الجزء الرابع
بعد فترةٍ وجيزة من مغادرتي في نوفمبر، ظنَّ مارجوريبانكس أنه مهدَّد بالإطاحة به عن طريق انقلاب. كان قد ذهب إلى أستراباد لرؤية السكة الحديدية الجديدة التي أنشأها وحضور سباقات التركمان. كان معه سردار أسعد، وزير الحربية وزعيم الخانات البختياريين. وكانت أول إشارة علنية على وجودِ مؤامرة هي عودة سردار أسعد غير المتوقَّعة إلى طهران في شاحنة؛ فهي طريقة غير معتادة لسفر أغنى وأبرز أعضاء الطبقة الأرستقراطية القبلية. هو وإخوته، بمن فيهم سردار بهادور وأمير جانج اللذان التقينا بهما أثناء تناول الشاي مع ميرزا يانتز، موجودون الآن في السجن؛ فقد أُرسلَت القوات والطائرات إلى المنطقة البختيارية جنوب أصفهان. في تلك الأثناء، أحاطت الشكوك بقوام المُلك، أحد أقطاب القشقاي من شيراز، الذي يتمتَّع حتى اليوم بشرف خطير لكونه كبيرَ المقرَّبين من مارجوريبانكس. هو الآن محتجَز في منزله، ويطارد الآنسة بالمر سميث، جليسة بناته، هاجس أن يُدسَّ لهم السُّم في الطعام.
لا أحد يعرف إذا ما كانت حقًّا توجد مؤامرة وقتئذٍ أم لا. لكن الجميع الآن يظنون أن ثمة مؤامرةً آتية. ثمة شائعات مفادُها أن مارجوريبانكس يعاني سرطانًا في المعدة، وأن ولي العهد سيُقتَل لدى عودته من المدرسة في سويسرا، وأن القبائل ستثور في الربيع. لا أصدِّق أيًّا منها؛ فدائمًا ما تُولِّد الديكتاتوريات هذه الشائعات. ما يزعجني هو الشعور المناهض للأجانب الذي بلغ مرحلةً حرجة. يُعزى جانب من عار البختياريين إلى صداقتهم مع الإنجليز؛ حيث كان الزائرون الحريصون على رؤية الجانب الأكثر حضارة من الحياة الفارسية يسافرون دائمًا عبر أراضيهم. نتيجة لذلك، فإن جميع الفرس، باستثناء أولئك الذين أُمروا رسميًّا بمخالطة الأجانب، ينفرون مني وهم يرتعدون كما لو كنت كلبًا مسعورًا.
وقد عزَّز هذا الشعورَ مقالٌ كتبه دي باثي في صحيفة «ذا تايمز» عند عودته إلى إنجلترا، وصف فيه اعتداء مارجوريبانكس على الجوكي التركماني تحت أعين أعضاء السلك الدبلوماسي. وذكرت الصحافة الفارسية أن الملك في إنجلترا لا يجرؤ على مغادرة قصره دون حراسة من ٣٠٠٠ رجل، بينما يمتلك أمير ويلز ١٠٠ كلب يصعدون إلى سريره عبر درج خاص وينامون فيه. وبخوف من هذه النوبات، أقنَعَت وزارةُ الخارجية في لندن صحيفةَ «ذا تايمز» بإجراء تعديلات في مقالٍ افتتاحي، كان يقارن بين حال بلاد فارس الحديثة وإنجلترا في عصر آل تيودور، وبين إنجازات مارجوريبانكس وإنجازات هنري الثامن. لم يزِد هذا الجرح الفارسي إلا عمقًا؛ حيث يُعتبر آل تيودور رجعيين. وقد كلَّف هذا التدخل وزارة الخارجية عدة مئات من الجنيهات أنفقتها على البرقيات، وأكَّد الهاجس المزدوج الذي لدى الفرس — والذي دأب وزيرنا السابق على إرسائه — أنَّ صرامتهم تثير الرعب في لندن، وأن وزارة الخارجية الإنجليزية تسيطر على الصحافة الإنجليزية. في هذا الجحيم المملوء بالنوايا الحسنة من جانب الإنجليز، وجد الفرس استجابةً لا تنضب للهزات التي أصابت الكرامة المُهانة. أشكر الرب أن رسائل التوصية التي أحملها أمريكية.
يبادلهم الأفغان الكراهية، ولكن من نوع مختلف. فالاحتقار، وليس الغيرة، هو كلُّ ما يشعرون به نحوهم.
ذهبت أمسِ لزيارة شير أحمد، السفير الأفغاني، لأخبره عن رحلتي. كان متدثرًا بمَبذل مخملي متقزح اللون، ويمسِّد بيده لحيتَه التي بدت كغطاء حفظ حرارة البيض، وبدا أكثرَ ضراوة من أي وقتٍ مضى.
(بصوتٍ معتدل) كما تعلم، الفرس شيعة، والأفغان سنَّة. الفرس يحبون عليًّا. والأفغان يعتقدون أن عليًّا (بصوتٍ عالٍ جدًّا) بوف! (بصوتٍ معتدل) في شهر المحرم، يحيي الفرس ذكرى موت علي ويقيمون وليمة. في العام الماضي طلبوا مني الاحتفال في البلدية، أو كما تقولون أمانة العاصمة. فذهبت. (بصوتٍ عالٍ تدريجيًّا) ذهبت. (بصوتٍ معتدل) ووقفت إلى جانب رئيس البلدية. وقد وقف حوله جميع الملالي. كان جمعًا كبيرًا. (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) جمعًا كبيرًا جدًّا. (بصوتٍ معتدل) الجميع محتشدون، الجميع، أجل، الشباب، وكِبار السن، (بصوتٍ عالٍ جدًّا) وحتى ضباط من الجيش الفارسي، (بهدوء شديد) ينتحبون وينتحبون، (بصوتٍ عالٍ) ويصفعون صدورهم، وذلك لتذكُّر موت علي. (بهدوءٍ بعض الشيء) جميعهم متدينون. جميعهم يحبون الدين. أنا سُني. ولا أحب رؤية مثل هذه الأشياء: رجال ينتحبون، وضباط ينتحبون. (صائحًا بصوتٍ عالٍ جدًّا) لا أحب ذلك. (بهدوءٍ بعض الشيء) قال لي الملالي: «هلا تلقي سعادتك كلمة؟» (بصوتٍ عالٍ جدًّا) قلت: «لمَ لا؟» (بهدوء شديد): «سألقي كلمة.» (بهدوءٍ بعض الشيء) أولًا سألتهم سؤالًا:
(بهدوء شديد) سألتهم: «هل كان عليٌّ فارسيًّا؟»
(بصوتٍ معتدل) ظن الملالي أنني رجل غبي. فقالوا (بصوتٍ عالٍ): «سعادتك رجل متعلم. سعادتك تعرف أن عليًّا كان عربيًّا.»
(بهدوءٍ بعض الشيء) فسألتهم سؤالًا ثانيًا: (بهدوء شديد) «هل كان عليٌّ رجلًا آريًّا؟»
(بصوتٍ معتدل) ظن الملالي أنني أكثرُ غباءً. قالوا (بصوتٍ عالٍ): «سعادتك تعرف أن العرب ليسوا آريين.»
(بهدوءٍ بعض الشيء) فسألتهم سؤالًا ثالثًا: (بهدوء شديد) «هل الفرس والعرب ينتميان للعِرق نفسِه؟»
(بصوتٍ معتدل) ظن الملالي أن غبائي مستحكِم. وهم محقُّون. (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) هم محقُّون. قالوا (بصوتٍ عالٍ): «سعادتك رجل متعلم. سعادتك تعرف أن الفرس آريون، وأن العرب ليسوا آريين.»
(بصوتٍ معتدل) أنا أحمق. ظن جميع الملالي وجميع الحشد أنني أحمق. فسألتهم: (بهدوء شديد) «ألم يكن عليٌّ ذا قرابة بالفرس؟»
(بصوت معتدل) قال الملالي، (بصوت عالٍ): «لم يكن ذا قرابة.»
قلت لهم (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء): «شكرًا لكم، (بصوتٍ عالٍ جدًّا) شكرًا لكم.»
(بصوت معتدل) ثم سألت عما إذا كان بعض الناس في الحشد قد قضَوا شهر المحرم في عربستان. وعندما ردُّوا بالإيجاب سألتهم: (بهدوء شديد) «هل ينتحب العرب لذكرى علي؟»
(بصوتٍ معتدل) قالوا لي لا.
فقلت: (بصوتٍ عالٍ) «إذَن، العرب أقارب علي، ولكنهم لا ينتحبون لذكراه. الفرس ينتحبون، ولكنهم ليسوا أقارب علي.»
(بصوتٍ معتدل) قالي لي الملالي إنني أقول الحق.
قلت: (بصوتٍ عالٍ جدًّا) «هذا غريب. هذا غريب جدًّا. لا أفهم لماذا ينتحب الفرس. (صائحًا) في أفغانستان، إذا بكى صبي في السادسة من عمره، «ندعوه امرأةً».»
(بصوتٍ معتدل) كان الملالي آسفين للغاية، كانوا في غاية الخجل. وقالوا لي: «سعادتك لم تقضِ شهر المحرم في بلاد فارس منذ عشرين عامًا. فيما مضى كنا ننتحب أكثر من اليوم. وفي المستقبل، بعد عشر سنوات، سنكون قد تقدَّمنا. ولن نستمر في النحيب وصفع الصدور. سترى سعادتك.»
(بهدوءٍ بعض الشيء) في الأسبوع التالي، بعد شهر المحرم ذلك، دعاني الشاه إلى القصر. فذهبت. (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) ذهبت. (بصوتٍ معتدل) قال لي الشاه: «سعادتك صديق للفرس.»
فقلت له: (بهدوء شديد) «سموُّك طيِّب للغاية. أنا لا أستحق ذلك. بالطبع سموُّك تقول الحق. بالتأكيد أنا صديق للفرس. ولكن هل تسمح لي سُموك أن أسأل كيف يراني سُموك صديقًا.»
قال الشاه: «(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) سعادتك، (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) سعادتك منعت الفرسَ من النحيب في شهر المحرم. وأنا أيضًا أمنعهم. (صائحًا بصوتٍ عالٍ جدًّا) لن ينتحبوا في العام القادم. لقد أصدرت الأوامر بذلك.»
(بهدوء شديد) سيأتي شهر المحرم. وسنرى. (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) سنرى.»
استمرَّ الحفل من الساعة الخامسة إلى الساعة الثمانية. وكان يضم ٣٠٠ شخص تقريبًا وفرقة لموسيقى الجاز. سرت شائعة بأن سردار أسعد قد «مات» في السجن.
افتتح مهندس معماري روسي يُدعى ماركوف دارَ رعاية هنا للاجئين الروس الهاربين حديثًا. في منزل صغير بالقرب من بوابة مشهد، وجدنا حوالي خمسين شخصًا تنبعث منهم تلك الرائحة الروسية القديمة نفسها — من أين تأتي هذه الرائحة؟ بدَوا جميعهم بصحةٍ جيدة، باستثناء فتاتَين صغيرتين بائستين؛ فقد جمعت الملابس والألعاب القديمة للأطفال من مصادر مختلفة. كان أحدهم كاهنًا من سامراء أمضى ثلاث سنوات يؤدي وظائف مختلفة مقتربًا أكثرَ وأكثر من الحدود قبل أن يتمكَّن من التسلُّل عبرها. كانت معه أيقونة قديمة رائعة، لكن تلك الأيقونات التي أنقذتها العائلات الأخرى بمشقة كانت بشعةً وعديمة القيمة.
الغرض من الدار هو استقبال اللاجئين فور وصولهم، ومنْحُهم الراحةَ والطعام الجيد بعد رحلتهم، وتجهيزهم بالأحذية والملابس قبل توزيعهم على أصفهان وكِرمان وأماكن أخرى في وسط البلاد. فضلًا عن التركمان، الذين عبَر ٢٥ ألفًا منهم الحدود في العام الماضي وحده، يفِر الناس من روسيا إلى بلاد فارس بمعدل ١٠٠٠ شخص سنويًّا. معظمهم ليسوا مناهضين للبلشفية، ولكنهم ببساطةٍ يهربون من المجاعة. إن صحَّت رواياتهم، عن أكوامِ صدفِ السلاحف الفارغ الذي يحيط بمنازل العمال في أماكن أخرى، وأن السلاحف هي طعامهم الأساسي، فلا عجب أن الأجانب يُثبَّطون على زيارة آسيا الوسطى الروسية.
لمعرفةِ ما إذا كان هذا التثبيط يرقى إلى مستوى الرفض، أقمت صداقةً مع القنصل الروسي، السيد داتييف. إنه ليس متقشفًا جدًّا مثل بعض الرفاق الروس؛ إذ يرتدي التويد ذا الألوان الصاخبة فيظهر غريبًا بينهم كأن منطقة بلومزبري تظهر في الريف، ويرتدي قبَّعة وليس قلنسوة. في المرة الأولى التي ذهبت فيها لرؤيته، أتحفني بكعكة الكرز، وفي المرة الثانية بشراب كريمة النعناع.
وزيادةً في الملل، أدَّى ممثِّلون مسرحية «عطيل» باللغة الأرمينية. لعب دور البطولة باباتزيان، وهو نجم من موسكو، حافظَ بالتأكيد على سمعة موسكو في التمثيل المحنَّك. أما البقية فكانوا من الهواة المحليين، ولعدم معرفتهم بأي نماذج أخرى لأزيائنا القديمة، فقد ارتدَوا ملابس تشبه ملابس الأوروبيين في اللوحات الجصية الجدارية في أصفهان.
عندما دخلت إلى القرطاسية المحلية لشراء بعض أوراق الرسم، وجدت السفير البابوي عند طاولة الدفع، ولم أستطِع التفكير في أي شيء لأقوله خارج حبْل أفكاري.
قلت بالفرنسية: «صباح الخير يا حضرة الأسقف.»
«صباح الخير يا سيدي.»
ثم ساد صمت.
«هل أنت فنَّان يا حضرة الأسقف؟»
«ماذا؟»
«هل أنت رسَّام؟ هل تشتري أقلام التلوين، الألوان؟»
عصف الرعب بملامحه الورعة.
«بالتأكيد لا. إنني أشتري بطاقات دعوة.»
حضر شير أحمد وتومي جاكس، المدير المقيم لشركة النفط الأنجلو-فارسية لتناول العشاء في النادي. كان عشاءً جيدًا: كافيار، وشمندر، وحَساء البرش، وسلمون مشوي، وحَجَل محمَّص مع فطر، ورقائق بطاطس، وسلطة، وبودينج المارنج الساخن مع قطعة من الثلج في المنتصف، وشراب الكلاريت المتبل.
بعد ذلك لعبنا البريدج، لكننا لم نتمكَّن من إنهاء مباراة واحدة؛ حيث كان شير أحمد يغادر الطاولة باستمرار ليشرح قصصه عن طريق التمثيل. استغرقت قصة العائلة المالكة الأفغانية نصف ساعة، وتبيَّن منها أن سبب قرابة شير أحمد من كلٍّ مِن أمان الله والملك الحالي كان يرجع إلى أن مؤسِّس العائلة كان لديه ١٢٠ طفلًا. بعد توزيع الورق للمرة الثانية، انتقل إلى حكايةِ جولة أمان الله في أوروبا. وكانوا بصحبة العديد من النبلاء الإيطاليين في مقصورة بالأوبرا الرومانية.
«(بصوتٍ معتدل) جلست سيدة إيطالية بجانبي. كانت (بعينين متوقدتين وصوتٍ عالٍ جدًّا) سيدة كبيرة الحجم، أجل! ضخمة؟ لا، بل سمينة. (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) لقد كانت أكثر سمنة من سيدة مصر [زوجة الوزير المصري]، وكان صدرها (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) كبيرًا جدًّا. (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) كان متدليًا من المقصورة، هكذا. وكانت ترتدي فوقه كثيرًا من الألماس والذهب. (بهدوء شديد) لقد كنت مرتعبًا. فقد أدركتُ أنه إذا جاء في وجهي (بصوتٍ عالٍ) فسأختنق.»
انتقل المشهد إلى مأدبة رسمية في قصر بكنجهام.
«(بصوتٍ معتدل) تحدَّث معي أمير ويلز. (بهدوء) قلت له: «يا صاحب السمو الملكي (بصوتٍ عالٍ جدًّا) أنت أحمق! (صائحًا) أنت أحمق!» (بصوتٍ معتدل) فقال أمير ويلز: (بهدوء) «لماذا أنا أحمق؟» (بصوتٍ معتدل) قلت له: «لأنك يا سيدي تقفز الحواجز بالحصان. هذا خطير، (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) خطير. (بهدوء) لن يكون الإنجليز مسرورين إذا لقيت حتْفك يا صاحب السمو الملكي.» (بصوتٍ معتدل) سمعني الملك. فقال للملكة: «يا ماري، سعادته يصف ابننا بالأحمق.» كان غاضبًا جدًّا، (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) غاضبًا جدًّا. (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) سألتني الملكة عن سبب وصفي ابنَها بالأحمق. قلت لأنه يقفز الحواجز بالحصان. فقالت لي الملكة: (بصوتٍ خفيض) «يا صاحب السعادة، يا صاحب السعادة، أنت مُحِق، (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) أنت مُحق.» (بصوتٍ معتدل) شكرتني الملكة. وشكرني الملك.»
استيقظنا صباح أمس في الساعة الثالثة، وكنا خارج المدينة بحلول الساعة السادسة، عازمين على بلوغ أصفهان في يوم واحد. بعد عشرة أميال، أصبح الطريق جليدًا طافيًا؛ إذ كانت كومة جليد قد ذابت وتجمَّدت مرة أخرى. زدت من سرعتي. سقطنا على مسافة عشرين ياردة، وكِدنا ننقلب، حتى توقفنا تمامًا توقُّفًا سيئًا. في هذه اللحظة أشرقت الشمس، وأضاء وميض من النار الأرض المنبسِطة الجليدية، فاكتست سلسلة جبال ألبرز البيضاء باللونين الأزرق والذهبي، وداعبت نفحة من الدفء الرياح المحمَّلة بالثلج. أبهجَنا جمال المشهد، فرجعنا إلى العاصمة.
وتجنبًا لرُهاب الأماكن المغلقة، قضينا اليوم في الجبال أعلى دربند؛ حيث يوجد قصر لمارجوريبانكس. تبادل كريستوفر أطرافَ الحديث مع أحد البستانيين الملكيين. يبدو أن مارجوريبانكس يحب الزهور.
رحل كريستوفر في الثالث من الشهر. أُصبت فجأةً بإعياء ليلة أمس، من نفس تلك العدوى الأفغانية، واضطررت للذهاب إلى دار التمريض بدلًا من الذهاب إلى أصفهان؛ حيث وضعوا لي الكمادات، واستخدموا معي المِشرط والحجامة، وطهَّروا جسدي ١٠٠ مرة في اليوم. دارُ التمريض إنجليزية، وهي مفخرة للمستعمرة، غير أن إدارتها تُشكِّل مصدر خلاف بين المفوَّضية وشركة النفط الأنجلو-فارسية قد يهدِّد بقاءها.
يقول الطبيب إنه يمكنني المغادرة بعد غد.
وأوصلني السيد والسيدة هوفلاند. كان السيد هوفلاند قنصلًا في كرمانشاه، ونظرًا لأنه قد نُقل الآن إلى شيراز، فهما ينقلان محلَّ إقامتهما ومعهما سيارتان وكلب إسبانيل أسود. هطلت الأمطار لمدة عشرين ساعة قبل أن ننطلق، وقد مررنا بوقتٍ عصيب؛ فلو كنا أخذنا قاربًا لكان أسرع من السيارة في مثل هذا اليوم.
يتناغم الضريح هنا، مع أنه أُعيد بناؤه في أوائل القرن التاسع عشر، مع قبَّته الذهبية الطويلة وأربع مآذن زرقاء.
كنا نتوقَّع الوصول إلى أصفهان في موعد تناول الشاي، ولكن أحد انحناءات الطريق كشف عن شاحنتين وسيارة فورد غارزة في سيلٍ بعرض خمسين ياردة. لم يكن ثَمَّة شيء نفعله سوى العودة إلى هذه القرية؛ حيث استأجرنا المنزل الرئيسي. بالمنزل بُرجا رياح يقودان إلى غرفٍ سريَّة يمكن فتحها في الصيف لتولِّد تيار الهواء الملائم، وغرفة كبيرة مزيَّنة بأنماطٍ من المرايا في الجص، ومعلَّق تحتها صور للسادة أعضاء مجلس الوزراء يرتدون سترات نورفولك التقطت في بومباي في الثمانينيات. وبينما كانت السيدة هوفلاند تقود كلبها الإسبانيل متخطيةً العتبة، اندفعت عجوز شمطاء حولاء العينين محتجَّةً، خوفًا من أن يدنس الحيوان النجس المكان الذي نام فيه يومًا أحد الرجال الأتقياء. أسكتها الإخوة الذين يملكون المنزل، وكانوا يريدون الأجرة التي دفعناها.
عصرًا، رسمت الفناء، حيث جذع شجرة مُقلَّم، وبِركة فارغة، وصفُّ ملابس مغسولة يقطر بأكمله بمياه الأمطار؛ مما يعطي فكرةً جديدة عن الحديقة الفارسية. وفي نهايته يوجد منزل صيفي مقنطر، لكن ما إن وضعت القلم على الورقة لرسمه حتى انهار مُتكوِّمًا. منذ ذلك الحين، وقعت حوادث تحطُّم أخرى في أماكن أخرى بعيدة. كمادة بناء، طمي دليجان غير مناسب للطقس السيئ.
أجلس في غرفتي الصغيرة بجوار نار حطب متقدة، بينما يقرأ لي أغا محمود، أكبر الإخوة، عن الإمام الحسن من النصوص المقدَّسة الشيعية. يتوقَّف من آنٍ لآخر، ليهمس بأن المنزل منزله هو، وأن الأجرة يجب أن تُدفع له وحدَه.
استمرت أصوات القصف الناتجة عن المباني المنهارة طوال الليل. لا يكاد يوجد سقف سليم في القرية بأكملها.
هطلت الأمطار ليلًا مرة أخرى في دليجان. ارتدينا ملابسنا ونحن فاقدون للأمل، وكنا نتناول فطورًا على مهلٍ حين جاءت الأخبار بأن النهر قد انحسر «ولكنه سرعان ما سيرتفع مجددًا». في غضون خمس دقائق كنا نقطع الطريقَ بسرعةٍ كما لو كنا نهرُب من الموت، ومعنا فلَّاح يحمل مجرفةً جالس على درجة الصعود لكل سيارة. عبَر هوفلاند السيلَ بحركة متعرِّجة سريعة، ووصل سالمًا إلى الجانب الآخر. علِقتُ أنا والسيدة هوفلاند حتى دفعَنا عشرون رجلًا.
