الجزء الخامس
استيقظت الليدي هوار وجوزيف مبكرًا لتناول الإفطار معنا تحت شجرة الوِستارية. كان المظهر الشَّتوي لمجمَّع المفوَّضية، الذي يشبه ملجأً فيكتوريًّا، شِبه مخفي الآن جرَّاءَ الأزهار وأوراق الأشجار الشابَّة. وبينما كنا نبتعد بالسيارة، تذكَّرت بامتنانٍ لا حدَّ له الطيبةَ التي كنت قد وجدتها في تلك البيوت الصغيرة القبيحة، ووسط المجتمع الإنجليزي بوجه عام. من السهل نسيانُ مثل هذه الطيبة، ومن المستحيل ردُّها؛ فالأمر يتطلب أن يكون المرء ثريًّا ليقدِّم نفسَ درجة كرم الضيافة في إنجلترا المتمثِّلة في ملاءتين نظيفتين واستحمامٍ بعد رحلة في بلاد فارس. والأسوأ من ذلك أن مَن يكتب عليه أن يردَّها بإساءة، في صورةِ حماقة سياسية؛ مما يجعل حياة السكان أصعب مما هي عليه بالفعل. لكن يجب أن أعترف أن هذا لا يُخلِّف لديَّ شعورًا بالندم، مهما كان الأمر مؤسفًا من وجهة نظري الشخصية. التطلع إلى غروب الشمس في هذه الأيام حماقة سياسية، وكذلك الحال مع الإشادة به، إذا كان هناك مصنع للأسمنت في صدارة المشهد يجب الإشادة به بدلًا من ذلك. يجب أن ينتهك شخصٌ ما مقدَّسات/محرَّمات القومية الحديثة، لصالح العقل البشري. التجارة لا يمكنها فِعل ذلك. ولن تفعله الدبلوماسية. إذ يجب أن يأتي الأمر من أشخاص مِثلنا.
مرةً أخرى، يثير طريق خراسان الذكريات! ومع أننا في فصل الربيع، فإن الثلج كان يتساقط على الممر الذي يؤدي عبر حافة الهضبة إلى ساحل بحر قزوين. وتحت العاصفة الثلجية البيضاء، حدث تحوُّل غير عادي. ففي غضون خمس دقائق كنا قد هربنا من عالم من الحجر والطين والرمل والجفاف الدائم، الذي عانيناه منذ كنا في دمشق، إلى عالَم من الغابات وأوراق الشجر والرطوبة؛ حيث كانت التلال مغطَّاة بالشُّجيرات، ونمَت الشُّجيرات فصارت أشجارًا، وتجمَّعت الأشجار، عندما توقَّف الثلج، فشكَّلَت غابةً متوهجةً من جذوع الأشجار العارية التي حجبت أقبيتها المورِقة عَنان السماء. خفَّت فجأةً وطأة الضيق الذي تسبَّبت فيه الهضبة. الآن فقط أدركت مدى العقوبة التي فُرِضَت على الروح من قِبَل الصحاري المقفِرة التي تعصف بها الرياح، والجبال المنذِرة بالسوء، والقرى المتهدِّمة. كان الارتياح في الواقع جسديًّا. فقد بدا وكأن أجسادنا خضعت لتغيُّر في الجاذبية، عودةً إلى النشاط الطبيعي.
قُطِعَت هذه المشاعر بصافرةٍ حادَّة ونفثةٍ من دخانٍ أبيض. في قعر الوادي، كانت سِكة مارجوريبانكس الحديدية الجديدة تزحف صاعدةً نحو الهضبة. هناك، بعد اجتياز المرحلة الثانية من جبال ألبرز في فيروزكوه عبر نفق على شكل لولب ثلاثي، سوف تصل إلى طهران في غضون ثلاث سنوات. لا يمكنها أبدًا أن تغطي نفقاتها. فالضرائب المفروضة لإنشاء أول مائتَي ميل منها تَحرِم الفلاحين بالفعل من رفاهيتهم الوحيدة، وهي الشاي والسكر. لكنَّ الغرض منها نفسيٌّ وليس اقتصاديًّا. فهي تمثِّل للمواطن الفارسي المعاصر رمزَ الاعتداد الوطني بالذات؛ فهي تُغذي أخيرًا هذا الغرور المفرِط، الذي استمر طَوال ألفَي عام على مآثر داريوس، بشيء جديد. من ناحيتنا، بعد كلِّ ما عانيناه تحت رحمة محرِّك الاحتراق الداخلي، بدا نخير البخار حُلْو العِشرة وعتيق الطراز كقعقعةِ عربةٍ ذات أربع عجلات. شعرْنا بالود مضاعَفًا من الأشجار والقطار.
عندما عبرْنا الممرَّ لأول مرة، تذكَّرت النمسا عندما رأيت قِطَع الحطب الصغيرة عند سفوح التلال والمزاريب الخشبية للمنازل. في الخارج على السهل الساحلي، حيث الحقول مقسَّمة بالأسيجة وأشجار العُلَّيق، وتزدهر السراخس وأجَمات القُرَّاص على العُدُوات العشبية تحتها، ظننا أننا ربما كنا في إنجلترا في عصر يوم رطب، حتى رأينا جِلد نَمِر معلقًا خارج الباب الأمامي لمنزل أحد الأشخاص. وسط هذه الأجواء الرعوية، بدا الصِّبية الرعاة المازندرانيون حفاة الأقدام بقبَّعاتهم الصوفية السوداء دخلاءَ على المشهد بشكل غريب. حيث تظهر عليهم سماتُ وحشيةٍ خائرة القوى، يبدو أنها قد نتجت عن أثرِ بيئةٍ شبه استوائية على أُناس لا بد أنهم كانوا في يوم من الأيام من الرُّحَّل.
شاهي بلدة رائدة نشأت نتيجةً للسِّكة الحديدية. تتلاقى أربعة شوارع رئيسية، آتية من العدم، في سيرك أسفلتي، أضفت عليه الأرصفةُ ونوافذ المتاجر بعضَ المهابة. الفندق مزدحِم بالمهندسين الروس والألمان والإسكندنافيين.
لا يزال بستانان وقصر يميزان أرضَ المتعة الملكية هذه؛ حيث استقبل شاه عباس السير دودمور كوتون عام ١٦٢٧. من بعيد يبدو القصر الواقع على تلةٍ مكسوة بالأشجار مثل منزل ريفي إنجليزي. لكنه في الحقيقة صغير «جدًّا»، وبلاطه خَشِن، ويَعجز تصميمه عن الاستفادة من الحيِّز المتاح الذي يوجد عادةً في المباني الفارسية العلمانية. تتمثل خصوصيته الرئيسية في أنه نتيجةً لمصادفة غريبة نوافذه من النوع الذي نقله روسكين من قصورِ حِقبة الكواتروشنتو الفلورنسية إلى ضواحي أكسفورد. تمتاز الحديقتان بأنهما أكثر رومانسية. تمتد الممرات المائية الحجرية الطويلة عبر المروج المنحدِرة بلطف، وتُتِم كل انخفاض في المستوى بمنزلق حجري مسطح على الطراز المغولي. بصرفِ النظر عن منشأ هذا الطراز، سواء أكان في بلاد فارس أم الهند أم أوكسيانا؛ فهو لا يُناسب سوى المشاهد الطبيعية القاحلة. هنا، وسط إطار من العشب والسراخس، يصبح مبالغًا فيه بعض الشيء، كحال حديقة إيطالية في أيرلندا.
يتبيَّن من الحديقة الأكبر نفس معيار الأفكار التي نفَّذها شاه عباس في أصفهان. من التل في الخلف، حيث كانت أزهار الأوركيد الوردية تزهر في الأحراج، يهبط طريقٌ من أشجار السرو عبر منطقة مسيَّجة بجدران تشغل عدة هكتارات، تنتشر فيها أشجار سرو أخرى على غرار متنزَّه إنجليزي. يمر الممر المائي داخل الطريق، ومثل ذلك الذي في حديقة فيلا لانتي، يمر بين سرادقين متصلين برواق مسقوف يؤدي دورَ جسر. توجد في نهاية الطريق بوابة منزل. وخلف هذه البوابة، يستمر طريق على خط الأشجار خلال قرية أشرف وعبر قطاع من سهلٍ مزروع، حتى تجد العين راحتها في الأفق المتلألئ لبحر قزوين.
بعدما بحثنا عن مكان لتناول الغداء، اخترنا أحدَ البِرك المربَّعة، التي كانت الآن جافة، وكانت تتلقى كل منزلق مائي وحُفرَت في إفريزها المائل فتحاتٌ لتُشكِّل أضواءً خيالية في هيئة فتائل تطفو على الزيت. حمَلتُ حقيبة النزهة وقفزت على العشب الطويل في الأسفل. لكن المكان كان مشغولًا بالفعل. اندفع ثعبان بلون القرفة، طوله خمس أقدام، لحسن الحظ أنه كان مرتعبًا أكثرَ مني، في طريقه من حول ساقيَّ إلى صدع في المبنى.
عندما وصل القطار كانت السيارة موصولةً بشاحنة، وبقي الخدم بداخلها، بينما كنا نُكوِّن صداقات مع حشد في عطلة من طهران، جاءوا لتفقُّد الأعجوبة الجديدة. من خمسة محظورات مكتوبة على لافتات معلَّقة في كل عربة اطَّلعوا على آداب السكة الحديدية. في بندر شاه، وهو ميناء بحر قزوين الجديد حيث ينتهي خط السكة الحديدية، استُقبل القطار بحشدٍ معتاد من أهل الساحل. كان من بينهم رئيس الشرطة المحلي وممثل عن وزارة الحربية، اللذان سألانا عن وجهتنا.
قنبد قابوس؟
بالتأكيد. ويمكننا أيضًا، إذا أردنا، أن نتابع المضي بالسيارة إلى مشهد بالطريق العسكري الجديد عبر بجنورد والريف التركماني.
كانت هذه مفاجأةً سارَّة. فعندما طلبت الإذن لزيارة برج قنبد قابوس في طهران، أرسل لي جام، وزير الداخلية، رسالةً خاصة يرجوني أن أسحب الطلب؛ لأن المكان كان في منطقةٍ عسكرية ولا يمكنه منحي الإذن. وعندما سمع بايباس، ملحقنا العسكري، بالأمر، عرض أن يقدِّم لنا توصية لدى هيئة الأركان العامة. ولكننا لم نكن قد تلقَّينا منه ردًّا عندما غادرنا، وقد قطعنا كل هذه المسافة على أمل تلقِّي ردِّه. كانت الصورة التي رسمها دييز لقنبد قابوس هي ما جعلني أقرِّر المجيء إلى بلاد فارس، وكنت، على حد علمي، سأُفضِّل أن أفوِّت أيَّ مبنًى آخر في البلاد.
حتى في الظلام، يمكننا رؤية السهوب. خمدت أضواء المصابيح الأمامية في الحيز المكاني، ولم تجِد شيئًا تكشف عنه سوى خنزير برِّي عابر. وها هي ذي قد أقبلت رائحة عشب حلو، كما في ليلة من ليالي شهر يونيو في موطننا قبل حصاد القش. كان الناس في أستراباد يحتفلون بشهر المحرَّم؛ إذ يسيرون في الشوارع خلف تابوت مغطًّى ويرفعون لافتاتٍ مضيئة مثلثَّة الشكل. كان كثيرون يبكون ويتأوَّهون، وكان من لا يحملون شيئًا في أيديهم يمزِّقون ملابسهم ويضربون أنفسهم كما وصفهم شير أحمد. نقيم مع رجلٍ تركي مُسن، كان نائب القنصل البريطاني هنا، ويعرض أن ينظِّم لنا رحلة لصيد النمور.
اختفتْ زاوية السمت والمعالم، كما تختفي على متن مركب شراعي وسط المحيط الأطلسي. بدا أننا دائمًا ما نكون تحت المستوى المحيط، محاصَرين في غور من موج أخضر. عند الجلوس قد نرى لمسافة عشرين قدمًا، وعند الوقوف لمسافة عشرين ميلًا، وحتى عندئذٍ، فعلى بُعد عشرين ميلًا، كان منحنى الأرض في خضرة الحافة التي كانت تلامس العجلات، حتى إنه كان من الصعب التمييز بينهما. كانت خريطتنا الوحيدة تعتمد على الأشياء التي عرفنا حجمها؛ وهي مجموعات من مخيمات الكيبيتكا ذات القمم البيضاء المنقطة كفطريات عيش الغراب على مرج، مع أنه حتى في حالتها تلك كانت تتطلب مجهودًا في التفكير لتصديقِ أنها لم تكن فطرياتِ عيشِ غراب؛ وقطعان من الماشية، وفرسات مع أمهارها، وأغنام سوداء وبنية، وأبقار، وجِمال، على الرغم من أن الجِمال كانت خادعةً بالمعنى العكسي؛ إذ بدت طويلة جدًّا حتى إنها احتاجت إلى جهدٍ آخر للتصديق أنها لم تكن من وحوشِ ما قبل عهد الطوفان. نظرًا لتبايُن الأكواخ والحيوانات في الحجم، استطعنا تحديد مسافاتها؛ نصف ميل، وميل، وخمسة أميال. لكن لم يكن هذا هو ما عبَّر عن حجم السهب بقدرِ ما كان وفرة هذه المخيمات البدوية؛ إذ تراها العين أينما استقرت، ومع ذلك كانت دائمًا تفصلها مسافةُ ميل أو ميلين عن جيرانها. وكان يوجد المئات منها؛ ومن ثَم بدا أن المشهد يشمل مئات الأميال.
بالطريقة نفسِها التي تُدرَج بها مخطَّطات المدن في خرائط الدول، يوجد مخطَّط آخر على نطاقٍ أكبر أسفل عجلاتنا مباشرةً. هنا تحوَّل اللون الأخضر، ليس إلى عشب عادي، بل إلى ذُرة برية، وشعير، وشوفان، وهو ما فسَّر تلك النيران المتوهجة للحياة داخل اللون الأخضر. ووسط هذه الممرات التي لا حصر لها ذات السنابل، كانت تحيا تجمُّعات من الزهور، ونباتات الحوذان، والخشخاش، والسوسن البنفسجي الشاحب، والجِريس الأرجواني الداكن، وعدد لا يُحصى من نباتاتٍ أخرى بكافة الألوان والأشكال والعجائب التي يجدها طفل في حديقته الأولى. ثم تأتي نفخة من الهواء، وتنحني نباتات الذرة لتشكِّل تموُّجًا فضيًّا، بينما تنحني الأزهار معها؛ أو يمر ظل سحابة، ويُظلِم كل شيء، وكأنما هي غفوة؛ ولكن على بُعد أقدامٍ قليلة لا يوجد تموُّج ولا ظُلمة؛ بحيث كان هذا العالَم الداخلي بأكمله من السهوب مخططًا على نظام من الانحسارات الدقيقة اللانهائية، وليس به سوى تلك التدرُّجات في المسافة التي افتقر إليها العالم الخارجي.
كانت معنوياتنا قد ارتفعت عندما غادرنا الهضبة. الآن استيقظ كلُّ ذلك. فصِحْنا فرحًا، وأوقفنا السيارة خشيةَ أن تمرَّ سريعًا الدقائق التي كانت تسلبنا الرؤية الأولى التي لا يمكن تَكرارها. حتى القُبرات في الفردوس كانت قد تخلَّت عن انطوائيتها المعتادة. وكادت إحداها تصطدم بقبَّعتي من فرط فضولها.
وجدنا نهر جرجان في فالقٍ عمقُه ثلاثون قدمًا، تتبعتْ أجرافه الأرضية الجرداء شقًّا من أرضٍ خرِبة عبر الخضرة. كانت بعرض نهر سيفرن في روافده العليا، وعبرناه فوق جسرٍ قديم من القِرْميد على أقواس طويلة مدبَّبة. على الضفة الشمالية، كان بجوار الجسر بوابة محصَّنة، طابقها العلوي المتدلي له سقف من بلاطٍ ذي طُنُف عريضة كالذي يراه المرء في سلسلة جبال الأبينيني. من هنا، تبدأ المسارات الخضراء الناعمة تشعُّ فوق السهوب في جميع الاتجاهات، وما كنا سنجد الطريق لولا خيَّالة على خيولهم وجِمال والعربات ذات العجلات العالية كانوا يمرون عرَضًا وأرشدونا إليه. كانوا جميعًا من التركمان، وكانت السيدات يرتدين ملابس حمراء مغطَّاة بالورود، والرجال يرتدون ملابسَ حمراء غير مزركَشة، وقلةٌ قليلة منهم تَلبَس حريرًا رائعًا متعدِّد الألوان منسوجًا بتعرجات مضيئة. لكن لم يكن يوجد كثير من القبَّعات الصوفية. كان معظم الرجال يرتدون قبعات مارجوريبانكس البديلة، أو على الأقل قمَّة من الورق المقوَّى متصلة بقبعة من الصوف.
بدأت جبال ألبرز الآن تنعطف أمامنا، محيطةً بخليجٍ أخضر. وسط هذا، وعلى بُعد عشرين ميلًا، ارتفعت قمَّة مستدقَّة صغيرة سمنية اللون أمام زرقة الجبال، عرفناها باسم برج قابوس. وصلنا بعد ساعة، مسترشدين بهذه القمة، إلى بلدةِ سوق صغيرة تذكِّرنا شوارعها الواسعة بالاحتلال الروسي للمنطقة قبل الحرب. ينتصب البرج في شمال المدينة، وتساعده في الارتفاع إلى عَنان السماء رابيةٌ خضراء غير منتظمة الشكل، ولكنها مصطنعة وقديمة جدًّا.
تنبثق أسطوانة مستدقة من القِرْميد بلون القهوة بالحليب من وطيدة مستديرة إلى سقفٍ مدبَّب باللون الأخضر الضارب إلى الرمادي، يبتلعها كمطفأة شمعة. يبلغ قطر الوطيدة خمسين قدمًا، ويبلغ الارتفاع الإجمالي حوالي مائة وخمسين. على الأسطوانة، بين الوطيدة والسقف، تندفع عشر دعامات مثلَّثة تتقاطع مع رباطين ضيقين من نصٍّ بالخط الكوفي، أحدهما في الأعلى أسفل الطنف، والآخر في الأسفل فوق المدخل الأسود الرفيع.
القِرْميد طويل ورفيع، وحادٌّ كما كان عندما خرج من الأتون، وبذلك يقسم الظل الناتج عن أشعة الشمس لكل دعامة بدقةٍ تشبه دقةَ فصلِ السكين للأشياء. عندما تنحسر الدعامات عن اتجاه الشمس، تمتد الظلال على الجدار المنحني للأسطوانة بينها، بحيث تكتسب خطوط الضوء والظل، المتفاوتة في العرض، زخمًا فوق العادة. إنَّ اعتراض هذا الزخم الرأسي للإحاطة الجانبية للحلقات الكوفية هو ما يُضفي على المبنى طابعه، وهو طابع لا يشبه أي شيء آخر في عالم هندسة العمارة.
لا يوجد شيء بالداخل. كانت جثة قابوس فيما مضى معلَّقة هناك، متدليةً من السقف في تابوتٍ زجاجي. توفِّي في عام ١٠٠٧. ولأكثر من ألف عام أحيت هذه المنارة ذكراه كما أظهرت عبقرية بلاد فارس، لبدو بحر آسيا الوسطى. لديها اليوم جمهور أكبر، لا بد أنه يتساءل كيف أدَّى استخدام القِرْميد، في بداية الألفية الثانية بعد المسيح، إلى ابتكار نصبٍ تذكاري أكثرَ ملحمية، وتلاعب أكثر بهجةً بالأسطح والزخرفة؛ مما شوهد في أي وقتٍ مضى من استخدام لتلك المادة منذ ذلك الحين.
[عادةً ما تكون صِيَغ التفضيل التي يستخدمها الرحالة في وصف الأشياء التي رأوها، ولم يرَها معظم الناس، مشكوكًا فيها؛ أعرف هذا لأنني مَدِين بنفس التهمة. ولكن بإعادة قراءة هذه المذكرات بعد مرور عامين، في بيئة مختلفة قدْر الإمكان (بكين)، ما زلت أحتفظ بالرأي الذي كوَّنته قبل ذهابي إلى بلاد فارس، والذي تأكَّد في ذلك المساء على السهوب، وهو أن قنبد قابوس في مصافِّ المباني العظيمة في العالم.]
جاء الحاكم العسكري لزيارتنا وقت العشاء، وأخبرَنا أنه وفقًا للتراث المأثور كان شيءٌ ما يومض من سطح البرج؛ وقد كان من الزجاج أو الكريستال، وكان يُعتقد أنه يحتوي على مصباح. قال إن الروس أخذوه؛ رغم أنه لم يشرح كيف وصلوا إليه. قد يحوي هذا التراث المأثور إشارةً مُحرَّفة إلى نعشِ قابوس الزجاجي، الذي يبدو أنه كان حقيقةً فعلية، كما سجَّله المؤرخ العربي الجنابي بعد وقتٍ قصير من وفاة قابوس.
يمتلئ محيط المنطقة هنا بالآثار، التي كنت أتمنَّى لو كان لدينا الوقت للتوقف وتفقُّدها. يقع «جدار الإسكندر» على بُعد أميال قليلة فحسب شمال نهر جرجان، ويُقال إن المستنقعات على امتداد النهر إلى الشرق تعجُّ بآثار لم يستكشفها أحد. توجد أيضًا بقايا من عصورِ ما قبل التاريخ. من وقتٍ ليس ببعيد، وجدت بعض العائلات التركمانية تلَّةً جنائزيةً مليئة بالأواني البرونزية، التي استخرجوها واستخدموها للأغراض المنزلية. ثم لحِق بهم الحظ السيئ ونسبوه إلى تدنيسهم لأحد القبور، فرجعوا إلى التلَّة الجنائزية وأعادوا دفن الأواني. أتخيَّل تهافت الأساتذة إلى هذا الموقع الأثري، على نحوٍ يشبه التهافت المحموم على منطقة كلوندايك التي اكتُشف فيها الذهب، لو كانوا يعرفون مكانه.
