أسمع. مائتان. ظننت ذلك.
والآن، نريد ويسكي وصودا. كم تأخذ في مقابل ذلك؟ خمسين قرشًا. خمسين قرشًا حقًّا. مَن تظننا؟ على أي حال أنت تقدِّم دائمًا كثيرًا جدًّا من الويسكي. سأدفع «خمسة عشر» قرشًا وليس خمسين. لا تضحك. ولا تنصرف أيضًا. أريد بالضبط هذا القدر من الويسكي، لا أكثر ولا أقل؛ تلك نصف حصة فقط. أتقول ثلاثين؟ وهل الثلاثون نصف الخمسين؟ هل يمكنك الحساب؟ وماء الصودا، بالطبع. عشرون إذَن. لا «ليس» خمسة وعشرين. عشرون. ثَمَّة فرق كبير، فقط لو كنت تدركه. أحضِر الزجاجة في الحال، وبحقِّ السماء كُفَّ عن الجدال.»
أثناء العشاء المكوَّن من خمسة أطباق، أثنينا على الرجل لتقديمه بعضَ الطيور الدسمة.
ردَّ قائلًا: «إنها طيور الحَجَل يا سيدي، أُسمِّنها في أقفاص صغيرة.»
يكلف الدخول للآثار خمسة شلنات للفرد لكل زيارة. بعد أن حصلنا على تخفيض لهذه الرسوم بمكالمة هاتفية لبيروت، عبَرنا الطريق لزيارتها.
أسمع بالفرنسية: «هل تريد مرشدًا يا سيدي؟»
صمت.
ثم بالفرنسية: «هل تريد مرشدًا يا سيدي؟»
صمت.
بالفرنسية: «ماذا تريد يا سيدي؟»
صمت.
بالفرنسية: «من أين أنت يا سيدي؟»
صمت.
بالفرنسية: «إلى أين أنت ذاهب يا سيدي؟»
صمت.
بالفرنسية: «هل لديك شئون هنا يا سيدي؟»
أجبت بالفرنسية: «لا.»
بالفرنسية: «هل لديك شئون في بغداد يا سيدي؟»
أجبت بالفرنسية: «لا.»
بالفرنسية: «هل لديك شئون في طهران يا سيدي؟»
أجبت بالفرنسية: «لا.»
بالفرنسية: «حسنًا، ماذا تفعل يا سيدي؟»
أجبت بالفرنسية: «أنا في رحلة إلى سوريا.»
بالفرنسية: «هل أنت ضابط بحري يا سيدي؟»
أجبت بالفرنسية: «لا.»
بالفرنسية: «إذَن، ماذا تكون يا سيدي؟»
أجبت بالفرنسية: «رجل.»
بالفرنسية: «ماذا؟»
أجبت بالفرنسية: «رجل.»
بالفرنسية: «فهمت. سائح.»
حتى كلمة «رحَّالة» قد عفا عليها الزمن، ولسببٍ ما أصبح لها طابع إطرائي. كان الرحَّالة قديمًا شخصًا يذهب بحثًا عن المعرفة، وكان السكان الأصليون يفتخرون بالترفيه عنه بالأمور المثيرة للاهتمام في ثقافتهم المحلية. في أوروبا تبدَّد منذ فترة طويلة هذا المسلك الذي ينطوي على التقدير المتبادل. لكن هناك على الأقل لم يعُد «السائح» ظاهرةً. إنه جزء من المشهد الطبيعي، وفي تسعِ حالات من أصل عشر يتبقَّى لديه القليل من المال لينفقه بعد ما دفعه مقابل جولته السياحية. أما هنا، فلا يزال يُنظر له على أنه شذوذ عن المألوف. إذا كان بإمكانك القدوم من لندن إلى سوريا للعمل، فلا بد أنك غني. فإذا كان بإمكانك قطْع كل هذه المسافة دون أن يكون ذلك من أجل العمل، فلا بد أنك غني جدًّا. لا أحد يهتم بما إذا كنت قد أُعجبت بالمكان أو كرهته، أو بالسبب. أنت ببساطةٍ سائح، تمامًا مثلما أن الظربان ظربان؛ أي إنك كائن مهجَّن طفيلي من الأنواع البشرية، موجود من أجل أن يُستغل مثل بقرة حلوب أو شجرة صمغ.
عند الباب الدوار، حيث الفَعْلة الشنيعة الأخيرة، استغرق رجل خَرِف ومشلول عشرَ دقائق لكتابة كل تذكرة. بعدها فررنا من هذه التفاهات إلى مجد العصور القديمة.