كان يوجد وقتٌ للتجوُّل بالسيارة في أنحاء أصفهان قبل حلول الظلام. بعدما مررت بقصر شيهل ستون (وتعني بالفارسية: الأربعين عمودًا)، الذي كان مألوفًا لي منذ وقت طويل من صوره التي تظهر فيها أشجار الصنوبر المنعكسة على البِركة وشرفته الضخمة، دخلت الميدان. تطوِّق أروقةٌ مقنطرةٌ ساترةٌ مطليةٌ بالكَلْس الأبيض، في صفَّين، مساحةً بطول ربع ميل وعرض ١٥٠ ياردة. في الطرف القريب، بجواري، تقف أطلال بوابة البازار؛ وفي الطرف البعيد، في مواجهتها، البوابة الزرقاء لمسجد الشاه بقبَّة وإيوان ومآذن متكتِّلة بانحرافٍ خلفه في اتجاه مكة، وأمام كلٍّ منهما موقعان رخاميان لتسديد الأهداف في لعبة البولو. يظهر على اليمين ذلك القَصر الذي يشبه صندوقَ أحذية من القِرْميد، قصر عالي قابو، وفي مقابله قبَّة مسجد شيخ لطف الله على شكل صحن مزيَّن بالأزهار، والتي تميل من جوانبها فوق تجويفٍ أزرق. متناسقة، ولكن ليس بدرجةٍ كبيرة. جَمال المشهد يكمُن في التباين بين البراح التقليدي والتنوُّع الشاعري للمباني. لإفساد هذا التأثير، ولإظهار أن السادة البختياريين لم يَعُد مسموحًا لهم لعب البولو أو تدريب خيولهم هنا، شيَّدت النهضة سطحًا مائيًّا مزخرفًا في المنتصف. يحيط بهذا سياج حديدي قوطي وأحواض أزهار بتونيا مزروعة حديثًا.
يرجع تاريخ الميدان وآثاره للقرن السابع عشر. أما مسجد الجمعة، في قلب المدينة، فأقدمُ من ذلك؛ فقد بُني في القرن الحادي عشر. هنا، كما في المسجد نفسِه في هِرَات، تاريخ المدينة بأكمله متمثِّل في مبنًى واحد وترميماته؛ حيث يتراجع سحر اللون الصفوي، وكذلك التيموري، أمام عظمة وقاره. فجانب كبير منه غير متقن، وبعضه قبيح. ولكن القبَّة البيضاوية العظيمة المصنوعة من القِرْميد العادي، التي شيَّدها مَلِك شاه السلجوقي، لا تماثلها إلا قلةٌ قليلة في ذلك التعبير الخالص عن المضمون الذي يميز القباب الإسلامية.
كان الغسق يحلُّ عندما وصلتُ مَدرسة والدة الشاه، التي بناها السلطان حسين الصفوي عام ١٧١٠. عبر المدخل، قادت بِركة عميقة وضيقة إلى قوسٍ سوداء، وعكسَتها بلا تموُّج، مُشكِّلةً، إن جاز القول، ورقةَ لعب معمارية. كانت فروع أشجار الحور القديمة ذات السيقان البيضاء قد قُلِّمَت لتوها، وكانت الأغصان والفروع متناثرةً فوق الطريق الممهَّد. خرجت إلى شار باغ، جادة شاه عباس، وسرتُ بالسيارة تحت صفٍّ مزدوج من الأشجار إلى جسرِ علي وردي خان، الذي يحمل الطريق إلى شيراز، والمشهد الملكي، عبْر النهر إلى منحدرٍ بطول ميل. يطوِّق الجسر الطريق بجدرانٍ مقوَّسة، وخارجها يمتد رُواق مقنطر صغير للمسافرين سيرًا على الأقدام. كان المكان مزدحمًا بالناس، وكانت المدينة بأكملها تُهرع للانضمام إليهم؛ فلم يحدث من قبلُ فيضان كهذا تعيه الذاكرة. انبعثت الأضواء. وتحرَّكت نسمة خفيفة، وللمرة الأولى خلال أربعة أشهر أشعر بريحٍ لا برودة فيها. شممت رائحة الربيع، والعصارة المنبعثة من الأشجار. كانت هذه واحدة من تلك اللحظات النادرة التي يشعر فيها المرء بالسكينة المطلقة، حين يسترخي الجسد، ولا يطرح العقل أسئلة، ويصبح العالم مبهجًا، يصبح مِلكًا لي. كان الفِرار من طهران يعني لي الكثير.
ثمَّة مؤيِّد أكثرُ إنسانيةً للأخلاقيات الإنجليزية، وهو رئيس الشمامسة جارلاند، الذي عاش هنا ثلاثين عامًا. خلال ذلك الوقت، حسبما اعتاد القول، كان لديه مهتدٍ واحد للمسيحية. كان ذلك المهتدي امرأة عجوزًا، نُبذَت بسبب رِدَّتها، حتى إنها وهي على فِراش الموت كان رئيس الشمامسة هو الصديق الوحيد الذي استطاعت أن ترسل في طلبه. قالت له إنها كان لديها طلب واحد فقط.
سأل رئيس الشمامسة، توَّاقًا إلى أن يُهوِّن اللحظات الأخيرة عن المرأة التي تحت عنايته: «ما هو؟»
«أرجوك أن تستدعي مُلَّا.»
فعل ذلك، وحكى القصة بعدها.
اكتملت سعادتي بالمشي تحت المطر بعد ظهيرة هذا اليوم بعناق من جثة. كانت مارَّةً على نقَّالة، وكان الطريق مُوحِلًا، فاصطدمت بها؛ فانفلتت اليدان والقدمان متشنِّجةً من تحت غطاءٍ ذي مربَّعات.
توجد كاتدرائية أمريكية في جلفا على الضفة الأخرى من النهر، وهي تشبه ضريحًا إسلاميًّا من القرن السابع عشر. الجدران بداخلها مغطَّاة برسوم زيتية على النمط الإيطالي لذلك العصر. وملحق بها متحف، لكن كنوزه ذات أهمية تاريخية وليست فنية.
وصلت وآل هويلاند هنا مبكرًا؛ وعندما رأيت حصانًا جيدًا في الشارع، سألت رئيس الشرطة عما إذا كان من الممكن أن يجعلني أمتطيه ساعةً. على الفور جيء بفحلين يُرغِيان ويُزبِدان عند بوابة الاستراحة. فانطلقنا بالخيول عبْر الحقول بسرعة عالية، وولَّينا وجْهَينا صوب شمس الغروب، حتى إنني لم أستطِع رؤيةَ الحفر ولا الحواف والحصان يخطو عليها. كنا نسعى لإيجاد حديقة منعزِلة. لبضع دقائق جلس الشرطي حبيب الله صامتًا، مسحورًا بصوتِ أحد الجداول وتلألؤ مائه. قال برِقة: «يجب أن تأتي هنا في الصيف.» ثم تحدَّث بعد ذلك، كما لو كان خجِلًا من مشاعره، عن الصيد: صيد الغزلان والخِراف البرية.
ولأن الحصان البُني الذي امتطيته كان مِلْكه، فقد أعطيته عشر كرونات. في وقتٍ لاحق في المساء، أعاد لي المال بأمرٍ من رئيس الشرطة. وقال إنني إن كنت أريد أن أُسدي له معروفًا، يمكنني أن أوصي به عند رئيس الشرطة في شيراز.
آباده قريةٌ ثرية. الشارع الرئيسي مفروش بالحصى بعناية، وأهلها موسرون، ويصنعون أفضلَ الأحذية في بلاد فارس. الطقس شديد الجفاف. حتى الآن، حيث يغمر الماء كلَّ مكان آخر، ليس لديهم أي أمطار.
مذاق نبيذ جلفا الأحمر يشبه البورجندي الذي يُزرَع في اليونان. شرب كلٌّ منا زجاجة اليوم.
توقَّفنا بضعَ دقائق في موقع برسبوليس الأثري على الطريق من آباده، وصعدنا دَرَج قاعة الرقص الكبيرة إلى المصطبة. لطالما انتابني الفضول حيالَ الحجر المستخدَم هناك. الأعمدة من رخام أبيض، أثَّرت فيه العوامل الجوية فجعلته كريميًّا وبُنيًّا وأسود، وله بريق وردي، ولكنه طبشوري أكثر، وأقل شفافية من رخام جبل بينديلي؛ حيث يفتقر إلى هذا التأثير الممتص لأشعة الشمس الذي هو سر جمال البارثينون. النقوش البارزة محفورة في حجر رمادي باهت، معتِم تمامًا وذي ملمسٍ ناعم للغاية، حوَّله تعرُّضه للعوامل الجوية إلى لون أسود مبرقش.
لم يُتَح وقتٌ لرؤية بيت الدَّرج الجديد، ولكننا تركنا بطاقات لهِرتسفلد لتحضيره لزيارة طويلة.
شكَّل الوصول إلى القنصلية لحظةً حاسمة لآل هويلاند، الذين يتعيَّن عليهم أن يتخذوها بيتًا لهم طوال السنوات الثلاث القادمة. عندما جلسنا لتناول الشاي، دخل كريستوفر سعيدًا جدًّا باكتشافاته فيما يتعلق بخِسَّة فاسمس، ذلك العميل الغامض للقبائل الفارسية في الحرب، الذي كان سيشغل الآن منصبَ الكولونيل لورنس لو أن الألمان كانوا قد انتصروا في الحرب. إننا ذاهبون إلى فيروز آباد معًا؛ حيث سينشغل بطوبوغرافية معركة بين الجنود البريطانيين والقبائل الساخطة، وسأنشغل أنا بقَصر أردشير.
لا تزال توجد آثار للاحتلال البريطاني هنا. فلا تزال سيارات الأجرة تحمل إعلانات لجِعة تينانت. وقدَّم لنا مدير الفندق رقائقَ البطاطس على العشاء. أوجدت الطبيعة، قبل الحرب، في المنطقة المحيطة جبلًا منفردًا، يكمل مشهد الشارع الرئيسي مع صورةٍ ذاتية، بوضعية منحوتات ليسيبوس، للورد بلفور مستلقيًا على ظهره. يُسمَّى هذا الآن کوهی برفي، وتعني جبل الثلج. ربما كان سيبدو اسمًا منطقيًّا لو كان يوجد عليه ثلج في أي وقت من الأوقات. ولكن لا يوجد. اسمه الحقيقي هو كوهي بلفور، و«برفي» هو تحريف فارسي للاسم.
عندما ذهبت للبعثة الإنجليزية لأخذ حقنة، عرضت عليَّ الدكتورة ميس، وهي طبيبة سيدة، سيجارةً، وأخذت واحدة لنفسها. إنه الجنوب مرة أخرى!
آثارُ شيراز مشوقةٌ أكثرَ من كونها مهمة؛ رغم أنه يبدو أن واجهة فناء مسجد الجمعة، الخرِبة في حد ذاتها، تغطي بناءً بالغَ القِدَم. يقف ما يشبه خيمة حجرية في منتصف الفناء، محاط بأربعة أعمدة دائرية سميكة مبنية من حجارة منحوتة. الأجزاء العلوية من هذه الأعمدة، التي لا تدعم شيئًا الآن، مُطوَّقة بنصوص محفورة في الصخر ولكنها محاطة بخلفية زرقاء. هذا هو المثال الوحيد الذي رأيت فيه استخدام الحجر والخزف معًا. إنه ليس مزيجًا موفقًا، كما يمكن للمرء أن يستنتج من نسخ «سار» لنقوش الآيات القرآنية.
فِناء المدرسة خَرِب أيضًا، وهي حالة تسهم في تحسين مظهر بلاطاته ذات الأزهار الوردية والصفراء التي تعود إلى القرن الثامن عشر. الزينة الرئيسية في المكان هي شجرة تين مورِقة بجوار بِركة ثُمانية الأضلاع. تؤدي إليها رَدهة ثُمانية جميلة مغطَّاة بقبَّة على شكل صحن على حنايا مقرنصات مسطَّحة على شكل أجنحة الخفاش. وهي مزيَّنة بفسيفساء غنية بالألوان الباردة تعود إلى القرن السابع عشر.
خارج البلدة يوجد مبنًى مربَّع مرتفع، كان ذا قبَّة يومًا ما، ويُعرف بالخاتون، ويُقال إنه ضريح ابنة أحد ملوك آل مظفر، مع أنه يبدو أحدثَ من ذلك. الواجهة منهارة، لكنَّ الجانبَين والخلفية، المبنية بقِرْميد عادي، محفوظة بصفوف مزدوجة من ألواح مقوسة، لكلٍّ منها ركنيات فسيفسائية. والقِرْميد بلون برتقالي وردي كالتلال.
خلف هذا، تقبع حديقتا حافظ وسعدي، اللتان تضم كلٌّ منهما مقبرةَ الشاعر، وحدائق كثيرة أخرى مبهجة بنفس القَدْر بما تحوي من أشجار السَّرو والصَّنوبر والبرتقال، التي يرفرف عليها الحمام الأبيض وتُغرد عصافير الدوري. وعلى الأرض الجرداء بالخارج، كانت جلود الحُمْلان تُجفَّف أو تُجمَع في حُزَم؛ حيث يأتي موسم ولادة الحُمْلان مبكرًا جدًّا في الجنوب.
ذهبت هذا المساء لمقابلة بيرجنير، وهو عضو في فريق هِرتسفلد، ولأستشيره حول التقاط صور فوتوغرافية في برسبوليس. عملًا بنصيحته، كتبت خطابًا لهِرتسفلد أطلب منه الإذن رسميًّا، ولكن مع الحرص على إنكار أي رغبة في سرقة اكتشافاته الجديدة. كان بيرجنير يقيم بالقرب من البوابة المكتوب عليها «الله أكبر»، وإذ كان أمس هو يوم الجمعة، كان جميع أهل شيراز يسلكون هذا الطريق، بعضهم يتمشون لرؤية أصدقائهم والمدينة أدناهم، وبعضهم عائدون من نزهاتهم، وكثيرون منهم على ظهور الخيول. الخيل هنا متعةٌ لا حدود لها؛ وذلك لأنها في الأغلب من دماء عربية، مع أن عظامها ليست قوية كالخيول العربية الصحراوية، وتنجو من ذلك المظهر الهجين الهزيل الذي يأتي من التزاوج مع سلالات التركمان في الشمال. وهي مجهَّزة جيدًا، عادةً بسرج من القماش موقَّع عليه بالأحرف الأولى. وحتى الحمير مجهَّزة بتأنُّق؛ فالحيوانات البيضاء الكبيرة محمَّلة بالوسائد والشراشيب والحبال، بحيث يعدو الخيَّالون والحمَّارون جنبًا إلى جنب على قدمِ المساواة في القافلة البهيجة. الحمير لمن هم في منتصف العمر، والخيول الأصغر للصبية الأصغر الذين يمتطونها بثباتٍ عجيب. يستعيد الفُرس هيبتهم على ظهور الخيل؛ فلا يمكن حتى للقبعة البهلوية أن تفسد ذلك عليهم. يجلسون جيدًا على السَّرج ويبقون عليه، كما لو كانوا قد نمَوا على ظهر حصان. ومع ذلك، حسب كلام كريستوفر الذي لعِب البولو معهم عندما كان ملحقًا دبلوماسيًّا، فليس لديهم مقابض في اللجام، ويمتطون الخيل معتمدين اعتمادًا كاملًا على التوازن.
النبيذ هبةٌ أخرى من هِبات جنوب بلاد فارس. وقد ذاعت شهرته، ويتجادل علماء الاشتقاق اللغوي حول ما إذا كان اسم شراب الشيري مشتقًّا من كلمة «خيريز» الإسبانية أم شيراز الفارسية. اكتشفنا هنا حتى الآن ثلاثة أنواع: نبيذ ذهبي جاف جدًّا، وهو ما أفضِّله على أي شراب شيري آخر، مع أن مذاقه ليس شهيرًا جدًّا؛ وكلاريت أحمر جاف، وهو عادي في البداية ولكنه مقبول مع الوجبات؛ ونبيذ وردي أكثر حلاوة، يبعث إحساسًا لذيذًا بالرفاهية. إن كان لكروم العنب أسماء، وإن امتلك المنتجون سدادات من الفلين، مما يتيح التمييز بين أنواع النبيذ المختلفة وتخزينها، ربما تنتج شيراز خمورًا حقيقية. لكن الفرس، المنفتحين بقدرِ انفتاح وجهات نظرهم في الدين، يشربون في الأساس من أجلِ ما في شرب الخمر من إثم ولا يعبئون كثيرًا بطعمها. بينما إن أدخل الأجانب هذه التحسينات، فسيحاولون لا محالةَ محاكاةَ علاماتهم التجارية، كما فعل الألمان في تبريز. نبيذ هوك من الدرجة الثانية صالح للشرب، ولكنه ليس لذيذًا؛ فأنا أفضِّل نبيذًا أسوأ له مذاقه الخاص. وريثما يتحقَّق ذلك، يخطِّط السيد والسيدة هوفلاند، اللذان عاشا كثيرًا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لبحثٍ منهجي عن كروم العنب في الخريف القادم.
ذهبت أنا وكريستوفر إلى رئيس الشرطة لاستكمال الرسميات العادية، ولطلب الإذن بالذهاب إلى فيروز آباد، وهو الأمر غير المضمون غالبًا بسبب تمرُّد القشقاي؛ وفي الواقع يبدو أن هِرتسفلد وأوريل شتاين هما الشخصان الوحيدان اللذان شاهدا الآثار هناك منذ ديولافوي في الثمانينيات.
قال رئيس الشرطة محملقًا فيَّ: «أنت، يمكنك الذهاب. ولكن يجب أن تذهب وحدَك.»
«لا أفهم. أتعني أنني يمكنني الذهاب وأن سايكس لا يمكنه؟»
«بالضبط.»
كان هذا مخزيًا بما يكفي. ولكن تَبِعه ما هو أسوأ. عندما سعينا للخروج بالسيارة من المدينة لاستنشاق هواء الجبال، أوقفت الشرطة السيارةَ عند بوابة «الله أكبر»، ولم تسمح لنا بالتقدُّم إلا سيرًا على الأقدام.
زُرت الحاكم لاحقًا، وكان رجلًا واسع الاهتمامات؛ حيث قال إن الترجمة فن، كما تعلَّم من ترجمة نصوص أفلاطون وأوسكار وايلد إلى الفارسية. عندما أخبرته بما واجهناه من الشرطة، اتصل هاتفيًّا برئيس الشرطة، الذي قال إنه لم يكن ثمَّة خطأ.
عندما سمِع كريستوفر هذا، ذهب مجددًا لمركز الشرطة وطلب تفسيرًا للأمر. وعندما حوصر رئيس الشرطة، كشف عن تلقيه أوامرَ من طهران لمنع كريستوفر من مغادرة المدينة. لم يكن يستطيع الذَّهاب إلى فيروز آباد؛ ولا متابعة طريقه إلى بوشهر؛ ولا الخروج إلى الصيد؛ ولا حتى التنزه في الريف مستقبلًا.
من بين جميع الأجانب الذين قابلتهم في هذا البلد، والدبلوماسيين، ورجال الأعمال، وعلماء الآثار من العديد من الجنسيات ومختلِف شروط الإقامة، فإن كريستوفر هو الوحيد الذي يحب أهل هذا البلد، ويتعاطف مع متاعبهم القومية المتزايدة، ويدعم باستمرارٍ فضائلهم، لدرجةٍ غير معقولة في بعض الأحيان. كان ينبغي للسلطات الفارسية، في نوبة رُهاب الأجانب الراهنة التي أصابتهم، أن تجعلهم آخرَ مَن تختصهم بالمضايقة وليس أولهم. إن مارجوريبانكس العجوز المسكين شديدُ الحساسية تجاه تعليقات الأوروبيين القائلة بأن الانتقام سهل. ولكن الرضا الذي يجلبه دفعُ شخصٍ خرِفٍ مصابٍ بجنون العظمة إلى نوبةِ غضب، ليس تعويضًا كافيًا عن تدمير متعة المرء الحالية في هذا البلد.
يوجد نوعان من الشرطة: «النظمية»، التي تتحكم في المدن، و«الأمنية»، التي تتحكم في الطرق والمناطق الريفية حسبما ينص القانون. عملًا بنصيحة رئيس الشرطة النظمية، ذهبت لرئيس الشرطة الأمنية؛ حيث يجب أن يكون رجاله مسئولين عن رحلتي إلى فيروز آباد. كان رجلًا بدينًا وظريفًا، وكان توَّاقًا لمساعدتي.
كان الحاكم قد اتصل به هاتفيًّا بالفعل موضحًا غرضي وهُويتي. ومن ثَم كان أول ما فعله هو أن هاتَف الحكام مستعلمًا عن غرضي وهُويتي. بعدما تلقى إجابة مُرضية، ذكَّر نفسه، وأيَّده الحاكم، أن الأمر سيكون أسهل إذا عرض الحاكم غرضي وهويتي في خطاب.
قبل أن أذهب لإحضار الخطاب، سألته عما إذا كان ينبغي أن يكون لديَّ مرافق؛ حيث كانت ثَمة شائعات بوجود لصوص على الطريق. أجاب بأنه لا لزوم لذلك. أسرعت بسيارة أجرة إلى الفُلك، وردَدتُ عبارات المجاملة، وامتدحت شجرة البرتقال التي يملكها الحاكم، وسألت عما إذا كان الخطاب جاهزًا.
قال بشكل جِدِّي: «ألا ترى أنه ينبغي أن يكون معك مرافق في الرحلة؟»
«في الواقع، لا بد أن تنصحني يا صاحب السعادة في ذلك الشأن. فقد قال رئيس الشرطة الأمنية إنه لا لزوم لذلك.»
«سأهاتفه …»
أجاب رئيس الشرطة الأمنية عبر الهاتف قائلًا: «بالتأكيد، بالتأكيد يجب أن يحصل على مرافِق. لا يمكنه الذهاب من غيره.» لكن كانت ثَمة صعوبةٌ ما. كان وزير المالية في البلاد قد بدأ لتوِّه جولة لتقييم الأراضي (لإدراج أملاك قوام المُلك، وأشياء أخرى)، وأخذ معه ١٠٠ حارس من الفرسان؛ ومن ثَم لم تتبقَّ أي خيول، وكان على أي مرافق لي أن يأتي سيرًا على الأقدام.
قلت: «في تلك الحالة، دعوني أستأجر لهم خيلًا.»
ارتأى الحاكم ورئيس الشرطة الأمنية أن هذا حلٌّ ممتاز.
في الوقت نفسه، كان السكرتير في الغرفة المجاورة يكتب خطاب الحاكم لرئيس الشرطة الأمنية. عندما اعتمده الحاكم، أُعِدَّت منه نسخة نهائية. فوقَّعها وختمها وسلَّمها لي. هُرعت إلى سيارة الأجرة، ورجعت إلى مقر الشرطة الأمنية بعد أقل من ساعتين من مغادرتي له.