ينقل لنا الحاكم أيضًا أخبارًا سيئةً مفادُها أن الطريق إلى بجنورد مسدود بسبب الأمطار والانهيارات الأرضية. ربما يمكننا الوصول إليها بنجاح، غير أن هناك شاحنةً سُحِبَت لتوها إلى هنا شبه محطَّمة، بعدما أمضت خمسة أيام في الرحلة، ولا نجرؤ على المخاطرة بالسيارة، والأهم من ذلك بالوصول إلى أفغانستان. وبناءً على ذلك، نفكِّر في ركوب الخيل عبر الجبال إلى شاهرود، بينما تعود السيارة إلى فيروزكوه.
نحن مخطئان؛ مما يجعل الأمر أكثرَ إزعاجًا. بعدما انتظرنا في قنبد قابوس حتى الساعة الرابعة، حيث لم تكن توجد خيول يمكننا ركوبها بعد، قرَّرنا العودة بالسيارة، وإذ تجنَّبنا أستراباد، وصلنا هنا في الساعة العاشرة. لم يكن يوجد مكانٌ للنوم سوى المحطة، ولم يكن مدير المحطة، الذي كان شابًّا واهنًا، مسرورًا بإزعاجنا له في وقتٍ متأخر هكذا. هذا الصباح كان من المقرَّر أن يغادر القطار في السابعة. وأخبرنا أن نُعِدَّ السيارة لتكون جاهزة بجوار سكة التخزين في الساعة السادسة. وقد كانت كذلك بالفعل. لكن الشاحنة الخاصة بها لم تصل إلا في الساعة السابعة إلا عشر دقائق، ورأينا فجأةً أن رئيس المحطة، نكايةً فينا، قد جعل القطار ينطلق من دوننا. انفجر سخطٌ مكظوم طوال سبعة أشهُر؛ فتعدينا على الرجل. صدرت صرخاتٌ عالية، واندفع الجنود إلى الداخل، وكبَّلوا ذراعَي كريستوفر، وضرب بعضهم ظهره بأعقاب بنادقهم، بينما صفع ضابطهم، الذي كان طوله لا يكاد يصل إلى أربع أقدام وصوته يشبه صوت تينور من نابولي، وجْهَه مرارًا وتكرارًا. أفْلتُّ من هذه الإهانات لكننا نتشارك المحبس؛ مما أثار ذهول الشرطة التي تعتبرنا مصدر إزعاج.
يهدِّدوننا بفتح «تحقيق» بشأن «واقعة» طهران. وكان علينا أن نتذلل لنجنِّب أنفسنا ذلك بأي ثمن. فذلك يمكن أن يستغرق أسابيع. أتساءل — كلانا يتساءل — ما الذي اعترانا من جنونٍ كي نعرِّض رحلتنا للخطر على هذا النحو.
هذا الصباح بينما كنا نغادر شاهي كان المطر يهطل، والطريق المؤدي إلى الممر زلقًا وخطِرًا. عند المنعطف، خرجت شاحنة عن السيطرة. اصطدمت مقدمةُ سيارتنا بجانبها، وترنَّحنا نحو الجرف فوق الوادي … كانت هذه هي النهاية؛ ولكن كلَّا، فقد بقينا على الطريق، وتحسَّرنا فقط على أن حقيبتي، التي كانت مثبتةً في الدَّرَج، حطَّمتها العجلة الأمامية للشاحنة، وحوَّلتها إلى ما يشبه شطيرةً زرقاء رفيعة، فقذفت بما فيها من ملابس وأفلام وأوراق رسم. انقضت مدةُ التأمين، الذي كان قد دام ثمانية أشهُر، الأسبوع الماضي.
في أميرية قالوا إن المطر ظل يهطل خمسة عشر يومًا متتالية، وإنهم لم يشهدوا من قبلُ طقسًا كهذا في هذا الوقت من العام.
على بُعد عشرين ميلًا من سمنان انكسر المحور الخلفي للسيارة. كان لدينا محور احتياطي، ولكن الأمر استغرق منا خمس ساعات لتثبيته، بينما تجوَّلت أنا وكريستوفر، عاجزَين عن تقديم العون، يائسَين في أرجاء الصحراء المبتلة المتلألئة، مفرِّجين عن أنفسنا بمشاهدة الزنابق الصغيرة الصفراء التي أزهرت لتوها، وبين الحين والآخر وأحيانًا نخفق البيض في صالة شاي محطَّمة.
سأل كريستوفر الشاب المسئول: «ما اللغة التي تتكلَّمها؟»
«أتكلم لغة تشاكاباكارو، وهي لغة سمنان. ألا تتكلمها؟»
نحن لا نتكلمها. ولكن ربما تكون كنزًا لعلماء اللغويات.
هطل المطر كبالوعة حمَّام. لأميال متواصلة، كان الطريق نهرًا، والصحراء فيضانًا، وكل جبل شلالًا. ولكن بفعل ظاهرة طبيعية غريبة، فإن «قاع النهر»، الذي جرى بجوار أعمدة التلغراف، والذي كان أدنى بعدة أقدام من مستوى المنطقة المحيطة، ظل جافًّا تمامًا.
في أحد السيول، كانت عجلات شاحنتين قد غُرِسَت دون أمل. سحَبَنا السكان المحليون، ولكن بعد أن أخذوا أجرةَ رافعات الشاحنات قبل أن يفعلوا ذلك، وإلا كانوا سيوجِّهون السيارة للجزء الأعمق ويتركونها. بعد ذلك تحسَّن الطريق، وكنا نمضي بسرعةِ أربعين ميلًا في الساعة في الأجزاء المستقيمة من الطريق، عندما مرَّ أمام أعيننا بسرعة خاطفة مجرًى مائيٌّ صغير بعرض ثلاث أقدام، وعمق قدمين، ومستدق الطرف كالتابوت … مرةً أخرى ظننا أنها النهاية؛ ولكن كلا؛ فقد قفزت سيارتنا من فوقه، وسقطنا في مستنقع، وهبطنا أحياءً باصطدامٍ مُحطِّم بكومةٍ من الحصى.
كانت العجلتان الأماميتان على هيئةِ قدمَي بطة، لكن المحور صمد، ولم يكن بوسعنا إلا أن نمضي بالسيارة وهي تتهادى وصولًا إلى دامغان؛ حيث يعمل الحدَّاد الآن على تعديل المحور. هنا رأينا الجندي الهندي التابع لبايباس، والذي أخبرنا أن سيده، أثناء عودته من مشهد، قد علِق في نهر في الجهة الأخرى من البلدة. سرعان ما ظهر بايباس نفسُه بعد ذلك، في مقدمة الرَّكب الذي كان يحمل أمتعته. اشتمل هذا الرَّكب على سيدة عجوز تُعاني انحناءً مفرِطًا بسبب الروماتزم ومغطَّاة برداء ذي مربَّعات زرقاء، كانت تستخلص حقيبةً صغيرةً بشِق الأنفس.
استقبلْنا بايباس بإطلاعه على المصائب التي واجهتنا. وقد رفَعَت ثلاثُ زجاجات من نبيذ شاهي وسلطةُ برتقال وسيجارُ ویشاو الروحَ المعنوية لنا جميعنا.
فاضَ النهر أمام سيارة بايباس مباشرةً. كانت سيارة ليموزين جديدة. ولكنها بدت هذا الصباح مثل كهف نبتون. بعد أن فشلت شاحنتان في سحبها بالسلاسل، تابعنا المضي في طريقنا.
كان المطر لا يزال يسقط. صادفنا بعد شاهرود رمالًا ناعمة، طارت ملتصقةً بالزجاج الأمامي؛ ولذلك كان عليَّ أن أقود السيارة ورأسي خارجها، ولكن دون أن تقل السرعة مطلقًا عن ثلاثين ميلًا في الساعة، وإلا كنا سنَعلَق. كانت التلال المتعرِّجة الداكنة والسماء الملبَّدة بالغيوم في خراسان لا تزال كما هي. غير أن كساءً نباتيًّا كان قد نما فوق الصحراء السوداء المشبعة بالمياه؛ حيث الخضرة الشحيحة المتمثلة في أشجار شوكة الجمل، والبَروَق المستقيمة، ونوع من بقدونس البقرة الأصفر السميك، الذي يبلغ ارتفاعه ثلاث أقدام وسُمكه سُمك شجرة؛ فهو زهرة قبيحة مشئومة.
قالوا هنا إن الماء كان بعمق أربع أقدام على الطريق إلى سبزوار. ومن ثَم توقفنا، وأويت إلى الفِراش ومعي رواية إدموند جوس «الأب والابن». اشترى كريستوفر بلوزة حمراء بصخب شديد كما لو كانت من أزياء سكياباريلي.
هل يسافر جميع مَن يعملون في الإدارة السياسية الهندية حول آسيا بصناديق تحوي ملابس تنكرية؟ كانت السيدة جاستريل متنكِّرة في هيئةٍ زنجية مرتديةً جواربَ ضيقة سوداء وقبعة عالية؛ وقد رقص جاستريل، الذي يبلغ طوله سبع أقدام، رقصةَ ريل اسكتلندية وهو متنكِّر في هيئة «ذي اللحية الزرقاء»، مرتديًا ثوبًا ذهبيًّا وقبعةً من فرو القندس ذات لون أزرق داكن. بدت روز، من الإدارة نفسها، مثل صبي مدرسة من رسومات كيت جريناواي. وتنكَّرت السيدة هامبر في هيئة راعية غنم، وظهر هامبر، وهو أحد أعيان بخارى، في ملابسَ حريرية في تفصيلةٍ أكبرَ من حجم جسم الإنسان. قبل أن أتمكَّن من أن أعبِّر عن مدى سعادتي برؤيتهم مرةً أخرى، أخذوا يحوِّلونني إلى خادمة؛ أما كريستوفر الذي أحاط به آل جاستريل، فكان يختنق في الملابس الفخمة لشيخٍ عربي. كانت الإرساليات التبشيرية ممثَّلة بأعداد كبيرة. وكان السيد دونالدسون الذي أمضى نصف عمره يَدرُس الحُجاج الشيعة، قد أصبح واحدًا من أفرادها كما ينبغي تمامًا. عندما سألته عما إذا كان في الأمر تضحية أن يحلق شعر رأسه كله من أجل ليلة واحدة، قال: «أوه، كلا، هذا مناسب جدًّا. فدائمًا ما أسافر حليق الرأس، وسأذهب في رحلة غدًا لزيارة القرى الجورجية بين عباس آباد وقوتشان. الأهالي مسلمون بالطبع، لكنهم لا يزالون يملكون تراثًا من التعليم الراقي.»
نسيت الخادمةُ نفسَها حتى إنها نخزت الرجل الذي من أعيان بخارى في ظهره بمظلة أثناء أدائهما رقصةَ أباتشي الثنائية الفرنسية.
أولئك اليهود كانوا يسيطرون على تجارة جلود الحُملان، وأتذكَّر أنه في الكريسماس كان «لي» مهتمًّا بروايتي لقصةِ هجرتهم الجماعية، مع أنَّ أيًّا منا كان يعلم في ذلك الوقت أن الأمر راجع إلى أمرٍ حكومي. كان السبب وراء اهتمامه أن نسبةً كبيرةً من هذه التجارة كانت فيما مضى تمرُّ عبْر مشهد، وكان ذلك في مصلحة المدينة والبنك. ولكن هذا توقَّف عندما شرع مارجوريبانكس في سياسته المتمثلة في تأميم الاقتصاد. توقَّفت كل التجارة تقريبًا، حتى وصل الأمر بمصلحة الجمارك في خراسان أن عجزت عن أن تدفع حتى أُجورَها من إيراداتها. ولكن الآن بعدما دخل كثير من هؤلاء اليهود بلاد فارس، فربما يكونون قد أعادوا معهم تجارة جلود الحُملان.
دائمًا ما أسمع عن الحَمَل «الفارسي»، وعندما كنت في أفغانستان في السابق لم أدرك الأهمية الاقتصادية لهذه التجارة في ذلك البلد؛ مع أنه كَثُر الحديثُ عن جلود الحُملان في بازار هِرات. صحيح أن بلاد فارس تُصدِّر ما يكفي من الحُملان. غير أن الفِراء الجيد، الذي يدفع فيه صانعو القبعات في لندن وباريس ما يصل إلى ٧ جنيهات إسترلينية، هو حِكر على أوكسيانا. يرجع هذا إلى أعشابٍ جافة معينة تنمو في منخفض نهر أوكسوس، وتجعل الصوف يتجعَّد بإحكامٍ أكثرَ منه في أيِّ مكانٍ آخر. وبذلك تشترك كلٌّ من روسيا وأفغانستان في الجزء المربح بالفعل من تجارة جلود الحُملان. ولكن ماهية السبب الذي يجعل الأفغان يريدون التخلص من الأشخاص الذين يديرون الجزء الخاص بهم من التجارة؛ ومن ثَم يجعلون الوسطاء الفرس حاضرين في الأرباح، هي لغز لا يزال علينا حله.
لا بد أن هذا الهوس قد انتشر من ألمانيا. وحتى عامٍ مضى، كان الأفغان يزعمون أنهم يهود؛ من أسباط إسرائيل المفقودة. ولكن لا يوجد ما يمكن وصفه بأنه خيالي أكثر من اللازم بالنسبة إلى القومية الآسيوية.
مضت الأيام سارةً هنا. كان ينبغي علينا المغادرة، ولكنَّ أمرين منعانا. أحدهما وصول محور احتياطي من طهران. والآخر هو الضريح. فيما يتعلَّق بالفسيفساء الملونة، لا يوجد مبنًى رأيته أو سمعت عنه في بلاد فارس يمكن مقارنته بالمصلى في هِرات، ربما باستثناء الضريح الموجود هنا، والذي بنَته المرأة نفسُها؛ وإن كان ذلك صحيحًا، وكونه سليمًا تقريبًا، فهو على الأرجح أروع مثال على الألوان في العمارة الإسلامية بأسْرها. لم أدرك هذه الأرجحية عندما كنت هنا سابقًا؛ فلقد افترضتُ أن الخزف في أصفهان سيكون مكافئًا للخزف في المصلى أو يتفوق عليه. ولكنه ليس كذلك. إن مسجد شيخ لطف الله أروع، ولكن فقط مثلما كاتدرائية القديس بطرس أروع من كاتدرائية تيمبيو في مدينة ريميني؛ حيث لا وجود لإلهام النهضة المتسم بالحيوية. لن أترك هذه البلدة دون أن أرى المبنى الوحيد الكامل لجوهر شاد.
كنا قد أعددنا العُدة. وكانت وِجهتنا الأولى هي زيارة المستشفى الجديد، قرة عين الأسدي، كي نتمكَّن من مدحها له عندما يرجع من طهران. جعلته هذه اللمسة من اللباقة في مزاج طيب، ولكن ليس أكثر من ذلك؛ إذ كان لا يزال يأبى تولي المسئولية الرسمية عن سلامة الأجانب داخل الضريح. ومع ذلك، أدَّت زيارتنا له بشكلٍ غير مباشر إلى التعرُّف على مُعلِّم مدرسةٍ شابٍّ دمثٍ يرتدي قفازًا من الجلد المدبوغ، والذي عرض مساعدتنا من أجل المتعة، فقط من أجل المتعة؛ أي متعة توجيه ضربة لصالح المعرفة ضد قوى الظلام الكَنَسي.
التقينا به ليلةَ أمس لمناقشة بعض الأمور، وذلك بعد أن أخذنا أولًا غرفة في الفندق كي نحافظ على سرية خططنا بعيدًا عن أعين القنصلية. بحلول وقت وصوله كنت قد صِرت فارسيًّا، أو على الأقل ظن هو كذلك؛ حيث حيَّاني بالطريقة الفارسية، واندهش عندما انفجر الشرقي الرَّث في قهقهة وقِحة مغلِقًا عينيه ومشمِّرًا عن ساعدَيه. حسم هذا المسألة. سيصطحبنا الليلة.
هذا الصباح مضينا بالسيارة إلى تشناران، على الطريق إلى عشق آباد والحدود الروسية. ومن هنا قادنا مضمار عربات إلى مسافةِ ستة أميال إلى برج رادكان. سرْنا بقيةَ الطريق، أولًا فوق عُشب رطب جُذَّ قصيرًا بفعل قطعان الخيول، ثم عبْر سلسلة من الأهوار المالحة اللزجة. كان مرشدنا فلاحًا حانقًا ضئيلَ الحجم بشعرِ وجهٍ كثيف.
«هل تعرف الطريق إلى رادكان؟»
صاح ساخطًا: «كيف لي ألا أعرفه؟» ولكنه لم يكن يعرف سوى الطريق إلى قرية رادكان، وقد تعدَّى غضبه كلَّ الحدود عندما جذبناه عبْر تلك الأهوار إلى البرج بدلًا من ذلك.
كان الأمر يستحق العَناء؛ كان برجَ دفن أسطوانيًّا ضخمًا ذا سقف مخروطي، ارتفاعه تسعون قدمًا، ويرجع تاريخ بنائه إلى القرن الثالث عشر. يتألَّف الجدار الخارجي من أعمدةٍ سُمك الواحد منها قدمان، ويلامس أحدها الآخر. القِرْميد، ذو اللون الأحمر الصدئ، الذي بُنِيَت به هذه الأعمدة، مرصوص بأنماط كالتويد، وهو ما يمنح المبنى نوعًا من السطوع، كذلك الذي يتمتع به حصان مهندم. على خلاف قنبد قابوس، لهذا البرج بيت درج في سُمك الجدار.
في طريق العودة، خرجنا عن الطريق الرئيسي لزيارة طوس. كنت أقول لكريستوفر إنه إلى جانب الجسر القديم والضريح هنا، ينبغي أن يرى ضريح الفردوسي؛ لأنه دليل على أن ثَمة نَسمة من الذوق المعماري لا تزال حاضرة في فارس الحديثة. تجمَّدت الكلمات على شفتيَّ؛ حيث كان حشدٌ من العمال عاكفين على هدمه. يخفي درابزين حديدي البِركة. ثَمة أحواض زهور بلدية جاهزة لزراعة زنابق القنا والبيجونيا. وفي النهاية، بدلًا من الهرم البسيط البهيج الذي أُعجبتُ به في نوفمبر، انتصبت نُسخ غير مكتملة البناء من الأعمدة التي تعلوها رءوس الثيران الموجودة في برسبوليس.
اعتذرت عن حماسي ومضينا مبتعدين بالسيارة. يبدو أن مارجوريبانكس رأى صورةً فوتوغرافيةً للنُّصُب الأول، وقال إنه بسيط أكثر من اللازم.
تلألأت الأضواء الكهرمانية في الفراغ، وتوهَّجت غير مرئية من القوس الضخمة أمام الحرم، عاكسةً وهجًا ناعمًا فوق المدخل المُذهَّب للمقبرة المقابلة، وكاشفةً، بينما تأقلمت العين، عن ساحةٍ رباعية الجوانب شاسعة تحدِّدها صفوفٌ من الأقواس. ظهر صفٌّ علوي بعيد عن متناول الأضواء، وعاود الظهور، بعد أن مرَّ عبر نطاق غير مرئي على هيئةِ حاجز أسود أمام النجوم. اختفى الملالي المعمَّمون الذين كانوا من الأفغان في ثوب أبيض، كالأشباح بين مدارات الحُملان، متسللين عبر الرصيف الأسود ليسجدوا تحت البوابة الذهبية. سُمع صوت إنشاد من الحرم، حيث يمكن رؤية شيء صغير منفرد قابع في العتَمة أسفل المحراب البرَّاق.
الإسلام! إيران! آسيا! يا لها من أمورٍ خفيَّة وخاملة وغامضة!
يمكنني سماعُ رجل فرنسي يقول ذلك، ويا له من أحمقَ سخيف؛ كما لو كان وكْر أفيون في مارسيليا. ولكننا شعرنا بعكس ذلك؛ ولهذا ذكرت الأمر. تآمر كل مشهد وصوت وتَعَدٍّ ليُثقل كاهل العقل. تغلَّبت رسالة التحفة الفنية على هذه المؤامرة لتشقَّ طريقها وتخرج من الظلال، في إصرارٍ على البِنية والتناسب، وعلى غرس انطباع الجودة الفائقة، ووراء ذلك الفكر. يصعب التعبير عن الكيفية التي نُقلَت بها هذه الرسالة. لمحات الأرابيسك في غاية الرشاقة والتداخل حتى إنها لم تعُدْ تبدو كفسيفساء، بل كغُرَز نسيج سجادة؛ لمحات من أنماطٍ أكبرَ ضاعت في الظلام فوق رءوسنا؛ من أقبية وأفاريز نابضة بالحياة بفضل فن الخط — هذه هي الكلمات التي تصف الأمر بالفعل. لكن المعنى كان أكبر. فثَمَّة عصر هيمَنَ على الأمر، وهو عصر التيموريين، وجوهر شاد نفسها، ومهندسها المعماري قوام الدين.
قال مرشدنا هامسًا لكريستوفر: «من فضلك تمخَّطْ.»
«لماذا؟»
«رجاءً تمخَّطْ، واستمِرَّ في ذلك. يجب أن تغطي لحيتك.»
كان مرشدنا معروفًا لدى الملالي ورجال الشرطة المناوبين. ألقَوا عليه التحية دون أن يلاحظوا العاميَّ الرثَّ إلى جانبه أو المسلول العاطس في عقبه. سِرْنا مرتين حول الساحة الرباعية، ببطء شديد، منحنين للمقبرة في كل مرة؛ ثم أسرعنا الخُطى عبر الساحتين الكبيرتين الأخريين اللتين تمثلان نُسخةً بالغةَ الرقة من كوات بيضاء مفضضة في صفوف مزدوجة.
همس مرشدنا قائلًا: «الآن نصل للبوابة الرئيسية. سأتحدَّث إليك يا سيد بايرون عندما نخرج. أما أنت يا سيد سايكس، فرجاءً تمخَّطْ وامشِ خلفنا.»