تمثِّل بعلبك انتصارَ الحجَر؛ بعظمة جواهري يجعل مقياس لغته — فالسكون هو لغة العين — مدينةً مثل نيويورك تتضاءل أمامها لتصبح قريةَ نمل. الحجر بلون الخوخ، وموسوم بلونٍ ذهبي ضارب إلى الحمرة مثلما أعمدة كنيسة سانت مارتن إن ذا فيلدز موسومة بالسُّخام. ولها قوام مرمري غير شفَّاف، لكنه مغبَّر قليلًا، كغبار الطلع على ثمرةِ برقوق. الفجر هو الوقت المناسب لرؤيتها، لترفع عينيك إلى الأعمدة الستة، عندما يلمع الهواء الذهبي الخوخي والأزرق بتألقٍ متساوٍ، وحتى القواعد الفارغة التي لا تحمل أيَّ أعمدة لها هوية حية تباركها الشمس في مواجهة لُجج السماء البنفسجية. ارفع ناظرَيك، ارفع ناظرَيك فوق هذا النسيج المستخرَج، هذه الأعمدة الأضخم بثلاثة أمثال، إلى تيجان الأعمدة المكسورة والإفريز الذي يبلغ في ضخامته حجم منزل، كلها تطفو في زُرقة السماء. تَخطَّ بناظريك الجدران إلى الأيكات الخضراء لأشجار الحور ذات السيقان البيضاء، وتَخطَّها بناظريك إلى لبنان الذي يبدو من بعيدٍ وميضًا بنفسجيًّا وأزرقَ وذهبيًّا وورديًّا. انظر على طول الجبال إلى الفراغ؛ الصحراء، ذلك البحر الحجري الفارغ. ارتشفِ الهواء العالي. اضربِ الحجر بيديك الناعمتين. ودِّعِ الغرب إن كنت منه. ثم اتَّجِه «سائحًا» إلى الشرق.
فعلنا ذلك، عندما أُغلقت المواقع الأثرية. كان الغسق قد حل. وكان سيدات وسادة في مجموعات منفصلة في نزهات خلوية على مرْج عشبي، بجانب مجرًى مائي. جلس بعضهم على الكراسي بجوار نوافير رخامية يدخِّنون النارجيلة، وجلس آخرون على العشب أسفل أشجارٍ موسمية يتناولون الطعام بجوار فوانيسهم. ظهرت النجوم واكتست منحدرات الجبال بالسواد. شعرتُ بسلام الإسلام. والسبب في أنني أذكر هذا الشعور العادي، هو أن ذلك السلام منتفٍ الآن في مصر وتركيا، بينما يظهر الإسلام في الهند، بطابع هندي فريد وحصري، مثل كل شيء آخر. وبطريقةٍ ما الأمر كذلك؛ لأنه لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة التعاملُ مع مثل هذه البيئة القاهرة دون تغيُّر في الهوية. لكن سأقول هذا بناءً على تقديري الشخصي: عندما كنت أسافر في المناطق ذات الأغلبية المسلمة في الهند دون معرفةٍ مسبقة ببلاد فارس، قارنت نفسي بهندي يراقب التقاليد الأوروبية، وكان قد بدأ رحلته من شواطئ بحر البلطيق وليس من البحر الأبيض المتوسط.
بعد ظهيرة أمس في بعلبك، اشتكى كريستوفر من الإجهاد واستلقى على سريره؛ الأمر الذي أرجأ ذهابنا حتى حلَّ الظلام والبرد القارس فوق مرتفَعات لبنان. عندما وصلنا إلى دمشق، ذهب إلى الفِراش بعد أن تناول قرصين من الكينين، وأُصيب بصداعٍ حتى إنه حلم بأنه وحيد قرن، واستيقظ هذا الصباح ودرجة حرارته ١٠٢ فهرنهايت، مع أن الأزمة قد ولَّت. ألغينا حجز مقاعدنا في حافلة نيرن ليوم غد، وبدلًا من ذلك حجزناها ليوم الجمعة.
أثناء عبورنا أنا ورتر منطقةً مغبرةً بعض الشيء، خلَّفها القصف الفرنسي خرابًا، رأينا عرَّافًا يرسم علامات على صينيةٍ تحوي رمالًا، بينما كانت امرأة فقيرة وطفلها المصاب بالهزال ينتظران خبرًا عن مصير الطفل. وفي الجوار، كان يوجد عرَّاف آخر مثله، ولم يكن معه أحد. جلست القرفصاء. ووضع القليل من الرمل في راحة يدي، وطلب مني أن أنثره على الصينية. ثم رسم بيده ثلاثةَ خطوط غير مقروءة في الرمل، ومرَّ عليها بيده مرة أو مرتين وكأنه يتعامل مع بطاقاتِ لعبة سوليتير، وتوقَّف مفكرًا قبل أن يرسم فجأة خطًّا قُطريًّا عميقًا وينطق بهذه الكلمات، التي أتصوَّر أن رتر، الذي أمضى فيما مضى تسعة أشهر في مكة متنكرًا في هيئة رجل عربي، قد ترجمها بدقة كافية:
«لديك صديق أنت تحبُّه وهو يحبك. في غضون أيام قليلة، سيرسل لك بعض المال لتغطية نفقات سفرك. وسينضم إليك لاحقًا. ستكون رحلتك ناجحة.»