سأل رئيس الشرطة الأمنية بلا مبالاة: «هل تظن أنك، ربما، ينبغي أن يكون معك مرافق يصحبك إلى فيروز آباد؟»
«في الواقع، لا بد أن تنصحني في ذلك الشأن يا صاحب الفخامة.»
«من رأيي أنه ينبغي لك الحصول على مرافق. هل سيكون رجل واحد كافيًا؟»
«بالتأكيد. فأنا لست مليونيرًا كي أستأجر خيلًا لفرقة من الجنود.»
«بالطبع لا، ومَن كذلك؟ أتصوَّر أن خمسة رجال سيوفون بالغرض. بطبيعة الحال، سيكونون جميعًا ممتطين لخيلٍ حكومية؛ فلدينا وفرةٌ منها يمكننا الاستغناء عنها. وقد يُسهِّل الأمور أن تأخذ ضابطًا معك في السيارة حتى كوار. سيُرتب لك الحصول على خيلك الخاص هناك. سآمره بالذهاب إليك في الفندق في الساعة الخامسة لترتيب الأمور.»
«فخامتك لطيف للغاية. أيمكنه المجيء في الساعة الثامنة بدلًا من الخامسة؛ لأنني سأكون في الخارج لتناول الشاي؟»
«كما ترغب تمامًا. سأخبره أن يأتي في السابعة.»
غادرنا في سيارة فورد، وكان الجمع يتكوَّن من خادمي الجديد علي أصغر والسلطان، والتي تعني القائد والسائق ومساعده وأنا، بالإضافة إلى الأمتعة والطعام والنبيذ. أسافر لمرة في حياتي كأمير توفيرًا للوقت؛ فمن دون خادم يستغرق المرء نصف اليوم يوميًّا في تعبئة وتفريغ الأمتعة.
عندما اقتربنا من الأراضي القبَلية، توقَّف السلطان لتفحُّص معاقل الشرطة الأمنية، وهي أماكن فارغة مبنية ببراعة تتخلل حواجزها منافذ. كان من الشائق رؤية آليات إخضاع القبائل ومشاهدة الشرطة الأمنية أثناء عملها. إنها هيئة جيدة التنظيم، وتُعد أفضل ابتكارات مارجوريبانكس.
انتهتِ المعاقل ومضمار السيارات عند كوار، وهي قرية مملوكة لحاجي عبد الكريم شيرازي، الذي بنى لنفسه منزلًا جديدًا للتو. يُشعرني هذا براحة على غير عادة، مع أنَّ الطمي على الجُدران لا يزال رطبًا. يُبقي مجرًى مائيٌّ البِركةَ في الفِناء صافية؛ حيث ينبثق من مِرزاب حجري.
خارج القرية، لديه حديقةٌ قديمة تبلغ مساحتها حوالي اثني عشر هكتارًا. أدخلني البستاني عبْر طاقةٍ في جدار مسقوف، وقضيت فترةَ ما بعد الظهيرة متجولًا في المسارات العشبية المستقيمة التي تُقسِّم الحدائق الفارسية إلى مربَّعات ومستطيلات. كل مسار عبارة عن جادة من أشجار الحَور أو الدُّلْب يرافقها سواقي ري، ويحتوي كل مربع بالداخل على أشجار فاكهة أو أرض محروثة فارغة. تبدو كلمة مربعات تقليدية، لكن في الحقيقة، كلمة مزرعة أو بَرِّية هي الكلمة الملائمة لوصف حديقة فارسية. تلاقى الشتاء والربيع عصر اليوم. حملت رياح دافئة قوية معها صوت تلاطم وهسهسةَ أوراق الدُّلْب الذابلة؛ مع أن تلك الأوراق زيَّنت الانحناءات الخضراء للسراخس الصغيرة. هنا وهناك، أزهرت أوراق الورد مبكرًا جدًّا، وكساها الصقيع. حملت فروع شجر التفاح الفارغة تشابكًا من الدبق الميت؛ وكان دبق مماثل آخر، في فرع كستناء ضخم منذ بضع مئات السنوات، عشًّا ﻟ «بالامدار»، بحسب البستاني؛ تُرى هل كان يعني عقعقًا أم سنجابًا. فقبَّته كانت تشبه قبَّة عشِّ أحدهما أو الآخر. خرجت أولى الفراشات: بلون أبيض مغبر، من نوع لم أكن أعرفه، وقد فقست حديثًا، وتطير متحيرة نوعًا ما كما لو كان العالم لا يزال بُنيًّا حتى إنها يصعب عليها رؤيته؛ وفراشة ملونة استيقظتْ حديثًا، وتعاين الحديقة التي عرفتها في سبتمبر بانقضاضات مألوفة من نقطة لأخرى. كانت بعض الأزهار في انتظارها. كانت شجرة خوخ (أو برقوق) تُزهِر، وحبست أنفاسي انبهارًا ببراعمها الحمراء؛ حيث أبرزت السماء الزرقاء المتلألئة البتلات البيضاء الشفافة والقصبات السوداء. من فوق الجدار، أطلَّت الجبال اللانهائية، بالألوان البنفسجي والبني المصفر، جدباء ومميتة. اجتذبني نعيق الحملان والأطفال إلى البوابة مرة أخرى. كانت فتاة صغيرة ترعاها بجوار مقبرة القرية؛ حيث كانت تقف ثلاث صنوبريات نائحة عملاقة من فصيلة السرو. قال السلطان: «تلك تُسمى «كَرج»، ولكن لمَ تقول إنها كبيرة؟ أنت لم ترَ تلك التي في بروجرد في لُرِستان.» طارت بومة رمادية من الشجرة الأولى، من فتحة كانت تتفحصها. في بِركة مستنقعية منقَّطة برءوس مدبَّبة صفراء من الزنابق المائية، كان دجاج الماء يُعشش بالفعل.
أستلقي في السرير بجوار زجاجة من نبيذ الروزيه. وعلي أصغر، الذي كان طباخًا لفوج بريطاني في الحرب، «يخبز» حَجَلًا في إناء. تجمَّع الخيَّالة وجُهِّزت الخيول. يقولون إنها رحلة تستغرق يومين على ظهور الخيول إلى فيروز آباد، ولكني آمُل أن ننجزها في يوم واحد.
بعد الحوادث المعتادة، من انقطاع حزام السَّرج، أو إسقاط حصان للأمتعة على الأرض أثناء قفزه، غادرنا في الساعة السابعة. عبَر الطريقَ قطيعٌ من الخنازير في طابور حسب أحجامها. كانت الأرض صلبة للغاية حتى إنها لم تمكِّنَّا من الانعطاف وتجاوزها، مع أن أحدَ المرافقين حاول ذلك؛ لكن العدْو السريع بالخيل في الطريق أدَّى بنا إلى أنْ نجاريها، وصاح الرجل: «أتريدون واحدًا؟» إن حقيقة أنني لم أكن أريد واحدًا، إضافة إلى رادع ضعيف زرعته قوانين الصيد الإنجليزية، جعلتني أتردَّد. انحرفَت بعيدًا، وخسرت فرصتي في رؤيةِ فارسيٍّ يطلق النار من فوق سَرج حصان وهو يركض بحصانه بأقصى سرعة.
كان سفح الجبل مكسوًّا بالشجيرات وأشجار الفاكهة البرية ذات الزهور الوردية. كان يقبع أسفل مني ذئبٌ ميت. بعد تسلُّق صعب، انتهى بانزلاق من فوق صخرٍ طيني، وهو ما كان صعبًا على الخيل، وصلنا إلى قمَّة ممر موك؛ ومن ثَم تَبعنا مجرًى مائيًّا كانت ضِفافه مرقَّطة بسنابل العنب ذي اللون الأزرق الداكن. أوصلنا هذا إلى خانق زنجيران، وهو معبر ضيِّق بين جرفين متدليين ومكان يُشتهر باللصوص. اختفى الطريق. ولم يَعُد هناك مكان إلا للمجرى المائي، الذي كان مسدودًا حتى عمقٍ غيرِ معتاد بخليط من الصخور، وجذوع الأشجار، والعليقات؛ ومن ثَم بالكاد استطاعت الخيول أن تشقَّ طريقًا. بمجرَّد خروج المياه من الخانق، جُمِّعت في قنوات ري تُفرِّع هذا الطريق وذاك بمستويات مختلفة.
اعترضتنا أرضٌ منبسطة ساخنة مغطَّاة بشجيرات صغيرة، تفصلها عن أرضٍ أخرى مماثلة لها درجةُ ارتفاعها ١٠٠ قدم، ورأينا من حافتها قرًى على مسافة بعيدة. كان جرفٌ أسود في الجبال المقابلة هو وجهتنا: التنجآب أو ممر المياه. جلست في إسماعيل آباد تحت شجرة على رقعة من الحشائش الخضراء النَّضرة المتناثر عليها عظام ثور، وأكلت سلطانيةً من خُثارة اللبن.
كان مكانًا متداعيًا، وكانت فرائص الزعيم ترتعد؛ لأن الشرطة نادرًا ما تُرى في هذه الأنحاء. قال بطريقة تبريرية: «كان ينبغي أن تذهب هناك إلى إبراهيم آباد.» عندما طلبت منه إحضار حصاني، أساء الفهم، وظن أنني أريد حصانًا جديدًا، وأحضره لي. كانت هذه رفاهية كبيرة يصعُب التخلي عنها. أعطيته خمس كرونات، أبى بنفور أن يقبلها، حتى استخدمت الطريقة التي لا تخيب، وهي أن قلت: «لأجل أطفالك.»
طبقات حيود ممر المياه قُطرية، كما لو أن فأسًا قد شقَّت الجبل وسينطبق على نفسه مرة أخرى إذا دُفِع؛ لم يسبق لي أن رأيت شيئًا كهذا، أو مثل الخانق الذي تبِعه، منذ ما رأيت تلك الخوانق في أجيا روميلي على شاطئ كريت الجنوبي. عندما اقتربنا منه، انعطف فجأةً نهر، كان قد وصل لقاعدة التلال من الشرق، بزاويةٍ قائمة إلى المعبر، وبدا أنه يتدفَّق سريعًا لأعلى، وهو خداع بصري استمر طَوال الأميال الأربعة للخانق. يقع عرضُ هذا التكوين الاستثنائي ما بين نصف ميل و١٠٠ ياردة؛ ويبلغ ارتفاع جروفه من ٥٠٠ إلى ٨٠٠ قدم. يقطع المسارُ النهر ويعاود قَطْعه في مساره الأفعواني. في المنتصف تقريبًا، رأيت أولى علامات للعصور القديمة: قلعة ساسانية جاثمة على نتوء الجُرف الشرقي، ومتصلة بحصنٍ أصغرَ بجدار طويل. يُعرف هذان المبنيان بقلعةِ دختر وقلعة الباشا. كلمة «قلعة» بالفارسية تعني «حصنًا»، و«دختر» بالفارسية تعني «بنت»، فهي تقابل كلمة «ابنة» في لغتنا. ولكني كنت قد نسيت هذا في تلك اللحظة، وعندما سألت علي أصغر عن معناها، أجاب فجأةً بالإنجليزية قائلًا: «دختر أيها السيد؟ دختر هي الآنسة الصغيرة.»
قادت طبقاتٌ أرضية مذهلة إلى هذا الجُرف الشرقي، المكوَّن من كتل مستطيلة ضخمة بطول ثلاثين قدمًا وعرض عشرين؛ وظننت في البداية أنها طرق اصطناعية، كالتي بناها الإنكا لمدينة كوسكو. بحلول هذا الوقت، كان الضوء يخبو. وكان علي أصغر والأمتعة متأخرين بأميال. كان معه ثلاثة من المرافقين، ولكنَّ الاثنين اللذين كانا معي تزايد توترهم.
سألت: «ما الأمر؟»
«اللصوص.»
«ولكن العظيم رضا شاهنشاه قضى على جميع اللصوص في بلاد فارس.»
«آه، هل فعل؟ لقد أطلقوا النار الشهر الماضي على أربعة خيول كانت معي، وأصابوني في رأسي. سيقتلونك يا صاحب السعادة من أجل كراون واحد.»
خرجنا أخيرًا عبْر البوابة الجنوبية على الضفة الشرقية للنهر. كان لا يزال يوجد ما يكفي من الضوء لتمييز، من على بُعد نصف ميل على الجانب الآخر، الخيال المقنطر لقصر أردشير الكبير، الذي كان رجالي يطلقون عليه اسم «آتش خانة» أو بيت النار. ولاحقًا، وسط الحقول المفتوحة، كان يوجد ما يكفي من ضوء النجوم لرسم صورةٍ ظلية لمئذنة ذات سُمك هائل. لم يكن لدى الرجال أدنى فكرة عن مكان البلدة، لكن قرية، أرادوا التوقُّف فيها، هدَتهم إلى التخلُّص منا. في غضون نصف ساعة وجدنا أنفسنا وسط شوارع صامتة وجدران يغمرها ضوء القمر. أرشدنا شبح رجلٍ مارٍّ إلى منزل الحاكم.
صعدت إلى الطابق العلوي.
لم يكن يوجد أثاث في الغرفة. في وسط الأرضية، كان يوجد مصباح نحاسي طويل، يلقي بوهجٍ أبيضَ بارد على السجاد الأحمر والجدران البيضاء العارية. كان يقف وسط وعاءين من البيوتر، أحدهما مملوء بأفرع لأزهار فاكهة وردية، والآخر بباقة من أزهار النرجس الصفراء ملفوفة حول باقة من أزهار البنفسج. بجوار أزهار النرجس، كان يجلس الحاكم واضعًا رجلًا على الأخرى، ويداه مطويتان في كُمَّيه؛ وبجوار الأزهار الوردية كان يجلس ابنه الصغير، الذي مثَّل وجهه البيضوي وعيناه السوداوان ورموشه المقوَّسة الجمالَ النموذجي للمنمنمات الفارسية. لم يكونا منشغلين بأي شيء، لا كتاب ولا قلم ولا طعام ولا شراب. كان الأب والابن غارقَين في مشاهد الربيع ورائحته.
كان اقتحام رجل همجي غير حليق يعلوه الغبار مترنحًا من التعب امتحانًا لأخلاقهما نجحا في اجتيازه، ليس دون ذهول، ولكن أيضًا بنشاط ومودة، لا بد أنهما عكَّرا حالة تأملهما الشاعري. بينما كنت أنخفض إلى الأرض، مُصرصرًا ومتمددًا ككلب في بيت صغير، وممتعًا أنفي بأزهار النرجس، أُشعلَت النار، وأعيد تسخين وعاء السماور، وسُكب النبيذ الأحمر الثقيل؛ وقطع الحاكم اللحم بيديه ووضعه في أسياخ لكي يصنع لي كبابًا، وشواه فوق جمر من الفحم؛ ثم أخذ يُقطِّع اليوسفي ويضع عليه السكر ليُعِدَّ لي الحلوى. وفي النهاية، بلغ به الكرم أن عرض عليَّ سريره. أوضحت له أن سريري كان في الطريق، وطلبت الحصول على الغرفة السفلية لأضعه فيها.
لا توجد شرطة في بلدة السوق القَبَلية الصغيرة هذه، لا شرطة أمنية ولا نظمية؛ ويعتمد أمن الحاكم على بضعة جنود. يلبَس الناس ما يشاءون؛ حيث يرتدي الرجال عباءات مخطَّطة، وأوشحة فضفاضة يغرزون فيها الأسلحة، وقبَّعات سوداء على شكل الكعكة بلا حواف. القبعة البهلوية هي استثناء نادر. هذه أخيرًا هي بلاد فارس الأخرى، التي عشقها العديد من الرحالة، وإذ وجدتها كنت سأبقى فيها عن طيب خاطر البقاء لأسبوع إن استطعت. ولكن إذا أردت أنا وكريستوفر أن نصل إلى أفغانستان في الوقت المناسب لاتقاء «مصاعب الربيع» المتوقعة جدًّا، فإن علينا مغادرة طهران يوم ١٥ أبريل، ولا يمكنني التسكع. لا يعني ذلك أنه توجد حقًّا احتمالية كبيرة لقلاقل. ولكن مجرد وجود شائعة عنها كافٍ في حدِّ ذاته لغلق البلاد أمام الأجانب لشهر أو شهرين.
وهكذا، بحيوية مغايرة تمامًا لميولي، انطلقت لرؤية الآثار هذا الصباح. عرض عليَّ الحاكم حصانًا لعلمه أن حصاني لا بد أن يكون متعبًا. شكرته موضحًا أن مجرد الإتيان على ذكر السَّرج جعلني أئن، وبدأت في السير. تقع فيروز آباد في الواقع جنوبًا بعد بوشهر. كان الطقس شديد الحرارة. ورأيت من خارج البلدة النخيل يتمايل فوق الأسطح المستوية. كنت قد اجتزت مسافة الميلين ونصف الميل إلى غور، وهي المدينة التي أسَّسها أردشير حوالي عام ٢٢٠، وكنت أتندَّم على رفضي للمَطيَّة، عندما جعلتني جلبة خيول تلاحقنا أُدير رأسي. أولًا جاء الحاكم على فحلٍ بُنيٍّ يقف على قائمتيه الخلفيتين، وتبِعه ابنه على حصان رمادي يتواثب، ثم رئيس البلدية وبعض السادة الآخرين، ومن بعدهم حشدٌ من الجنود المسلحين، أحدهم يمتطي حصانًا أغبرَ كستنائيًّا. وفي وسط الرَّكب، تبختر حمارٌ أبيض ضخم يحمل جبلًا من السجاد بلا راكب. قال الحاكم: «هذا لك. ضيوفنا لا يمشون.»
ليس للبرج اسم، ولكن يُقال إنه يحدِّد موقعَ حجرٍ سقط من السماء. فيما حوله من جميع الجوانب، في دائرةٍ نصف قُطرها نصف ميل، تُظهِر الأرض الخطوط العريضة لعاصمة أردشير. يبدو أن العديد من الأركان، أو الجدران التي كانت قائمة عليها، كانت تحت الأرض مسافة قدم أو قدمين فقط، ولا تزال توجد مصطبة واحدة فوق الأرض. بُنيت هذه المصطبة بكتلٍ مستطيلة مقطوعة بإتقان ومرصوصة على الطريقة الأخمينية، وهي تختلف كثيرًا عن طريقة البناء العشوائية للبرج؛ حيث حجارة من أي شكل مغروسة في بحر من الملاط. أود أن أحفر هنا؛ فلا بد أنه الموقع الأغنى في بلاد فارس الذي لم يُنقَّب فيه بعدُ. نادرًا ما تتمتَّع البقايا الأثرية الساسانية بالجمال. ولكنها توثِّق لفترة مبهمة من التاريخ يتقاطع فيها العالَمان القديم والحديث.
ركب الآخرون خيولَهم وركبت أنا الحمار، الذي كان يسبق بفارق ضئيل جوادَ الحاكم في كل منعطَف مرفرِفًا بأذُنيه وواثبًا فوق كل خندق كما لو كان باستطاعته أن يسبق أي حصان على وجه الأرض. توقَّفنا عند حديقة في طريق العودة لنستريح تحت أيكة من أشجار البرتقال القديمة، ونحتسي خثارة اللبن بجوز الطيب. خارج البلدة، ألقى ثلاثة أطفال بثيابٍ رثَّة السلامَ على الحاكم من فوق ظهر جمل. كبح الحاكم الجَوادَ للخلف ليقف على قائمتيه الخلفيتين، كما لو كان المشهد لوحةً مماثلة للوحة «ميدان قماشة الذهب»، وردَّ بدوره عبارات مجاملتهم: «السلام عليكم. هل صِحَّتكم جيدة يا أصحاب السعادة بفضل من الله؟» كانت مزحةً رائعة، فضحكنا جميعًا، وكذلك ضحِك الأطفال. ولكنها عبَّرت أيضًا عن لُطفٍ حقيقي أثلج صدري تجاه حاجي سيد منصور أبطحي شيرازي، حاكم فيروز آباد.
كان اليوم هو اليوم المثالي؛ فهو اليوم الذي جعل الرحلةَ بأكملها من إنجلترا تستحق العناء، حتى وإن لم يتكرَّر مرة أخرى.
لم تكن البداية مبشِّرة بخير. ليلة أمس، عندما كانوا يُركِّبون لحصاني من إسماعيل آباد حدواته في البازار، كسر رَسَنه وفرَّ. وعدَني المُرافق بأحد خيوله عوضًا عنه، ولكنهم تأخَّروا في الاستيقاظ، ظنًّا منهم أنهم حينئذٍ كانت لهم أفضلية عليَّ. خارج البلدة، وجدنا الحصان المفقود، وهو ما جعلنا نتأخَّر أكثر. كان يأكل بتأنٍّ من حشائش الطريق وقد بدت عليه تلك الحالة من الحَيرة المفعمة باليأس التي تتسم بها الجياد المفقودة، وكان ينظر لأعلى بعينين خاليتين من التعبير من حين إلى آخر كما لو كان يبحث عن شخص طيب يأخذه إلى المنزل. أضعنا نصف ساعة في محاولة إظهار هذه الطيبة له، دخلت خلالها خيولنا في حالة من الهِياج بينما ظل الحصان، الذي كان ضائعًا، هادئًا في خمول وبراءة عاجزة كما كان من قبل، ثم قُدناه إلى الخانق. بقي أحد المرافقين على أُهبة الاستعداد في عقبنا، حتى إذا فرَّ الحصان عبْر الطريق الآخر لا يتمكَّن من الوصول إلا إلى مكانه الأصلي.
بدت أبعاد قَصر أردشير هائلةً بينما كنا نعبُر النهر، واستطاع أن يبرز ضآلةَ خيمتين للقشقاي معسكِرَتين على المرج أسفله. كانت هاتان الخيمتان سوداوين ومستطيلتين، وكانتا منبسِطتين على جدرانٍ حجرية منخفِضة. كانت الكلاب والأطفال والحُمْلان والدجاج تتهادى هنا وهناك فوق العشب؛ مما يجعل الهيكل الغريب فوقها يبدو أكبر بكثير. كانت امرأتان، ترتديان تنورتين بطَيَّات بكامل محيطهما، تدقان الذُّرة على قطعة قماش بواسطة مِدقَّات متصلة بعِصيِّ طويلة.
لم يكن ثَمَّة وقتٌ لقياسِ أبعاد القَصر كما ينبغي. ولكنني سرعان ما رأيت أن الارتفاع الذي ذكرته ديولافوي كان خاطئًا. هذا مثير للاهتمام بالنظر إلى أهمية المبنى من ناحية تاريخ العمارة، وحقيقة أن معلومات ديولافوي كانت حتى الآن المعلومات الوحيدة المتوفرة للكتاب حول الموضوع.