وقف الحراس والبوابون ورجال الدين احترامًا عندما رأوه قادمًا. بدا منهمِكًا للغاية في محادثته التي اتخذت شكلَ مناجاةٍ منفردة من خادمة، وبدت رائعة للغاية بالفارسية حتى إنني لم أكن بحاجة لتصنُّع الاهتمام: «وهكذا قلت له كذا وكذا وكذا، فقال كذا وكذا. قلت وقلت كذا وكذا وكذا، وقال لي إنني قلت كذا! كذا وكذا وكذا …» انحنى الجميع. نظر مرشدنا خلفَه ليتأكد من أن كريستوفر كان يتبعنا، ثم خرجنا وركبنا سيارة أجرة، وبعد قليل كنا نغسل وجوهنا في الفندق قبل العودة إلى القنصلية.
شكرناه جزيل الشكر. غير أنه كان عليَّ في اللحظة نفسِها أن أخبره أنني بعدما رأيت كل هذا، فليس ثَمَّة قدْر من الامتنان يمكنه أن يمنعني من أن أتوسَّل إليه أن يصطحبني مرةً أخرى نهارًا. لاحَظ كريستوفر إحجامه، فعرض ألا يأتي معنا؛ حيث كان من الواضح أن ذقنه مبعثُ إحراج. طمأن هذا مرشدنا. واتفق على لقائي اليوم في الساعة الثانية.
هذا الصباح عندما دخلت الفندق، أحضر لي عامل غرفة النوم صحنًا من الفلين والفحم دون أن أطلبهما. كان وضع هذه المواد الخشنة في النهار أمرًا مختلفًا تمامًا؛ إذ بدا شاربي أخضر وليس أسود وأصبح مُبقَّعًا، وظلَّت عيناي زرقاوين وسط رموش شبه سوداء ومتقرحتين من أثرِ فرْكهما. غير أن الثياب كانت بارعة؛ فقد كانت حذاءً أسود، وسروالًا أسودَ ضيقًا أقصرَ بأربع بوصات، وسترة رمادية، وأزرارًا ذهبية بدلًا من ربطة عنق، ومعطف المطر الخاص بخادمنا، وقبَّعة بهلوية جعلتُها تبدو قديمة بركلِها؛ شكَّلت هذه العناصر الطرازَ المفضَّل في بلاد فارس في عهد مارجوريبانكس. يا للحسرة! لم أكَد أستكمل عملي الفني حتى أُبلغتُ عن طريق رسالة هاتفية بأن مرشدنا قد أحجم خوفًا في آخر لحظة.
لم أجرؤ على أن آخذ سيارةَ أجرة بنفسي، فكان عليَّ السير مسافة ميل ونصف الميل إلى الضريح. كانت الشمس خلفي، وتعرَّق جسدي أسفل معطف المطر، بينما ابتدعت هرولةً سريعةً على الطريقة الفارسية بخطوات عالية وقصيرة لتجنِّبَني التعثرَ فوق حجارة الرصف غير المستوية، ولكني لم ألفت انتباهَ أحد. اقترب الهدف. ها هي ذي البوابة الرئيسية. وها هو ذا النفق الصغير. دون أن ألتفت حولي، صرت بداخلها، ووجدت الساحة، وأدركت أنه توجد أشجار هناك، ثم رأيت أن المَخرج الآخر كان محجوبًا تمامًا بمجموعة من الملالي؛ مهاجميَّ المحتملين الذين كانوا يتناقشون حول بضاعةِ أحدِ متاجر الكتب الصغيرة.
كان كل شيء معتمِدًا على سرعتي في السير. تكيَّفت عليها وبها. سينكشف أمري إذا تعثرت. لذا حافظت عليها، وشققت طريقي وسط مجموعة الملالي تلك كطُربيد يشق الأمواج. عندما انتبهوا إليَّ، متبرمين من سوء خُلقي، كان ظهري هو كلَّ ما يمكنهم ملاحظته.
أسرعت عبر البازار المظلم، وعثرت على القبَّة التي انعطفت عندها يسارًا، وعند خروجي إلى الساحة، استقبلني صخب من الألوان والضوء جعلني أتوقَّف للحظة وأنا لا أكاد أرى شيئًا. كان الأمر كما لو أن أحدًا قد أوقد شمسًا أخرى.
كانت الساحة الرباعية بأكملها حديقةً من الزهور بالألوان الفيروزي والوردي والأحمر الداكن والأزرق الداكن، مع لمسات من الأرجواني والأخضر والأصفر، المزروعة وسط مسارات من القِرْميد المصقول الخالي من الزخرفة. التفَّت زخارف الأرابيسك البيضاء الضخمة حول أقواس الإيوان. وحجبت الإيوانات نفسُها حدائقَ أخرى، أكثر ظلالًا وبألوان زنابق البوقيات. كانت المآذن الكبيرة بجوار الحرم، التي تنتصب من قواعد تطوِّقها كتابات كوفية بحجم صبي صغير، مزيَّنةً بشبكة من المعينات المرصَّعة. وظهرت من بينها القبَّة المنتفخة باللون الأخضر الفاتح المائل إلى الزرقة والمُزدانة بحوالق صفراء. في الطرف الآخر ومضت قمة مئذنة ذهبية. ولكن وسط كل هذا التنوُّع، أذكى مبدأُ الاتحاد شرارة الحياة للمظهر المتوهِّج بأكمله، بواسطة نَصَّين كبيرين؛ أحدهما على إفريز من الكتابة بخط الثُّلث المدقوق فوق خلفية بلون زهور الجنطيانا الزرقاء على امتداد أفق الساحة الرباعية بأكملها، والآخر في إطار بالأحرف الأبجدية نفسِها على خلفية من الياقوت باللونين الأبيض اللؤلئي والأصفر، متداخل مع خطٍّ كوفي باللون الفيروزي على طول حافته الداخلية، ويحيط، في هيئة مستطيل ثلاثي الجوانب، بقوس الإيوان الرئيسي بين المآذن. تنصُّ الكتابة على أن مَن صمَّم هذا الأخير هو في الواقع «بايسنقر، ابن شاه رخ، ابن تيمور جوركاني (تيمورلنك)، تقربًا إلى الله، سنة ٨٢١ (١٤١٨ ميلادية).» كان بايسنقر خطَّاطًا مشهورًا، وكونه ابن جوهر شاد أيضًا، فقد احتفى بجُودِ والدته بنقشٍ تُفسِّر عظمته إلى الأبد البهجةَ التي يشعر بها أهل الإسلام في الكتابة على الواجهات المعمارية.
استغرق مني هذا المشهد بضع ثوانٍ. في الوقت نفسِه بدأت أشعر بعدم الأمان. كنت قد نويت اتباعَ خطة الليلة الماضية من السير ببطء في أرجاء الساحة، ولكن صدَّني حشدان، أحدهما كان يستمع إلى واعظٍ أمام الإيوان الرئيسي، والآخر يصلي أمام القبر المقابل؛ وبذلك كانت المراسم الدينية تهدِّدني في كلتا الحالتين. كان حجاج آخرون جالسين القرفصاء على امتداد الجدران، كثير منهم من الأفغان، وجميعهم مختلفون تمامًا في الملبس والسلوك عن صورتي الفارسية التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى الدنيا، وكانوا يتطلعون إليَّ بتجهُّم الصقور، أو هكذا تخيَّلت، بينما كنت أتنقَّل جَيئةً وذهابًا بين الحشدين. ولكن الأمر في النهاية لم يَعُد مجرد تخيُّل؛ فقد جذب فضولي وتحديقي الانتباه. أسرعت الخُطى عائدًا إلى البازار. لم يَعُد الملالي موجودين في الممر. كان كريستوفر واقفًا بالخارج في الشارع، ينظر شزرًا متهكِّمًا عندما مررت به وعيناي تتحاشيان النظرَ إليه. الآن، في طريق العودة، كانت الشمس في وجهي، والتفت الناس لينظروا إليَّ بينما كنت أمُر. كان ثَمَّة خَطبٌ ما. مهما كان ذلك، فإن السيدة جاستريل لم تتوصَّل إليه. فقد كانت تجفِّف شعرها بالقرب من النار، وكانت غاضبة للغاية عندما انتهك خصوصيتَها شخصٌ مجهول من أهالي البلد.
لقد اطلعت على ما أردت معرفته؛ أولًا أنَّ استخدام الفسيفساء الملوَّنة في خارج المباني بلغ ذروته في عصر النهضة التيمورية، وثانيًا أن جمالها في الضريح هنا أقلُّ مع ذلك من جمالها في ست مآذن من المآذن السبع في هِرات، والتي تتميز بقاياها بجودةٍ أعلى وألوانٍ أكثر نقاءً، ولا يتخللها البناء القِرْميدي البسيط. يقول الرحَّالون القلائل الذين زاروا سمرقند وبخارى وكذلك ضريح الإمام الرضا، إنه لا شيء في هاتين المدينتين يمكنه أن يضاهي ضريحَ الإمام الرضا. إن كانوا محقِّين، فلا بد أن مسجدَ جوهر شاد هو أعظم مَعلم باقٍ من تلك الحِقبة، بينما تُظهِر أنقاض هِرات أنه كان يوجد فيما مضى مَعلمٌ آخَر أعظم.
أرتجف عندما أتخيَّل أنه من بين أجملِ أربعة مبانٍ في بلاد فارس، وهي قنبد قابوس، والغرفة المقبَّبة الصغيرة في مسجد الجمعة بأصفهان، ومسجد جوهر شاد هنا، ومسجد شيخ لطف الله في أصفهان، تأجَّلت معرفتي باثنين منها حتى آخر أسبوعين لي في البلاد.
ثم بدأ ذلك الشعور بنهاية العالم، الذي كنت قد لاحظته من قبلُ في السهل حيث تلتقي بلاد فارس وأفغانستان، والذي أصاب الآن كريستوفر أيضًا. أحاطت حقول خشخاش الأفيون بالقرى القليلة المتباعدة، زاهيةً بأوراقها الخضراء النضرة أمام السماء المنذرة بالعواصف. وتراقص برقٌ أرجواني في الأفق. كانت السماء قد أمطرت هنا بالفعل، وبالخارج في الصحراء كان بوسعنا أن نشمَّ الرائحة القوية لأشجار شوكة الجمل كما لو كانت تحترق. واختلطت أزهار الترمس الأصفر بمجموعاتٍ كبيرة من السوسن البنفسجي والأبيض. كانت تجتاح كاريز نفسَها رائحةٌ طاغية، في حلاوة أزهار الفاصوليا، ولكنها أوهن، وأكثر شاعرية. ذهبت لمحاولةِ شمِّها وتحديد مكانها. جذبتني أزهار الأفيون، الوهَّاجة في الغسق ككتل من الثلج. ولكن الرائحة لم تكن قادمة منها.
عند الحصن الصغير الفارسي في منطقةٍ غير آهلة بالسكان، وجدنا ضابطًا لم يكن قد مرَّ على خدمته هناك سوى يومين، وكان يشعر بالفعل بإحباطٍ لا يوصف في صحبةِ أعضاء فرقته القلائل، وكلبًا وحشيًّا، ومِلءَ حظيرة من الفرسات النحيلات وأمهارها الوليدة. لم تكن توجد شجرة، ولا جدول ماء، ولا أيُّ إشارة على وجودِ حديقةٍ تصد نباتات بقدونس البقرة الأصفر الرطبة الصحراوية. قدَّمنا له بعض الكعك، وقلنا إننا لا بد أن نتابعَ المضي في طريقنا، لرؤيةِ أسوأ جزء في الطريق حيث يتقاطع مع المستنقع.
اعترض متحجِّجًا بأن الطريق ليس آمنًا، ولكن عندما رأى إصرارنا أتى معنا طلبًا للصُّحبة، ممتطيًا جواده ومصطحبًا بندقيةً أسفل فخذه اليسرى. أتى أيضًا اثنان من أعضاء الفرقة، وتناثر الجمع بأكمله في صفٍّ لاستكشافِ جميع المسارات الممكنة. كنا قد قطعنا مسافةَ كيلومتر أو أكثر، عندما صرخ الضابط عليَّ كي أراقب راعيَ غنم نائمًا. أظن أن إحدى حالات هلعه الأخرى كانت عندما رأيت ذبابًا، الكثير منه، على الساقين العاريتين. كان الوجه متشنجًا، كقناع بُني مزرق، ومتضخمًا في حجم يقطينة: كانت العينان مغلقتين، والشفتان السوداوان مفتوحتين.
كان الضابط في حالةِ ذهول. كيف يمكن أن يكون الرجل قد مات على مسافةٍ قريبة جدًّا من الحصن الصغير؟ ومتى مات؟ وما السبب في موته؟ هل نظن أنه ربما يكون قد دهسته سيارة؟ بالنظر في أرجاء السهل المستوي تمامَ الاستواء لمسافةِ عشرة أميال في كل اتجاه، وبتذكُّر أن متوسط حركة المرور في اليوم هو شاحنة واحدة، لم نظن ذلك؛ ومن ثَم خاب آخرُ أمل لرفيقنا الفارسي في التظاهر بأن الجثة التي اعترضت طريقنا، مع كونها نذير شؤم، كانت لا تزال علامةً على تقدُّم البلاد.
أخيرًا استجمع شجاعتَه، ونزل من على الحصان، ورفع الجثة. اهتزَّت أطرافها. كانت الأضلع معوجَّة ومتصلبة. وكان بها جُرح رَصاصة حول العين اليسرى، وآخر فوق الثدي الأيسر. كان الرجل من الكازاخ. كانت لحيته المكسوَّة بالشيب رفيعةً لدرجةٍ يمكن معها عدُّ شعراتها. وقد سقطت عصاه ذات المقبض في مكان سقوطه، وبدت، وهي مُلقاة هناك، أكثرَ آدمية من الهيكل المتعفِّن بجوارها.
قال الضابط إنه يجب أن يرجع على الفور لكتابةِ تقرير. جُنَّ جنونه عندما أجبنا بأنه لا بأس في ذلك، ولكن يجب أن نمضي في طريقنا. حُلَّت المعضلة بظهور فارس وحيد في الأفق من اتجاه بلدة إسلام قلعة. غادرت أنا وكريستوفر على فرسَينا لملاقاته. تبِعنا الضابط ممتعِضًا. كان الغريب تاجرَ خيول أفغاني، وأخبرنا أنه حتى حصانه قد واجهته صعوبات على الطريق عبر المستنقع؛ حيث وصل الطين إلى بطنه، كما كان بوسعنا أن نرى. كان هذا كلَّ ما أردنا معرفته. بعد شرب الشاي في الحصن الصغير، تركنا الضابط يصُوغ تقريره، وانطلقنا عائدين عبْر طريق بديل.
قادَنا هذا الطريق، بعد هجوم كلاب من مخيم بدوي باغت الفحل من الجانب الذي كانت رؤيته فيه محدودة وجعله يَنعَر في خوف، إلى بلدة يوسف آباد العسكرية؛ حيث أكرمَ ضابطٌ وِفادتنا مقدِّمًا لنا كعكَ السُّكر في غرفةٍ مفروشة بسجاد نظيف تُطلُّ على حديقة من الجنستا المزهرة وأشجار السنط. اتضح على الفور أنه كان شابًّا وسيمًا، وكان لديه من دماثة الخُلق ما جعله يتعاطف مع اهتمامنا بآثار بلده.
قال بالفرنسية: «إنكما على حق أيها السيدان. فلقد وجدت برج قنبد قابوس فريدًا من نوعه في العالَم بأسْره. هل زُرتما أصفهان من قبل؟ بالطبع. إنها رائعة، أليس كذلك؟ لا تزال توجد بعض الآثار هنا … أجل قريبًا جدًّا من هنا.» ووصف مئذنة كِرات، التي رسمها دييز، والتي فشلت جميعُ الخرائط والتحريات حتى الآن في تحديد مكانها. إن كانت تلك بعيدةً للغاية، وكانت كذلك لسوء الحظ، فيوجد ضريح مولانا في تايباد على بُعد ميل فقط، والذي كان يبلغ عمره ٥٠٤ أعوام.
أخبرنا أيضًا عن طريقٍ آخرَ عبر الحدود إلى إسلام قلعة، والذي يمتد جهة الجنوب الشرقي من يوسف آباد حتى يصل إلى التلال، وبذلك يتفادى المستنقع. ربما نجرِّبه؛ حيث يبدو أن الطريق العادي سيحتاج إلى ثلاثة أو أربعة أيام مشمسة ليجفَّ. كانت الغيوم في السماء أكثرَ من ذي قبل في طريق عودتنا إلى كاريز.
أقيم مرةً أخرى في غرفةٍ فارغة مربعة ذات جدران بيضاء، وسفل أزرق، وسقف ذي أعمدة. تعيد قعقعة الحدَّادين بالأسفل أيامَ الخريف الغائمة للأذهان؛ حيث الانتظار، والمزيد من الانتظار. يجتمع ثانيةً شملُ رَكْب غريب الأطوار؛ جماعة نويل، والهنود، والرجل المجري، والطبيب البنجابي، والفحَّامون، جميعهم يهدِّدهم خطر الشتاء وإغلاق الطرق. الآن الصيف مُقبِل علينا، ومع ذلك يهبُّ الهواء باردًا عبر الأبواب المفتوحة وأنا مستلقٍ في سريري أراقب هرجَ ومرجَ الشارع في الصباح الباكر. توجد سيارة جديدة في البلدة، شيفروليه زرقاء داكنة، طراز ١٩٣٣. ولكن العربة الملكية ذات الحصان هنا أيضًا. رئيس الأركان واقف في الركن. ويحمل البنادقَ عددٌ من الناس أقلُّ من ذي قبل، ومع ذلك يُمسِك الجميع بوردة أو يضعها في فمه. ربما حلَّت الورود محلَّ البنادق. لا توجد بالتأكيد أيُّ بادرة على وجود «قلق في الربيع».
نزلت الطابَق الأسفل لتوِّي لأُحضر بعضَ الشاي، ورأيت المآذن على أضواء الفجر من السقف أعلى الدَّرَج. لقد تبدَّلت تلك الأضواء. منذ خمسة أشهر مضت كانت وميضًا حزينًا، ينحسر يومًا بعد يوم، ويُثقل معنوياتي أكثرَ حتى من ساعات الفجر التي لم يكن فيها أي ضوء، وكان المطر ينطِق بنقره اليائس على السقف المعدني. الآن سوف يزداد قوةً كل صباح. يمكننا السير إلى مزار إن أردنا، بدلًا من أن نسابق الشتاء ونخسر يومًا بعد يوم.
أدهشنا وصولنا هنا ليلةَ أمس بقدرِ ما أدهش مضيِّفينا. صباح أمس، في حوالي الساعة العاشرة ونصف، انطلقت مع كريستوفر على صهوةِ الخيل إلى يوسف آباد في مزاجٍ يتسم بالتروي، عازمين على قضاء اليوم في ضريح مولانا في تايباد. في طريق عودتنا الليلة الماضية، كنا قد لاحظنا نقاطًا منخفضة متنوعة على الطريق، كانت لا تزال غارقة في المياه لدرجةٍ لا يمكن معها لسيارة أن تعبرها. كادت الآن أن تكون جافة. رأينا في الوقت نفسِه عاصفةً جديدة تتجمَّع خلفنا من بلاد فارس. بدا أنه يتعيَّن علينا عبور الحدود على الفور أو أن نقاسي الانتظار لثلاثة أيام أخرى. كانت ركوبتنا أفضلَ من اليوم السابق. مضى كريستوفر يعدو بحصانه عائدًا لإحضار السيارة والحقائب. واصلت العدو ووجدت ضريحَ مولانا، الذي كان يزيِّنه نقشٌ جصي جميل على خلفية من طبقة ملساء فيروزية، ووصلت إلى يوسف آباد مرةً أخرى قبل السيارة بدقيقة واحدة. بعدما حزمنا سَرْجي وحقائبه، انطلقنا تحت توجيه أحدِ الفلاحين الذي كان يرتدي بلوزةً قرمزية طويلة ومزخرفة بأوراق شجر بيضاء، وكان شعره قصيرًا، ولديه قُصَّة كخادمٍ من العصور الوسطى. لم تواجهنا أيُّ صعوبات حتى حاجي آباد، وهي قرية صغيرة بالقرب من التلال. ولكن بعد ذلك، بينما كنا نشق طريقنا على امتداد المنحدرات السفلية، وصلنا إلى رمالٍ غير ثابتة، وما كنا سنتمكَّن من العثور على الطريق من دون مرشدنا. ظهر من نبات بقدونس بقرة هائل يقف مستقيمًا وسط الطريق، أنَّ الطريق لم يشهد حركةً أخرى عليه هذا الموسم. بعد فترة كان باستطاعتنا أن نرى إسلام قلعة، وهي حصن منفرد في المساحة الشاسعة للسهل بالأسفل، وخرجنا في النهاية على طريق هِرات على بُعد ميلين خلفها، ولكننا رجعنا بالسيارة بإذعان امتثالًا لقوانين الحدود. أعطونا صحنًا من البيض المسلوق مكافأةً لنا.
كان الفندق في هِرات قد تلقَّى تحذيرًا عن طريق الهاتف بقدومِ أجانب، وكان السيد محمود واقفًا على العتبة. عندما رآني، كادت عيناه تخرجان من محجرَيهما، وأطلق ما يشبه نشيدًا عتيقًا (بمزيج من لغته والإنجليزية): «السيد بايرون، كان مريضًا، السيد بايرون، كان مريضًا. لقد رجع. كان مريضًا، كان مريضًا. لقد رجع، لقد رجع. السيد بايرون كان مريضًا، لقد رجع، كان مريضًا، ورجع» … إلخ، حتى ظنَّ كريستوفر أنه كان في مستشفًى للمجانين، لعدمِ علمه بطريقةِ تعبير الأفغان عن مودَّتهم. هل أمتدحُ نفسي؟ زيَّنت زهور العُلَّيق عروتَي سُترتَينا، وفُرشت أفضل السجاجيد في غرفتَينا، ووُضعت قدور الغرنوقي على طاولتَينا. أحضروا نوعين من الشَّربات. وسيكون الكعك الإسفنجي والمربى المفضلة لديَّ جاهزَين غدًا. وأُخذَت الحقائب إلى الأعلى في طرفة عين.