يبدو أن قدراتي الابتزازية تعمل من تلقاء نفسها.
الفندق مملوك للسيد علوف، الذي يقطن أبناؤه في الطابق العُلوي. وفي إحدى الأمسيات قادنا إلى قبوٍ من دون تهوية تصطفُّ فيه صناديق زجاجية وخِزانة. ومنها أخرج الأغراضَ التالية:
زوجًا من الأواني الفضية الكبيرة، مختومة برموز مسيحية وصورة بشارة مريم.
ووثيقةً مكتوبة على قطعة قماش بلون الطين، يبلغ طولها بين ثلاث وأربع أقدام، وعرضها ثماني عشرة بوصة، يُدَّعى أنها وصية أبي بكر، الخليفة الأول، ويُقال إن عائلة الملك حسين جلبتها من المدينة المنورة في عام ١٩٢٥.
وزجاجةً بيزنطية من الزجاج الأزرق الداكن رقيقة كقشرة بيضة، غير مكسورة، وارتفاعها حوالي عشر بوصات.
ورأسًا هِلينِستيًّا ذهبيًّا، بشفتين مفترقتين، وعينين زجاجيتين، وحاجبين أزرقين زاهيين.
ومومياء ذهبية في صندوق.
وتمثالًا صغيرًا من الفضة بطول تسع بوصات ونصف البوصة، ونظرًا لعدم وجود ما يُقارَن به، وصفه السيد علوف بأنه ينتمي إلى الحضارة الحيثية. هذا الشيء، إن كان أصليًّا، فلا بد أن يكون أحد أبرز الاكتشافات في السنوات الأخيرة في الشرق الأدنى. التمثال على هيئة رجل، بكتفٍ عريضة وفخذين نحيلين. يعتمر قبَّعةً مدبَّبةً طولها يوازي طول جسده. وذراعه اليسرى مكسورة، بينما تحمل اليمنى ثورًا ذا قرنين في خطافه وتمسك بصولجان. حول الخَصر، توجد أحزمة من السلك. هذا السلك، والصولجان، وذيل الثور وقرناه، والقبعة، كلها من الذهب. والذهب شديد المرونة حتى إن السيد علوف ثنى الصولجان مازحًا بزاويةٍ قائمة ثم أعاده إلى استقامته مرة أخرى. لا يمكن لأي محاول إقناعَ أن تدفعه إلى أن يسمح لي بتصوير الشيء. أتساءل متى وكيف سيتحرَّر التمثال من ذلك القبو.
نهض كريستوفر من فراشه يوم الأربعاء، واصطحبَنا رتر لتناول الشاي مع الحاج محمد بن البسَّام، وهو رجل مُسنٌّ يبلغ من العمر سبعين عامًا أو أكثر، ويرتدي ملابس بدوية. كانت عائلته تجمعها صداقة مع دَوتي، وهو شخصية مشهورة لدى محبِّي العرب وثقافتهم. بعد أن جنى ثروة من الجِمال في الحرب، خسر ٤٠ ألف جنيه إسترليني في المضاربة في المارك الألماني. تناولنا الشاي على طاولة رخامية، لم يُمكِّنَّا ارتفاع الكراسي إلا من لمسها بأذقاننا. ذكَّرني ضجيج المحادثة العربية، التي تخلَّلتها تجشؤات وارتشافات، بونستون تشرشل وهو يلقي خطابًا.
يكره العرب الفرنسيين أكثرَ مما يكرهوننا. وهم أكثر تهذيبًا، لوجود أسبابٍ أكثر تدفعهم لأن يكونوا كذلك؛ بعبارة أخرى، لقد تعلموا ألا يُظهروا الأمر عندما يقابلون أوروبيًّا. وهذا يجعل من دمشق مدينةً لطيفة من منظور الزائر.