كان المدخل في الأصل جهةَ الجنوب، عبر إيوانٍ ذي سقف معقود. اليوم يواجه ما يبدو أنه الواجهة الرئيسية جهةَ الشرق، التي تُطِل عبْر النهر على فوَّهة الخانق. خلفها، على كلا الطرفين، يوجد فناءان، الجنوبي بمساحة نصف فدان، والشمالي بمساحةٍ أقل بعض الشيء. وتفصل بينهما سلسلة من ثلاث غرف مقبَّبة، تمتد أمام القَصر من جانب إلى آخر، واحدة خلف الأخرى. نصف الغرفة الشرقية فقط لا يزال قائمًا، ونصف قبَّته فوقه؛ ومن ثَم يظهر صف الواجهة للوهلة الأولى مقطوعًا برَدهةٍ مفتوحة بعرضِ ثلاثين قدمًا وارتفاع خمسين قدمًا. ولكن سرعان ما يرى المرء أنه في الواقع لا توجد واجهة على الإطلاق — ولكني أستخدم المصطلح للتيسير — وأن الجدار الشرقي بأكمله، القائم على حافة منحدرٍ أخضرَ يقيم عليه الآن القشقاي، قد انهار تدريجيًّا آخذًا واجهة الغرفة الأولى معه.
تبلغ مساحة الغرفتين الداخليتين أيضًا ثلاثين قدمًا مربَّعًا تقريبًا، ولقبَّتَيهما، المرتكزتين مباشرةً على حنايا مقرنصات ركنية بسيطة، نفس القُطر. قمة كل قبَّة مخترَقة بفتحة عريضة تبرز لأعلى حولها حجارة البناء الخارجية. لا تُدخِل هاتان الفتحتان حاليًّا إلا الضوء الموجود؛ إذا كانتا متضمنتين في الأصل، فلا بد أن الغرفتين أسفلهما كانتا مضاءتين بإضاءة اصطناعية، ولا بد أنه كان يعلو كلَّ قبَّة نوعٌ من القُبَيبة البدائية؛ ومن ثَم كنا سنكتشف سابقةً لتلك البروزات الاستثنائية لقباب العمارة الرومانسكية في بيريجو. ارتفاع قبَّة الغرفة الوسطى أعلى من ارتفاع نظيرتها في الغرفتين الأخريين بحوالي خمس عشرة قدمًا. وأعلى منها ارتفاع القُبَيبة الإهليلجية، التي تفصلها عن القبَّة الأمامية، والتي تشكِّل سقف الممر بين الغرفة الوسطى والغرفة الخارجية المهدَّمة. هذا الممر مقسَّم إلى طابقين، ولكنَّ بئرًا مفتوحة في أرضية الطابق العلوي يتيح للقُبَيبة أن تضيء الطابق السُّفلي. يفصل ممرٌّ مماثل بين الغرفتين الوسطى والخلفية. ويعلوه سقفٌ معقود ضخم، وهو مُعتِم بالكامل.
تسجل ديولافوي جميعَ القباب الثلاث بالارتفاع نفسِه، وتُغفِل قُبَيبات الممرَّات تمامًا.
سيتطلب الأمر وقتًا طويلًا لأستخلص التصميم من متاهة الجدران وكومات حجارة البناء الساقطة التي تشغل الفناءين. ومع ذلك، يمكن للمرء أن يرى أن الغرفة ذات السقف المعقود، أو الغرف التالية، كانت موازية للغرف المقبَّبة في الشمال. لم تَعُد القنطرة موجودة، لكن لا يزال الجداران المستعرضان، اللذان كانت قمَّتاهما شبه الدائرية تحملانها، قائمين. هذه الجدران مخترقة من الأسفل بممرات مقنطرة منخفضة كالتي في الجسور، وتُضاعِف دعامةٌ عند القمة الضرورية لدعم وزن الجدار من شناعة تقوُّسها؛ لأن ذلك التقوُّس أقل من تقوُّس القنطرة التي بالأعلى.
سماكة معظم الجدران خمس أقدام تقريبًا. الحجارة سليمة والملاط يملأ الفراغات. وكانت زخارف جصية تزيِّن الغرف الثلاث، التي توجد مُحسِّناتها المعمارية على طرازَين. أحدهما نطلق عليه الطراز الرومانسكي: حيث ترتكز الحاملات على طنوف بحليات نابية؛ وممرَّات بقمم مستديرة مؤطرة بتشكيلات متراكزة؛ وكوة مماثلة في الفناء الجنوبي بها أيضًا هذه القوالب ذات الحليات النابية. الطراز الثاني هو الطراز المصري الزائف، المنقول من برسبوليس: حيث تعلو المداخل المقنطرة ظُللٌ أفقيةٌ صدفية الشكل، تمتد للداخل والخارج، بتصميم على شكل ريش مُتشعِّب. هذا التجميع غير جذَّاب بما يكفي في بلده الأصلي وبحجارته الأصلية. ونظرًا لأنه يمثل تذكرة غير مباشرة، بمواد أرخص، فهو ينبئ بذوق مبنى مجلس مقاطعة لندن في أوائل القرن العشرين.
ولكن لا يرى جمالًا في العمارة الساسانية إلا علماءُ الآثار. فالاهتمام هنا تاريخي. فهذا القصر، الذي أُسِّس في بداية القرن الثالث الميلادي، هو مَعلَم من معالم تطوُّر البناء. إذ يتزامن ظهور الحنيَّة الركنية فيه، وهي قوس بسيطة عبر زاويتَي جدارين، مع ظهور الحنيَّة الكرويَّة، التي هي قنطرة على شكل طائرة ورقية تدعمها دعامة زاوية، في سوريا؛ ومن هذين الابتكارين استُمد طرازان معماريان رئيسيان، في غمرة معتقدين دينيين: الطراز الفارسي في القرون الوسطى، الذي تفرَّع ممتدًّا إلى بلاد الرافدين وبلاد الشام والهند؛ والطراز الرومانسكي البيزنطي الذي امتدَّ إلى حدود شمال أوروبا. قبل ذلك، لم تكن توجد وسيلة لوضع قبَّة على أربعة جدران مربعة، أو على مبنًى بأي شكل تتجاوز مساحته الداخلية بكثير مساحة القبَّة نفسها. ولكن منذ ذلك الحين، ومع تضخم أحجام الحنايا الركنية والحنايا الكرويَّة، ومع تعدُّد الأولى لتصبح نطاقات لمقرنصات وأركان على شكل أجنحة الخفافيش، أصبح من الممكن وضعُ قبَّة فوق مبانٍ بكل الأشكال والأحجام. بلغ التوسُّع المسيحي في استخدام هذه الإمكانية أوجَه في كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينية، وبدأ عهدًا جديدًا مع قبَّة برونليسكي في فلورنسا. تنتظر العمارة الإسلامية أن تُستكشف من أي أحد يمكنه أن يتحكَّم في أعصابه وسط مشاعر الغيرة بين القائمين على علم الآثار الحديث. ولكن ثَمَّة شيء واحد مؤكَّد. وهو أنه من دون هاتين القاعدتين اللتين نجد هنا النموذج الأوَّلي لأحدهما، لاختلفت العمارة التي نعرفها، ولما ظهر إلى الوجود العديد من الأشياء المألوفة للغاية للعالم أجمع، مثل كاتدرائية القديس بطرس، ومبنى الكونجرس الأمريكي، وتاج محل.
أودُّ لو كان بإمكاني الذهاب إلى سروستان. إنها أشبه بشيراز من هذه المنطقة، وبها قصر ساساني آخر، يوجد فيه صفٌّ من الأقواس البارزة عن الجدار المدعمة بأعمدة مستديرة. ربما تكون هذه المنطقة هي أصل تلك السِّمة الرائعة المميِّزة للعمارة الإسلامية، وأعني بذلك الأروقة المقنطرة. من المؤكد أن الأعمدة قد لعبت دورها في العمارة الساسانية، كما أظهرت أعمال التنقيب في دامغان، وبالنظر إلى الكفاءة الساسانية في بناء القناطر، من المرجَّح أنها استُخدمت في معظم الحالات لتدعيم الأقواس.
مدفوعًا بهذا التسلسل من الإلهام، نزلت من على السطح لأجد أن القشقاي قد أعدُّوا لنا الشاي. تفضَّل رجل مُسنٌّ من رجال القبيلة، وأخرج مثقابًا وخيطًا ليصلح الدعامة المتقاطعة في حقائب سرجي. كان أحد الرجال الأصغر سنًّا، بعدما قال إنه يعرف الطريق صعودًا إلى قلعة دختر، قد سبقنا لينتظرنا في الخانق. حيَّانا من أعلى عندما مررنا به على صهوة الخيل. كان الصعود أسهلَ مما كان يبدو، ولكنه كان مضنيًا بما فيه الكفاية.
عند رؤية القلعة من الخلف، تجدها قائمة على نتوء، وهي بذلك محمية من ثلاثة جوانب بجروف جبلية تكاد جدرانها الخارجية أن تكون شبه عمودية. كانت المرحلة الأخيرة في الصعود هي عبر مرتفع سنامي يربط بين النتوء والجرف الرئيسي. يؤدي هذا إلى خلفية المبنى، التي تواجه الشمال، وهي عبارة عن متراسٍ ضخم ليس به باب أو نافذة، ومنحَنٍ كما لو كان يحتوي على مدرَّج. ويستند إلى دعامات طويلة ورفيعة على مسافات متقاربة، ويتصل من أعلى بأقواس مستديرة.
زحفت بحذرٍ حول حافة الجدار؛ إذ كانت تهبُّ ريح عاتية، حتى وصلت إلى الغرفة المركزية.
بُنيت القلعة بثلاث شرفات. من الخانق بالأسفل، يمكن رؤية قوس سوداء شاسعة تؤدي إلى قبو بالجانب الشرقي. لم أتمكَّن من الوصول إليها؛ لأن المدرَّج الحلزوني المتصل بها كان مسدودًا، ولم أكن أرغب في النزول من الخارج. يوجد مدرَّجان بهذا الشكل، تحيط بهما أبراجٌ كانت في الأصل تؤدي من أسفل المبنى، مرورًا بالأركان الشرقية للغرفة التي كنت أقف فيها، إلى طابق ثالث بالأعلى.
بوجه عام هذه الغرفة تشبه الغرف التي في قصر أردشير، من حيث كونها مربَّعة وتدعم قبَّة على حنايا ركنية. تنتشر في الجص فتحاتٌ على شكل ثقوب رصاصات، ولكن الجص بخلاف ذلك يحتفظ بشكله على نحوٍ جيد جدًّا مع أنه ليس به أي زخارف. يخترق كلَّ جدار قوسٌ واسعةٌ ذات قمَّة مستديرة، وهي مفتوحة، في حالة الجدران الجنوبية والشرقية والغربية. ولكنها مسدودة في الجدار الشرقي، وكُسيت حجارة البناء بالجص. غير أن تصميمها الخارجي بسيط للغاية.
يقع هذا الجدار في ذلك الجانب من الغرفة الذي يقع في الجهة المقابلة من الخانق، ويحيط به من الخلف متراس خارجي منحنٍ. وهنا ظهر لغز. فبين الغرفة والمتراس تقع منطقةٌ كبيرة يبدو أنه لا يوجد مدخل إليها إلا القوس المسدودة حاليًّا أو عبر ممرٍّ خفي محفور عبر الصخر بالأسفل. لم أتمكَّن من رؤية أي مسار لممرٍّ كهذا من الخلف. قد يوجد واحد من القبو. ولكنني لا أظن ذلك. وذلك لأنني رأيت بعد ذلك أن آخرين قد لاحظوا هذا اللغز أيضًا، وقد حفروا بعمق في الجدار على كلا جانبَي القوس في محاولاتهم لاختراق المنطقة المسدودة. وما كانوا سيَهدرون جهدًا كبيرًا للغاية دون سبب. امتد طول الأنفاق عشرين قدمًا في حجارة البناء المصمَتة ووصل إلى طريق مسدود.
تؤدي القوس المقابلة بالجانب الجنوبي إلى منبسط عشبي بين جدران عالية، وهذا المنبسط يمتد ستين قدمًا إلى حافة الخانق. كانت هذه الجدران، كما رأيتُها من القمة الشبه دائرية للجدار عند الطرف الداخلي، تدعم سقفًا معقودًا قُطره بضع وأربعين قدمًا. كانت النهاية الأخرى مفتوحة دائمًا. ولذلك تمثِّل قلعة دختر في فيروز آباد نموذجًا ساسانيًّا آخرَ لثاني أهم المساهمات الفارسية في العمارة الإسلامية بعد القباب على الحنايا الركنية: وهي الإيوان أو الرَّدهة المفتوحة الواجهة. غيَّر هذا التكوين، أكثرَ من غيره، من طبيعة المساجد الأولى. وكان يُستخدم في البداية في جانبٍ واحد فقط، لإظهار المحراب والقبلة إلى مكة. ولاحقًا استُخدم أيضًا لكسر رتابة الجوانب الأخرى. ازداد تدريجيًّا في الارتفاع. وأصبحت واجهته المسطَّحة الأشبه بالساتر مجالًا لجميع أنواع الزخارف والكتابات. وظهرت المآذن على جانبَيه، والأروقة المقنطرة والقُبَيبات أعلاه. غيَّرت تقلباته وجه كل مدينة إسلامية، وكان من السار، حسبما تراءى لي، أن أجد نفسي جالسًا على فرع شجرة جوز قديمة وآكل برتقالة في المكان الذي بدأت فيه تلك الفكرة.
قال مرشد القشقاي فجأة: «أتريد رؤية الحمَّام؟»
كنت أريد بالفعل أن أعرف ما كان يعنيه؛ فالحمَّامات التركية لا توجد عادةً على قمم جبال منعزلة. حمل حراسي بنادقهم، وتبِعْنا الرجل نزولًا عبر درب صغير ملتوٍ بمحاذاة حافة الجرف. بعد بضع دقائق جرى الحراس صائحين: «نرجس! نرجس!» مفترضًا أنهم قد رأوا حيوانًا ما، تابعت سيري مع المرشد، الذي كان من المفترض أن يحموني منه، إن كانوا سيحمونني من أي أحد، ونزل في النهاية فوق الجرف وهو يشير إليَّ أن أتبعه. وجدنا أنفسنا عند فوَّهة نفقٍ تعلوه السراخس، وتنبعث منه رائحة نَتِنة، كما لو كان جُحر حيوان: وهي فكرة عزَّزها وجود بعض كومات من العظام والريش.
بعد اجتياز أربعين قدمًا في هذا النفق وصلنا إلى عتبةِ كهف. في ذلك الوقت، كاد الظلام يصبح دامسًا. وداهمَنا بخارٌ ساخن وصوت بقبقة. وفجأة حلَّت تحت أقدامنا طبقةٌ من الطين غير المستقر محلَّ الصخر الصلب.
قلت: «من الأفضل أن تذهب أولًا.»
قال القشقاي: «أظن أنه من الأفضل أن تذهب أنت أولًا.»
قررنا أن نضيء مشعلًا.
حتى هذا لم يكشف نهايةَ الكهف أو مكان البقبقة. أخذت شعلة، وما كدت أخطو على الطين حتى هيَّج الدخان سربًا من الخفافيش. لم يكن يوجد سوى مخرج واحد لها، وكنت أسدُّه. فررت من النفق إلى ضوء النهار، والهواء الناتج عن حركة أجنحتهم على عنقي؛ حيث وقفتُ أشاهد المخلوقات المؤذية الصغيرة وهي تتعلَّق وسط السراخس. كانت من النوع القصير الأذنين، وكان حجمها بين حجم عصفور الدوري والشحرور، ووجوهها الوردية الصغيرة تنظر إلى أسفل محملقةً فيَّ بحقد.
عندما نظرت من فوق الحافة لأرى ما إذا كان يوجد في وقتٍ مضى طريقٌ للصعود من الأسفل، وجدت آثار مسار بشري مبني على جانب الجرف. كان الملاط ساسانيًّا، وكذلك كانت حجارة البناء. ولذلك ربما كان الكهف في تلك الأيام يُستخدم كحمَّام تركي؛ فمن الصعب التفكير في سبب آخر يجعلهم يصنعون طريقًا إليه. لا تتناول السرديات الملكية الساسانية الأشخاص بخاصة. ولكنني بدأت الآن في تخيلهم وهم يرتدون النعال، إن جاز القول، في عطلات نهاية الأسبوع في قلعة دختر؛ حيث يستحم المصابون بالروماتيزم بين الجمع عادةً في الصباح، وتحصل أرامل النبلاء على تدليك للوجه في ذلك الطمي. في نهاية المطاف، إذا كان بوسع الآنسة تابويه أن تكتب كتابًا عن قصة حياة نبوخذ نصر، وهو كتاب يكاد يكون أثقل من أن يُحمَل، فربما أؤلف مجلدين بالحجم نفسه عن أردشير من المعلومات التي استخلصتها اليوم.
عندما وصلنا للأسفل، قفزت في النهر. كان عميقًا بما يكفي للسباحة فيه، ولم يكن شديد البرودة، وكان باعثًا بشدة على الاسترخاء بعد صباح حار. لكن المرافق رأى أنه خطير، وبعدما اقتلع عدة أشجار، أشعل شعلةً لإنعاشي عندما خرجت. كنا الآن ستة، بما في ذلك القشقاي؛ ومع ذلك مكَّنني ثراء استعدادات السفر التي قام بها علي أصغر من توفير طعام الغداء لهم جميعًا من حقائب سرجي، مع الاحتفاظ بزجاجة نبيذ لنفسي. كان طائر رفراف أبقع يرفرف لأعلى ولأسفل فوق النهر، وكان باللونين الأسود والأبيض، وأكبر بعض الشيء من ذلك الذي في بلادنا، ولكنه بلا شك من أقاربه؛ إذ إن له الرأس الكبير ذاته والذيل القصير، ويمتاز بالطيران الفائق السرعة. وعلى الضِّفة نمت زنبقة بنفسجية، أو زنبقتان، عديمتا الأوراق، بارتفاع ثلاث بوصات.
توجد منحوتتان صخريتان ساسانيتان في الخانق، رسمهما فلاندين وكوست، ولكن لم تُنشر لهما أي صور فوتوغرافية. تُصوِّر أكثرهما إثارةً للاهتمام مبارزةً بين أردشير وعدوِّه أردارون الخامس، آخر سلالة أرساسيد، التي أطاح بها. تقع هذه المنحوتة بالقرب من نهاية فيروز آباد، ولكني أغفلتها للأسف، ولم يكن يوجد وقت لأن نعود أدراجنا كلَّ هذه المسافة. عُدت بالفعل على حصاني لرؤية المنحوتة الأخرى، التي كان القشقاي قد أشار إليها من أعلى الجرف. تصوِّر هذه المنحوتة الإله المعتاد، هرمز، وملك، وهو أيضًا أردشير في هذه الحالة، ممسكين بحلقة؛ والملك يلبس بالونًا فوق رأسه، قال بعض الخبراء إنه كيس للشَّعر، ويتبعه العديد من الخدم، ويتخذ وضعيةً دفاعية (كان الفنان يقصد منها أن تكون تبجيلًا) كما في رياضة الملاكمة الحديثة. لم يكن الصف، الصغير والمنعزل بين الجروف الضخمة، والمحفور، على سطح صخر أرجواني كئيب حيث النهر والأشجار والرفراف هي مواطن الحياة الوحيدة، الذي يمثِّل نقوشًا لشخصيات قديمة، تذكِرةً بنصر الساسانيين بقدرِ ما كان تذكِرة بالعصر المظلم الذي كانت لهم الغلبة فيه. لم يطرأ تغيير على تلك النقوش البارزة ولا على الخانق، خلا أن عابري السبيل ليسوا شائعين جدًّا، ولا يجدون ما يكفي من وسائل الراحة؛ فقد كان يوجد فيما مضى جسرٌ بالقرب من النقوش البارزة، ولا يزال النهر مقسَّمًا بفعل دعامات ساقطة، المبنية بالحفر في الحجارة، صمد ملاطها أمام الفيضان في القرن الثالث عشر. شققت طريقي على صهوة حصاني عبر القصب، حتى لمس بطنُه الماء، وبحثت في عجالة وبلا جدوى عن الكتابة التي رآها هِرتسفلد هنا، والتي تسجِّل أن الجسر بناه أبرسام، وزير أردشير.
كان أفراد الموكب المرافق قلقين من احتمالية أن يداهمنا الليل في الخانق مرة أخرى. قادنا حصان هائج، غير عابئ بالصخور أو الأشجار، حتى أصبح الممر المائي على مرأًى منَّا، قبل أن يخبو الضوء وتبدأ الضفادع في النعيق. ومن هناك استرشدنا بالقمر عبر الحقول إلى قرية إبراهيم آباد العجيبة، المحصورة شوارعها، كقطار الأنفاق، في متاهة من أنفاق مبنيٍّ فوقها منازل.
كان علي أصغر ينتظر فوق سطح أحد المباني بجوار باب مفتوح. وكانت عُدة الشاي قد جُهِّزت على صينية؛ والكتب والنبيذ على أحد الأرفف. «ماذا تريد يا صاحب السعادة على العشاء؟»
وكانت رائحة أزهار النرجس قد تغلبت على رائحة الماعز، وروث الخيل، والبارافين، والمبيد الحشري، وحلَّت محلها.
رأيت كريفتر لدقيقة، وأخبرني أن حاكم شيراز مخطئ في تأكيده على أن هِرتسفلد ليس له الحق في رفض التصريح للناس بالتصوير الفوتوغرافي للآثار القديمة في برسبوليس؛ حيث وزير التعليم العام قد أكَّد بجلاء على هذا الحق. يجب أن أسأل الحاكم مرة أخرى، في حالِ كان في الأمر خدعة. نتيجة لهذه المحادثة، حلُمت أن برسبوليس أصبحت مركزًا لفن الحياكة، وأن الأعمدة لُفَّت بستار التويد على النمط اليعقوبي، والتي يولي لها الأستاذ في ذلك الحين كامل الانتباه ويعرضها على الزائرين.
ثمَّة انخفاض يُقدَّر بحوالي ٥٠٠٠ قدم من أعلى ممر بير زن إلى هذا المكان، عمودي في الأغلب، ويقطعه طريقُ رصيف صخري ضيِّق كان من بين الامتيازات التي أعطتها الحرب لبلاد فارس. يظهر لون جديد غرب الممر، ذلك اللون الرمادي الفولاذي الذي يميِّز الخليج الفارسي. في هذا الوقت من العام، عندما ينبت العشب الأخضر الناضر، فإن القرى الرمادية، والحقول غير المنتظمة، والطرق المتعرِّجة، والجدران الحجرية المحطَّمة لوادي كازرون تُذكِّرني بإيرلندا. حتى أشجار النخيل ليست دخيلةً على المشهد تمامًا في تلك المقارنة.