قال كريستوفر: «حمدًا للرب على بلدٍ تجري فيه الأمور بذوقٍ مرةً أخرى.»
كان لتأخُّرنا في كاريز ميزةٌ واحدة، وهي أن ثراش قد غادر إلى قندهار. كتب شهادةً في كتاب السيد محمود يقول فيها إنه وفقًا للمعايير الأوروبية فإن الفندق يبعث على الرِّثاء، ولكن وفقًا للمعايير الأفغانية يظن أنه ليست لديه أي شكاوى. هذا رجل يستمتع بعدم الراحة.
أحدثت الطبيعة تغيراتٍ أخرى. في جازار جاه؛ حيث رأيت آخر مرةٍ المخمليات والتبغيات تدلَّت من البِركة في الساحة الخارجية، وورودًا بيضاء منفردة نامية بسمك الثلج؛ وبدلًا من صفير رياح الخريف، يرفرف اليمام حول أشجار الصَّنوبر، وتستمتع العائلات بإجازاتها في السرادق ذي الأضلع العشرة. والسهل بأكمله، الذي يُرى من الشرفة بالخارج، بين الجبال ونهر هان هو الآن بحرٌ من نباتات خضراء متنوعة وجداول مائية فضية.
عندما أخرجُ إلى المصلى ومعي دفتر اليوميات هذا تحت ذراعي، بحثًا عن السكينة للتدوين فيه، أتعرَّف على كل حقل، وكل ضِفة، وكل مصرف تتلألأ فيه المياه، ولكن كما يتعرَّف المرء على وجه شخصٍ يرتدي ملابس غريبة. حتى المآذن تغيَّرت؛ إذ أصبحت زُرقتها زاهيةً أكثر، كما لو كان ذلك استجابةً لتغيُّر المشهد الطبيعي. وأصبحت القواعد المستديرة الضخمة، التي كانت تنتصب في الماضي من الأرض الجرداء، تنتصب الآن من حقول الذرة الزمردية المورِقة، التي يزدهر في أعماقها خَربَق أرجواني برَّاق، أو من قرون محاصيل الأفيون ذات اللون الأبيض المشرق والمملوءة باللون الأخضر المائل إلى الرمادي، أو من تلك الأشجار المنخفضة التي كان ينتشر عليها لونٌ ذهبي عندما رأيتها أول مرة، والتي كانت عارية كالعظام عندما غادرت، والتي تحوَّلت الآن إلى أشجارِ توت كثيفة باللون الأخضر الداكن. توزِّع الشمس حرارةً معتدلةً من سماءٍ معتدلة الزُّرقة. وفي المجمل، تسود تلك الرائحة الواهنة المحيِّرة التي صادفناها أولَ مرة في كاريز، محمولةً من كهفها ذي البتلات على نسيم الصيف اللطيف.
يتحدَّث الناس على الجانب الآخر من الضريح. توجد هناك منصة مواجِهة للجبال، حيث كنت أنوي الجلوس. ولكن كلا؛ فقد شغَلها بعض الملالي. توجد كتب متناثرة على الأرض، ومجموعة من المبتدئين من ذوي اللحى الزغباء يتلقَّون دروسًا، بينما يجلس اثنان آخران مستندين على حائط بالقرب من هنا، يُسمِّعون لأنفسهما. عبس وجهُ المُلا الذي يَخطُب، والذي تلتفُّ عمامته البيضاء حول قمعٍ أرجواني، وطلب مني أن أبقى بعيدًا. وجدت مكانًا مقابلًا لهم، على مسافةٍ مقبولة، من عندها يجعل المدخلُ الأسود الطويل والقبَّة الكبيرة الزرقاء الأشبه بالشمامة فوقه المجموعةَ الجالسةَ على المنصة تبدو كالأقزام. من المؤسف أنهم منشغلون جدًّا. لو لم يكونوا كذلك، لربما سألتهم عن سببِ اختيارهم لهذا الموقع لتلقِّي الدروس. هل هو تكريم لهؤلاء المدفونين هناك؟ وإن كان الأمر كذلك، فما الذي يعرفونه عنهم؟ كانت قصص جوهر شاد لا تزال شائعةً في حديث الناس هنا في القرن الماضي.
ليس جمالها هو ما تسرده هذه القصص، فضلًا عن رعايتها للفنون. فللناس في هِرات، الذين عرفوها لمدة ستين عامًا، كانت شخصيةً بارزةً. تشعُّب مجالات حياتها والطريقة العنيفة التي ماتت بها جعلاها نموذجًا لعصرها؛ عصر كانت فيه هِرات عاصمةَ إمبراطورية تمتد من دجلة إلى شِينْجيانْغ.
تُذكِّرني سيرتُها بمَلِكتَينا إليزابيث وفيكتوريا. النساء من هذا النوع نادراتٌ في التاريخ الإسلامي. وربما لذلك سمِع موهان لال أنها لا تزال تُوصف، بعد مرور أربعمائة عام، بأنها «المرأة الأكثر تفردًا في العالم». غير أن التيموريين، مع كونهم قادةً لمجتمعٍ مسلم، كانوا مغولًا بحكم الميلاد والتقاليد؛ فقد أتت أفكارهم عن الحياة العائلية من الصين، التي تمثِّل فردوسًا للنساء من ذوات الحَل والعَقْد. حكمت الزوجة الأولى لتيمور بجوار زوجها خلال السنوات الأولى للمصاعب التي واجهها والمخاطر التي خاضها. ولاحقًا يسجِّل كلافيجو، في أيام الازدهار في سمرقند، كيف كانت زوجاته الأُخريات وكَنَّاته ينظمن الحفلات بمعزلٍ عن أزواجهن، والتي كانت تسليتهن الرئيسية فيها أن تجعلن الرجالَ يَسْكرون. استفادت جوهر شاد، كونها ابنةَ نبيل من جاجاطاي، من الأعراف المغولية لإطلاق العِنان لمزيد من الأذواق الرصينة.
كان والدها هو الأمير غياث الدين، الذي أنقذ سلفه حياةَ جنكيز خان. تزوَّجت من شاه رخ، على الأرجح عام ١٣٨٨، قَطعًا قبل عام ١٣٩٤، الذي وُلد فيه ابنهما أولوغ بيك. كان زواجًا ناجحًا، حسبما تسرد الأغاني الشعبية في هِرات، التي تتغنَّى بحب شاه رخ لها. غير أنه لا يُعرف إلا القليل عن أول أربعين سنة أمضياها معًا، فيما عدا ما يخصُّ المباني التي شيَّدتها. على سبيل المثال، شيَّدت المسجد في مشهد، سنة ١٤٠٥، وأخذت شاه رخ لرؤيته في أغسطس عام ١٤١٩؛ حيث امتدح الأنماط والحرفية، وأهدى مصباحًا ذهبيًّا لقبر الولي. لم تتصدَّر المشهد إلا في وقتٍ متأخر، في البداية بصفتها زوجةَ شاه رخ الذي كبِر في السن، ثم بصفتها أرملته.
كنت محقًّا بشأن المئذنة المنفردة هناك، عندما ارتأيت أنها جزءٌ من مدرستها. يُظهِر رسمٌ للميجور دوراند من لجنةِ ترسيم الحدود في سنة ١٨٨٥، قبل الهدم مباشرةً، الساحةَ الرباعية للمدرسة تقف مجاورةً للمصلى، وهذه المئذنة متصلةٌ ببوَّابتها الرئيسية. هكذا أتخيلها، مطلةً على مؤسِّستها الملكة ووصيفاتها المائتين، عند وصولهن من المدينة في تلك الزيارة التفقدية التي كانت لها آثارها اللطيفة على طلاب المدرسة. بسبب السيدات، اللواتي كان من السهل أن تتغلَّب عليهن مشاعرهن، صُرِف الطلاب، باستثناء واحد كان نائمًا — ربما كان ذلك عصر يومٍ صيفي عَطِرٍ كهذا. عندما استيقظ، ونظر من نافذته ليرى سببَ الجلبة، لمحتْه عينا «سيدة ذات شفتين ياقوتيتين»، والتي أسرعت إلى غرفته، ولكن عندما عادت للجمْع الملكي، فضحَها «اضطراب ثيابها وسلوكها». لتجنُّب مزيد من الوقائع المشابهة، أو بالأحرى لمباركتها، زوَّجت جوهر شاد على الفور جميع وصيفاتها المائتين للطلاب الذين كانوا قد أُمروا من قبلُ بتجنُّب مجتمع النساء. وجهَّزت كلَّ طالب بثياب وراتب وسرير. وحكمت بأن يلتقي الزوج والزوجة مرةً في الأسبوع شريطةَ أن يجدَّ الزوج في دراسته. يضيف موهان لال بورع: «فعلَت كلَّ هذا من أجل منع انتشار الفاحشة.»
كان لشاه رخ ثمانية أبناء، وكان من بينهم أولوغ بيك، الأكبر، وبايسنقر، الخامس، اللذان كانا أيضًا من جوهر شاد. على الصعيد الفكري، وفَّى هذان الاثنان بوعد والدَيهما؛ فقد أصبحا ووالدتهما الشخصيات المحورية للنهضة. ترك أولوغ بيك الساحةَ في هِرات ليشغلها في بلادِ ما وراء النهر. جعله والده نائبًا على سمرقند سنة ١٤١٠، وبعد ذلك بعشر سنوات زارته والدته هناك لترى مرصده الجديد. قادته حساباته الفلكية إلى تعديل التقويم، وجلبت له تكريمًا بعد وفاته لدى جامعة أكسفورد؛ حيث نُشرَت سنة ١٦٦٥.
أما بايسنقر الذي عاش بجوار والديه في هِرات، فلم يكن له دور سياسي يتعدَّى كونه رئيسَ مجلس والده. كان بلاطه يضم الشعراء والموسيقيين، وقد توسَّع في شغفِ والدته بالبناء إلى الرسم وإنتاج الكتب. فقد عمل فريقٌ من أربعين مُزخرِفًا ومُجلِّدًا للكتب وخطَّاطًا تحت إشرافه المباشر. وقد كانت له نفسه مكانةٌ بارزة بين الخطاطين، وتشهد نقوشه في مشهد أنه لم ينلْها من باب المداهنة، ويومًا ما لا بد أن أقارن تلك النقوش بالنماذج الأخرى التي نقشها بيده في المكتبة هناك والسراي في القسطنطينية.
مثل كثيرين جدًّا من أفراد عائلته، فشل هذا الأمير الموهوب في التفرقةِ بين ملذات العقل والجسد. وتوفِّي من السُّكْر سنة ١٤٣٣. فُرض الحِداد أربعين يومًا، واصطفَّ حشدٌ ضخم في طريق موكب الجنازة من مقر إقامته في الحديقة البيضاء إلى مدرسة والدته. هناك بنَت والدته، جوهر شاد، ضريحًا في الساحة الرباعية للمدرسة. اختفى كلُّ شيء في المدرسة عدا تلك المئذنة الوحيدة. ولكن عندما أنظر عبر الحقول، أرى أن الضريح لا يزال مشهدًا للدراسات اللاهوتية، وأن المجموعة السعيدة من الطلاب الذين تزوَّجوا وصيفاتِ جوهر شاد قد تلاهم غيرُهم إلى عصرنا الحالي.
في ذلك الوقت وصلت جوهر شاد إلى عامها الستين، وعاشت بعد ذلك ربعَ قرن آخر. كان حبُّها لابن بايسنقر، علاء الدولة، هو ما أدخلها إلى عالَم السياسة. عملت ما تبقَّى من حياتها من أجل ضمان اهتمامه بخلافة الحكم، لدرجةٍ أوصلَتها إلى سقوطها التام.
فقد حوَّلت محاباتُها أولئك الذين كان من المستهدَف استبعادهم إلى أعداء، وتحديدًا حفيدها الآخر. كان هذا الحفيد هو عبد اللطيف، ابن أولوغ بيك، الذي نشأ في بلاط جَدِّه وجَدَّته في هِرات. لغضبه من إغداق الاهتمام على علاء الدولة، انتقل إلى والده في سمرقند، وعندئذٍ حزن عليه شاه رخ الذي كان يعشقه حزنًا شديدًا. ومن ثَم، كي تُرضي جوهر شاد زوجَها الهَرِم، شرعت في إعادته، فسافرت على الطريق الذي سنسلكه غدًا في ذروة الشتاء. ربما كان لدى عبد اللطيف سببٌ لفِراره. أما السيدة العجوز، فبعدما أعادته، حوَّلت حِقدها إلى محمد جوكي، ابن شاه رخ الأصغر، لدرجةٍ جعلته مات من الخزي، على حدِّ قول خواند مير. ودُفِن هو الآخر في الضريح.
بعد ذلك بسنتين، وقَعت الفاجعة التي كانت تُحضِّر لها. إذ كانت قد أقنعت زوجها، برغم قواه الخائرة، بأن يقود جيشًا إلى بلاد فارس، ورافقته بنفسها. بعد المسير إلى شيراز تقريبًا، استقر شاه رخ في الري؛ حيث توجد طهران الآن، طوال الشتاء. وهناك، توفِّي في ١٢ مارس ١٤٤٧، عن عمرٍ يُناهِز التاسعة والستين. وبذلك انتهت الفترة الأولى من النهضة التيمورية. وذلك لأن الفنون لا يمكن أن تزدهر دون استقرار سياسي، أو على الأقل مدني، وخلال السنوات الاثنتي عشرة التالية، وقعت هِرات فريسةً لعشرة حكام متعاقبين.
ابتدأت الفوضى بشؤم على جوهر شاد التي وقعت في شَرَكها. تُرِك علاء الدولة، الحفيد الذي وثقَت به، على رأس هِرات. وأصبحت حينئذٍ في قبضة عبد اللطيف، الحفيد الذي ظنَّت به الظنون، وكانت قد أجبرته على مرافقة الجيش لتُبقيه تحت ناظرَيها. فأكَّد لها تلك الظنون؛ حيث لم يكتفِ بالاستيلاء على أمتعتها، بل أيضًا على جميع حيواناتها؛ وهكذا بينما كان جثمان الملِك الراحل في طريق عودته إلى هِرات على نقالة، أُجبرَت أرملته التي كانت أشهر امرأة في ذلك العصر وكانت قد تجاوزت السبعين عامًا، على أن تتبع الجثمان سيرًا على الأقدام عبْر قفور خراسان؛ «مع وشاحٍ عادي من الكتان ملقًى فوق رأسها، وعكاز في يدها»، كما يقول خواند مير. أنقذها علاء الدولة من هذه الشدة؛ حيث أسر عبد اللطيف ووضعه في القلعة (حيث تورَّطتُ في المتاعب بسبب مرأب المدفعية). عندما علم بذلك أولوغ بيك، الذي كان قد انطلق من سمرقند بجيش للاستحواذ أيضًا على الإمبراطورية، تخلَّى عن مسعاه لصالح علاء الدولة شريطةَ إطلاق سراح ابنه.
لفترةٍ قصيرة حقَّقت مخطَّطات جوهر شاد نجاحًا. غير أن نزاعًا نشب مع أولوغ بيك حول البنود الأخرى من الاتفاق، وواصل تقدُّمه إلى هِرات. وهناك تلقَّى أنباءً تفيد بأن مجموعة من المغِيرين الأوزبك قد نهبت ضواحي سمرقند ودمَّرت العديد من التحف الفنية الأثيرة لديه. لمقايضتها، أخذ ما استطاع من الكنوز من هِرات، بما في ذلك زوجٌ من الأبواب البرونزية من مدرسة جوهر شاد. وأيضًا أخرج جثمان أبيه شاه رخ من الضريح وأخذه معه، وأودعه في بخارى في طريق عودته إلى سمرقند. في تلك الأثناء، بدأ عبد اللطيف، نتيجةً لولعه المَرَضي، ينشغل بتفضيل والده المزعوم لأخيه الأصغر؛ غير عابئ بحقيقة أنه لولا تخلِّي والده عن حكم الإمبراطورية لظلَّ قابعًا في السجن. عبَر نهر أوكسوس من بَلْخ، وهزم أباه عند شاروخية، وأعدمه على يد عبد فارسي. وهكذا مات أولوغ بيك، الأكثر دماثةً بين جميع أفراد عائلته والعالِم الوحيد بينهم، في ٢٧ أكتوبر ١٤٤٩.
بعد ذلك بستة أشهر، اغتِيل قاتلُ أبيه على يدِ أحد خدم أولوغ بيك.
وفي السنوات السبع التالية، تولَّى أبو القاسم بابر الحكمَ في هِرات. كان هو الآخر ابن بايسنقر، ويبدو أنه عاش في سلام مع جَدته. غير أن علاء الدولة، ابن بايسنقر الأصغر، كان لا يزال المفضَّل لديها. وعندما مات أبو القاسم بابر عام ١٤٥٧، من جرَّاء الإفراط في الشراب كوالده، جمعت شتاتَ آخر ما لديها من جهد من أجل دعم إبراهيم ابن حفيدها علاء الدولة.
كان عمرها قد جاوز في ذلك الوقت الثمانين عامًا. في يوليو من ذلك العام وصل أبو سعيد، ابن حفيد تيمور وسلف بابر، إلى هِرات. لم تصمد سوى القلعة بقيادة إبراهيم. ولكنَّ أبا سعيد، مع أنه كان يدير العمليات بنفسه، لم يستطِع الاستيلاء عليها. وغضبًا من عرقلة خططه، واعتقادًا منه بأن مقاومتها كانت بتشجيعٍ خفي من جوهر شاد، أعدم السيدة العجوز.
دُفنت في الضريح الذي بَنَته. وكُتِب على شاهد قبرها: «بلقيس عصرها». بلقيس هي ملكة سبأ.
بعد ذلك بعام، دُفن إلى جوارها علاء الدولة وإبراهيم. لكن ابن حفيد آخر، هو يادجار محمد، نجا، وهو أيضًا من نسل بايسنقر. سنة ١٤٦٩، كان يعيش مع أوزون حسن، زعيم الآغ قويونلو (أي الخرفان البيض) التركمان، عندما هاجم أبو سعيد ذلك الحاكم. فشل الهجوم. وأُسِر أبو سعيد، وسلَّمه أوزون حسن إلى ضيفه، الذي كان في ذلك الوقت صبيًّا في السادسة عشرة من عمره. بعدما أعطى الصبي الأمر اللازم، رجع إلى خيمته وأُعدِم أبو سعيد على الفور. وهكذا أخذت ذرية بايسنقر بثأر جوهر شاد.
الجو بارد. وقد غربت الشمس. دلف الملالي، ومعهم تلاميذهم، إلى الداخل. وذهب البريق عن الأبراج الزرقاء والذرة الخضراء. واختفت ظلالها. كما اختفت الرائحة الساحرة. انتهى الصيف، وأعاد الشفقُ الربيعَ ببرودته وغموضه. يجب أن أغادر.
وداعًا جوهر شاد وبايسنقر. استلقيا هناك أسفل قبَّتكما، على صوت دروس الصبية. وداعًا هِرات.
غادرْنا هِرات في وقتٍ مبكر من العصر منذ ثلاثة أيام، منطلقين بسرعة بسببِ زجاجة الشربات التي أعطاها لنا السيد محمود. في كرخ نما عشبٌ أسفل أشجار الصَّنوبر؛ وكان السَّمك لا يزال يَسبَح في بِركته التي تحاصرها الشِّباك، متجهًا دائمًا عكس التيار لتفاديها. كنا نميل إلى أن نقضي الليلة هناك، ودعانا حُسن التقدير لذلك أيضًا؛ إذ كانت السماء ملبَّدة بالغيوم. ولكن بحجةِ أننا إن توقَّفنا، وهطل المطر، قد نَعلَق لعدة أيام، عزمنا على عبور الممر الجبلي في تلك الليلة. كانت مخاطرة، ولو قال لي أحدٌ قبل ستة أشهر إنني قد أُقدِم يومًا ما على تلك المخاطرة، لوصفته بالجنون؛ وليس أنا.
لم يُشكِّل التدرُّج الأرضي المؤدي إلى الممر الجبلي؛ حيث كانت قد واجهتنا تلك المشكلةُ مع الشاحنة، أيَّ صعوبة حينما صار جافًّا. مرةً أخرى استقبلتنا أشجارُ العرعر والمشهد الرائع في الأعلى؛ ومرةً أخرى كانت ثَمَّة غيوم منذِرة بعاصفة فوق تُركستان. ظننا أن المرحلة الأسوأ قد انتهت؛ حينما لاحظنا أن الوجه الشمالي للجبال لا يزال رطبًا. بعد نزولنا مسافةَ نصف ميل عَلِقَت السيارة.
لم نستطِع تحريكَها بقُوانا مجتمعةً، مع أنَّ التدرُّج كان قُرابة الثُّلث وكان غطاء محرِّك السيارة يشير بشكلٍ حادٍّ إلى الوادي بالأسفل. كانت العجلات عالقةً في جلمود. لمدة أربع ساعات ونصف، كانت فيها كواحلنا غاطسةً في وحلٍ جليدي متجمِّد، رفعنا الصخور وأبعدناها؛ فغاصت السيارة لمسافةٍ أعمق. عندما حلَّ الظلام، مرَّ بنا راعيان متشِحان بعباءتين بلون أبيض مع قطيعهما. توسَّلنا إليهما أن ينتظرا ويساعدانا. فقالا إنهما لا يتجاسران على ذلك، بسبب الذئاب. غير أن أحدهما أعارنا، بمبادرة منه، بندقيته والرَّصاصتين الباقيتين معه لمساعدتنا على البقاء على قيد الحياة في الليل.