مما يمنح بعض السلوى تذكُّر أن بلاد الرافدين كانت «يومًا ما» شديدةَ الثراء، ووافرة الخصوبة بالفن والإبداع، وواسعة الجود مع السومريين والسلوقيين والساسانيين. الحقيقة الجوهرية عن تاريخ بلاد الرافدين هي أن هولاكو في القرن الثالث عشر دمَّر نظام الري، وأنه منذ ذلك الحين وحتى يومنا هذا ظلت بلاد الرافدين أرضًا طينية محرومة من الميزة الوحيدة التي يوفِّرها الطين، وهي الخصوبة بالنباتات. إنها سهل طيني، مسطَّح حتى إن طائر بَلَشُون وحيد يقف على ساقٍ واحدة بجوار بعض قطرات المياه النادرة في حفرة، يبدو طويلًا كهوائي لا سلكي. من هذا السهل ترتفع قرًى من طين ومدن من طين. وتتدفَّق الأنهار بطين سائل. ويتكوَّن الهواء من طينٍ منقًّى في هيئة غاز. والناس بلون الطين، ويرتدون ملابسَ بلون الطين، وقبَّعاتهم الوطنية ما هي إلا فطيرة طين في هذه الهيئة. بغداد هي العاصمة التي يمكن للمرء أن يتوقَّعها لهذه الأرض التي أنعمت عليها السماء. إنها تتوارى في ضبابٍ طيني؛ فعندما تنخفض درجة الحرارة أدنى من ١١٠ درجات فهرنهايت، يشتكي السكان من البرد ويُخرِجون معاطفَهم المصنوعة من الفراء. وهي تشتهر حاليًّا بشيء واحد فقط، هو نوع من الدمامل يستغرق تسعة أشهر ليُشفى منه، ويترك نَدْبة.
يصِفها كريستوفر، الذي يكره المكان أكثرَ مني، بأنها جنةٌ مقارنةً بطهران. في الواقع، لو صدَّقتُ كلَّ ما قاله لي عن بلاد فارس، لاعتبرت مغادرتنا غدًا حكمًا بالنفي. ولكني لا أرى ذلك. لأن كريستوفر مغرم ببلاد فارس. إنه يتحدَّث هكذا مثل رجل صيني مهذَّب، إن سألته عن زوجته، فسوف يجيب بأن العاهرة النحيلة كالفزاعة ما زالت على قيد الحياة، يقصد أن قرينته المحترمة والجميلة تتمتع بصحة جيدة.
يدير آشوريون الفندق، وهم أشخاص صغارُ البنية مثيرون للشفقة، ومشاكسون، وودودون، ولا يزالون يخشون بعض الشيء على حياتهم. يوجد شخص واحد فقط سأتخلَّص منه بتسليمه إلى البغداديين، وهو شابٌّ مُفعَم بالحيوية يُدعى داود (ديفيد)، تسبَّب في زيادة أسعار جميع السيارات المتجهة إلى طهران، وأشار إلى قوس طيسفون (إيوان كِسرى) بأنه «مشهد جميل يا سيدي، مشهد عالٍ».
يرتفع هذا القوس ١٢ قدمًا ونصف القدم عن الأرض وبامتداد ٨٢ قدمًا. وهو أيضًا من الطين، ولكنه مع ذلك باقٍ منذ أربعة عشر قرنًا. توجد صور تُظهِر جانبَيه وليس جانبًا واحدًا، وكذلك مقدمة القوس. كوحدة واحدة، القِرْميد الذي لم يُحرق جيدًا لونه جميل: أصفر مائل للبياض في خلفية من سماءٍ عادت لزرقتها، بعد أن خرجنا من بغداد. أُصلحَت القاعدة مؤخرًا، ربما للمرة الأولى منذ بنائه.
المتحف هنا خاضع للحراسة، ليس من أجل تأمين كنوز أور الأثرية، ولكن كي لا يلوِّث الزائرون نحاس صناديق العرض بالاتكاء عليها. نظرًا لأنه لا يزيد حجم أيٍّ من المعروضات عن حجم كشتبان، كان من المستحيل رؤية كنوز أور. على الجدار بالخارج، نصب الملك فيصل لوحةً تذكاريةً مهداة إلى جيرترود بيل. مفترضًا أن نية الملك فيصل كانت أن يقرأ الزائرون النقش، تقدَّمتُ نحوه لقراءته. وعندئذٍ صرخ أربعة من رجال الشرطة وسحبوني بعيدًا. سألت مدير المتحف عن سبب ذلك. فقال باقتضاب: «إن كنت تعاني قِصرَ النظر، يمكنك الحصول على تصريح خاص.» مرة أخرى، يا له من لُطف عربي.
تناولنا العشاء مع بيتر سكارليت، الذي حكى صديقه وارد قصة جنازة فيصل. كان يومًا شديدَ الحرارة، وكان زنجيًّا ضخم البنية قد شقَّ طريقه إلى المنطقة المسيَّجة المخصَّصة للوُجَهاء. ولكنه أُبعِد بعد قليل. صاح قائد القوات الإنجليزية: «اللعنة، لقد سلبوني ظِلي.»
كان المال ينتظرني هنا، كما وعد العرَّاف.