تقدِّم أطلال سابور المجاورة، مع أنها قريبة من الطريق الرئيسي، حقلًا أثريًّا، إن لم يكن ذا أهمية كبيرة، فهو يضاهي في بكارته الحقولَ الأثرية الموجودة في فيروز آباد. سُمِّي المكان باسم مؤسسه، سابور الأول، الذي صُوِّرت علاقاته بالآلهة، وانتصاراته العديدة، وأَسره للإمبراطور الروماني فاليريان على جدران خانق صغير. بالنظر إليها كوثائق، تعطينا هذه النقوشُ البارزة صورةً مفصَّلة عن الأزياء الساسانية من أحزمة، وقبعات، وسراويل، وأحذية، وأسلحة. وبالنظر إليها كآثار، فإنها تمثل شاهدًا باقيًا مثيرًا للاهتمام على الطبيعة الفظة التي دفعت الملوك الأوائل في مصر وبلاد الرافدين وإيران لنحت صورهم كشخصيات خالدة في العمارة المنحوتة في الصخر. وبالنظر إليها باعتبارها أعمالًا فنية، نجد أنهم اقتبسوا من روما، ربما عبر الأسرى الرومان، وخبئوا وجوههم المختالة الوحشية أسفل قشرة بحرٍ متوسطية من الفخامة والثراء. أولئك الذين تعجبهم القوة بلا فن والشكل بلا عقل يجدون فيها جمالًا.
يعزِّز تمثال سابور، الثلاثي الأبعاد بالكامل، والذي يبلغ حجمه ثلاثة أمثال الحجم الطبيعي، من قيمة النقوش البارزة فقط بفضل موقعه، الذي يقع عند فوَّهة كهف يبعد ثلاثة أميال عن الوادي خلف الخانق. يمكن الوصول إليه بصعود ٦٠٠ قدم. كانت آخر خمس عشرة قدمًا عمودية، وعلقتُ في الطريق بينما يطفو الوادي أسفل مني. ولكن قبل أن أتمكَّن من المقاومة، دثَّرني أهل القرية كالجِراب، كما فعلوا مع طعام غدائي ونبيذي. لا بد أن التمثال كان على ارتفاع عشرين قدمًا، وامتد من الأرض إلى السقف، بعد المدخل مباشرةً. في وضعه الحالي له رأس متوَّج بلحية كلحية فيلاسكيز، وخصلات شعر مموَّجة تشبه خصلات شعر ابنة ملك إسباني، تقع حتى قاع تجويف، يتقوَّس فوقه جذع مزيَّن بتصاميم الربيع وبشراريب من الموسلين ومكسور عند الفخذين. حفر السيد هايد اسمه عليه في عام ١٨٢١. وصلنا في الوقت المناسب تمامًا لنمنع جمشيد تاروبوريفالا، سائقنا الهندي، من إضافةِ اسمه عليه. لا تزال قاعدة التمثال تحمل قدمين ترتديان حذاءً مربَّع الطرف.
تؤدي مؤخرة الكهف إلى سلسلة من الهوات الشاسعة، التي تتشعب منها كاتدرائيات مستحكمة الإظلام. كان معنا فانوس، لكن مداه كان عديم النفع في مواجهة تلك المسافات، ولم ينفعنا إلا في تنبيهنا إلى وجود مواضع فيها مياه كثيرة للغاية لدرجة تمنع استكشافها.
بعدما سرنا عائدين إلى الخانق، سبحت أنا وكريستوفر في النهر الذي يجري عبره. وتذكرنا آخر مرة سبحنا فيها معًا في بيروت. ودعته صباح اليوم. ذهب إلى بوشهر، وسنتقابل مرة أخرى للذهاب إلى أفغانستان أو لتناول الغداء في فندق الريتز.
أعتذر عن تأخري في الرد، فببساطةٍ نسيت. الوضع كالآتي: حيث إنه لا يوجد قانون يحمي حق النشر، وما إلى ذلك، في بلاد فارس؛ فالسبيل الوحيد لمنع الجميع من المجيء لالتقاط الصور وبيعها ونشرها، هو عدم السماح بالتصوير الفوتوغرافي. وذلك لأنه بمجرد رؤية أجنبي يلتقط صورًا، تظهر مقالات في الصحافة (حدث ذلك ٣ مرات بالفعل) تشتكي، من أن الجميع مسموح له بتصوير الآثار القومية لبلاد فارس ما عدا الفُرس. لقد تبادلت مراسلات غير سارَّة على الإطلاق مع الحكومة حول هذا الشأن.
وبناءً عليه، اتخذنا التدابير التي تمكِّن الأشخاص المهتمين بنشر الصور من الحصول عليها من المعهد الشرقي بجامعة شيكاغو، ونشرها مع إقرارهم بمصدرها. أعتذر عن أنني لا أستطيع استثناء أحد. وإذا التقط أحدٌ صورةً، بكاميرا صغيرة، مع مجموعات من الناس، وكان ظاهرًا في الصورة لأغراض تذكارية، فلا أعُد هذه صورة فوتوغرافية. ولكن يجب «ألا» تُنشَر.
أضاف كريفتر: «ستجد البروفيسور وحده. سيكون سعيدًا ببعض الرفقة.»
هل سيكون كذلك حقًّا؟ في هذه اللحظة أنا نائم في إسطبلٍ ملحق بصالة شاي، بجوار كومة من الروث الجديد.
يمتد تاريخ المنحوتات على الجرف في موقع نقش رستم إلى ما يزيد على عشرين قرنًا، من عصر العيلاميين مرورًا بالأخمينيين إلى الساسانيين. ويقع أسفلها مذبحا نار يعودان إلى عهدٍ غير معلوم، ومنزلُ دفن أخميني. الأخير فقط يمتاز بالجمال. والبقية تمثِّل فنًّا سلبيًّا أو قبيحًا. ولكن ما دامت الجبال باقية، فلا بد أن يبقى المهووسون بالصخور الذين أمروا بتشييد هذه الأشياء في الذاكرة، وكانوا يعرفون ذلك. كانوا غير عابئين «بامتنان» الأجيال القادمة. فلم يتركوا لهم جماليات بائدة أو إحسانًا رشيدًا! كلُّ ما كانوا يطلبونه هو لفت الانتباه، وقد نالوه بإلحافٍ غاشم، مثلهم في ذلك مثل طفل أو هتلر. في هذه الجملة الإيديوجرافية الضخمة، سجَّلوا لحظةً حاسمة في تاريخ الأفكار البشرية، عندما ظهر الحق الإلهي للملوك من عصورِ ما قبل التاريخ إلى العالم الحديث.
الأمر المذهل هو وجود أربع مقابر لملوك أخمينيين، وهي معالم أثرية عادية محفورة في الجرف على شكل صلبان. وكلٌّ منها محفور بتناسق رتيب وبنقوش بارزة قليلًا. تبدأ هذه النقوش من الأعلى بالتحالف المعتاد بين الإله والملك — كان الإله في هذه الفترة على شكل جعران بشري — وتواصِل بأريكتين على طراز أرائك توت عنخ آمون، واحدة فوق الأخرى، وتحيط بصفوف من الأتباع، ثم تمتد إلى أذرع الصليب بواجهة زائفة من أعمدة نصف دائرية تحمل تيجانًا على شكل رءوس ثيران. تكسو وجْهَ الصخر بين الأعمدة كتابةٌ مسمارية. بالاستعانة بحبل من شعر الماعز أنزله لي رجلان كانا يعيشان داخل الجرف، تسلَّقت إلى إحدى المقابر، وهي المقبرة الثانية من جهة الغرب؛ حيث يواجه الجرف جهة الجنوب. كان الجزء الداخلي مقسمًا إلى ثلاث كُوَّات، وكلٌّ منها مقسَّمة إلى ثلاث حاويات؛ ولحاويةٍ منها أو حاويتين غطاءٌ مخروطي فُتح بعَتَلة. لا بد أن الغرفة بأكملها كانت محكمةَ الغلق بباب حجري يدور حول محوره على محاور حجرية بالأعلى والأسفل، ولا تزال تجاويف تلك المسامير مرئية.
كثيرًا ما وُصفت وصُنِّفَت الألواح في موقعِ نقش رستم، أسفل المقابر. يواجه الجرف جهة الجنوب. من الشرق إلى الغرب لاحظت ما يلي، دون إشارة للمدلول التاريخي:
بين زاوية الجرف والمقبرة الثانية
-
(١)
مساحة فارغة معدَّة للنقش، ولكنها لا تحتوي إلا على كتابة صغيرة حديثة.
-
(٢)
مجموعة ساسانية. الملك، لابسًا سروالًا من الموسلين أشبه بسراويل رعاة البقر الأمريكيين، وحذاءً مربَّع الطرف، وأشرطة طويلة مُرفرِفة، وبالونًا للشعر، يواجه شخصيةً رمزيةً، كاد تاجُها المحلي، المكدَّس بخُصَل شعر متموِّجة شبيهة بالنقانق، أن يكون من تصميم برنارد بارتريدج. يحمل هذا الكائن، المُختلف حول جنسه، الحلقةَ التي ترمز للتحالف بينه وبين الملك. ويقف بينهما طفل، كما يقف خلف الملك رجلٌ يرتدي قبَّعة فريجية. تمتد اللوحة بأكملها إلى أسفل مستوى الأرض الحالي، الذي حُفِر لإظهار النقش.
أسفل المقبرة الثانية
-
(٣)
ملك ساساني، يضع بالونًا للشعر، يهاجم عدوًّا بالرمح. هذا النقش متضرِّر إلى حدٍّ كبير.
-
(٤)
أسفل النقش السابق نقشٌ آخر به رأسان وكتفان لمحاربين آخرين يتبارزان بالرمح. هنا لم تُنقَب الأرض عن هذا النقش، ومعظمه مخفي.
بين المقبرتين الثانية والثالثة
-
(٥)
تكوين من نقش لسابور بثلاثة أمثال الحجم الطبيعي على صهوة حصان، ويتلقى البيعة من الإمبراطور فاليريان الراكع على ركبتيه. وقفة الحصان تحاكي وقفةً رومانية، ولكنه ليس قويًّا. كما أنه ليس مفتول العضلات كحال جميع النقوش البارزة الساسانية: كدمية محشوَّة. لأحد الرءوس في الجانب الشرقي ملامحُ أخمينية. هل من الممكن أنه كانت لهم نقوشٌ أقدم هنا هدمها الساسانيون لإفساح الطريق لدعاياتهم الخاصة؟
أسفل المقبرة الرابعة
-
(٦)
ملِك ساساني يبارز بالرمح عدوًّا مهزومًا. بالون شعره أصغر من الآخرين، وعلى شكل ليمونة، ومثبت في الرأس بواسطة عُصية. هذا النقش أكثرُ نبضًا بالحياة. لا يقتبس كثيرًا من الحضارة الرومانية، ويضاهي أشكال الفرسان على الصفائح الفضية، التي تُظهِر العبقرية الحقيقية لتلك الفترة.
وراء المقبرة الرابعة
-
(٧)
ملِك ساساني وحاشيته في منبر أو شُرفة. نُحت هذا التكوين غير المألوف على واجهة نتوء ثلاثي الجوانب في الصخر. يقف الملك في وسط الجمع؛ حيث تتيح فجوة في السور رؤيته بكامل طوله. وفي حضرته ثلاثة أشخاص بنصف طولهم على كلا الجانبين، واثنان آخران على الجهة الغربية للنتوء. لهؤلاء الأشخاص أيضًا ملامحُ أخمينية، مع أن رأس الملِك ساسانيةٌ بامتياز. أتسـاءل مرة أخرى عما إذا كان يوجد نقش أخميني هنا في السابق، أو أن هذه الملامح نتيجةُ ولعٍ واعٍ بالآثار.
-
(٨)
أيًّا كان ما فعله الأخمينيون على هذا السطح تحديدًا، فإن الساسانيين قد سبقهم أحدٌ ما، يبدو أنه عاش في منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد تقريبًا؛ ومن ثَمَّ ربما كان يُطلَق عليهم العيلاميون. على الجانب الشرقي للنتوء يمكن رؤية شكل بدائي شبيه بطائر في نقشٍ مسطَّح تمامًا، ويذكِّرني تكوينه ذو الزوايا بكتابة تصويرية مكسيكية. على الجانب الغربي، أسفل الأشكال النصفية الطول، يظهر رأس واحد بالنمط نفسِه. كلا الرأسين من الجانب، ولكن تظهر العين كاملةً في كلٍّ منهما كما تظهر في وجه ناظر إليك من الأمام، في تقليدٍ مألوف من مصر القديمة.٢
-
(٩)
اثنان من الخيَّالة واقفان متواجهان، ويكادان يكونان لصيقين بمجموعة المنبر على الجانب الغربي، ويميل كلٌّ منهما للأمام للإمساك بالحلقة الرمزية. هنا، يضع الملك الساساني بالونه أعلى قبَّعة فريجية، بينما يضع الإله تاجًا محليًّا. يطأ الحصانان على أعداء راكبَيهما، ويقدِّمان عرضًا رائعًا لحرفة السروج الساسانية. تتدلى شراريب ضخمة، معلَّقة بحبالٍ من السَّرج، بين القائمتين الخلفيتين لكل حصان.
بعد هذا النقش البارز يلتف الجرف إلى الشمال، وينغمس تدريجيًّا في منحدرٍ أقلَّ حدة. مذبحا النار عند المنعطف. ارتفاعهما أربع أقدام وست بوصات، وقد يحسبهما المرء زوجًا من مبرِّدات النبيذ على الطراز اليوناني الكلاسيكي الحديث، إذا طُليا بلون بني.
يقف المدفن الأخميني منفردًا، في مواجهة المقبرة الرابعة. ويُعرف بقبر زرادشت، وهو الاسم الذي لطالما تهكَّم عليه علماء الآثار حتى اكتشف هِرتسفلد أنه ربما كان ثمَّة سبب وراءه.
يُعد هذا البناء عملًا معماريًّا حقيقيًّا، أو ربما ينبغي أن نقول حيث إن وظيفته لا علاقة لها بشكله، فهو يمثل تراثًا معماريًّا حقيقيًّا، ومع ذلك نحن نجهله. إنه نسخة من منزل. أين كان ذلك المنزل؟ أكان في بلاد فارس؟ إنه لا يوحي بأي شكل عن أنه بذلك الرقي المكلف الهجين الموشك على الازدهار في برسبوليس. لو كان في بلد من بلدان البحر الأبيض المتوسط، لكان قد احتُفي به باعتباره مصدرًا أصليًّا للعمارة السكنية في إيطاليا في القرن الخامس عشر وإنجلترا في العصر الجورجي. وعلى عكس المعابد اليونانية، التي تطوَّرت من مبنًى خشبي ارتكز على ضغط الأوزان، فإن منزل الدفن هذا مشتق من مبنًى من القِرْميد أو الطين ينقل فكرة عن محتواه؛ حيث يكمُن جماله في التباعد بين الزخارف على جدار مسطَّح. من المدهش أن تجد هذا المبدأ، الذي اعتمدت عليه جميع المباني السكنية الجيدة منذ عصر النهضة، ممثلًا بالكامل في بلاد فارس قرب منتصف القرن السادس عشر قبل الميلاد. ومن المدهش بالقدرِ نفسه، من وجهة النظر هذه، تذكُّر مدى ضآلة الاهتمام الذي أبداه الزائرون نحو موقع نقش رستم إلى الآن.
يشغل المبنى مساحةَ سبع عشرة قدمًا مربعًا تقريبًا، ويبلغ ارتفاعه سبعًا وعشرين قدمًا فوق مستوى سطح الأرض الحالي؛ ولكن لا بد أنه كان في الأصل على ارتفاعٍ أعلى بعشر أقدام، كما كشفت عملية حفر خندقٍ افتقرت إلى روح المغامرة حول الجانب الشمالي فقط. يبلغ سُمك الجدران أربع أقدام ونصفًا، وهي مبنية بكتل رخامية بيضاء كبيرة ومرصوصة كتلك الكتل التي في البوابة الذهبية لسور القسطنطينية. وقد ثُبِّتَت كل زاوية بدعائم غير مرتفعة بينها، وليس خارجها، طنف منمنم. وقد شُكِّل السقف من عمودَي مونوليث (عمود المونوليث هو عمود منحوت من حجر واحد) ضخمين متراصَّين.
الجوانب الشرقية والجنوبية والغربية مزيَّنة بثلاثةِ أزواج من النوافذ المؤطرة بجزء مسطح حجري أدكن مع الرخام، وتحوي ألواحًا مصمتة؛ وهذه الألواح محاطة بأُطر داخلية ثانوية على امتداد الجوانب والجزء العلوي فقط. ارتفاع النوافذ السفلية أكبر من عرضها؛ والنوافذ في المنتصف مربعة؛ والنوافذ العلوية هي نُسخ من النوافذ السفلية، ولكن فيما يخص المنمنمات وملامسة الطُّنُف؛ وهو نسق يُذكِّر بأعمال المهندسين المعماريين فيتروفيو وبالاديو. عموديًّا، تتساوى المسافات بين الأزواج. ولكن أفقيًّا، تزيد المسافة بين كل نافذة والأخرى على ضعف المسافة بين النافذة والجزء الداخلي لدعائم الأركان. فضلًا عن النوافذ، فإن الجدران مزيَّنة بنمط من الكوات المنخفضة الصغيرة، المستطيلة والمستقيمة، والتي تتقاطع مع فواصل حجارة البناء كما لو كانت مشابك، ولكنها مشابك منعكِس فيها الضوء والظل، على غرار الصورة الفوتوغرافية السالبة.
أما الجانب الشمالي، المواجه للجرف، فليس به أي أزواج من النوافذ، ولكن فقط فتحة واحدة منخفضة في موضعٍ أعلى من منتصف ارتفاع المبنى، وتتقاطع عتبتها، والأرضية بداخلها، مع مستوى النوافذ الجانبية الوسطى. يعلو هذا المدخل عَتبٌ (ساكِف) مُقرَّن، توجد به نافذة مصمتة من دون أي إطار. يمكن للمرء الصعود إليه، فقد أُجريَت محاولات لاختراق حجارة البناء أسفله لدخول ما يُفترض أنه غرفة سفلية.
ذهبت في فترةِ ما بعد الظهيرة إلى برسبوليس، وسلَّمت الخطاب الذي كان معي من حاكم محافظة فارْس إلى الدكتور مصطفوي.
انضم هِرتسفلد إلينا. كان مضيافًا جدًّا بينما كان يأخذني في جولة لتفقُّد أعمال التنقيب، وأطلق بلبل، خنزيرته البرية، التي اختطفت حجرًا كان مع عدوها، وهو كلبٌ عجوز حادُّ الطبع من سلالة أرديل. كانت نتيجة ذلك مطاردة هزلية عبْر الأطلال، انزلقت فيها أقدام الخنزيرة على السلالم والأرصفة كقَدمَي تشارلي تشابلن، مع خلفيةٍ من أوركسترا من الدمدمات، والهمهمات، والزمجرات من البروفيسور. جلسنا في النهاية لشرب الشاي في المنزل الذي بناه كريفتر للحفارين. أقول منزلًا، ولكنه قَصرٌ مُعادٌ بناؤه من الخشب في الموقع، على نمط سلفه الأخميني، فله باب ونافذة بإطارات مدمجة داخلهما. قدَّمت السيدة مور وجامعة شيكاجو التمويل المالي، وكانت النتيجة مزجًا فاخرًا بين فندقِ الملك داود في القدس ومتحف بيرجامون في برلين. هذا هو ما يجب أن يكون عليه، لأنه سيتعين أن يؤدي الغرض الذي يؤديه كلٌّ منهما عند انتهاء أعمال التنقيب.
بدا هذا السلوك الاستبدادي الألماني غيرَ لائق برجل على وشْك أن يطرده النازيون من بلده. لحسن الحظ، منعني من قول ذلك دخولُ كريفتر؛ حيث عندها نهضت لأغادر.
سألني هِرتسفلد بمزيد من اللطف: «أين سيارتك؟» واستطرد: «لدينا مرأبٌ في الخلف. سأخبرهم أن يحضروا متاعك.»
«هذا كرمٌ بالغ منك، ولكني أقيم في صالة الشاي على الطريق.»
«هذا غير مريح. لماذا لا تمكث هنا؟»
بدا كلٌّ منهما شديد الإنهاك عندما رفضت، ليس لفقدانهما صحبتي، ولكن لفراري من أغلال ضيافتهما.
قال هِرتسفلد مبتهجًا: «حسنًا، ربما سنراك غدًا.»
قلت مبتسمًا: «أجل، بالتأكيد. إلى اللقاء، وشكرًا على عرضك الكريم. أتمنى لو كان بإمكاني قبوله.»
كان ذلك صحيحًا. فلا عاقل يستمتع بالتخلي عن الراحة والصحبة الجيدة ويفضِّل عليها كومة من الروث.
عزيزي الدكتور هِرتسفلد،
- (١)
أن تُريني نصَّ امتيازك الذي يُقرُّ بأن لك ذلك الحق، وإما
- (٢)
أن تستعمل معي القوة.
رجاءً اختَر وسيلتك.
بينما كنت ألتقط الصور الفوتوغرافية، مرَّ بسرعة جسدٌ مُكبَّب صغير عبر المصطبة. وقال: «لم أصادف من قبلُ سلوكًا يفتقر للولاء كسلوكك»، ثم استدار ومضى بعيدًا.
تساءلت في نفسي، يفتقر للولاء لمَن.
كان الأمر مسألة مبدأ. التقطت صوري، وأسديت معروفًا للرحَّالين بكشف كذبة هِرتسفلد. ولكن كانت خسارة المحادثة أمرًا مثيرًا للشفقة.
ما زال ثَمة أشياء تُقال عن برسبوليس.
في بدايتها، عندما كانت الجدران من الطين والأسقف من الخشب، ربما كانت تبدو زائفةً بعض الشيء، بل كانت تبدو، في الواقع، كما لو أنه قد أعيد بناؤها في هوليوود. ليست زائفة اليوم على الأقل. ولم يبقَ غير الحجر باستثناء بضعة من أنقاض الإسكندر، التي يستخرجونها من حين لآخر. وللحجارة التي شُغلت بمثل هذا الثراء والدِّقة رونق رائع، فأيًّا ما يفكِّر فيه المرء من أنماط يجده مُنفَّذًا فيها. يزيد من هذا الرونق التباينُ بين الحجارة المستخدمة: الرمادية الشديدة الإعتام، والبيضاء الأكثر سطوعًا. اكتُشفت كذلك زخارف معزولة في قطعة من رخام فاحم السواد من دون عروق أو شوائب.
هل هذا كل شيء؟
صبرًا! في الأيام الخوالي، كنت تصل إلى هنا على ظهور الخيل. وكنت تصعد بها الدَّرج إلى المصطبة. وكنت تخيِّم هناك بينما كانت الأعمدة والوحوش المجنَّحة تبقى في عزلتها أسفل النجوم، ولم يكن ثَمَّة صوت أو حركة تُعكِّر صفو الأرض المنبسِطة الفارغة المضاءة بنور القمر. كنت تُفكِّر في داريوس، وخْشايارْشا، والإسكندر. كنت وحدك مع العالم القديم. كنت ترى آسيا كما رآها الإغريق، وتشعر بأنفاسهم السحرية تمتد صوب الصين نفسها. ولم تكن تلك المشاعر تترك مكانًا للأسئلة الجمالية، أو لأية أسئلة.