ناقشنا ما علينا فِعله. وأراد السائق جمشيد أن أمشي مع كريستوفر إلى أقربِ قرية لطلب المساعدة، بينما يبقى هو هنا ومعه البندقية. ولكن كريستوفر أراد أن نذهب جميعًا إلى القرية. وأردت أنا أن يبقى جميعنا في السيارة؛ لأني كنت أعلم أن القرية تبعُد خمسةَ أميال، بحجةِ أن السيرَ لمسافة كهذه من شأنه أن يكون مملًّا لدرجةٍ لا تُوصف، وأن أهل القرية المعنية، عندما يكونون مستيقظين، لا يتسمون بحسنِ الضيافة، كما أنهم لديهم ميل للصوصية، وأنه قد يحدث ما هو أسوأ إن أزعجناهم أثناء نومهم، وأن هذا على أي حال لن يؤدي بنا إلى الحصول على أي مساعدة قبل الصباح. ردَّ كريستوفر بأنه من غير المعقول أن نفترض أن الذئاب سترتدع بسبب المصابيح الأمامية أو صوت المحرِّك، وأننا إن بقينا في السيارة فستشقُّ طريقها بحثًا عن فريسة عبر الستائر الجانبية وتُمصمِص عظامنا. رددت على هذا مؤكدًا أنه سواء كان كلامي معقولًا أم لا، فستكون فرصتنا داخل السيارة أفضلَ من خارجها، وأن كلاب القرية أكثرُ وحشية من الذئاب على أي حال. قلت: «بحق الرب ادخل إلى السيارة، واشرب هذا الويسكي، ودعنا نسترِح.»
وقد فعلنا. استبدلنا الألحفةَ وجلودَ الغنم بملابسنا المُشرَّبة بالطين. وألقى الفانوس المخصَّص للأعاصير، المتدلِّي من دعامة في غطاء المحرِّك، وميضًا كافيًا على عشائنا المكوَّن من لحمِ حَمَل بارد، وصلصة كاتشب من الوعاء الأزرق، وبيض، وخبز، وكعك، وشاي ساخن. بعد ذلك استقررنا كلٌّ في ركنه مع قصتين من قصص «تشارلي تشان» البوليسية. راح جمشيد في النوم في المقعد الأمامي. واستمعت قليلًا لتنهُّدات الرياح بين أشجار العرعر وبومة تنعق من بعيد، ثم رحت في النوم أنا الآخر. ظل كريستوفر مستيقظًا والبندقية على ركبته، وهو يظن أن كلَّ حفيف هو وقْع أقدام ذئب أو قاطع طريق.
في الساعة الثانية ونصف أيقظني بكلمةٍ مرعبة أكثرَ من أيِّ ذئب: «مطر.» وها هو ذا صوت طقطقة على غطاء المحرِّك؛ تزايد ليصبح قرعًا متواصلًا. عند الفجر، انطلق جمشيد يمشي على الطريق بحثًا عن عون.
ونحن لا نزال مدثَّرين بجلود الغنم، بدأنا في تناول الفطور، وكنا نفرد بعضًا من مربى هِرات على كُتَل من الخبز والزبد عندما رفعنا ناظرَينا ورأينا رجلًا فوق صهوة حصان. كان الراعي صاحب البندقية. رددناها هي والرصاصتين مع جزيل الشكر. لم ينبِس ببنت شفة، وتلاشى وسط الأشجار الداكنة المشبَعة بالأمطار.
رجَّع جمشيد وهو يقود جماعةً من عمال الطرق المعمَّمين، الذين كانوا قد أُرسِلوا للعمل بالسُّخرة لأن زيارة من عبد الرحيم كانت متوقَّعة. كان المطر يهطل بغزارةٍ شديدة؛ وكل زاوية من الجبال كان يَشغلها شلال. في الأغلب، كان النزول أسوأ مما كان عليه في شهر نوفمبر. ففي ذلك الوقت على الأقل كانت الأرض جافةً أسفل خط الثلج. أما الآن، فعلى طول ذلك الحيد الضيِّق الذي ترتفع منه القمم الحمراء مخترقةً السُّحب بالأعلى، ويمكن رؤية السلاسل الجبلية بأكملها تنبثق من السُّحب أسفلها، تابعت السيارة بنضالٍ تقدُّمَها، خارج السيطرة تمامًا بوجه عام، متمايلة يَمنةً ويَسرةً في أغلب الأحيان، ولم تبعُد مطلقًا أقل من مسافة قدمين من الحافة. في مرحلةٍ ما، كان جلمودٌ أحمرُ أزاحته الأمطار يسدُّ الحيد، وكان يجب تمديد رصيف حوله. وصلنا أخيرًا إلى خيمةِ عمالِ الطرق. قالوا إن الطريق من هناك كان جيدًا؛ أي إنه قد حُفِر حديثًا؛ لأن الحفر في هذا البلد هو المرادف لإعادة الرصف. قادنا خارجًا إلى المنحدرات المفتوحة، التي كانت مغطَّاةً الآن بالمراعي. واصلنا الانزلاق والاهتزاز عبْر الأمطار الغزيرة، وكنا كلَّ ربع ميل نُخرِج السيارةَ من أخاديدَ كان يمكن في المعتاد أن يحتاج إخراجها منها إلى نصف دستة من الرجال، ولكن الأرض كانت في هذا الوقت زلِقة للغاية، حتى إن مجرفةً واحدة ودفعاتنا الواهنة كانت كافية.
سِرتُ معظمَ الطريق ناظرًا للأزهار في العشب الطويل بجوار حافة الطريق، والزنابق القرمزية الصغيرة، وزهور السوسن القصيرة ذات اللونين السمني والأصفر، ونوع من زهور البصل الأرجواني التي طاردتني من عروة سُترتي برائحةٍ أشبهَ باللحم الفاسد، وزهور الخشخاش، والجريس، ونبات غريب له أوراق كأوراق التوليب، والذي كانت لزهرته، التي بلون المهلبية الفرنسية الوردية، بَتَلاتٌ مربَّعة متفرقة تنمو لأعلى على شكل كأس. بعد بعض الوقت بدأت المحاصيل في الظهور، وكانت من البِرسيم والقمح، وكانت قصيرةً كحالها في إنجلترا في هذا الموسم. كانت قرية لامان قد ظهرت في الأفق عندما سقطت السيارة في مصرفٍ لم يكن لدينا أدنى أملٍ في إخراجها منه دون عون.
بدت القرية في هذا الوقت من العام مكانًا صغيرًا جميلًا، تظلِّله أشجار الحَور، ويُنعشه جدول مياه مندفع، وتتدلى فوقه المنحدرات الصخرية الحمراء التي تحمل مسطحاتٍ من العشب الأخضر؛ مختلفة جدًّا في الحقيقة عن آخرِ مرة رأيتها فيها عبر الضباب الأبيض للفجر في شهر ديسمبر. كان كريستوفر قد سبقني، واستُقبل بفظاظةٍ وجفاءِ طبع. ولكن عندما وصلت، كان كبير القرية قد تحدَّث هاتفيًّا عنا مع حاكم قلعة نو، وأحسن وِفادتنا؛ حيث أوقد نارًا في وسط الأرضية لتجفيف ملابسنا. في تلك الليلة أرسل إلينا حاكم قلعة نو صحنًا من البيلاو على صهوة حصان.
هذا الصباح لم تكن توجد سحابة واحدة في السماء. بعد الانتظار لساعة أو ساعتين كي يجفَّ الطريق، انطلقنا في الوادي، عابرين النهر كلَّ عشر دقائق، وكان علينا تجفيف المولد المغناطيسي بعد ذلك في كل مرة. التقينا في منتصف الطريق بحاكمِ قلعة نو على حصانه الرمادي، تتبعه حاشيةٌ بديعة المنظر، لمحت في مؤخرتها السكرتيرَ الذي كان يريد أن يأخذ قلمي. قال إنه أمرَ بتجهيزِ غرفة لنا إن أردناها. لكننا رفضنا؛ فقد كان ينبغي أن نبلغ مرغاب الليلة.
اتسع الوادي. وظهرت في تجاويفِ عُشبه مخيماتُ الكيبيتكا ذاتها التي أعاقت قطعانُها طريقَنا، وزمجرت علينا كلابها، وسخِر منا أطفالها. ولاحظت أن الكلاب السلوقية كانت لا تزال ضارية. كان العشب كلُّه، حتى ذلك المرتفع على قمم الجروف، ملطَّخًا برُقَع من الخشخاش القرمزي. وبين الحين والآخر، على جانب الطريق، كانت تتخللها دفقة من أبي عرق ذات اللون الأزرق الملَكي محدِثةً تأثيرًا اصطناعيًّا غريبًا، كما لو أن كلًّا منهما قد زُرع بدافع من الوطنية. شربنا بعضَ الحليب في قلعة نو، وتركنا النهرَ أخيرًا، وتابعنا سيرَنا على امتداد الأجزاء السفلية لمنطقةٍ ذات منحدرات متعرِّجة هابطة، مُحرِزين تقدُّمًا جيدًا وشاعرين بالثقة في الوصول إلى مقصدنا قبل حلول الظلام. كان الطريق مليئًا بالسلاحف، التي كان جمشيد يُسميها كركند. قابلنا أيضًا ثعبانَين. كانا بطول أربع أقدام، ولونهما أخضر باهت، وغير مؤذيين على الأرجح. ولكن جمشيد، مدفوعًا بكراهية هندية خالصة، أوقف السيارة وقتلهما بجدية شديدة.
على بُعد عشرين ميلًا من قلعة نو، اصطدم المحور الأمامي بربوة. حدثت رجَّة خفيفة، وتباطأ المحرِّك حتى توقَّف.
أعقب ذلك أحدُ تلك الأوقات الحقيرة المُربِكة، التي أخذنا خلالها نعبث ونضيِّع الوقت، ونغيِّر مولِّد الإشعال، ونتبول في بطارية السيارة، ونفحص شمعات الاحتراق في كل مكان. أبى المحرِّك أن يُصدِر أيَّ صوت. كان المساء قد اقترب، وكانت المنطقة مهجورة، وكان هذا الجزء من الطريق تحديدًا مشهورًا بقُطاع الطرُق.
في هذه المرحلة، ظهر سيدٌ مُلتحٍ يضع عمامةً زرقاء ويمتطي حصانًا أسود طويل الجسم، مُهروِلًا من منعطَف في التلال. تبِعه خادمان يحملان البنادق على حنايا سَرجَيهما. كان أحدهما ملتحيًا أيضًا. وكان وجه الآخر مستترًا.
سأل القائد: «مَن أنتم؟»
قاطعه تابعه ذو الوجه المكشوف، مشيرًا إليَّ: «أعرف هذا السيد. لقد أتى إلى قلعة نو في الشتاء، وأصابه المرض هناك. هل صحتك أفضل الآن، يا أغا، بفضل الرب؟»
«صارت أفضل الآن، بفضل الرب. أنا أيضًا أذكرك. أنت المستخدِم الذي تعمل لدى معالي محافظ قلعة نو، وجلبت لي الطعام عندما كنت مريضًا.»
عندما أطمأن كل طرف من الطرفين بهذه المعرفة المشتركة، زاد لدى كل منهما حسن الظن بالآخر. وشرح لهم كريستوفر المأزق الذي كنا فيه.
أعلن الرجل ذو العمامة الزرقاء، قائلًا: «اسمي حاجي لال محمد. وأنا تاجر بشتوني، وكان لديَّ عمل في مرغاب، وأنا الآن في طريق عودتي إلى الهند. من الخطر الوجودُ في هذا الجزء من الطريق بعد حلول الظلام؛ فقد ذُبح رجلٌ هنا منذ وقت غير بعيد. أقرب رِباط على بُعد فرسخ واحد فقط. إن ركِبتما حصانَي هذين السيدين، فسنذهب إلى هناك ونطلب من الناس أن يرسلوا خيولًا أخرى لسائقكما وأمتعتكما.»
امتطينا الحصانين، وقفز الحارسان ببنادقهما خلفنا. شبَّك الرجل المُقنَّع الغامض يديه حول بطني.
سألني حاجي لال: «ما رأيك فيه؟»
«لا أعرف كيف أُكوِّن رأيًا في رجلٍ لا يمكنني رؤية وجهه.»
«ها، ها، إن عمره صغير للغاية، ولكنه قاتلٌ بارع. لقد قتل حتى الآن خمسة رجال. إنه صغير جدًّا على هذا العدد الكبير، ألا تظن ذلك؟»
قهقَهَ الرجل الغامض خجلًا من تحت ستره، ودغدغني في ضلوعي.
علَّق رفيق كريستوفر على السَّرج قائلًا: «أظن أنكما من أتباع المسيح.»
«بالتأكيد.»
تداخَل حاجي لال قائلًا: «وهل كنتما في هِرات منذ ثلاثة أيام؟ إذَن يمكِنكما أن تخبراني بسعر الاستبدال بين عملة كابول والروبية الهندية. وسعر القراقول.» كان يقصد بذلك جلود الحُملان.
تابَع قائلًا: «هل أنتما متزوِّجان؟ كم لديكما من الأبناء، وكم لديكما من المال؟ أحيانًا أفكِّر في زيارة لندن. كم تكلفة قضاء ليلة هناك؟»
أجاب كريستوفر: «يعتمد ذلك على نوعية الليلة التي تريد قضاءها.»
ذكَّر هذا حاجي لال بأمرٍ أكثر إلحاحًا. فقال: «هل معكما أيُّ عقاقير في حقائبكما؟»
«نعم.»
«هلا تعطيانِني واحدًا؟ أريد ذلك النوع من العقاقير الذي يجعلني أُمتِّع السيدات في هِرات.»
«لا أظن أن معنا ذلك النوع.»
مضينا قُدمًا في صمتٍ لبعض الوقت.
قال حاجي لال فجأةً: «سيارتكما هذه، ما خَطبُها؟»
«لا أعرف.»
«هل ستسير مرةً أخرى؟»
«لا أعرف.»
«ماذا ستفعلان إن لم تفعل؟»
«سنُتابِع طريقنا على ظهور الخيل.»
ساد صمتٌ أطول.
ثم سأل حاجي لال: «هل ستبيعانها؟»
أطربتنا الكلمات. لكن كريستوفر كان حريصًا على ألا يُظهر ذلك.
بعد ساعة من السير بالجياد وصلنا إلى رِباط مغور. الرِّباط هو الكلمة المستخدَمة في أفغانستان لنُزل القوافل، ويُستخدم كذلك مقياسًا للمسافة؛ حيث توجد هذه المنشآت على الطرق السريعة الرئيسية كلَّ أربعة فراسخ أو ستة عشر ميلًا. يتألَّف هذا الرِّباط من فناءٍ عادي، وإسطبلات أسفله، ومجموعة من الغرف فوق المدخل. إلا أن الشرفات مزوَّدة بفتحات لحالات الخطر، وتُغلق البوابات في موعدٍ مبكِّر عنها في بلاد فارس.
وافَق أصحاب المكان على أن الطريق المفتوح لم يكن مكانًا آمنًا لجمشيد والأمتعة في هذا الوقت من اليوم، وأرسلوا رجالًا لإحضارهما بأسرعِ ما يمكِن.
مرَّت توًّا شاحنةٌ في طريقها إلى هِرات، وكان بها سكرتير القنصلية الروسية في ميمنة. وعندما رأى سيارتنا يسحبها ثور، توقَّف لسؤالنا عما إذا كان بوسعه المساعدة، وهو ما كان تصرُّفًا لطيفًا منه. قال إن الشاحنات تمضي من ميمنة إلى مزار شریف كلَّ يوم تقريبًا.
بعدما ذهب، دخل رجل أفغاني الغرفةَ وخاطبني بلقب «توفاريش». قلت: «يا إلهي، لا تَدعُني رفيقًا. إنني إنجليزي.» استغرق الأمر وقتًا طويلًا لإقناعه بأنه ليس كل الشُّقر من الروس. ولكن عندما نجحنا في إقناعه، اتضح أنه كان مواطنًا روسيًّا هاربًا، ولم يكن لديه في الواقع ما يقوله للبلاشفة.
يوجد نهر بالقرب من الرِّباط حيث ذهبنا هذا المساء كي نغسل صحوننا. عندما رأينا قرية على الجانب الآخر منه، سألنا شابًّا مارًّا عما إذا كان بإمكانه أن يحضر لنا أيَّ حليب من هناك. قال إن بإمكانه فِعل ذلك إذا كان لديه أي شيء ليضعه فيه، فأعطيناه تُرمُسًا. ولكن بدلًا من أن يذهب إلى القرية وقف مُتسمِّرًا جاحظَ العينين، يتحسَّس الشيء اللامع بأصابعه، حتى فرغنا من غسيل الصحون. ثم، عندما بدأنا العودة إلى الرِّباط، جرى خلفنا، وخلع عمامته وقدَّمها لنا ضمانًا للتُّرمُس.
ينبغي للمرء أن يدرُس الإسعافات الأولية قبل خوضِ مثل هذا النوع من الرِّحلات. التقينا للتو برجل يطلب مساعدته في علاج إبهامه المخلوع، وآخرَ يعاني الديدان. أقل ما يمكنني فِعله هو التظاهر بعلاجهما. ولكن بدلًا من التنكُّر في هيئة طبيب مشعوِذ، سيكون من الألطف أن أعرف أنهما سيُشفَيان.
تألَّفت قافلتنا المنطلِقة من مغور من ستة خيول؛ ثلاثة للأمتعة، وواحد لي، وواحد ﻟ «الرجل المسلَّح» الذي كان يحرسنا، وحصان كريستوفر الأسود. اتضح أن الأخير عدَّاء رائع؛ إذ يتقدَّم مبدِّلًا بين قوائمه اليسرى واليمنى بسرعةِ بندقيةٍ رشَّاشة. تركنا طريق السيارات، وعبرنا التلال، ووصلنا لتلالٍ أعلى، لا تزال مغطَّاة بالعُشب، ولكن تتناثر في أرجائها نتوءات من الصخر وشجيرات فستق متفرقة، والتي حسبتها أشجارَ تين بري حتى رأيت عناقيد من مُكسَّرات مُحمرَّة. من أعلى هذه السلسلة الجبلية، ألقينا نظرةً أخيرة على جبال باروباميسوس خلفنا، التي كانت لا تزال تخفيها جزئيًّا سُحبٌ ممطِرة. في المقدمة، وعلى مسافةٍ أقرب، ارتفعت السلسلة الجبلية الرئيسية باندي تركستان.
تداخل في المشهد وادٍ فسيح، ساخن وحجري؛ حيث عاودت الحياة النباتية الصحراوية الظهور واختبأ مسافر وحيد، بعدما رآنا من بعيد، في مسيل ماء حتى عبرنا. على الجانب الآخر من الوادي، بينما كنا نستعد لصعودٍ جديد، ظهر نهر في الأفق، وأدهشنا أنه كان يتدفَّق صوبَ جِدار الجبل مباشرةً. فسَّر مسلكَه وجودُ بوابتين صخريتين، يعلو كلًّا منهما برجُ مراقبة، ويمر النهر منهما عبر الجبال. تبِعنا مساره، عابرين من الضِّفة الغربية إلى الشرقية على جسرٍ متداعٍ، انجرف أحد قوسَيه الحجريَّتين واستُبدل بمِعلاق خشبي. يَستخدم طريقُ السيارات، الذي لا بد أنه يتلاقى مع النهر بعد ذلك في الجنوب، هذا الجسر. حسب كلام الروس الذين زارونا في مغور، فإن كلًّا من هذا الجسر والبرجَين قد شيَّدهم الإسكندر.
النهر المارُّ هنا هو نهر مرغاب، الذي يعلو منسوبه في سلسلة جبال هندوكوش ويتقلَّص لينتهي في الصحراء حول مرو. في هذا الموضع هنا كان تقريبًا بحجم نهر التيمز عند ويندسور، غير أن التيار كان أقوى، متدفقًا بين ضفافٍ عشبية منخفضة تصطف فيها قصباتٌ وشجيرات ملتفَّة الثمار الوردية. على الجانب الآخر، تناثرت مجموعات من خيام سوداء أعلى التلال السفحية الخضراء.
بعدما سِرْنا بخيولنا لأكثر من ثلاثين ميلًا، ولا تزال مرغاب تبعُد مسافة اثني عشر ميلًا أخرى، توقَّفنا لقضاء الليل في رِباط. كان الناس حمقى وغير ودودين؛ وكانت غرفتنا حجيرةً لا يدخلها الهواء وتعجُّ بالذباب، وهو ما دلَّ على أنه كان علينا أن نأتي خلال النهار، وكنا سعداء بالرحيل مبكرًا في الصباح، تاركين الوادي أخيرًا وخارجين إلى سهلٍ ذي زرعٍ تحيط به تلال سفحية عشبية مستديرة. كان الجو هنا أكثر حرارة. كان للعشب المقصوص على الطريق مَسحةٌ من لون بني بالفعل، وكانت الذُّرة منتصبة عاليًا، ومملوءة بالبيقيات الوردية. ومع ذلك كان رجال يحرثون الأرض على بعض التلال؛ ربما لمحصولٍ ثانٍ. كالعادة، بدت البلدة كالغابة من بعيد، ولكنها ذكَّرتني بمدينةِ سوق أيرلندية بمجرد دخولنا إليها. تقود الأبواب الأمامية مباشرةً من الشارع إلى منازلَ من طابق واحد، بحيث إنه بدلًا من الجدران الفارغة العادية والأفنية التي تتخللها، يلمح المرء الحياة بداخل هذه البيوت.
هذه هي بداية آسيا الوسطى. داهمَتنا محادثاتٌ باللغة التركية، يتلفَّظ بها رجال مُشعِرون بعيون طويلة ضيقة يرتدون عباءاتٍ مخطَّطة ومزركَشة بالورود. كان التركمان الذين يلبَسون القبَّعات الطويلة والأردية الحمراء يسيرون ذهابًا وإيابًا، وكان معظمهم فارًّا من الحدود الروسية، التي لا تبعد عن هنا سوى اثني عشر ميلًا. رأينا مجموعةً من النساء، جميعهن بثياب حمراء مختلفة الدرجات، وكنَّ جاثمات على طعامهن في فناء مفتوح، وكانت قبَّعاتهن الطويلة تتدلى أثناء تناولهن الطعام، فبَدَوْن كحوضٍ لزهور الغرنوقي وسويت ويليام. أدهشتنا أيضًا رؤية عديد من اليهود جالسين بغير اكتراث أمام متاجرهم.
أخذَنا رجُلنا المسلَّح إلى منزل الحاكم، الذي يوجد في حديقة مُسوَّرة بجوار النهر. وخارجها، على منحدرٍ أعلى المياه، تجثم قلعةٌ قديمة تحوي الآن ثُكنةً عسكريةً صغيرة. من هذه القلعة إلى الحديقة، تصطفُّ على الضِّفة أشجار التوت، التي يقضي تحتها أهلُ البلدة أوقات فراغهم في تبادل الحديث والقراءة والصلاة وتنظيف خيولهم ورعيها. انضم كريستوفر إليهم بجواده.
كان الحاكم يتناول طعامه، لكنه أمَر بأن نكون ضيفَيه؛ فحصلنا على غرفةٍ خلف مكتب سكرتيره. أخبرونا أنه يبلغ من العمر سبعين عامًا، وأن له لحيةً بيضاء طويلة، وأنه يحظى بحبٍّ جمٍّ من الناس لردعه اللصوص. كانت أصفاد بعض اللصوص تصلصل على الجانب الآخر من الحديقة، وبدَوا سعداء جدًّا. اتضح أنه يتمتع بمنصب خان بالوراثة، وربما يكون آخرَ ممثل لأولئك الحكام المستقلين الكثيرين الذين ذاع صيتهم بين نهر أوكسوس وسلسلة جبال هندوكوش حتى ثمانين عامًا مضت، حين ضم الأمير دوست محمد أملاكهم للدولة الأفغانية. أما ابنه، الذي يشبه وجهُه وجْهَ نبيل إسباني ويلبَس حذاءً مرتفع الساق، وبذلة رماية، ومعطفًا واقيًّا من المطر، وياقة بيضاء متصلبة، وعمامة مائلة على إحدى عينيه، فمن المؤكد أنه يمارس واجبات الضيافة كما لو كان وليَّ عهد. الأجواء بأكملها أجواء أبوية. لا ينفكُّ التركمان، والطاجيك، والأوزبك من كلا الجنسين يحضرون إلى ممشى الحديقة طلبًا للعدالة عند نافذة السكرتير.
أيضًا يتجوَّل في الحديقة كلب لابرادور ريتريفر أسود وآخر إسبانيل مشكوك في أمره، كلاهما تربَّى في روسيا.
كنت أقرأ لبروست طوال الأيام الثلاثة الماضية (وبدأت ألاحظ تسلل تفصيل جامح إلى يومياتي هذه). ذكَّرني وصفه لمدى افتتانه باسم «جيرمانتس» بافتتاني باسم «تركستان». بدأ الأمر في خريف عام ١٩٣١. كان الكساد في أوجه، وكانت أوروبا في غمٍّ لا يُحتمل، وكنت أتساءل عما إذا كانت الشيوعية هي الحل، وبدا أن السبيل الوحيد للفِرار هو فيلا في قاشغر حيث لا يصل البريد. راجعت مكتبة لندن، ومكتبة جمعية آسيا الوسطى، وكلية الدراسات الشرقية؛ غير أنه اتضح من الناحية المعمارية والتاريخية أن تركستان الروسية ستوفِّر لي أكثرَ مما ستوفِّره تركستان الصينية، لو لم تكن بهذا البُعد. تخليت عن فكرة الذهاب إلى قاشغر، وعقدت صداقةً مع سكرتير في السفارة الروسية، وجمعت أعضاء البعثة المحتملة، وذهبت إلى موسكو لطلب الإذن بالانطلاق. ولكن دون جدوى؛ إذ كانت تُلقى عليَّ في كل إدارة حُجةُ أنه عندما يُسمح للعلماء الروس، أو حتى لمتذوق شاي روسي واحد، بالذهاب إلى الهند، فلربما يُسمح لي عندئذٍ بالذهاب إلى بخارى. في عام ١٩٣٢ رجعت إلى الخطة الأصلية. شُكِّلَت مجموعةٌ أخرى، وطلبنا من مكتب الهند الإذن بالسفر على طريق جلجت إلى قاشغر. أُرسِل هذا الطلب إلى دلهي وبكين، بعد استجلاب معلومات إضافية حول نوع البيانات الموثوقة لدى سجلاتِ مكتب الهند فيما يتعلق بالأقران الذين يرغبون في زيارة الهند. ولكن قبل أن يتمكن المكتب من الرد علينا، سقطت الحكومة في قاشغر، واجتاحت الحرب الأهلية شِينْجيانْغ بأكملها، وأُغلِق طريق جلجت أمام المسافرين. وبذلك بقيت تركستان ثالثة، وهي تركستان الأفغانية. تشكَّلت بعثة أخرى للسفر إليها، ولكنها فضَّلت، في آخر لحظة، أن تُجري بحثًا حول خصائص احتراق الفحم. حاولت بنفسي، وفشلت، وحاولت مرةً أخرى، ولديَّ الآن آمال في النجاح. ولكن مع أننا عبرنا الحدود الإقليمية، فما زلنا لم نقطع سوى منتصف الطريق إلى مزار.
عندما تقابل بروست فعليًّا مع دوقة دي جيرمانتس التي كتب عنها، تحطَّمت الصورة التي كان قد رسمها لها؛ وكان عليه رسم صورة أخرى، تتناسب مع المرأة وليس مع الاسم. بينما تأكدت الصورة التي رسمتها للاسم الذي سحرني، بل تعزَّزت. في اليومين الماضيين، تحقَّقت كل مظاهر الحداثة والرومانسية الرعوية التي يوحي بها اسم تركستان؛ حيث نُقل بالفعل فصلٌ كامل من التاريخ من صفحته المطبوعة إلى مخيِّلتي. أعزو هذا التحقق لحظ اختيار ذلك الفصل من فصول العام. كانت ملامح مدام دي جيرمانتس هي ما خذل بروست. بلغنا تركستان في أوج ريعان أوائل الصيف.
توقَّفت ثلاث سيارات في حديقة الحاكم في مرغاب. إحداها كانت الجثة الهامدة لسيارة فورد كوبيه رمادية. والأخريان كانتا من طراز فوكسهول، وكانتا جديدتين ومقفلتين وباللون الأحمر الداكن، وغُطِّيتا بقماش مشمع عندما أمطرت. في الصباح الباكر بعد وصولنا، ركبَ الحاكم وابنه السيارتين الفوكسهول إلى ماروتشاك على الحدود الروسية. شاهدنا بأسًى محرك السيارة الفورد مُبعثَرًا فوق أحواض الخضراوات المحيطة، وطلبنا خيولًا لأنفسنا.
قال صبي فارسي يُدعى عباس، وهو يقتلع مبرِّد المحرك من إحدى الشجيرات: «يمكنني اصطحابكما إلى ميمنة إن وددتُما. سنتحرك في غضون ساعة.»
بدت لنا إمكانية السفر بهذه السيارة الخرقاء لأكثر من ميلين أو ثلاثة أميال من المائة ميل التي تفصلنا عن ميمنة أمرًا بعيدَ المنال، حتى إننا لم نأخذ أيًّا من الاحتياطات المعتادة قبل التحرك، ولم نجهِّز أي طعام، واستنكفنا أن نَعُد قِطع غيار السيارة، ولو حتى من باب المجاملة للسائق، بل بلغ بنا الأمر أن ارتدينا ما نَعُدهما أفضل بذلتين لدينا. وُضِعَت الأمتعة في الخلف، حيث وصلت إلى السقف. عندما صعدت أنا وكريستوفر إلى المقدمة، هبط الهيكل المعدني للسيارة بمقدار قدم، كما لو كنا نلعب دور الحَماة في فيلم كوميدي. كان عباس يلف قبضة ذراع التدوير. وفجأةً ارتفع ذراعه فوق رأسه، وانطلق ضجيج كضجيج متاجر الحدادين من المحرك الذي كان الآن مُجمَّعًا، وقفزت بنا السيارة عبر أحواض الأزهار في حديقة الحاكم، بينما أمسك عباس لتوِّه، في مطاردة سريعة، بعجلة القيادة في الوقت المناسب ليعطف بنا عبر البوابة. في الشارع الرئيسي، هرب الأهالي خوفًا، وفي غضون ثوانٍ، عبرنا البلدة وشققنا طريقنا عبر وادٍ مهجور. سقطت الأمتعة من النوافذ الخالية من الزجاج. أما المبرِّد، الذي أطلق نوافير المياه إلى عَنان السماء، فهبط أولًا على الأرض في المقدمة، ثم سقط للخلف فوق المحرِّك ليقع في شَرَك المِروحة، حتى ربطناه بحبل الدواب. أصبح صوت المحرك كارثيًّا، وأخذ يصلصل ويئزُّ دون إيقاع من أي نوع، حتى توقَّف تمامًا في النهاية، مع صوت قصف أخير يصمُّ الآذان، وابتسم لنا عباس بابتهاج، وعلا أساريرَه تعبيرٌ أشبه بقائد أوركسترا يضع عصاه بعد سيمفونية صفَّق لها الجمهور. أعلنت فرقعة مؤيِّدة صادرة من الإطار الخلفي الأيسر، مع أنها متأخرة، أن الإطار أيضًا بحاجة إلى الراحة في الوقت الحالي. كنا قد قطعنا عشرة أميال.
ولم يكن لدينا إطارٌ احتياطي. جمَّع عباس قصاصات من الغطاء الخارجي، وصنع منها كسوة مُرقَّعة، بينما وضعت أنا وكريستوفر أفضلَ بذلتين لدينا بعيدًا على العشب، ونحن لا نزال مصممين على أن القدَر سيَعتني بنا. كانت ظلال وقت العصر تمتد. بقيت مسألة إعادة المحرِّك للعمل. ولكن تحقَّق هذا بسرعة عن طريق بضع ضربات عشوائية بمِطرقة، كما يضرب المرء طفلًا، وقفزنا إلى السيارة في الوقت المناسب تمامًا. بدأنا الآن ندرك أن خطوات الكنغر التي كانت تسير بها سيارتنا، مع أنها لم تكن خطوات مريحة كانزلاق الشيفروليه القديمة، كانت تأخذنا على طريق لم يكن من الممكن على الإطلاق أن تتعامل معه السيارة الشيفروليه.
كان عرض الوادي الذي كنا نسلكه حوالي ميلين. وكان نهر، يجري بحذائه جهةَ الغرب، محصورًا في أخدودٍ ترابي. على كلا الجانبين ارتفعت تلالٌ ترابية، كانت معالمها الخضراء الضعيفة، التي صقلها الطقس وجعلها مستديرةً، تتمتَّع بلمعانٍ أشبهَ بلمعانِ جنبَي حصان، مع أنَّ تلك الموجودة في الغرب كانت منحدِرةً انحدارًا شديدًا نحو القاع حتى التقت بالوادي بجروف جرداء، كاشفةً عما تحتها؛ حيث لم يكن للغطاء الأخضر مكان. كان يغطي الوادي والتلال على حدٍّ سواء مرعًى ذو تموجات بلونٍ أخضر ذهبي، وكان من الكثافة بمكان حتى إنه كان يصعب علينا أن نصدِّق أنه لم يزرعه إنسان، وعندما وصلنا إلى حقول المحاصيل، بدت جرداء ونحيلة مقارنةً بالمرعى. هذه المنطقة الرائعة، التي لا يوجد فيها حصاة واحدة تعيق الحرث والبذر، كانت بالكاد مأهولة.
أيضًا لم تكن توجد حصاة واحدة تعضِّد الطريق. عندما غادرنا الوادي، منعطِفين من الشمال إلى الشمال الشرقي، كان ما يحدِّد الطريقَ مجرَّدُ خندقين حُفِرا لهذا الغرض، وهما يتعرَّجان لداخل قيعان التلال وخارجها. كان العشب، الذي بدا شديدَ النعومة من بعيد، مليئًا بالحُفَر والنتوءات، وكان كل نتوء يهدِّد بالقضاء علينا. لكن المسافة إلى ميمنة أخذت تقلُّ تدريجيًّا على نحوٍ غير ملحوظ، وكنا قد قطعنا حوالَي أربعين ميلًا عندما رأى عباس دِعامتين عشبيتين على الطريق، ومع أنَّ مصابيحه الأمامية كانت في حالة ممتازة فإنه اقترح أن نقضي الليلة هنا. وافقنا لشعورنا أننا خاطرنا اليوم بما فيه الكفاية.
قادنا مسارٌ فرعي من بين الدعامتين فوق عدة جسور محدَّبة إلى منزلٍ منعزِل وساحة تُطلُّ عليها أيكةٌ من أشجار الحَور. جاء صاحبها لاستقبالنا، وكان رجلًا متوسطَ الطول يرتدي ثوبًا أبيض وعمامةً بيضاء، وكان لابتسامته، التي أحاطتها لحيةٌ بنية داكنة مجعَّدة، براءةُ طفلٍ صغير. قادنا إلى غرفة مفروشة بالسجاد بها نافذة خشبية منزلقة، ومِدفأة، والعديد من الكتب القديمة في كوة فوق الباب؛ وكانت تفوح منها رائحة غرفة استقبال إنجليزية، تنبعث من إناء من أوراق ورد عطرية كانت تُجفَّف في كوة أخرى. دخل الأطفال مُترنِّحين وهم يحملون الأمتعة. وأحضر لنا آخرون الشاي بينما جلسنا على العشب بالخارج، نحدِّق إلى الظلال الأفعوانية الباردة بين التلال الخضراء المشوبة بلونٍ ذهبي، وترتفع فوقها القمم البنفسجية الفاتحة الوعرة للجانب الغربي لجبال هندوكوش.
بحلول وقت طعام العشاء، كان الخيَّالة يَصِلون من القرى المجاورة لعلاج أمراضهم. كان أحدهم يعاني الحمَّى، وآخر قروحًا في أنفه، التي كانت قد قُطِعَت تطبيقًا لعقوبةٍ ما، وعانى آخر صداعًا وقيئًا في الصباح، وكان آخر يعاني مرضًا جلديًّا متفشِّيًا في سائر أنحاء ظهره، كان قد استمر لمدة عام وبدا كالزهري، ولكن ما الذي يمكننا أن نفعل له؟ وزَّعنا عليهم كلَّ ما كان معنا من أسبرين وكينين ومراهم، ثم عمدنا إلى تقمُّص دور الطبيب المشعوذ المتسم بالغموض، قائلين إن الأدوية لن تجدي نفعًا، على الأقل في حالة القروح، ما لم تكن مصحوبةً باغتسال متكرِّر في الماء المغلي، أجل «المغلي»، هكذا همسنا قائلين كما لو كنا نَصِفُ علاجًا بكبد ضفدع. هذا الصباح أتى المزيد منهم.
ذهبت في نزهةٍ على الأقدام بعد الإفطار في أيكة الحَور. كانت العصافير تغرِّد في الأفرع العلوية. وبالأسفل، كانت الأكمة مظلَّلة ورطِبة، وتفوح منها رائحةُ غابة إنجليزية؛ مما أصابني بنخزة حنين إلى الوطن. ثم اصطحبَنا مضيِّفنا لرؤية حديقته المُسوَّرة، وقد كانت كرمة عنب لها برجُ مراقبة في المنتصف حيث يجلس للاستمتاع بالمنظر ورؤية القادمين. في أحد الأركان كانت وَهدةٌ شديدةُ الرطوبة تحوي مجموعةً متشابكة من الورود القرمزية الكبيرة، قطف منها حَفنة لكل واحد منا.
سألنا عمَّا إذا كان بوسعنا أن ندفع مقابل إقامتنا، أو على الأقل مقابل الطعام الذي تناولناه. قال: «كلا، لا يمكنكما ذلك. بيتي ليس متجرًا. عِلاوةً على ذلك، فقد أعطيتما الناس ما معكما من عقاقير.»
أوضح عباس أثناء مغادرتنا بالسيارة قائلًا: «إنه رجل تقيٌّ يستقبل جميع المسافرين على هذا الطريق. ولذلك يضع هذه الأشياء» — مشيرًا إلى دعامات العشب — «حتى يعرفوا أن منزله هناك. اسم المكان هو كاريز.»
كانت تفوح من السيارة رائحة الورود عندما عبرنا الحدود إلى تركستان.
كان الطريق الآن قد أصبح طريقًا محفورًا مرةً أخرى، لكننا صادفنا عقباتٍ مرعبةً في مساره عبر التلال. عبرنا قاعَي نهرَين بعرض ثلاثمائة ياردة، ونحن نلعب لعبة الكراسي الموسيقية مع الجلاميد؛ وكان المُنزلَق من الجلمود الأول شديدَ الانحدار حتى إن السيارة عادت للخلف في الماء بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة. في كل طريق محفور كانت الأمطار قد صنعت شقوقًا كبيرة في سطح الأرض اللين. في النهاية، انتقلنا إلى طريق الخيل القديم، الذي لم يتدخَّل فيه المهندسون بأعمال الصرف. وبدلًا من ذلك، كان الطريق قد جهَّز لنا شَركًا من حفرةٍ عادية، قفزت فيها السيارة الفورد وخرجت منها مِثلَ كرة تنس.
قبل اثني عشر ميلًا من ميمنة، توقَّفنا عند بِركة ومجموعة من الأشجار في سهل بخاری قلعة لمشاهدة قتال بين طيور الحَجَل. شكَّل المتفرِّجون حلقةً، وحُرِّرَت الطيور من قِبابها المصنوعة من الخيزران، لكن أحدها فرَّ بعد بضع دقائق، وبعدما جرى مسرعًا من بين أقدامنا، هرب إلى المساحة الخضراء وجميعنا في إثره. كان الطريق أكثر ازدحامًا في ذلك الحين. وكان معظم المسافرين يمتطون خيولًا من نوعية خيول الصيد الصغيرة الحجم، كما لو كانت السلالات الصينية والعربية قد اجتمعت هنا؛ وبعمائمهم ذات الألوان الزاهية، ولحاهم المتدلية، وأرديتهم المزيَّنة بنقوش الزهور، والسجاجيد الملفوفة خلفهم، كان يمكن أن يكونوا قد خرجوا من لوحة من الحِقبة التيمورية، لولا البنادق المعلَّقة على ظهورهم. كانت ثَمَّة حيوانات أيضًا؛ العديد من الثعابين والسلاحف، وطيور القيق الهندية البراقة بقدرِ طيور الرفراف التي كانت تبرز من الثقوب أثناء مرورنا، ونوع من السناجب الأرضية ذو لون برتقالي فاتح، والذي كان ذيله البدائي ذو الشعيرات، الذي لا يتجاوز طوله البوصتين، السِّمةَ الطبيعية المقترنة بمنطقةٍ بلا غابات. كانت المزروعات على التلال بالقرب من ميمنة أكثر كثافة، ولاحظنا أنه بقدرِ ما وصل الحرث، غالبًا إلى قمة كل جرف أخضر، ظهرت نباتات الخشخاش، حتى إن اللون القرمزي على القمم كان متناثرًا وسط اللون الأخضر الذهبي.
كان حاكم ميمنة قد ذهب إلى أندخوي، لكن نائبه، بعد أن أنعشنا بالشاي والحلوى الروسية والفستق واللوز، اصطحبنا إلى نُزلٍ للقوافل مجاورٍ للبازار الرئيسي، وهو مكان قديم، شبيه بالأبنية في توسكاني، محاط بأقواس خشبية؛ حيث حصل كلٌّ منا على غرفة، والكثير من السجاجيد، وأحواض نحاسية للاغتسال، وخادم ملتحٍ ينتعل حذاءً برقبةٍ عالية وكعب عالٍ، خلع عنه بندقيته كي يساعدنا في الطهي.
سيكون عشاءً مميزًا. غمرَنا شعور بالرفاهية في هذه الأرض السخية. وصلَت للتو من البازار أباريقُ حليب، وصحون بيلاو بالزبيب، وكباب في أسياخ متبَّل جيدًا بالملح والفلفل الأسود، ومربى برقوق، وخبز طازج، وأضفنا إلى ذلك بعض الأطعمة الشهية الخاصة بنا، من حساء جاهز، وكاتشب الطماطم، وبرقوق مجفَّف منقوع في النبيذ، والشوكولاتة، ومشروب أوفالتين. ويوجد ما يكفي من الويسكي. غير أن المكتبة للأسف تقتصر على الكلاسيكيات، وأنا الآن أقرأ ترجمة كراولي لثوقيديدس، بينما عاد كريستوفر لقراءة كتاب بوزويل الممزق.
لدينا أيضًا عملٌ للسير توماس هولديتش بعنوان «بوابات الهند»، الذي يقدِّم ملخَّصًا للاستكشاف الأفغاني حتى عام ١٩١٠، ويصف رحلة موركروفت، الذي توفِّي في أندخوي عام ١٨٢٥. في هذا الكتاب أجد، في الصفحة ٤٤٠: «استُعيدت كتب موركروفت (ثلاثون مجلدًا)، وستفاجئ قائمة هذه المجلدات أيَّ مسافر معاصر يؤمن بما خفَّ حملُه وسَهُل استخدامه من المعدات.» ما يفاجئني أنا هو أنه أخذًا في الاعتبار أنه كان مسافرًا لمدة خمس سنوات، فإن ما كتبه كان من المفترَض أن يكون قليلًا للغاية. ما خفَّ حملُه وسَهُل استخدامه! أعرف هؤلاء الرحَّالين الجدد، هؤلاء الأشبه بعريفي الصف مفرِطي النمو والمملون من المهتمين بالعلوم الزائفة، الذين تبعثهم تجمُّعات من مسئولين عفا عليهم الزمن لمعرفةِ ما إذا كانت الكثبان الرملية تُغنِّي وما إذا كان الثلج باردًا. يدعمهم نفوذ رسمي من كل نوع بأموالٍ غيرِ محدودة، ويتوغَّلون في أبعد خبايا الكرة الأرضية، وبعيدًا عن التأكد من أن الكثبان الرملية تغني وأن الثلج بارد، ما الذي يرصدونه لزيادة الوعي البشري؟
لا شيء.