أما اليوم، فتترجل من السيارة، بينما تمرُّ بجوارك بضع شاحنات وهي تهدر في غيمة من الأتربة. وتجد الطُّرق المؤدية محميةً بجدران. ثم تدخل بإذن من حاجب، وعند وصولك للمصطبة تستقبلك سكةٌ حديدية خفيفة، ونُزل ألماني حديث، وقاعدة متَّبعة من العداوة الأكاديمية التي يُتحكَّم فيها من شيكاجو. هذه الإضافات المفيدة تجلي الإدراك. فقد تقنع نفسك، على الرغم منها، بحالةٍ رومانسية. ولكن الحالة التي تستدعيها تلك الإضافات هي حالةُ ناقد في أحد المعارض. هذه هي ضريبة عِظَم المعرفة. إنه ليس خطئي. فلن يسعد أحدٌ أكثر مني بترك عقلي يهيم في حُلم من التاريخ والمشاهد الطبيعية والرياح الخفيفة وغيرها من الحوادث البعيدة المنال. ولكن إذا ألحَّت الظروف أن تريني أكثرَ مما أريد رؤيته، فلا طائل من نشْر الأكاذيب بشأنها.
يمكن إذَن وصفُ الأعمدة بعبارةٍ وجيزة. إنها مدهشة، بقدرِ دارِ بلدية السير جيلبرت سكوت في بومباي؛ لأنها تمزج بين النمط الهندي والنمط القوطي. وهي هجينٌ عقيم، كالبغال. فليس لها أثرٌ في المسار العام للعمارة، ولا تلتزم بمبادئها. ربما تعجبك إعجابًا عارضًا، إذا حدث ووافقت تيارًا ذا نزعة معاصرة. ولكن الأعمدة في برسبوليس لا ينطبق عليها ذلك.
فالأعمدة هي أول ما يخطف العين. الملامح المعمارية الأخرى هي السلالم، والمصطبة، وأبواب القصر. السلالم مقبولة لأنه يوجد كثير منها. والمصطبة مقبولة لأن كتلها الهائلة طرحت معضلةً هندسيةً ووجدت لها حلًّا. ولكن لا يوجد في أيٍّ منهما أيُّ لمحة فنية. ولكن الأبواب تشتمل على لمحة فنية. إذ تسطَع وحدها، بوميضٍ يُنبئ بابتكار حقيقي؛ فهي تطرح أفكارًا، وتثير ملاحظات، فيما يتعلق بالأبواب الأخرى. أبعادها محدودة وسميكة؛ ومن ثَم تشجِّع على الدخول والخروج المتواصل منها؛ بينما تطلب أبوابنا من المار أن يتوقَّف قليلًا وترسم لنفسها إطارًا. وهي، مثل الأقواس في ستونْهِنج، مصنوعة من أعمدة المونوليث، عمود في كل جانب من الجانبين وعمود بالأعلى. غير أن تشكيلاتها وزواياها حادة ودقيقة كما لو كانت مقطوعة بآلة.
يأتي بعد ذلك التزيين. تتسبَّب تلك النقوش البارزة في صدمةٍ بشعة لأي أحد كان يعرفها من الصور الفوتوغرافية. ففي المواضع التي كانت معرَّضة فيها لعوامل الطقس، يبرز تصميمها وإيقاعها بشاعرية من الحجر المرقَّط بالأسود. وتتسم تلك التي بداخل الأبواب، وتلك التي استخرجها هِرتسفلد، بنفس التصميم والإيقاع. غير أن حجارتها، نظرًا لصلابتها الفائقة، أثبتت صمودها أمام الزمن؛ إذ تظل رمادية ملساء ساطعة، مصقولة كقِدر من الألومنيوم. تؤثِّر هذه النقاوة في النقش كما يؤثِّر ضوء الشمس في لوحةٍ فنية مزيفة؛ إذ تكشف عن فراغ مربك بدلًا من العبقرية المتوقَّعة. أدركُ جيدًا جدًّا ما كان كريستوفر يعنيه عندما قال إن المنحوتات كانت «غير عاطفية دون أن تكون عقلانية». الفكرة التي خطرت ببالي لا إراديًّا، عندما أراني هِرتسفلد بيت الدَّرج الجديد، كانت: «كم كلَّف هذا؟ هل صُنع في مصنع؟ لا، لم يحدث كذلك. إذن، كم عاملًا نقش وصقل هذه الأشكال اللامتناهية، وكم استغرق الأمر من سنين؟» بالتأكيد هي ليست أشكالًا آلية؛ ولا طوَّرت نفسها؛ ولا هي رخيصة بمعنى افتقارها إلى المهارة الفنية. ولكنها أشبه بما يُطلِق عليه الفرنسيون «شيئًا زائفًا جيدًا». إن بها لمحةً فنية، ولكنها ليست لمحةً فنية تلقائية، وهي بالطبع ليست فنًّا عظيمًا. فهي، بدلًا من العقل والمشاعر، تنضح بتزيينٍ يفتقر إلى الروح، قشرة اقتبسها الآسيويون الذين كانت موهبتهم الفنية مكبَّلة وواهنة بفعل تواصلهم مع شعوب البحر المتوسط. لمعرفةِ ما كانت عليه تلك الموهبة بالفعل، وكيف تختلف عن هذه، يمكن للمرء أن يُلقي نظرةً إلى النقوش الآشورية في المتحف البريطاني.
يشعر المرء بمفاجأةٍ أقل عندما يرى الشرفات على امتداد الحاجز، ودرابزينات بيت الدَّرج. وجدها هِرتسفلد في حالةٍ شبه ممتازة؛ فلكلٍّ منها ثلاث درجات، وتبدو كما لو أنها قد بُنيت من صندوقِ مكعَّبات للعب الأطفال. زيَّنت هذه الزوائد المتعرِّجة جميعَ القصور؛ فقد نسخها كريفتر بدقة. إنها شديدة القبح في حد ذاتها. ولكن نظرًا لمجاورتها للنقوش، فإن تكرارها غير المتقن وظلالها المائلة تفسد رقةَ النقش أيضًا. قال هِرتسفلد: «إنها تضفي عليها حياة.» بالفعل هي تصنع ذلك. ولكنها ليست حياةً جميلة كما أنها تقتل كل شيء آخر.
كانت جادة مشجرة حديثًا متفرعة من طريق أصفهان تقود إلى مقبرة قورش، وهي عبارة عن ناووس من الرخام الأبيض على وطيدةٍ عالية مدرَّجة، تقف وحدها بين الحقول المحروثة. يدل شكلها على قِدَمها؛ فكل حجر قد قُبِّل وحده تبرُّكًا، وكل فاصل قد مُسِّد حتى أُحدِث فيه تجويف، كما لو كان بفعل البحر. ليست هناك زخارف أو شيء صارخ يعكِّر صفو وحدتها. يكفي أن الإسكندر كان أول سائح إليها. كان يوجد معبد حولها في الماضي. وما زال بوسع المرء أن يرى كيف كان استنتاجًا من قواعد الأعمدة.
منذ ذلك الحين، أصبح مقبرة والدة سليمان. وإذعانًا لهذا التحول، حُفر محراب منمنَم وكتابة عربية على أحد الجدران الداخلية. تتدلى فوق المحراب مجموعة من الخِرق والأجراس، وكانت أوراق لمصحف قديم تتطاير في أنحاء الأرضية. وتشغل قبور إسلامية الأرضَ داخل حدود المعبد.
وبعد ذلك بمسافة نصف ميل تقف مصطبة من نوعية مصاطب برسبوليس، يرتكز عليها عمود وحيد أبيض وأملس؛ وبالقرب منها، توجد أطلال مدفن كالذي في موقع نقش رستم. وأخيرًا، بينما كانت آخر أشعة للشمس تنبثق من كومةِ سُحب ممطرة، تمشَّيت عبر الأرض المحروثة إلى تلك اللوحة التذكارية الرخامية المنعزلة، المنقوش عليها تمثال قورش ذو الأجنحة الأربعة. عندئذٍ كان بوسعي بالفعل أن أتخيَّل ما كان يشعر به زائر برسبوليس في الماضي؛ وبينما كنت في أحلام اليقظة تلك ضللت الطريق في الظلام، حتى أنقذني وميض المصابيح الأمامية لسيارة.
سعادة السيد الحاكم العام،
أصفهان
السيد بيرن، أحد مثقَّفي إنجلترا، يطلب من سعادتك السماح له بزيارة المباني التاريخية وغير ذلك في تلك المناطق، وسيلتقط أيضًا صورًا للمباني المذكورة.
يُرجى إصدار التعليمات اللازمة للسلطات فيما يتعلق بتقديم أي مساعدة قد يحتاجها.
أخبرني السيد «صور إسرافيل» بخططه لتحسين الميدان. تسبَّبت له أول مرحلة في تلك الخطط في ورطة؛ لأن مارجوريبانكس يرفض حفر البِركة الجديدة في الأرض بحجةِ أنه قد يتوَّلد عنها بعوض الأنوفيليس. ومع ذلك سيمضي قُدمًا في بقية المراحل. فمن المقرَّر أن تُكسى الجدران ذات الأروقة المقنطَرة بالبلاط. وحيث يجتاز الطريق مدخل البازار في الطرف الشمالي الشرقي، سيمرُّ أسفلَ ممرَّين مقنطَرين مبلَّطين كبيرين على كلا الجانبين. المهندس المعماري المسئول هو ألماني يعمل تحت إشراف لجنة تتألف من هِرتسفلد وجودارد وعلماء آخرين.
إنه يفتخر بأنه يمتلك أسلوبين؛ الفارسي والأوروبي. لقد رأيت بعضًا من المنمنمات التي رسمها من صور فوتوغرافية؛ وببساطة كانت مطابقة للصور الفوتوغرافية، الفرق الوحيد أنها كانت ملوَّنة. منذ بضعة أيام صمَّم مُلصَقًا رائعًا يحتوي على طاووسَين لعلامة تِجارية للسجائر المحلية. قال معلنًا في فخر: «تفضَّل! يمكنني صنعُ المنمنمات ويمكنني صنعُ هذا. ما كان بوسع روبنس أن يفعل كلا الأمرين.»
لماذا روبنس؟ لماذا روبنس بالتحديد؟
وصَلَت إلى هنا السيدة بادج بالكلي، التي تُقدَّر ثروتها بمبلغ ٣٢ مليون جنيه إسترليني، وبصحبتها بعض المليونيرات الأقل ثروة. يشعرن بالبؤس الشديد لأن الكافيار بدأ ينفد. إجمالًا، يسافرن في ظروفٍ أقل راحة بكثير مني. حيث إن دزينة من السعاة (معهن دزينتان) تُظهِر لهن الإجلالَ لا تساوي خادمًا واحدًا يمكنه الطهي ويمكنه تحويل حظيرة خنازير إلى غرفة عادية في خمس دقائق، كما يفعل علي أصغر.
سُمِعَت سيدةٌ في المجموعة تقول عن السيدة مور، التي كانت في طريقها إلى هنا بالطائرة: «ثرية؟ عَجبًا، يمكنها أن تشترينا كلنا أربع مرات.»
أقام السيد «صور إسرافيل» لهن حفلَ شاي. جلستُ بجوار الأسقف الإنجليزي وأمير قاجاري.
سأل الأسقف غاضبًا: «لمَ أنتِ هنا بعيدًا عن الديار؟»
«أرتحل.»
«لأي غرض؟»
أعاد هذا العُرف المفاجئ الحياةَ لقصرِ شيهل ستون محوِّلًا إياه من ظُلة صيفية قديمة إلى القبَّة المملوءة بالمرح والفخامة التي كان عليها في الأصل. بدت الشرفة هائلة، وقد بُسطَت فيها السجاجيد، وأضيئت بأهرامات من المصابيح، وامتلأت ببضع مئات من الأشخاص؛ حيث علَت أعمدتها الخشبية ومظلتها الملونة في سماء الليل، وبدت الكوَّة الزجاجية بالخلف، المتلألئة بزخارفها الذهبية، بعيدةً بُعدًا لا نهائيًّا. جلس الفُرس في صفوفٍ سوداء وأيديهم معقودة وأقدامهم أسفل كراسيهم. كان الدكتور وولف يضع على رأسه أُرصوصة. وفي المقدمة كانت توجد طاولات عليها أكوام من الكعك واليوسفي. وكان نُدُل يقدِّمون عددًا لا نهائيًّا من أكواب الشاي.
وصل السيد «صور إسرافيل»، وكان يرتدي بذلةَ سهرة يُرفرف فوقها مِمطَر. كان باديَ السعادة برؤية الجميع هناك حتى إن الجميع كانوا سعداء لرؤيته. صافح كلَّ مَن تمكَّن من الوصول إليهم، وتولَّى دور المُضيف بدلًا من الدور الرسمي الصوري الذي كان سيلعبه أي حاكم إنجليزي.
بدأت فرقةٌ نحاسية من صِبيةٍ أرمينيين من جلفا في العزف، وانتقلنا للمقدِّمة لمشاهدة الألعاب النارية. انفجرت هذه الألعاب النارية بجوار البِركة الطويلة، من صواريخ ودواليب نار وبقية الأنواع، حتى إنه في النهاية كان يتدفَّق صفان من النوافير الذهبية في الماء الأسود، وهمْهَم مارجوريبانكس نفسُه بحقدٍ وسط اللهيب في الطرف البعيد. لعبت الفِرقة السلام الوطني، وكانت تلك هي نهاية حفل الاستقبال الأول.
كان الحفل الثاني أكثرَ انتقائية. تجمَّع ما يقرُب من خمسين شخصًا في غرفةٍ مقنطرةٍ طويلة، تحت تلك الجداريات الجصية الصفوية المفتقِرة إلى الروح التي نافست عمر الخيام في إعطاء العالَم فكرةً زائفةً عن الفن والوجدان الفارسيَّين. أدَّت زوجة مدير المصرف الألماني دور المُضيفة. ولعبت فرقةٌ أخرى من جلفا موسيقى الجاز داخل صوان زجاجي. في نهاية الغرفة، كان يوجد بوفيه بارد، حيث يُسكب في الكئوس مشروبٌ أحمر من سلاطين كبيرة. ولأنه كان مركَّبًا من ثلاثة أرباع من العَرَقي وربع من نبيذ جلفا، فلم يكن مشروبًا بريئًا كما بدا عليه.
لا يُقدِم أيُّ فارسي على دعوةِ ضيف واحد، فضلًا عن إقامة حفل، من دون سجاجيد. عندما بدأ الرقص، ارتفعت الأرضية كبحر غاضب، ولم يستخدموا المسامير لتثبيت القواطع الخشبية إلا بعد سقوط أزواجٍ عديدين من الراقصين. عند البوفيه، خالَط الأمراء القاجار عدوَّيهم الرسميَّين، الحاكم ورئيس الشرطة. كادت بذلاتهم السموكينج المثالية ذات الأزرار من مجموعة كارتييه أن تجعل بذلتي المستعارة تبدو رثةً لولا العنصر الألماني، الذي يمكن الاعتماد عليه في أي مكان لجعل الجنسيات الأخرى تبدو أنيقة. كان أحدهم، وطوله سبع أقدام، يرتدي سترة فراك، وياقة من دون فتحة بعمقِ أربع بوصات، وصدرية من جلد الجاموس، وكانت لديه الجرأة على التحديق إلى كَمَر بذلتي.
كانت أمسيةً لطيفة، وعندما سألني «صور إسرافيل» بطريقةٍ مؤثِّرة عن رأيي فيها، أثنيت بصدق على ذوقه الطيب. لم يكن ثَمَّة شيء متكلَّف، ولا اهتمام بعادات وتقاليد قومية متفاخرة بالذات عفا عليها الزمن، ولا حداثة فارسية متفاخرة بالذات، لتعكر صفوَ استمتاع الضيوف. يتمتَّع الفرس بهِبة العفوية الاجتماعية. وبعدما جرَّبتها شعرت بتعاطفٍ كبير نحو الوحش المُسن الذي كنا نحتفل بحياته. عِلاوةً على ذلك، ليس بوسع الجميع أن يقولوا إنهم قد رقصوا في شيهل ستون.
كان طريق شار باغ بأكمله مضاءً عندما عُدت إلى منزل ویشاو على الجهة الأخرى من النهر. كانت صفوف من المصابيح والشموع منسَّقةً على مسافات متباعدة تحت الأشجار، في كعكات زفاف كبيرة من الأضواء بارتفاع ثلاثين قدمًا، ملفوفة باللون الأحمر ومدعومة بمرايا مذهبة. وسط كل هذا التوهُّج، الذي تكبَّدت فيه البلدية عناءً كبيرًا ونفقات كثيرة لإثبات ولائها، قدَّم ملالي المدرسة في هدوء شيئًا أفضل. فمن حاجز البوابة الكبيرة، علَّقوا ثلاث ثريات مصقولة، كشفت شمعاتها الباهتة الوامضة في الفراغ الخلفي للقوس عن ثلاث كرات من السَّمك الذهبي المتدلية بينها.
بحلول عصر اليوم التالي، كان ثَمَّة موكب. ولكن لأنني قضيت الصباح في تزيين السيارة الأنجلو-فارسية، فقد غفوت بعد الغداء وفاتني. وفات ویشاو أيضًا؛ لأن جميع موظفيه كانوا قد غادروا، وكان عليه أن يبقى لحراسة فناء التخزين.
لم أعاونها في إحداث ذلك الأثر. فقد شغلتني الآثار عن أي شيء آخر.
قد يُمضي المرء شهورًا في الاستكشاف دون أن يصل إلى نهايتها. بدءًا من القرن الحادي عشر، سجَّل المعماريون والحِرفيون ثروات المدينة، والتغيرات التي طرأت على الذوق العام فيها، وعلى حكومتها ومعتقداتها. تعكس المباني هذه الظروف المحلية؛ ففيها يكمُن سحرها؛ سحر أقدم المدن. غير أن بضعة مبانٍ تُظهر ذروة الفن بشكل مستقل، وتضع أصفهان بين تلك الأماكن النادرة جدًّا، كأثينا أو روما، التي تمثل الإنعاش الشائع للبشرية.
تُبرِز الغرفتان المقبَّبتان في مسجد الجمعة هذا التمايز بفضلِ ما بينهما من تباين. فقد بُنيت كلتاهما في الوقت نفسِه تقريبًا، وهو نهاية القرن الحادي عشر. في الغرفة الكبرى، التي هي الحرم الرئيسي للمسجد، تنخرط اثنتا عشرة دعامة في نضال على شاكلة نضال بروميثيوس مع ثقل القبَّة. في الواقع، هذا النضال يُضمِر النصر؛ فإدراك النصر يتطلب اهتمامًا مسبقًا بهندسة القرون الوسطى أو بشخصية السلجوقيين. هذا على النقيض من الغرفة الصغرى، التي هي في الواقع برجُ دفن مُدخَل في المسجد. تبلغ مساحة الجزء الداخلي نحو ثلاثين قدمًا مربَّعة، وبارتفاع نحو ستين قدمًا؛ فمن المحتمل أن حجمها يساوي ثلث حجم الغرفة الأخرى. ولكن بينما لم تقدِّم الغرفة الكبرى التجربةَ المتناسبة مع حجمها، فإن الغرفة الصغرى تجسِّد تلك اللحظة الثمينة بين خوض تجربة فقيرة للغاية وتجربة شديدة الثراء؛ حيث صُقلت عناصر البناء من كتلة فائضة، ولكنها لا تزال صامدة أمام إغراءات الزخارف الزائدة عن الحاجة؛ ومن ثَم فإن كلَّ عنصر، كعضلات رياضي مدرَّب، يؤدي وظيفته بدقة مهيبة، دون إخفاء الجهد المبذول فيها، كما يحدث في العناصر ذات الزخارف الزائدة عن الحد، بل يعمل على التكيف مع أعلى درجات المعنى الفكري. هذا هو الكمال المعماري، الذي لا يلعب فيه شكل العناصر دورًا — لأن هذه مسألة اتفاق — بقدرِ الدور الذي يلعبه التوازن والنِّسب. وهذا التصميم الداخلي الصغير يدنو من ذلك الإتقان أكثرَ مما كان يمكن أن تخطر على بالي إمكانية وجوده خارج أوروبا الكلاسيكية.
المواد نفسُها تُعَد مؤشرًا على الاقتصاد، حيث قوالب القِرْميد الصغيرة الصلبة ذات اللون الرمادي الفاتح، التي تُغلِّف زخرف نصوص الخط الكوفي والترصيع الجصي في وحدة هدف صارمة. من حيث الهيكل، فإن الغرفة نظام من الأقواس؛ قوس عريضة في منتصف كل جدار، وقوسان ضيقتان بجوار كل ركن، وأربع أقواس مصغرة في كل حنِيَّة ركنية، ثمانية في كل نطاق حنِيَّة ركنية، وستة عشر فوق الحنايا الركنية لتستقر عليها القبَّة. امتد نطاق الإبداع الموجود في فيروز آباد؛ وسيمتدُّ لأبعد من ذلك قبل أن تموت العمارة الفارسية في القرن الثامن عشر. نشاهده هنا في أوج شبابه وحيويته. وحتى في هذه المرحلة، يتكرَّر النظام أو يتنوَّع في مبانٍ كثيرة أخرى، كبرج الدفن في مراغة على سبيل المثال. ولكني أشكُّ فيما إذا كان يوجد مبنًى آخر في بلاد فارس، أو في البلاد الإسلامية بأسْرها، يوفِّر تجليًا بهذه الحدة الشديدة والآنية الشديدة للشكل المكعَّب الخالص.
وفقًا للنقش حول القبَّة، فقد بَنى برجَ الدفنِ هذا أبو الغنائم مرزبان، وزير مَلِك شاه، سنة ١٠٨٨. تُرى ما الظروف في تلك اللحظة التي حفزت مثل هذا السمو في العبقرية. هل كان بفعل عقلية جديدة من آسيا الوسطى على الحضارة القديمة للهضبة، نتاجًا لطاقة بدوية عبر الجماليات الفارسية؟ لم يكن السلاجقةُ الغزاة الوحيدين لبلاد فارس الذين أحدثوا هذا الأثر. فقد سبقتهم في ذلك السلالة الغزنوية، وتَلَتْهم السلالتان المُغولية والتيمورية، وجميعهم جاءوا من شمال نهر أوكسوس (جيحون)، وكلٌّ منهم أحدث نهضةً جديدة في التراب الفارسي. وحتى الصفويون، الذين كانوا مصدرَ الإلهام للمرحلة الأخيرة والأضعف في الفن الفارسي، كانوا أتراكًا في الأصل.
كانت هذه المرحلة الأخيرة هي التي أعطت أصفهان الشخصية التي تتمتَّع بها اليوم، والغريب في الأمر أنها كانت هي التي أنتجت تحفتها الفنية الرائعة الأخرى. في عام ١٦١٢، كان شاه عباس عاكفًا على بناء المسجد الملكي في الطرف الجنوبي الغربي للميدان، الذي تُشكِّل كتلته الزرقاء الضخمة ومساحته الضخمة من البلاط ذي الورود الخشنة ذلك النوعَ من المشاهد «الشرقية» التي كانت محبَّبة للغاية لأصدقاء عمر الخيام؛ فقد كانت جميلة، إن شئت أن تصفها بذلك، بل باهرة، ولكنها غير مهمة بحسب المقياس العام للأشياء. ومع ذلك، فإنه في عام ١٦١٨ بنى مسجدًا آخر في الجانب الجنوبي الشرقي من الميدان، والذي سُمي باسم حَمِيه الشيخ لطف الله.
يقف هذا المبنى على طرف النقيض للتميز المعماري للغرفة المقبَّبة الصغيرة بمسجد الجمعة. فهذا الأخير استثنائي لأنه إلى جانب جودته الفريدة، فإن تلك الجودة من نوعٍ اعتبره معظم الناس حِكرًا على العقل الأوروبي. يُعد مسجد الشيخ لطف الله فارسيًّا بالمعنى الرائع للكلمة؛ حيث يستطيع أتباع عمر الخيام، الذين يمثِّل لهم الشكل العقلاني لعنةً كالعمل العقلاني، الانغماسَ فيه مستمتعين قدرَ ما شاءوا. لأنه في حين أن الغرفة المقبَّبة هيكل فحسب بلا لون، وزخارفها مطموسة تحت وطأة تكوينها، يخفي مسجد الشيخ لطف الله أيَّ دلالة على تكوين أو شكل ديناميكي تحت سراب من الأسقف المنحنية الضحلة، التي تمثل الذرية الوافرة للحنِيَّة الركنية الأصلية. الهيكل حاضر هناك، وبالفعل يجب أن يكون كذلك، ولكن كيفية تشكيله وماهية ما يدعمه أسئلةٌ لا تعيها العين العادية، كما هو مراد لها، إلا في حال تحوَّل انتباهها عن موكب الألوان والأنماط. والألوان والأنماط مألوفةٌ في العمارة الفارسية. غير أن لها هنا طابعًا لا بد أنه يُذهِل الرجل الأوروبي؛ ليس لأنها تنتهك ما ظن أنه يحتكره، ولكن لأنه لم يكن لديه أدنى فكرة من قبلُ عن أن النمط المجرد قادر على تلك الروعة البالغة.
كما لو أنه يعلن عن هذه المبادئ بأسرعِ ما يمكن، فإن الجزء الخارجي للمسجد لا يبالي بالتناظر بدرجة عجيبة. ولا يُرى من الواجهة سوى القبَّة والبوابة. ولكن بسبب التفاوت بين محور المسجد ومحور قصر عالٍ قابو في مقابله، فإن البوابة، بدلًا من أن تكون أسفل القبَّة مباشرةً، تميل قليلًا إلى أحد جانبيها. ومع ذلك فإن القبَّة ذات طابع متميز؛ فهي مختلفة جدًّا عن أي قبَّة في بلاد فارس أو في أي مكان آخر، حتى إنه يصعب ملاحظة هذا الانحراف. حول جزء نصف كروي منبسط مصنوع من القِرْميد الشديد الصِّغَر ومغطًّى بطلاء بلون القريدس، تمتد شجرة ورد ذات أفرع عريضة مطعَّمة باللونين الأسود والأبيض. بالنظر إليها عن قرب، نلاحظ في التصميم لمحةً من تصاميم ويليام موريس، ولا سيما في الأشواك؛ ولكنه في المجمل تقليدي أكثر من تصاميم مدرسةِ ما قبل الرفائيلية؛ فهو أكثرُ شبهًا بتصميم لأحد مطرزات جِنوة، ولكنه مضخَّم بشكل هائل. وفي مواضعَ مختلفة، عند مواضع تداخل الأفرع أو في ثنايا الأوراق، تُخفِّف زخارفُ بلون أصفر مائل إلى البني وأزرق داكن من حدةِ الزخرفة التشجيرية السوداء والبيضاء، وتجعلها في تناغم مع اللون الوردي الناعم ذي المسحة الذهبية في الخلفية، وهو نهجٌ تكرِّره أوراق تحتية منتشرة ذات لون أزرق فاتح باهت. إلا أن عبقرية التأثير تكمُن في لعبة الأسطح. فالترصيع مزجَّج. ولكن التجصيص ليس كذلك. ومن ثَم تسقط أشعة الشمس على القبَّة بإضاءةٍ شديدة «منكسرة» يضيف وميضها المتفرق، والمتحرك حسب الوقت من النهار، قوامًا ثالثًا للنمط، وهو قوام متحرك وغير متوقَّع.
إذا كان الخارج يتميز بنمطٍ شاعري، فإن الداخل يغلب عليه طابع أغسطسي. فهنا توجد قبَّة أقل ارتفاعًا، قُطرها حوالي سبع عشرة قدمًا، تطفو فوق حلقة من ست عشرة نافذة. من الأرضية إلى قاعدة النوافذ يرتفع ثماني أقواس رئيسية، أربع منها تحيط بزوايا قائمة، أربع مساحات جدران مسطحة، بحيث تُشكِّل حدود الأرضية مربعًا. وتشغل ثماني حنايا كرويَّة، مقسَّمة إلى أسطح كأجنحة الوطواط، المساحةَ بين قمم الأقواس.
القبَّة مطعَّمة بشبكةٍ من تقاسيم على شكل ليمونة، يزداد حجمها كلما نزَلَت مما يشبه شكل الطاووس في القمة، ويحيط بها قِرْميد غير مزخرف؛ وكل تقسيم مملوء بنمط من أوراق الشجر المرصَّع بجص غير مزخرف. الجدران، التي تحدُّها كتابات بيضاء عريضة على خلفية باللون الأزرق الداكن، مرصعة كذلك بزخارف أرابيسك مستديرة أو مربَّعات مزخرفة على الطراز الباروكي على جص باللون الأصفر المائل إلى البني. الألوان في كل هذا الترصيع هي الأزرق الداكن، والأزرق المخضر الفاتح، وخضاب ذو وفرة غير محدَّدة كالنبيذ. وكل قوس مؤطرة بما يشبه البريمات الفيروزية. المحراب في الجدار الغربي مطلي بزهور شديدة الصغر على مرج بلون أزرق غني.
كل جزء من التصميم، وكل مستوًى، وكل تكرار، وكل فرع أو زهرة، له جماله الحزين الخاص به. غير أن جمال المكان ككلٍّ يظهر عندما تتحرَّك فيه. مرة أخرى، تنكسر الأضواء الشديدة بتلاعب الأسطح المزجَّجة وغير المزجَّجة؛ بحيث تعيد ترتيب نفسِها مع كل خطوة في أنماط برَّاقة لا حصر لها، بينما حتى أنماط الضوء عبر الزخارف التشجيرية السميكة للنوافذ غير ثابتة، بسبب الزخارف التشجيرية الخارجية التي تبعُد بضع أقدام وتضاعف من التباين في كل صورة ظلية متباينة بالفعل.
لم يصادفني قطُّ بهاءٌ من هذا النوع من قبل. خطرت ببالي جميع التصميمات الداخلية وأنا واقف هنا، لمقارنتها بالتصميم هنا: قصر فرساي، أو غرف البورسلين في قصر شونبرون، أو قصر دوجي، أو كاتدرائية القديس بطرس. جميعها ذات تصميمات داخلية ثرية؛ ولكن لا أحدَ منها شديد الثراء. فثراؤها ثلاثي الأبعاد؛ حيث يتحقق بالكامل بفعل الظل، بينما في مسجد شيخ لطف الله، الثراء هو ثراء نابع من الضوء والسطح، من النمط واللون فحسب. الشكل المعماري بسيط. فهو ليس ممتلئًا بالزخارف، كما في طراز الروكوكو، بل هو ببساطة أداةٌ لعرضٍ ما، مثلما أن التربة أداةٌ لزراعة حديقة. ثم تبادر إلى ذهني فجأةً ذلك الصنف البائس من البشر، مصمِّمو الديكور الداخلي الحديث، الذين يتصوَّرون أن بوسعهم جعْلَ مطعم، أو دار سينما، أو صالة استقبال بلوتوقراطية، تبدو ثرية إذا ما أُعطوا ما يكفي من المال لشراء صفائح ذهبية ومرايا. إنهم يجهلون أنهم هواة. وللأسف يجهل عملاؤهم أيضًا ذلك.
وقع لي خَطبٌ مروِّعٌ هذا الصباح. فليلة أمس، عندما كنت ذاهبًا إلى البعثة الإنجليزية لأتلقَّى لقاحًا، قبلت اقتراحهم الكريم بأن أنام في سرير الطبيب بما أنه لم يكن موجودًا. في منتصف الليل، عاد الرجل المسكين على غير المتوقَّع، وعندما رأى رأس رجل غريب على وسادته، اضطُر للنوم على أريكة. ولكن ما أعقب ذلك كان أسوأ. فعندما تجرَّأ أخيرًا على دخول غُرفته لجلب بعض الملابس النظيفة، رآني في حالة عربدة؛ حيث كنت جالسًا على سريره ومعي زجاجة من النبيذ وسيجار. ولأنني كنت أعلم أنني سأكون بالخارج طوال اليوم، فقد تناولت غداءً مبكِّرًا. حاولت التظاهر بأن لا شيء في الأمر بأن عرضت عليه بعض النبيذ، ولكنه كوَّن انطباعًا سلبيًّا عني.
كنت قلقًا من عدم حصولي على خطابِ توصية عندما أصل إلى هنا. قال علي أصغر بجدية: «سأكون أنا خطاب توصيتك»، موضِّحًا أنه كان خادمًا لحاكمِ يِزْد الحالي لمدة عشر سنوات، عندما كان الحاكم رئيس بلدية أصفهان؛ وفي الواقع، مباشرةً قبل أن أضمَّه في شيراز، أرسل الحاكم له برقيةً يطلب منه الرجوع ولكنه رفض. الآن، عندما دخلنا مكتب الحاكم، كان هناك! هبَّ الحاكم من فوق كرسيه صائحًا. وقف علي أصغر، الذي كانت له في أوج تألُّقه هيئة قس مُسِن، بيدين معقودتين وركبتين مرتخيتين، راسمًا ابتسامةً متكلفة ومُرخيًا جَفنيه في حياءِ آنسةٍ فيكتورية. وأخيرًا، وكما كان قد تنبَّأ، حوَّل الحاكم مودته إليَّ سائلًا عما إذا كان علي أصغر متفرغًا الليلة لتناول العشاء معه والتحدث عن الأيام الخوالي.
بعد تسويةِ هذا الأمر، حصلت على كل التسهيلات الممكنة للاستكشاف، ورافقني ضابط شرطة ذكي وكريم. يجب أن يبدأ البحث عن الآثار في بلدةٍ بِكرٍ مثل يِزْد من ارتفاعٍ مناسب، يمكن منه رؤية أي القباب أو المآذن مبشِّرة برؤيةِ عمل جيد أسفلها، استنباطًا من أشكالها أو موادها. اليوم، أثمر دليلٌ تلو الآخر عن كنز، حتى كدنا في نهاية اليوم نصبح متعَبين لدرجةٍ يصعب معها السير للمنزل.
السير بيرسي سايكس هو الكاتب الوحيد الذي كتب عن المباني هنا، ولكن ذكرها بإيجاز شديد. هل يسافر الناس عميانًا؟ يصعب أن أتخيَّل أن أحدًا يمكن ألا يلحظ بوابةَ مسجد الجمعة. إذ ترتفع لما يزيد على ١٠٠ قدم، وقوسها المستدقَّة الضيقة تكاد تُضاهي في إبهارها قوس المذبح في مدينة بوفيه الفرنسية. بعد هذا، الباحة بالداخل مخيِّبة للآمال؛ فهي تشبه حوش أبرشية صغير. ولكن الحرم، المكسوة جدرانه وقبَّته ومحرابه بفسيفساء من القرن الرابع عشر بحالةٍ جيدة، ليس مخيبًا للآمال. هذا هو أفضل ديكور رأيته من ذلك النوع بعد هِرات. إنه يختلف عن الصنعة هناك. فالألوان أكثر برودة، والتصاميم أكثرُ وضوحًا ودقة، ولكنها ليست فائقة الجمال.
كانت تستدرجنا حاليًّا عبر البلدة سلسلةٌ استثنائية من الأضرحة البسيطة ذات القباب البيضوية، وهي استثنائية لأنها بسبب كونها مبنية من قِرْميد لا يكاد يمكن تمييزه عن الطمي، ربما كان من المتوقَّع ألا تحوي شيئًا سوى الحطام. غير أن ضريحًا تلو الآخر كشف لنا عن جدران وأقبية وقبابٍ تكسوها كتابة كوفية عريضة ومجدولة بأسلوبٍ شديد الثراء، وأحيانًا شديد الاختلال، حتى إنه ليس لها سابقة معروفة. أكثرها تعقيدًا هو ضريح وقت الساعة، الذي بُني عام ١٣٢٤. لا بد أن بعض الأضرحة الأخرى أقدمُ من ذلك. فضريح الأئمة الاثني عشر، على سبيل المثال، به إفريز مزخرف بالكتابة الكوفية بالأسلوب نفسِه الذي في برج بیر علم دار في مدينة دامغان، والذي يعود تاريخه للقرن السابع عشر.
صادَفتنا تحفةٌ أخرى في البازار، وهي إحدى بوابات المدينة القديمة المعروفة باسم دروازه مهریز. بابها الخشبي الضخم مثبَّت بألواحٍ حديدية مختومة بعلامات بدائية للأبراج الفلكية. لهذه الأشياء مظهر من القِدم الذي لا حدَّ له. غير أن الأشكال البدائية تشكِّل تقاويمَ لا يُعوَّل عليها. ربما هي مجرد دليل على نقص الكفاءة الفنية.
تختلف يزد عن المدن الفارسية الأخرى. فليس بها حزام من الحدائق، ولا قباب زرقاء باردة، تحميها من الخلاء المنيع خارجها. للبلدة والصحراء اللون نفسه، والجوهر نفسه؛ فقد نمت الأولى من الثانية، وتمثِّل أبراج الرياح العالية، الشاهدة على الحرارة، غابةً قد تنمو طبيعيًّا من الصحراء. إنها تضفي على المكان هيئةً مدهشة، مع أنها ليست مدهشة كحيدر آباد في السند. الرياح هناك تهُبُّ دائمًا من جهة البحر، وتبرز ظلال الأبراج لتتلقَّاها. الأبراج في يزد مربَّعة، وتتلقى الرياح من جميع الجهات الأربع عن طريق أخاديد مجوَّفة تدفعها إلى غرف بالأسفل. تثير غرفتان في كلا طرفي المنزل تيارًا بطول المبنى.
في الوقت الحالي، ومع وجود خطط الحاكم الطموحة، لم تُوجَّه سوى جادَّة واحدة عبْر المتاهات القديمة. حتى هذه يستنكرها محبُّو المناظر الخلَّابة. ولكنها تُعد منحةً لأهالي المنطقة؛ إذ يجدون الآن مكانًا للسير، وتنسم الهواء، واللقاء، واستكشاف الجبال البعيدة.
ذهبت إلى المرأب بحثًا عن وسيلةِ نقل إلى مدينة كرمان، وانخرطت في محادثة مع نائبٍ سابق قال لي إن قوام الملك كان مسجونًا، ولكن أُطلق سراحه الآن، بينما يظل مصير ساردار أسد والإخوة البختياريين الآخرين مجهولًا. كان حانقًا على مارجوريبانكس، وتساءلت عن السبب، حتى حكى أن عمَّه، وهو رجل مُسن في الرابعة والسبعين من عمره ومصاب بالعمى في إحدى عينيه، قد سُجن لمدة سنتين لرفضه أن يترك مارجوريبانكس يستولي على ضِياعه التي كان يزرع فيها الأرز في محافظة مازَنْدَران. انتزع ذلك الحاكم الفذ الضِّياعَ من جميع أنحاء البلاد، وصنع منها ثروة؛ لأن أصحاب الأملاك الآخرين لم يكونوا بهذا القدرِ من الممانعة. أدهشني طيش الرجل. ولكني أفترض أنه ظن أنني لن أخونه. آمُل ألا أفعل ذلك. حدث هذا قبل أن آتي إلى يِزْد، ولم يكن حينئذٍ نائبًا سابقًا.
اليوم هو «النيروز»، أي «يوم جديد»، أو بعبارة أخرى هو أول أيام السنة الفارسية الجديدة وعطلة رسمية. للتَّو قال علي أصغر شاكيًا، ومعه بعض الحق: «بلا استحمام، وبلا حلاقة، وبلا ملابس نظيفة.» ثم أوضح كلامه بالإنجليزية قائلًا: «النيروز هو عيد الميلاد الفارسي، أيها السيد.»
فقدَّمت له الهدية المناسبة.
بعجرفة، يذكر كتاب ابتهاج، «دليل إيران»: «بسبب عزلتها، فإن التحسينات في كرمان قليلة نسبيًّا.» إنها أكثر مما في يِزْد. إذ توجد عدة شوارع واسعة، وكذلك سيارة أجرة، حالفني الحظ أن صادفتها واستأجرتها لليوم بأكمله، بعدما عرفت أنها الوحيدة في المدينة. خرجت بها من المدينة إلى جبل سنج، وهو ضريح مقبَّب مثمَّن الشكل يعود للقرن الثاني عشر، وهو مثير للاهتمام لأنه بُني من الحجارة وليس من القِرْميد.
خلاف ذلك، ومع أن كرمان لم يستكشفها علماء الآثار قطُّ، لم أجِد سوى شيئين جديرين بالملاحظة. أحدهما كان لوحة المحراب في مسجد الجمعة، المُشكَّلة بفسيفساء من القرن الرابع عشر، والتي يبدو أنها من تصميم فنانين من يِزْد. والآخر كان مدرسة كنج علي خان، وهو مبنًى قبيح وليس قديمًا جدًّا، ولكنه يحتفظ برقعٍ من الفسيفساء. هذه التنانين، والكراكي، وغيرها من الكائنات غير المعتادة في الأيقونات الفارسية، تُشكِّل نوعًا من الزخرفة الصينية، على الرغم من الغموض الذي يكتنف كيفية اختراق الأفكار الصينية في أيٍّ من الأوقات لهذه المدينة البعيدة.
انهارت قبَّة سبز التي ذكرها سايكس. كانت ضريحًا بقبَّة زرقاء طويلة على الطراز التيموري. وجَدتُ بقاياها مدمجة في منزل حديث.
النبيذ هنا أحمر اللون ويصنعه الزرادشتيون. اشترى علي أصغر زجاجة، ولكنها كانت حُلوة المذاق أكثر من اللازم، فبِعتها لصاحب الفندق.
أعارني أحدُ المعارف الفرس المجلَّد الخاصَّ ببلاد فارس ضمن موسوعة «سلسلة العالم الحديث». يكره الفرس جميع الكتب التي تتحدث عنهم، لكنه يقول إنهم يكرهون هذا الكتاب بالتحديد لأنه «مفرط» في مدحهم. هذا عمل عجيب من رجل مُغرَم بنزاهته مثل السير أرنولد ويلسون.
يمثِّل ضريح نعمة الله مُتنفَّسًا مفاجئًا؛ حيث نعمة وجود المياه وخشخشة أوراق الشجر. يوسِّد اللون الأرجواني أشجار الزمزريق، وينعكس نِثار زهور أشجار الفواكه المبكرة على صفحة بِركة طويلة. في الباحة التالية توجد بِركة أخرى على شكل صليب ومحاطة بمُهُد أنيقةٍ مزروعة حديثًا بزهور السوسن. الطقس هنا أكثر برودة. وأشجار سرو سوداء مستقيمة، تظلها مظلات مرفرِفة من أشجار الصنوبر الأسرع نموًّا، تلقي بظلٍّ شجري عميق. وتشع بينها قبَّة زرقاء متقاطعة مع الخطوط السوداء والبيضاء على شكل شبكات العناكب، ومئذنتان زرقاوان … ودرويش يترنح، مرتديًا قبعة مخروطية وجلد غنم أصفر مُطرَّزًا. يقود الطريق أمام قبر الولي أسفل القبَّة، عبر قاعة واسع مطلية بالكلس، إلى باحة ثالثة أكبر، بها زوج ثانٍ أكبر من المآذن في طرفها البعيد. وتوجد خارج البوابة الأخيرة بِركة أخيرة متناسقة الشكل وشجرة دُلْب عملاقة تتلألأ بعصارتها الجديدة. المنطقة المحيطة مغطاة بكروم العنب، في حقولٍ أشبه بمسارات لعبة البولينج مليئة بأقماع من الطمي لتدعم التعريشات، كما تدعمها أشجار التوت على سهل لومبارديا. تحدُّ الأفقَ سلسلةٌ عالية من الجبال في رداء من الثلج والسديم البنفسجي.