هل من مفاجأة في الأمر؟ يُعتنى بصحتهم البدنية، ويحصلون على تدريب، ويلتزمون بالقواعد للمحافظة على قوَّتهم، ويُحمَّلون بالكثير من العقاقير لاستعادة قواهم عندما تنهار نتيجة عملية شحذها. ولكن لا أحد يفكِّر في صحتهم العقلية، وفي أهميتها المحتملة على رحلة من المفترَض أن تشتمل على ملاحظات. تحتوي مُعَدَّاتهم الخفيفة والسهلة الاستخدام على طعامٍ يكفي قاطني ناطحة سحاب، وأدوات صالحة لاستخدام سفينة حربية، وأسلحة كفيلة بتجهيز جيش بأكمله. ولكن يجب ألا تحتوي على كتاب. ليتني كنت غنيًّا بما يكفي كي أمنح جائزة للرحَّالة المتعقل؛ ١٠ آلاف جنيه إسترليني لأول رجل يجتاز طريق ماركو بولو الخارجي، ويقرأ ثلاثة كتب جديدة أسبوعيًّا، و١٠ آلاف جنيه إسترليني أخرى إذا شرب أيضًا زجاجة نبيذ يوميًّا. قد يخبرنا ذلك الرجل شيئًا عن رحلته. قد يكون قوي الملاحظة بطبيعته وقد لا يكون كذلك. ولكنه على الأقل سيستخدم عينيه، ولن يفكِّر في أنه من الضروري أن يُزيِّن نتيجةَ ملاحظاته بحوادثَ مثيرةٍ لم تقع، وعِلم لا يتعدَّى كونه رطانة بمصطلحات غامضة.
ما أعنيه هو أنه لو كان معي المزيد من الروايات البوليسية بدلًا من كتب ثوقيديدس وبعض زجاجات الكلاريت بدلًا من الويسكي الفاتر، لكنت على الأرجح استقررت هنا إلى الأبد.
لا تتميز البلدة بسمة معمارية. المَعلَم الوحيد بها هو قلعة خَرِبة. ترتفع بداخلها ربوة، كانت عليها مبانٍ، حسبما تدُل كومات القِرْميد، ولكن الآن يشغلها قبر مقدَّس منعزل.
في خارج المدينة؛ حيث نهاية البازار، يوجد مرج رَحبٌ بما يكفي لأن يصلح ملعبَ كريكت إنجليزيًّا، أمام أفق من أشجار الحَور. كلَّ مساء تعزِف هنا فرقةٌ نحاسية أمام فيلا رئيس الأركان، وهي نُزل طيني من طابق واحد يطوِّقه سياج من الورود. في صالات الشاي بالقرب من الطريق، ينقر شخصٌ ما على أوتار جيتار؛ فيضع الرجال كئوسهم ويتمتمون بأغنيةٍ حزينة. يُدير جدولُ ماء بجوارهم طاحونةً صغيرة، وتجمَّع سربٌ من الحمام الأبيض على ضِفته أسفل شجرة دُلْب. تبدأ الفرقة في العزف مرةً أخرى من بعيد.
يتسكَّع رجال بورود في أفواههم عبْر العشب لمشاهدة مباريات المصارعة. يرتدي كل مصارع قلنسوةً ضيقة مستدقَّة الطرف ويحتفظ بعباءته الطويلة، لكنها مربوطة من حول الخَصر بوشاح أحمر، يتيح للمصارع الآخر أن يُمسكه منه. قبل أن تتحدَّد المباراة، يُعلَن عن مصارعة لطيور الحَجَل، وانفكَّت الحلقة لتتشكَّل ثانيةً حول الطائرَين. هرب أحد الطائرين في النهاية، ورفع جميعُ الحاضرين، صِبية وكهول على حدٍّ سواء، ثيابَهم فوق رُكَبهم، وتفرَّقوا في مطاردة جنونية.
أمام ظلمة عاصفة قادمة، يضيء الغروب البرتقالي الباهت الجبالَ الترابية الخضراء، وأشجار الحَور المتمايلة التي يكسوها النسيم بخيالٍ مفضَّض، والملابس المتعددة الألوان لجماهير المباراة.
من أجل السفر، يرتدي صديقنا «القط ذو الحذاء» قبعةً بنيةً من جلد الحَمَل، وسترةً مشقوقة الذيل بحزام أسود، وسروالًا قصيرًا من الخامة نفسِها ترك سحَّابه مفتوحًا؛ ويوجد سروال آخر تحته، ولكن الانطباع يستحوذ على الذهن. اسمه غابور.
من هِرات إلى ميمنة، نسافر في الأساس في اتجاه الشمال الشرقي. عند الوصول إلى ميمنة، انعطفنا جهةَ الشمال إلى وادٍ كوُديانِ مرتفعاتِ ويلتشير؛ حيث تصطفُّ القرى متتاليةً قريبةً بعضها من بعض على امتداد نهر صغير لا اسم له يتعرَّج بين البساتين والحقول؛ والبساتين هنا هي بساتين توت ومشمش، والحقول مزروعة بأزهار الكتان ذات اللون الأزرق الباهت. بعد فيض آباد، وهي أكبر القرى، أصبحت التلال أقلَّ ارتفاعًا، وصارت الأرض جدباء، والهواء أكثرَ دفئًا؛ وبدأنا ننزلق في الرمال. ظهر أفقٌ مسطَّح، ولفحَنا نسيمٌ ساخن خبيث، وصارت السماء بلون الرصاص. كنا قد وصلنا إلى سهل نهر أوكسوس، وشعرنا بوجود النهر على بُعد خمسين ميلًا كما يشعر المرء بوجود البحر قبل رؤيته. وفي النهاية، أبصرنا ربوةً مسطَّحة القمة، كان يجثم فوقها منزلٌ قبيح من طابق واحد من القِرْميد أعلى سُلَّم منحدِر تحرسه أسودٌ صفراء من الجص. هنا وجدنا حاكم ميمنة، وهو رجل ضخم البنية يضع نظارة، وله لحية سوداء صغيرة وصوت أنثوي، وقدَّمَنا له خطابًا من شير أحمد.
أندخوي هي مركز تجارة جلود الحُملان. عند المستودع في البازار، الذي كان أيضًا ممتلئًا عن آخره بالنفط الروسي والدِّلاء الحديدية المجلفَنة، شاهدنا الجلود وهي تُعالَج بمحلول من الشعير والملح، وتُبسط فوق الأسقف لتجفَّ، وتُكوَّم في بالاتٍ لحزْمها. قال المدير إن اليهود قد رُحِّلوا من هنا إلى هِرات كي لا تظل التجارة في أيدي «الأجانب». وأضاف أن معظم القطعان كان يمتلكها التركمان. كانت جلود أندخوي هي أفضل الجلود، وتُدانيها جلود آقجة جودةً، أما جلود مزار؛ حيث تتأخر النِّعاج في الولادة ثلاثة أو أربعة أسابيع، فليست جيدة جدًّا. كل عام كان يرسل لاكًا (٧٥٠٠) من الجلود إلى لندن.
سأله كريستوفر عما إذا كان بإمكانه شراء بعض الجلود. جلود جيدة، بالطبع. قال الرجل، مُخرِجًا قطعةً من الفرو لا تكفي إلا لصناعة زوج من الأكمام لدمية: «هذه الجودة تكلِّف ٧٠ أفغانيًّا (ما يعادل جنيهًا إسترلينيًّا واحدًا و١٥ شلنًا). أفضل جودة، تصلح لصنع قبعة جيدة، قيمتها ١٠٠. ولكننا لا نحصل على كثير منها.»
إنه مساء يوم الجمعة، والناس يستمتعون بالعطلة بالجلوس إلى الطاولات أسفل أيكة التوت خارج البازار. أنا جالس بينهم أكتب، وأشرب الويسكي بالثلج، وأنتظر صحنًا من البيلاو.
خرجنا من أندخوي بحلول الخامسة فجرًا. وعندما لمحنا قطيعًا من الغنم عند طلوع الشمس، تخطَّينا الشاحنة ومشينا تجاهه فوق المرعى الهشِّ الشحيح الذي يموِّج أصواف الغنم. كان الراعي من الأوزبك، وتجنَّب التعامل معنا في البداية؛ ظنًّا منه أننا من الروس. اعتذر عن سوء تصرُّفه فيما بعدُ موضِّحًا أنه منذ ثلاث سنوات سرقَ الروس ستين ألفًا من أفضل الأغنام؛ مما جعلنا نتساءل عما إذا كان اليهود السيِّئو السمعة قد شاركوا في معاملة من هذا النوع. تألَّف قطيعه من سلالتين؛ الكاراكول الذي يُستخرج منه أفضل الفِراء، والسلالة العربية، وقد أوضح لنا كيفية التمييز بينهما من خلال الذيل، ممسِكًا بكبش من إحدى السلالتين وبنعجة من الأخرى. كلاهما له ذيل سمين، ولكن بينما ذيل العربي مستدير أو أشبه بالكُلْية، تتدلَّى من ذيل الكاراكول قطعة من المنتصَف.
عندما سِرْنا أبعدَ من ذلك، وجدنا مخيمًا تركمانيًّا. كان الرجال بالخارج، ولكن الكلاب هاجمَتنا، ولأن النساء ما كنَّ ليصرفنها فقد استلزم الأمر عشرين دقيقة من الحَزْم المدروس لجعل الوحوش المزمجِرة تتراجع. خرجَت لتحيَّتنا عجوزان شمطاوان، على ما يبدو أنهما أرملتان، ومع أنهما كانتا ترتديان أرديةً قبيحة فضفاضة من الخيش الأزرق الرمادي، فإنهما احتفظتا بغطاء الرأس الطويل. كانت النساء الأصغر، اللواتي ظلِلنَ مبتعِدات، عبارةً عن منظر جميل يتحرَّك هنا وهناك وسط خلايا النحل السوداء، وهن يمسحن الأرض بدثائر باللونين الوردي والأبيض، ويُبْدين أمارات الاحتشام خلف أخمرة طويلة باللون الأصفر الزعفراني الغني تتدلى من قبعاتهن الوردية الطويلة. تأخذ هذه الأخمرة عادةً شكلَ المعاطف. مررنا ببعض النساء في وقتٍ لاحق من اليوم، وكنَّ لا يزلن يرتدين ثيابًا حمراء، وكانت وجوههن تحيط بها معاطف باللون الأزرق الغني لورود الذرة ومطرَّزة بالزهور.
اقتربت من أمٍّ وطفلين. ففرُّوا إلى خيمة كيبيتكا، وتوجَّهتُ إلى امرأةٍ أصغر سنًّا ذات حمل هائل كانت تضمُّ طفلًا رضيعًا. وضعَته خلفَ حاجز من أغصان متداخِلة، وأمسكت بعصًا طويلة، وأعادت رسم دائرة على التراب أمامها، واقتربت مني مِثل فارس من العصور الوسطى. كان وجهُها مقطِّبًا من الغضب، وكان ثَمَّة شيء في نبرة صيحاتها الشاجِبة جعلني متأذيًا، كما لو كنت أستغل بخِسَّةٍ غيابَ رجلها. ضحكت العجوزان الشمطاوان على المشهد. غير أن حارسنا، الذي كان حارسًا جديدًا انضم لنا في أندخوي، شعر بالخزي، وقال إن هذه هي أفغانستان. كان يرتدي معطفَ مطر غربيًّا من طرازٍ راقٍ، وكان دائمًا ما يستنشق شيئًا من قَرْعة ذات فوَّهة فضية وبغطائها ياقوتة.
كانت إحدى خيمات الكيبيتكا فارغة، ربما كانت دار ضيافة، واستطعنا تفقُّدها دون أن نشعر بالخطر. كان يوجد سفل من تعريشة بالداخل، وآخر من حصير من الأغصان بالخارج، يحيطان بالجزء السفلي من القبَّة السوداء المصنوعة من اللباد. امتد هذا اللباد فوق إطار من الخشب المحدَّب، والذي كان متصلًا، عند القمة، بنوع من السلال الدائرية المفتوحة على السماء، والتي تُستخدم كمدخنة. تحت السلة، عُلِّق إكليل من الشراشيب السوداء. يُفتَح باب ذو ضلفتين من إطار خشبي ضخم، وكان على كلٍّ منهما نقوش طفيفة. كان يوجد لباد على الأرض، وتألَّف الأثاث من خزانات ذات نقوش ورسومات. لم يكن الجو العام حقيرًا أو وحشيًّا على الإطلاق. أثناء مغادرتنا، رأينا إحدى خيمات الكيبيتكا تُفكَّك. كانت دعامات الإطار تشبه مجموعةً من الزلَّاجات الرفيعة عند طيها. لكن قمَّة السلة، التي كانت في حجم عجلة عربة، ترنَّحت في غير استقرار فوق سَنام الجمل.
كان يومًا مشئومًا وخانقًا وبطيئًا، بدت أوكسيانا كالهند في افتقارها للألوان وفي ضواحيها. أغرتنا رقعة خضراء من مراعٍ في خواجة دوکوه بالتوقف مرةً أخرى، لمشاهدة قطيع من الفرسات التي تُربى للتناسل وأمهارها الصغيرة، ووسطها كان يثب فحلٌ عجوز هزيل طوله ستة عشر شِبرًا، وهو ما يُعد طولًا كبيرًا في هذه المناطق. قال كريستوفر إن مجموعة من الأطفال ذوي المظهر الرَّث الجالسين على أحد الجدران يُذكِّرونه بالزبائن في قرية سليدمير. وصلنا بعد ذلك إلى شبرجان، وهو مكان خَرِب تُطِل عليه قلعة، ومنه يمضي طريق جنوبًا إلى سربل. لاحظ فيرير بالقرب من سربل نقشًا صخريًّا ساسانيًّا. هكذا يقول. ولكننا لم نستطِع أن نسمع أي تأكيد على وجوده بين ميمنة وأندخوي، وهو شخص غير موثوق للغاية بحيث لا يمكن أن نذهب بحثًا عن ذلك النقش دون تأكيد.
كانت أقجة أكثرَ ازدهارًا. رأينا عربة للمثلجات أسفل جدران القلعة، وضع لنا صاحبها طاولة في الشاحنة لتناول الغداء عليها، وأحضر دلوًا من الثلج لتبريد مشروباتنا.
بعد أقجة، تغيَّر لون الطبيعة من لون الرصاص إلى لون الألومنيوم، فصار باهتًا وشاحبًا كشحوب الموت، كما لو أن الشمس قد ظلت تسحب بهجتها لآلاف وآلاف من السنين؛ وهذا لأننا كنا في ذلك الوقت في سهل بَلْخ، ويُقال إن بَلْخ هي أقدم مدينة في العالم. كادت تكتلات الأشجار الخضراء، ذات خُصل العشب المقطوعة قطعًا خشنًا والتي تأخذ شكل النافورة، تبدو سوداء على هذه الخلفية المُقبضة. رأينا بين الحين والآخر حقلًا للشعير، وقد كان ناضجًا، وكان التركمان، العراة إلى الخَصر، يجُزُّونه بالمناجل. غير أنه لم يكن بُنيًّا أو ذهبيًّا؛ وهو ما يُذكِّرنا بسيرس، إلهة الوفرة. يبدو أنه قد صار أبيضَ مبكِّرًا، كشعر رجل مجنون، لفقدانه التغذية. ومن هذه الأكفان المترامية الأطراف، أولًا على شمال الطريق ثم على جنوبه، ارتفعت الأشكال الرمادية البيضاء المتآكلة لمعمار مهجور في تلال مجعَّدة وشاحبة بفعل الأمطار والشمس، في حالة متهالكة أكثر من أي بناء بشري رأيته في حياتي؛ هرم معوج، ومنصة مستدقة، وكومة من الشرفات المفرجة، وتمثال لوحش جاثم، جميعها أشياء عرفها الإغريق البختريون، وماركو بولو من بعدهم. لا بد أنها زالت. ولكن انعكاس أشعة الشمس ذاته قد نفخ الروح في فخارها الشاحب، مبقيًا على بعض من بريق أشكالها الذي لا ينطفئ، بريق لا يمتلكه سد روماني أو تلة ينمو عليها العشب، لا يزال وامضًا في وجه عالمٍ يفوقه سطوعًا، مُتعَبًا كمن أنهكته محاولة انتحار فاشلة.
ومع ذلك، فقد أصبحت المنطقة رويدًا رويدًا أكثرَ خضرة، وكست المراعي الأرض العنيدة، وتضاعفت الأشجار، وانبثق فجأةً صفٌّ من جدران بالية وواهنة من الأرض، واحتل الأفق. بمرورنا داخلها، وجدنا أنفسنا وسط حاضرة شاسعة من الأطلال الممتدة بعيدًا إلى الشمال، بينما على جنوب الطريق، كانت البساتين المشرقة، من أشجار توت وحور ودُلْب منفردةً مهيبةً، قرةً للعين بعدما أثخنتها العتاقة الموحشة للمشهد السالف. كنا واقفين في بَلْخ نفسها، أم المدن.
علَّق حارسنا، مطالعًا الآثار التي تُرِك معظمها على هذه الحالة على يد جنكيز خان، قائلًا: «لقد كان مكانًا بديعًا حتى دمَّره البلاشفة منذ ثماني سنوات.»
قادنا التقدُّم مسافة نصف ميل إلى القلب المأهول للمكان؛ حيث بازار، ومتاجر، وسرايات، وتقاطعات طرق. بعدما خرجنا من بين الأشجار صوبَ الجنوب، ظهرت قبَّة مُخدَّدة طويلة بلون أزرق غامق على خلفية الخضار الداكن والعبوس الرمادي لعاصفة تهبُّ على جبال هندوكوش. مشينا إلى هذا المبنى، بينما ذهب السائق يبحث عن غرف للإقامة، وما أثار دهشتَنا عندما خرجنا من الخلف رؤيةُ صاحبنا حاكم ميمنة وسط ساحة مفتوحة. بالقرب منه وقف فرانك، الذي دلَّ رأسه الشبيه بحبة البازلاء على أنه ألماني. انتظمت فرقة من أربعة جنود على جانب، وكانت عُصبة من الضباط والسكرتارية قد تجمَّعت على الجانب الآخر. وبينهما، أمام خيمة تمتد أمامها بُسُط، كان الألماني يشرح تضاريس المكان لرجلٍ مبجَّل يعتمر قبعةً من الفرو، وله لحية سوداء مشذبة بعناية، ويرتدي قميصَ كريكت مفتوحًا، ويضع ثلاثة من أقلام الحبر السائل في جيب صدره.
كان هذا الرجل، الذي قدِمنا إليه حاكم ميمنة، هو محمد جُل خان، وزير الداخلية التركستاني. وكان قد جاء بالسيارة من مزار لتفقُّد إعادة بناء المدينة. كانت توجد أوتاد في الأرض، وقد أُعدَّت بالفعل مساحة بين واجهة الضريح المقبَّب والقوس المهدمة لمدرسةٍ مقابلة له. أخبرنا الألماني أنه قضى ثلاث سنوات في أفغانستان، منها ستة أشهر في مزار؛ حيث كان يعمل قائمًا بجميع أعمال الجسور، والقنوات، والطرق، والبناء بوجه عام.
كانت العاصفة تقترب. ركب محمد جُل سيارته وغادر بعد أن تمنَّى لنا ألا تتغلب علينا مصاعب الطريق. جعلَنا ذِكرُه لفندق في مزار، حيث توقَّع أن نلقى راحةً هناك، نقرِّر أن نتبعه بدلًا من أن نتوقف في بَلْخ. كان ذلك يعني أن نقطع مسافة خمسة عشر ميلًا أخرى. حل الفيضان والظلام عندما وصلنا للعاصمة.
سألْنا بكلمات فارسية بسيطة: «أين دار الضيافة؟»
«إنها ليست دار ضيافة. إنه «فندق». من هذا الطريق.»
إنه كذلك بالفعل. ففي كل غرفة نوم يوجد سرير بهيكل من حديد ومرتبة بزنبرك، ومُرفَق بالغرفة حمَّام مُبلَّط؛ حيث غمرنا أنفسنا بالماء من دلوٍ وجفَّفنا أقدامنا في حصيرةٍ مكتوب عليها «حصيرة الحمَّام». غرفة الطعام مفروشة بطاولة فنادق طويلة، وعليها أدوات المائدة من نوع شفيلد وآنية لغسل الأصابع. الطعام المقدَّم هو طعام فارسي أفغاني إنجليزي هندي في أسوأ جودة لكلٍّ من هذه المطابخ. تُغلَق أبواب دورة المياه من الخارج فقط. كنت على وشْك أن أخبِر المديرَ بهذا الأمر، لكن كريستوفر قال إنها تروق له ولا يرغب في تغييرها.
دفعنا ٧ شلنات و٦ بنسات في اليوم، وهو سعر ليس ببخس بالمعايير المحلية. بالنظر إلى حماس الموظفين، لا بد أننا أول ضيفين يحلان بالمكان.
في زمن السلطان سنجر، الذي حكم في النصف الأول من القرن الثاني عشر، وصلَت إلى بَلْخ رواية من الهند مفادُها أن حضرة علي، رابع الخلفاء، مدفون في الجوار. أنكر ذلك أحدُ ملالي المكان، الذي اعتقد، كحال معظم الشيعة حتى الآن، أنه دُفن في النجف بشبه الجزيرة العربية. حينئذٍ ظهر علي بنفسه للملا في المنام وأكَّد الرواية. عُثِر على القبر، وأمر السلطان سنجر بأن يُشيَّد فوقه ضريح، والذي انتهى بناؤه سنة ١١٣٦ وأصبح نواة المدينة الحالية.