وبينما تُلقي الشمس الساقطة بشرائطَ نحاسية مشتعلة عبر السماء العاصفة بالرمال، تجمَّعت جميع الطيور في بلاد فارس لأداء عرضِ جوقةٍ أخير. ببطء، يجلب الظلام صمتًا، وتجثم الطيور للنوم برفرفة متباطئة كطفل يُهيئ فَرش سريره. ثم تبدأ نغمة أخرى، نغمة مضطربة حزينة رنانة، على استحياء في البداية، ثم تكتسب جرأة فتنبض دون انقطاع، حتى تصبح نغمتين، كما لو أن كمانات النغمة الثانية قد تسللت إلى المشهد، فتارةً تسمع هذه النغمة وتارةً تسمع الأخرى، وتُجيبهما نغمةٌ ثالثة من الجهة الأخرى للبِركة. تشتهر ماهان بطيور العندليب. ولكن ما أصغي إليه هو الضفادع. أنا الآن خارج الباحة في الظُّلمة تحت الأشجار. فجأةً تصبح السماء صافيةً، وتنعكس صورة القمر ثلاث مرات؛ مرة على القبَّة ومرتين على المآذن. تنبثق في حنوٍّ من شرفةٍ فوق المدخل دائرةٌ من ضوء كهرماني، ويبدأ أحد الحجيج في الإنشاد. وتتبعه ضوضاء تقاطر المياه في أحواض الزهور المحفورة حديثًا. أخلد إلى الفراش أخيرًا. للغرفة عشرة أبواب وإحدى عشرة نافذة، يصدر عبرها صفير إعصار من الرياح وأصوات فحيح وهرولة القطط وهي تبحث عن عظام الدجاج. لا تزال الضفادع ينادي بعضها بعضًا؛ وتشق تلك النغمة المتألقة الرنانة طريقها إلى نومي؛ وأستيقظ لأجد قطًّا يفتح صندوق طعامي بضراوة تجعلني أتخذه مساعدًا لي لو كنت لصَّ خزائن. يهزُّ تيار الهواء السرير. آمُل أن يكون علي أصغر أكثرَ ودًّا مع الدراويش، ولكني لا أتجرَّأ أن أشتكي له في الصباح؛ فقد قال له الجنرال سايكس إن ماهان «كانت» فردوسًا منذ خمسة عشر عامًا. يوشك الصبح أن يطلع، ويرفع عنه حُجُبَه الرمادية ويطلع؛ وتبدأ الطيور تشدو مرةً أخرى، كما لو كانت تتبع إيقاع قائد أوركسترا حازم، في ترتيلة صاخبة صارخة إلى الشمس، بينما يدخل معها في منافسةٍ مزعِجة سِربٌ، لا ينبغي أن يُنسى، من الغربان في الجهة الأخرى من الغرفة. الآن، على نحوٍ مفاجئ أيضًا، حلَّ الصمت مرةً أخرى، بينما تتسلل أشعةُ الشمس الأولى إلى المشهد. خارج الباب، يُهوِّي علي أصغر والدرويش على صينية من الفحم ويعدان الشاي في وعاء السماور بأناة. تمرُّ خطوات أقدام، ويقول صاحبها: «يا الله!» يردُّ الدرويش قائلًا: «يا الله!» يردِّد الحاج صلاته الصباحية من الشرفة، مستخدمًا نصف نغمة أنفية طويلة تُذكرني بجبل آثوس. تضيء قوسٌ ذهبيَّةٌ القبَّةَ الزرقاء وتكتسي السماء بلون وردي. وها هو ذا علي أصغر يأتي بصينية الشاي.
عصر اليوم قُدت السيارة إلى قرية في الريف لأرى إحدى الحدائق. بالقرية ١٠٠٠ منزل، وتبلغ قيمتها ٦٢٥٠٠ جنيه إسترليني تقريبًا، بما في ذلك مورد مياهها. ويبلغ عائد تأجيرها ٢٢٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا، وهو ما لا يمثل فائدة كبيرة على رأس المال. كانت أزهار البنفسج وزهور اللوز متفتحة في الحديقة، وكذلك سوسنة بيضاء ممتلئة ذات رائحة قوية. أراني المالك شجرةً لُقِّحَت مرتين، بحيث كان البرقوق والخوخ والمشمش مزهرين عليها في آنٍ واحد. كانت كنوزه الأخرى هي شجرة رمان بلا بذور، والتي كان يبحث عنها کیو؛ ومنزل برتقالي في ساحة غائرة بعمق خمس وعشرين قدمًا؛ حيث تتسع القناة الرئيسية لتصير بِركةً. تحدَّث بحماس عن الفستق الذي يحصل عليه في الصيف من أردكان، التي يتسم طقسها بأنه أكثرُ دفئًا من يِزْد، وبها الماء المَسُوس الذي يحبونه.
وقد مُنح إفراجًا مؤقتًا كي يجمع أغراضه في طهران. إذَن الآن، بمشيئة الرب، سنذهب معًا إلى أفغانستان.
توقَّفت في مدينة نائين في طريق العودة لرؤية المسجد الذي يرجع تاريخه إلى القرن التاسع، وهو من أقدم المساجد في بلاد فارس. تمتلئ زخارفه الجصية بأفرع العنب، وتوحي بنقل للأفكار الهلينستية عبر الفن الساساني إلى الفن الإسلامي. ومن هناك، ذهبت إلى أردستان؛ حيث يُستخدم الجص بطريقةٍ جديدة، لتكوين نوعٍ من الزركشة فوق البناء القِرْميدي. هذا المسجد سلجوقي، ويرجع إلى عام ١١٥٨، ويتسم بنقاء التكوين نفسه الموجود في الغرفة المقبَّبة الصغيرة في مسجد الجمعة بأصفهان، ولكن ليس بالدرجة نفسها.
نقيم في المفوَّضية. وعندما نزلت إلى الطابق السفلي وجدت المنزل ممتلئًا بأطفالٍ يرتدون أزياء الجنيات. إنه تدريب لمسرحية للأطفال.
قصر قاجار هو حصنٌ يسيطر على طهران من ارتفاعٍ عالٍ. من هنا قوَّضَت البنادق الروسية الحركةَ الدستورية قبل الحرب. حوَّله مارجوريبانكس إلى سِجن حديث، ولكيلا يغيب هذا الإجلال للتقدم عن الملاحظة، نظَّم زيارة خاصة إلى هناك للأجانب، الذين انبهروا كثيرًا بالمطبخ والمعدات الصحية. ولكن، كما قال لي أحد الأمريكان أمس: «إن معدل الوفاة بين السجناء من الطبقة العليا مرتفع على نحو غريب.»
كان يوم أمس يومًا يعج بنُذُر الخطر. كان كافيًا أن أقابل مارجوريبانكس في الشارع، وأن أسمع تصفيق أتباعه المحموم. في طريق عودتي للمفوضية، أعلنت ضجةٌ مروعة عن فِرار حصان وعربة، وهذه العربة سقطت على الطريق وأخذت تتطاير منها المقاعد التي كانت تُفرِغ حمولتها من أجل مسرحية الأطفال. دون مشاعر بطولية، تنحَّيت عن الطريق. أغلق الحاجب البوابة، واندفع الحصان إلى القضبان العمودية عاجزًا عن اختراقها، بينما تفسَّخت العربة من تحته. ومع الصدمة التي عُرض لها الحصان، لم يُصَب.
ثم بدأت المسرحية، وتبِعها الشاي.
أنا: «أتريد قطعة أخرى من الكعك؟»
شير أحمد (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء): «كلا، شكرًا لك، لقد أكلت. (بصوتٍ عالٍ) لقد اكتفيت، (بصوتٍ خافت تدريجيًّا) ليس إلى هنا (لامسًا حلقه، وبصوتٍ يعلو تدريجيًّا)، بل إلى هنا (لامسًا جبهته). لقد أكلت (بصوتٍ عالٍ) كل شيء. لقد أكلت كلَّ طبق على الطاولة. (بهدوء) كما تعلم، فإن اسمي هو شير أحمد. وشير، كما تعلم، يعني الأسد. (صائحًا، بصوتٍ عالٍ جدًّا) عندما أهجم، (هامسًا، بهدوء شديد) يكون الأمر مروعًا.»
من وراء الستار، نتج عن احتجاز كريستوفر حدثٌ فعلي. كانت التحقيقات المتكررة قد استخلصت الآن مبررًا له، وهو، حسبما قال وزير الخارجية حرفيًّا، أن «السيد سايكس يتحدَّث مع الفلاحين». نتصور أن هذا لا بد أن يكون تلميحًا خفيًّا لمحادثته مع بستاني مارجوريبانكس في دربند. ليس مبررًا مقنعًا جدًّا، ولكنه ربما سيكون كافيًا لعودة وزارة الخارجية في لندن لحالة الرضوخ الخانع المعتادة لسوء معاملة الرعايا البريطانيين. ولقد عبَّروا في هذه الحادثة عن احتجاجهم ببراعة محكمة حتى إن الفرس قرَّروا الآن طرد الأب رايس من شيراز. ربما سيدافع عنه الفاتيكان دفاعًا أفضل. فالسفير البابوي في حالة من الغضب العارم.
زار كريستوفر شير أحمد هذا الصباح.
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) كان يوجد حمار مُسن، حمار مُسن مسكين، يحمل فوق طاقته من الحجارة، ويصبح متعبًا جدًّا. ذات يوم، جاء الحيوان ذو الشعر الكثيف، والأنف الكبير، والأسنان العريضة، ما اسمه؟ إنه ينبح كالكلب.»
(بهدوءٍ بعض الشيء) يردُّ الحمار قائلًا: «هذا مستحيل.»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) يقول ابن آوى: «أجل، أجل، أنا أريد ذلك. يجب أن تقف على هذه الأكمة.»
(بهدوءٍ بعض الشيء) يقول الحمار: «أنا لا أريد ذلك. يجب ألا أكون ملِكًا. دعني أحمل حجارتي.»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) يقول له ابن آوى: «لا يهم. قف دائمًا على هذه الأكمة وضعْ هذا الفرو.»
أعطاه ابن آوى فرو أسد. وضعه الحمار على جسده وبقي على الأكمة.
«(بهدوء شديد) في الغابة، يقابل ابن آوى (بصوتٍ عالٍ جدًّا) أسدًا. (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) فيقول: «مولاي، يوجد شاه آخر على التلال، شاه عالٍ، أعلى منك يا مولاي.»
(بهدوء شديد) غضب الأسد كثيرًا. وأجاب (وهو يزأر بصوتٍ عالٍ جدًّا): «جررر! كيف تجرؤ! أين هو؟ سآكلكم جميعًا!» (تلمع عيناه، وتصرُّ أسنانه).
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) يذهب الأسد سريعًا إلى الأكمة. ويرى الحمار في سترة الأسد. إنه كبير للغاية. الأسد-الحمار كبير جدًّا، وعالٍ جدًّا. فيشعر الأسد بالخوف، وينصرف. (ضاحكًا بصوتٍ عالٍ تدريجيًّا) ثم تجثو جميع الحيوانات أمام الحمار. إنه الشاهنشاه على الغابة. (يتوقف قليلًا.)
(بهدوء شديد) في أحد الأيام يأتي (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) خنزير (pick) صغير …»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) أفهمت يا سيد سايكس؟ أؤكد لك أن هذا نفس ما يحدث في الشرق. فأفغانستان وبلاد فارس حماران مسنَّان. لكن بلاد فارس حمار يرتدي كسوة أسد، فهي كالحمار-الأسد. وهذا جيد. فبلاد فارس لديها كبرياء كبيرة، مكانة عالية. ولكن إذا (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) تحدثت إليها كما فعل الخنزير، إذا (بصوتٍ عالٍ جدًّا) تحدَّثت إليها، (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) فستغضب جدًّا؛ لأن جميع الحيوانات، أي جميع الناس، سيرون أنها حمار. لذلك، يجب أن تذهب.»
واصَل شير أحمد حديثه عن موضوع الكبرياء الفارسي، وبعد قليل تحدَّث عن مقابلة أجراها مع مارجوريبانكس في أعقاب مقتل شرطي فارسي على الحدود الأفغانية.
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) كان الشاه غاضبًا جدًّا. قلت له: «كيف حالك يا سيدي؟ هل أنت بخير؟ كيف مزاجُك؟»
قال الشاه (بصوتٍ عالٍ جدًّا): «جررر!»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) فقلت له: «لماذا تجفل يا سيدي؟ (بصوتٍ عالٍ تدريجيًّا) كفاك إجفالًا.»
قال الشاه (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء): «جررر!»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) سألته: «لمَ أنت غاضب؟»
قال الشاه (بصوتٍ عالٍ جدًّا): «أين الأفغان القتلة؟»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) قلت له: «لا نعرف. (بهدوء) إننا آسفون جدًّا.»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) قال الشاه (بصوتٍ عالٍ جدًّا): «جررر!»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) سألته: «ماذا تريد أن تفعل؟»
قال الشاه أشياءَ فظيعةً عن الأفغان، وقال إنه سيرسل جنودًا لقتل الأفغان.
قلت له: «لا يا سيدي، ما تقوله لي خطأ.»
قال الشاه (صائحًا بصوتٍ عالٍ جدًّا): «خطأ كيف؟ سعادتك تقول لي إنني مخطئ؟»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) قلت له: «اذهب إلى أفغانستان، يا صاحب الجلالة. واقتل كثيرًا من الأفغان، (بصوتٍ يعلو تدريجيًّا) كثيرًا. (بهدوء) فهُمْ رجال أشرار. (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) ولكن أولًا اقتل رئيس شرطتك، الجنرال أيروم. فهو أيضًا رجل شرير. في حمَّام نادري الأسبوع الماضي، ارتكب بعض الرجال أفعالًا سيئة في حق إحدى النساء. ثم فصلوا رأسها عن (بإيماءةٍ مروعة وصوتٍ يعلو تدريجيًّا) جسدِها! وتركوا الجثة في بِركة من الدماء. (بصوتٍ خافت) لم يستطِع الجنرال أيروم العثور على القتلة. لا نستطيع العثور على القتلة. إنه آسف جدًّا. ونحن آسفون جدًّا. لذا، اقتل الجنرال أيروم، ثم (بصوتٍ عالٍ جدًّا) اذهب إلى أفغانستان. (بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) لكن أولًا يجب أن أرى الجنرال أيروم (بصوتٍ عالٍ تدريجيًّا) ميتًا! وفي بِركة من الدماء أيضًا!»
(بصوتٍ عالٍ بعض الشيء) ضحك الشاه. «يجب ألا تغضب يا صاحب السعادة. كل شيء على ما يرام.»»
ليلة أمس، أخذنا يونج، أمين مكتبة الكلية الأمريكية، إلى زورخانة (بيت القوة بالفارسية). كانت المرة الأولى التي عرف فيها بهذه المؤسسة عندما سمِع طلابه يحطُّون من قَدْر التدريبات البدنية السويدي لصالحها. يعود تاريخها إلى عصورِ ما قبل الإسلام، وربما تكون قد تطوَّرت من أحد الطقوس الزرادشتية.
استقبلتنا غرفة عالية السقف في حي البازار برائحة الأجساد وضوء أبيض. كانت جدرانها مغطاة بصور شخصية، وبعض الرسومات، وبعض الصور المُصفرَّة، وهو ما منحها نفس مظهر حجرات الطبقة الأرستقراطية، مثل حجرة ديمبستر في إيتون وحجرة مدام زاخر في فيينا. يظهر في الصور أبطال الماضي، «البهلوانات»، هكذا يُسمونهم، وهو لقب قديم ينطبق على المحاربين الأسطوريين مثل رستم، ولكنه يشير إلى القوة فحسب وليس لأية فضيلة أخلاقية. عُلِّقَت فوق الصور تذكاراتٌ أخرى من «الهواية»؛ صف من الجوارب الطويلة المطرَّزة التي كانت تُرتدى في مسابقات المصارعة، وعدد من الأقواس الحديدية التي رُبطت بها، بدلًا من الحبال، سلاسل مفكوكة مزيَّنة بأقراصٍ حديدية. كانت الغرفة المجاورة مكتظَّة بالهراوات الخشبية والدروع الخشبية المربَّعة.
في منتصف الأرضية، كانت توجد حفرة بعمق ثلاث أو أربع أقدام وبمساحة ثلاثين قدمًا مربَّعًا، يملؤها رمل ناعم، مدعوس بقوة، ومفروش عليه عمقُ قدم من القشِّ المرصوص بإحكام لمنحه المرونة. كان يشغل هذا المكان دزينة من الرجال من مختلف الأعمار، عُراة إلا من منشفةٍ حول الخَصر تلتفُّ بشكل كامل حول بطونهم؛ فهكذا كان شكل «بهلوان» المستقبل. على طاولة في الركن، كانت توجد صينية من الفحم تُسخِّن عليها الأوركسترا الطبلةَ لجعل صوتها رنانًا. عندما قُرِعت الطبلة، أخذ المؤدون يرتفعون وينخفضون، صعودًا وهبوطًا، أسرعَ فأسرع، حتى بدأت الأوركسترا في الغناء، وفجأةً مع تتابُع من القعقعة على الجرس والطبلة بالتناوب، بينج، بينج، بوم … بوبوبوم، بوبوبوم … بينج، بينج، انتهى العرض.
تلا ذلك تدوير الهراوات، الذي كان يؤديه رجلٌ واحد في كل مرة، مع هراوة واحدة في كل يد، وكانت كل هراوة ثقيلة للغاية حتى إنها كانت بوزن يمكنني معه رفع واحدة منها عن الأرض بكلتا يديَّ. ثم المزيد من التمارين البدنية. ثم الدوران مع تمديد الذراعين، بسرعة كان بوسعي معها أن أرى بوضوح لمؤدٍّ واحد في اللحظة نفسها صورتين جانبيتين للوجه ووجهه من الأمام. استمرت أوركسترا الطبلة والصوت والأجراس في العزف طوال الوقت، مبطئةً ومسرعةً في إيقاعها، بحيث كان المؤدون يستجيبون بوضوح لمحفز موسيقي، وكانت الوجوه والأجساد مفعمةً بالمتعة، وأصبح تباينها مع التدريبات البدنية السويدية مؤلمًا لنا أكثر مما هو مؤلم لتلاميذ يونج الفُرس؛ إذ تحوَّل أمل أوروبا إلى صفوف من الحركات الإيمائية الآلية.
كان العرض الأخير يُقدَّم بالأقواس الحديدية، التي أُمسِك بكل واحد منها فوق الرأس، بينما كانت السلسلة والأقراص تصلصل جيئةً وذهابًا من الكتف إلى الأذن. في النهاية، أدَّى بطل هذا التمرين رقصةً؛ حيث قفز داخلًا إلى القوس وخارجًا منها بأسلوب تكس ماكلويد وأُنشوطته، باستثناء أنه بسبب وزن الأداة كان منهَكًا للغاية في النهاية حتى إنه كان بالكاد قادرًا على رفع نفسه والخروج من الحفرة. في تلك الأثناء، كان الوافدون الجدد يخلعون ملابسهم ليأخذوا دورهم في الدورة التالية.
عندما انتهت الدورة الأولى، ارتدى المؤدون ملابسهم ورأيناهم على طبيعتهم. كان معظمهم من التجار أو أصحاب المتاجر. وكان أحدهم ضابطًا في القوات الجوية. كما كان باحث يعكف في الوقت الحالي على ترجمة «الموسوعة البريطانية» بمعاونة أربعة مساعدين. كان من المقرَّر نشر المجلد الأول من هذا العمل على الفور لولا أنه قد أدرك، في الوقت المناسب، أن الأبجدية الإنجليزية تختلف في ترتيبها عن الأبجدية الفارسية.
شرح لنا المالك، الذي يشرف على كل عرض ليتأكد من أن أحدًا لا يُفرِط في إجهاد نفسه، طبيعة المنظمة. كل زورخانة تمثِّل ناديًا، ويقع معظمها، مثل هذا، عند تقاطع البازار والأحياء السكنية، بحيث يمكن لرجال الأعمال المجيء للتمرين في طريقهم إلى المنزل. قيمة الاشتراك ثلاثة تومانات، أي ٧ شلنات، و٦ بنسات في الشهر. وأحيانًا تُقام منافسات بين مختلف الزورخانات.
قابلت على العشاء شابًّا سويديًّا، جعلتني مجوهراته الباهظة الثمن وحديثه عن عقارات والده أتساءل عن سبب عيشه في طهران.
إذَن من هنا تأتي الأملاك، على ما أظن.
لم يحدث ذلك.
يوجد مَعلَمان أصغر على مسافة ليست بالبعيدة: برج دفن مثمَّن الأضلاع يعود للقرن الثالث عشر ويحمل اسم السلطان شيلابي، وضريح مُثمَّن أقل ارتفاعًا وأحدث عهدًا، وهو الذي يضم قبر الملا حسن. يتفوَّق البناء القِرْميدي للمَعلَم الأول، الذي لا يزال مدبَّبًا كما لو كان بُني أمس، على أفضل أعمال أساطين القِرْميد الأوروبي، وهم الهولنديون. يتميز المَعلَم الثاني بسقفٍ مقبَّب من المقرنصات مطلي باللونين الأحمر والأبيض.
أدَّى ممرٌّ ضيق إلى الضريح الأخير عبر شجيرة بنية وشائكة. قال الفلاح المرافق لي بحزن: «من المؤسف أنه لا يمكنك العودةُ في الصيف. فجادَّة الورود تكون في غاية الجمال في ذلك الوقت.»
يسافر جميع الزائرين تقريبًا إلى بلاد فارس إما عن طريق رشت أو همدان، وجميع مَن يفعلون ذلك لا بد أن يمروا بواجهة مسجد الجمعة في قزوين. ومع ذلك، فباستثناء جودارد، المدير الفرنسي لخدمة الآثار، أعتقد أنني أول شخص لاحظ الجصَّ السلجوقي في المحراب، وهو تصميم جميل من ألواح وطنف وإفريز مزخرف بالأرابيسك، يعود تاريخه إلى عام ١١١٣. تنتشر في جميع النقوش تلك الأزهار المتدلية الجميلة والورود والزنابق وأزهار السوسن، التي يوجد اعتقاد عام بأن الصفويين هم مَن ابتكروها بعد ذلك بأربعة قرون.
كان من المفترَض أن نغادر هذا الصباح، لكن منعنا فيضٌ عارم من المطر.
ثراش، وهو مُعلِّم مدرسي، هو الآخر في طريقه إلى كابول عبر الطريق الجنوبي. أخبر السفارة الأفغانية بأنه يبحث عن المغامرة، وعندئذٍ اقترح شير أحمد، الذي كان حريصًا دائمًا على صنع الجميل، أن يتظاهر بأنه جاسوس روسي؛ ومن ثَم يقي نفسه التعرُّض لإطلاق النار بتقديم خطاب يقدِّمه له شير أحمد لهذا الغرض. التقيت به أنا وكريستوفر هذا الصباح؛ حيث كنا نناقش أهمية الحصول على الراحة في رحلتنا. قال إنه يفضِّل المشقة، وإنه مستمتع بها. أعرف هذا النوع من الناس؛ فقد يموتون بين يديك لأنك لم تكن كفئًا بما يكفي مع ما بذلته من جهد.
عصر هذا اليوم التقيت بأسدي، متولي باشي الضريح في مشهد. وهو تكليف من البلاط الملكي، يتحكَّم صاحبه في إيرادات الضريح التي تبلغ ٦٠٠٠٠ جنيه إسترليني سنويًّا. كان شديد الحرص على أن أرى المستشفى الذي يبنيه بتلك الإيرادات. لكنني لم أستطِع الحصول على وعد منه بأنه سيجعلني أتسلل إلى الضريح.
توجد معلومات معروفة عن شخص جوهر شاد أكثر مما كنت أتخيَّل.
هذه المرة توقَّفنا لرؤية وفام بوب، الذي وصل أمس. قد تكون بعض صوري ومعلوماتي مفيدة لكتابِه المرتقَب «دراسة استقصائية حول الفن الفارسي».
جاء على متن طائرة مع السيدة مور، وهي كبيرةُ عائلةٍ ترتدي شالًا، وعمرها تخطَّى السبعين عامًا، وتبلغ ثروتها عدة ملايين. اكتملت المجموعة بشقيقتيها وثلاث خادمات و«مدير». التقينا بهم لتناول الشاي في الكلية الأمريكية. انزعج كريستوفر انزعاجًا شديدًا من التملُّق المتواصل، لكنه لا يتعاطف مع الأشخاص الذين يعتمد عملهم على الإعانات الخاصة.