هدم جنكيز خان هذا الضريح. في سنة ١٤٨١، حلَّ محلَّه ضريح آخر بطلب من حسين بايقرا، الذي كان في حملة في أوكسيانا قبل ذلك بعام. منذ ذلك الحين أصبحت مزار شريف مكانًا للحج، وتدريجيًّا أقصت أطلالَ بَلْخ المتضررة من كونها المدينة الرئيسية للإقليم، كما أقصت مشهدُ، بالنهج نفسِه، طوسَ في خراسان.
لا يوجد الكثير الذي يمكن رؤيته في مبنى حسين بايقرا من الخارج، مع أنَّ قبتَيه الضحلتين، الشاهدتين على وجود حرمٍ داخلي وآخرَ خارجي، توحيان بأن المخطَّط كان منسوخًا من مصلَّى جوهر شاد. أُعيد تبليط الجدران الخارجية بالكامل في القرن الماضي بفسيفساء هندسية غير مصقولة، بالألون الأبيض والأزرق الفاتح والأسود. وحتى منذ كان نيدرماير هنا، جرت إضافات؛ إذ لا تظهر في صورته الفوتوغرافية الدرابزينات الإيطالية من الفخَّار الفيروزي اللون على طول الحواجز الرئيسية. ومع ذلك، فالمجموعة بأكملها ليست سيئة؛ حيث يمكن وصفها بأنها خليط بين كنيسة سان ماركو في فينيسيا ومنزل ريفي إليزابيثي مُنفَّذ بخزف الفاينس الأزرق.
خارج الضريح الكبير، توجد أطلال ضريحين أصغر منه. انهارت قبَّتاهما، ولكن احتفظ كلٌّ منهما بألواح من الفسيفساء حول طبلة القبَّة، وهي ألواح قبيحة من ناحية اللون بسبب لون المُغْرة الفاقع الضارب إلى اللون الوردي. ومثْل الضريح الذي في هِرات، يحتوي الضريح الذي في الشرق على قبَّة داخلية، وهي هيكل وسيط غير مرتفع يستقر على جدار دهليز داخل الطبلة. أعلى هذا، لا يزال يمكن رؤية دعامات القِرْميد المنحنية التي كانت تدعم القبَّة العليا حينما كانت ترتفع من خارج الطبلة.
وكما في مشهد، أُزيلت المنازل حول الضريح حتى يمكن رؤيته من بعيد مُكملًا المشهد لعدة شوارع. في الواقع كانت المدينة كلها قد تأنَّقت مؤخرًا. البازارات جديدة ومُبيَّضة، وتستند أسقفها على أوتاد تسمح بنفاذ الضوء والهواء من أسفلها. في المدينة الجديدة، حيث يوجد الفندق ومكاتب الحاكم، تَحُد الطرقَ مزاريبُ أنيقةٌ من القِرْميد. حركة المرور موزَّعة بين الحنطور الهندي ذي المظلة، وعربة الدروشكي الروسية بنيرها الخشبي المرتفع فوق عنق الحصان. بعد مرغاب وميمنة، شعرنا باستعادة الصلة مع العالم الخارجي، وتمنَّينا لو بقينا مدةً أطول في تلك الأماكن. ومع ذلك، فسيكون من الجفاء ألا أعترف بأن المدينة كانت أبهى بفضل هذه التحسينات. إننا نستمتع حقًّا بإقامتنا في الفندق.
يبدو أنه توجد اعتراضات على زيارتنا لنهر أوكسوس. كان كلٌّ من الحاكم ومدير الخارجية قد سافرا إلى هيباك، وكان علينا أن نتعامل مع نائب الأخير، وهو شابٌّ مختال غِرٌّ تلقَّى اقتراحاتنا بتكبُّر. ولكن من الواضح أنه لا يملك سلطة اتخاذ قرار في الأمر. لا بد أن نطلب مساعدة «الفزير» (بالفاء الفارسية)، كما يُطلق على محمد جُل.
عصر كلَّ يوم، عندما تتجمَّع السُّحب فوق الجبال، يحل علينا كسلٌ لا يُقاوم. يملأ الغرفةَ الذباب والحرارة الشديدة الرطوبة. وتُحوِّل نقنقةُ طيور الحَجَل أحلامي إلى عصر يوم من أيام شهر سبتمبر في الوطن، حتى أتذكَّر أنها تنتظر أن تخوض قتالًا. ما السبب في تكوُّن تلك السُّحب؟ الطقس الشديد الحرارة بما فيه الكفاية، ولكن كان من المفترَض أن بداية الصيف كانت منذ ستة أسابيع. لم يشهد أحد عامًا كهذا من قبل. أغلقت الأمطارُ التي سقطت ليلة وصولنا الطريقَ إلى كابل لمدة شهر؛ وسقطت قرية بأكملها في الوادي العميق الضيق عند هيباك. إذا تابعنا المضي بحصانَينا من هنا، كما قد يقتضي الأمر، فسيكون علينا التخييم، وبصرف النظر عن ضرورة صنْع شبكتين للبعوض، فقد كنا أكسلَ من أن ننظر في أمر اللوازم. توفير المياه هو الصعوبة الكبرى في رحلة كهذه؛ لأن المصابين بالزهري في الحلق، وهم كُثُر، ميَّالون إلى البصق في الآبار.
ثُبِّطت أكثرَ آمالُنا في بلوغ نهر أوكسوس.
يتصرَّف منتظِم الفندق، وهو رجل مسن بدينٌ وبغيض، كما لو أنه سجَّاننا. هذا الصباح تبِعَنا عندما كنا ذاهبين محتجًّا إلى مكتب محمد جُل؛ حيث علمنا أن «الفزير» لن يستيقظ حتى الساعة الحادية عشرة. في الحادية عشرة، تبِعنا مرة أخرى إلى هناك. كان «الفزير» لا يزال نائمًا. ثم تبِعني إلى مكتب التلغراف، لاهثًا ومتعرِّقًا في الطقس الحار؛ وكلما ازداد لُهاثه، زدتُ من سرعة سيري. قال منتظِم التلغراف الذي كان قد أخبرني عنه زميله في هِرات، إنه قد نسي كل الإنجليزية التي تعلَّمها تحت ضغط التحدُّث بالروسية؛ فقد كان يوجد رجل روسي معه في المكتب. واقترح عليَّ الذهاب إلى الطبيب وليس إليه. في الطريق إلى المستشفى، ركبت عربةً يجرُّها مُهْر صغير، تاركًا منتظِم الفندق في الطريق. ولكن يبدو أنه سيتعيَّن على السائق أن يُكمل تقرير تحرُّكاتي.
اتضح أن الطبيب، ويُدعى أبا المجيد خان، قد تخرَّج في كامبردج، وقد كان رجلًا وسيمًا ومثقفًا، ويتمتع باحتشام فطري، قلما تجده بين الهنود، سرعان ما نما إلى مودة. إنه هنا منذ ثمانية أعوام، وعندما انتبه لدهشتي من الأمر، أوضح أنه كان عليه أن يترك الخدمةَ الطبية الهندية بسبب حادثة ذات صلة بحركة عدم التعاون. تحدَّث بحزنٍ بعض الشيء عن مرحلة طيش الشباب هذه، التي دمَّرت حياته المهنية، وأضاف أنه يبدو أن حركة عدم التعاون قد انتهت حاليًّا، كما لو أنه كان يشير إلى أن الجهد الذي كلَّفه الكثير قد بُذل في قضية خاسرة. غير أنه لم تكن توجد أي مرارة في صوته، ولا أيٌّ من ذلك التحدي المحرِج الذي غالبًا ما يُبديه القوميُّون الهنود تجاه رجل إنجليزي. حاولت أن أوصِّل إليه، دون أن أبدو مُغاليًا، أن القوميين قد نالوا تعاطفي وتعاطف العديد من الإنجليز اليوم أكثرَ مما كان عليه الأمر منذ عشر سنوات. ولم تكن توجد أي مرارة أيضًا في ملاحظاته بشأن أفغانستان. إنه مُغرَم بالناس وبعمله، الأمر الذي يختلف فيه عن الهنود الآخرين الذين قابلتهم في هذا البلد.
إنه ليس عملًا سهلًا. فعليه أن يدير المستشفى بمبلغ ١٠ آلاف روبية أفغانية في العام؛ أي ما يعادل ٢٥٠ جنيهًا إسترلينيًّا. توجد الأسرة في سُرادقين أو ثلاثة سرادقات من طابق واحد، تقع في حديقة ظليلة مليئة بالطيور المغرِّدة. بدت صلبة، ولكنها نظيفة ومرتَّبة جيدًا. يعاني معظم المرضى إعتامَ عدسة العين، والحصوات، والزهري.
أخبرت الطبيب عن رغبتنا في زيارة نهر أوكسوس ومحاولاتنا لرؤية محمد جُل. قال إن نوبات مرض النوم التي تعرَّض لها سالف الذكر كانت مجرَّد تلميح مهذَّب بأنه لا يرغب في مناقشة الأمر معنا. سألته عن الخطوات الأخرى التي يمكننا اتخاذها. فاقترح أن نكتب خطابًا باللغة الإنجليزية إلى «الفزير»، على أن يكون بأسلوب مُتقَن بحيث لا يتمكَّن منتظِم التلغراف من ترجمته. في تلك الحالة، سيُستدعى أحد التجار الهنود المقيمين، والذي قد يمتدحنا لديه.
صاحب السعادة محمد جُل خان،
وزير داخلية تركستان
صاحب السعادة،
لِعلمنا من تجرِبتنا الشخصية أن يومَ سعادتكم قصير للغاية بالفعل لانشغالكم بالصالح العام، فإننا على مضضٍ واضح، في غياب صاحبَي السعادة الوالي ومدير الخارجة في هيباك، نتجرأ على التقدُّم لسعادتكم بطلب شخصي تافه.
للاضطلاع برحلتنا من إنجلترا إلى تركستان الأفغانية، التي عوَّضتنا رؤيةُ إدارة سعادتكم الكريمة إلى حدٍّ بعيد عمَّا فيها من ضجر ومشاقَّ، كان هدفنا الأساسي هو أن نشهد، بأم أعيننا، مياه نهر آموداريا المشهور في التاريخ والروايات باسم نهر أوكسوس، الذي يمثِّل موضوعَ قصيدة إنجليزية خطَّها القلم المقدَّس لماثيو أرنولد. نجد أنفسنا الآن، بعد سبعة أشهر من الترقُّب، على بُعد أربعين ميلًا من ضِفافه.
وإذ فهِمْنا من سكرتير صاحب السعادة مدير الخارجية أن الحصول على إذنٍ استثنائي ضروري لزيارة النهر، فإننا نطلب هذا الإذن لأنفسنا، واثقين من أن سعادتكم لن تُضلَّل بإسناد دافع سياسي إلى ما هو ليس سوى فضول طبيعي لرجل مثقف.
إن حقيقة أن آخرين، بحِكمتهم الدنيا، قد يكونون ضحايا لهذا الوهم تذكِّرنا بأن أفغانستان وروسيا ليستا البلدين الوحيدين في العالم اللذين يفصل بينهما نهر. يمكننا التجرؤ على قول إن المسافر الأفغاني، المقيم في فرنسا أو ألمانيا، لن يواجه أي لوائح تمنعه من الاستمتاع بصور الجمال في نهر الراين.
توجد بالفعل بعض البلدان التي لم يخترق فيها نورُ التقدُّم ليلَ بربرية العصور الوسطى، والتي يجب أن يتوقَّع الزائر الأجنبي فيها أن تُعرقِله شكوكٌ لا أساس لها من الصحة. ولكننا عزَّينا أنفسنا، أثناء إقامتنا في بلاد فارس، بتذكير أنفسنا بأننا قريبًا سنكون في أفغانستان؛ ومن ثَم سنَفرُّ من مكانٍ تسوده مجموعة أشبه بالنساء الفارغات والمضطرِبات إلى شعبٍ صلب وشجاع، محصَّن من المخاوف السخيفة، ويسعده أن يمنح الغرباء تلك الحرية التي يطالبون بها عن حق لأنفسهم.
هل كنَّا محقِّين في ذلك؟ وعند عودتنا إلى بلادنا، هل سنقول إننا كنا محقِّين؟ يكمُن الجواب لدى سعادتكم. بالتأكيد، سنحكي عن الفندق في مزار شريف المجهَّز بجميع وسائل الراحة التي تعرفها العواصم الغربية الكبرى، وعن مدينة بصدد إعادة الإعمار على نحو قد تحسُدها عليه لندن نفسُها، وعن البازارات المكتظة بجميع رفاهيات الحضارة. ولكن هل سنضيف عندئذٍ أن الزائر محروم من زيارة عامل الجذب الرئيسي الفريد في المنطقة، مع أنَّ عاصمة سعادتكم بها كل شيء يسرُّ الزائر؟ أي باختصار، إن مَن يأتي إلى مزار شريف سيُعامل كجاسوس، وكبلشفي، وكمعكِّر للسلام، إذا طلب أن يخطو على الضِّفاف التي قاتل عليها رستم؟ إننا نؤمن بأن سعادتكم، إذ تستشعر الغَيرة على اسم بلادكم، ستستنكر مثل هذه التصريحات. كما نؤمن أيضًا أنه بعد قراءة هذه الرسالة، لن تكون ضرورية.
كنا نأمُل في الأصل أن نخوض رحلةً على ظهور الخيل على امتداد النهر من باتا كيسار إلى حضرة إمام. إن كان هذا غير مستحسَن، فسنكون سعداء بمجرد المضي بالخيل أو السيارة من هنا إلى باتا كيسار، والعودة منها إلى هنا. كل ما نتُوق إليه هو أن نشاهد النهر، وأي نقطة عليه ستفي بهذا الغرض إذا رغبت سعادتك في اقتراح نقطة أخرى. لقد ذكرنا باتا كيسار لأنها أقرب نقطة، ولأنه من هناك يمكن رؤية آثار ترمذ القديمة على الضِّفة المقابلة.
مع الاعتذار عن إزعاج سعادتكم بهذه الرسالة الطويلة بلغة أجنبية.
لقد أتاحت لنا كتابة هذه الوثيقة المضحكة كثيرًا من المرح. لا بد أن يكون محمد جُل أكثرَ حماقة مما يبدو إن انخدع غروره بها.
يبدو أن الأمر لم يكن قد تعلَّق فحسب بسوء طبع محمد جُل. فالأمر ينطوي على سياسة عليا، وهي تنصُّ على أن الإذن للأجانب بزيارة النهر يجب الحصول عليه من كابول؛ ومن ثَم حتى لو رغب محمد جُل في منحنا إياه، فلا يستطيع أن يسمح لنا بالذهاب دون مراسلات قد تستغرق شهرًا في ذلك الوقت بعد تعطُّل التلغراف في هيباك. فضلًا عن هذا، توجد أيضًا عقبة محلية. ففي الأشهر الستة الماضية، عبرت مجموعات ضخمة من التركمان النهر من روسيا واستقرَّت في الغابة على الضِّفة الجنوبية. من شأن خروجهم على القانون وحده أن يكفي لأن يمنع رحلتنا المقترَحة إلى حضرة إمام. كما أنه سيكون بمثابة ذريعة لأي عملاء من البلاشفة قد يظنون أن من واجبهم منع اثنين من الإنجليز من استكشاف الحدود. قد يبدو هذا المبرِّر الأخير خيالًا لا داعي له لو لم يتوافق مع المعلومات التي حصلنا عليها في مشهد.
حسب الطبيب، الذي زار طشقند قبل بضع سنوات ولم يلقَ استقبالًا جيدًا هناك، لن يفوتنا شيء إن لم نرَ باتا كيسار، التي ليس بها سوى خيمتين، واحدة لموظف الجمارك وأخرى للحارس؛ فقد كانت توجد بعض المباني في الماضي، لكنها جُرفت بفعل الفيضان. ومع ذلك، فقد أقرَّ بأن الرحلة إلى تشایاب أو حضرة إمام كان من شأنها أن تكون مشوقة؛ حيث تأخذنا عبر منطقة جميلة تشتهر بطيور الدُّرَّاج، مع أنه لا توجد نمورٌ هناك كما كنت أتصوَّر.
ومع ذلك، سأودُّ لو أنني رأيت أطلال ترمز، التي يصفها يات بأنها تبدو رائعة للغاية من الضِّفة الجنوبية، وتوجد وسطها مئذنة قديمة رسمها سار. لكنني أتصوَّر أن ترمز هي تحديدًا ما لا يريدنا أولئك العملاء المفترضون أن نراه. ينتهي هناك خط السكة الحديدية من بخارى، ويحرس المكانَ فوجٌ من روسيا الأوروبية. إنها بيشاور تركستان الروسية.
لا تقف القوات الروسية على نهر أوكسوس هناك للاستعراض. فقد غزت أفغانستان بالفعل وقت خلع أمان الله. لم يكن غزوًا جادًّا جدًّا، لكنه كافٍ لتفسيرِ ما قاله حارسنا في بَلْخ؛ إذ كانت القوة بكاملها تتألف من حوالَي ٣٠٠ رجل، وثلاث بنادق، وخدمة طبية صغيرة. ذات مرة، حُبِسوا في حصن دِهدادي، وهو منطقة مغلَقة كبيرة ذات جدران مررنا بها على الطريق بين هذه المنطقة وبَلْخ ولاحظناها لأن الجدران لم تنهَرْ وكان في حالة جيدة. هنا حاصرتهم جماعات التركمان، الذين صدوهم بسَحب بنادقهم من أحد جانبَي الجدران إلى الآخر. غير أن التركمان، الذين يقال إن عددهم كان أكثر من ٢٠ ألفًا، قد خاضوا معركةً بائسة.
يمكنني تخيُّل الاضطراب الذي لا بد أنه قد هز حكومة الهند عندما سمعت بهذا الغزو، بغضِّ النظر عن حقيقة أن الروس، بقدرِ ما أستطيع أن أرى، لم يكونوا يفعلون سوى ما نفعله كل عام على الحدود الشمالية الغربية، من إخماد للاضطرابات القبَليَّة قبل أن تنتشر عبر الحدود. لا شك في أن القوات الروسية، لو سنحت لها الفرصة، لتصرَّفت لصالح أمان الله، مثلما تصرَّفت قواتنا في ظروف مماثلة، في حالة الملك نادر. لكن المسألة العامة واضحة. إذا لم يكن بوسع الأفغان الحفاظ على النظام الداخلي، فسيتحتَّم على الروس أن يفعلوا ذلك نيابةً عنهم في الشمال، مثلما نفعل في الجنوب. لقد أظهروا هذا في ذلك الوقت، وكانوا مستعدين لإظهاره مرةً أخرى في نوفمبر الماضي، عندما كنت في هِرات. لا عجب أن الأفغان قلقون، لا سيما هنا. فلم يمرَّ سوى ثمانين سنة على دمج هذا الجزء من تركستان في الدولة الأفغانية. إن الوصول من كابول صعبٌ بسبب جبال هندوكوش. ينظر الروس إلى التركمان المحليين، الذين تضخَّم عددهم بسبب انضمام لاجئين ساخطين إليهم، على أنهم مصدر محتمَل لعدوى معاداة البلاشفة. بطبيعة الحال، تكمُن الحماية الحقيقية للمنطقة في حقيقة أن الروس ليسوا متحمسين للتورُّط مع البريطانيين، وأن تماسك أفغانستان في حالة الهدوء، مفيد لكلا القوتين باعتبارها منطقة عازلة. لكن الأفغان يظنون أنه من المهين الاعتراف بهذا. ومع ذلك، فهم يعرفون جيدًا أن السبيل لإبقاء الروس على مَبعدة هو الحفاظ على سلام بلادهم، وأن أفضل وسيلة لفعل ذلك هي خطوط التلغراف والطرق: الأولى لاستدعاء القوات، والثانية لنقلها لمسرح الأحداث في حال حدوث أي تمرُّد. لقد رأينا شيئًا من جهودهم في هذا الصدد. لكن الاتصالات الوطنية ستحتاج إلى كثير من التحسين قبل ألا تعود تحت رحمة الطقس.
كما توقَّعنا بعد محادثتنا مع الراعي الأوزبكي، كان الخوف من الاختراق الروسي، اقتصاديًّا إن لم يكن بالقوة، هو ما أدَّى إلى إجلاء اليهود في الشتاء الماضي. كان يوجد دومًا عدد قليل من اليهود في أفغانستان، يعانون الهزالَ ونقص التغذية، ويفتقرون إلى الثروة والنفوذ. بقي هؤلاء اليهود، وقد رأينا بعضًا منهم في مرغاب. أولئك الذين قابلتهم في قلعة نو في كرب شديد كانوا من يهود بخارى — ظننت أنهم ربما كانوا كذلك — الذين لم يأتوا إلى أفغانستان إلا بعد الثورة، عندما ساعدهم على الفِرار القنصل الأفغاني في طشقند، والذي كان يمكن رشوته للحصول على تأشيرات دخول. واليهود دائمًا، بعد أن يستقروا في بلد جديد، يظلون على تواصلٍ مع المجتمع الأم، وبدأ الأفغان يخشون أن معظم أرباح تجارة جلود الحُملان كان يجري تحويلها خلسةً إلى روسيا، فضلًا عن الأغنام نفسِها. لم يكن اليهود وحدَهم مَن يعانون هذا النوعَ من الغَيرة. قبل عشر سنوات كان يوجد حوالي ٤٠٠ تاجر هندي في مزار وحولها. منذ ذلك الحين، ولا سيما منذ قدوم محمد جُل، مُورِسَ معهم ابتزاز ممنهَج لإبعادهم عن التجارة، حتى لم يتبقَّ منهم سوى خمسة أو ستة، أما حكومة الهند، التي لم تفعل شيئًا لمساعدتهم، فمن المفترض أنها في مراحلها الأخيرة.
بئسًا لحال آسيا! كل شيء يتلخَّص في القومية الحتمية، تلك الرغبة في الاكتفاء الذاتي، والرغبة في التميز في العالم والتوقف عن جذب الانتباه بسبب الافتقار إلى تجهيزات السباكة. لا تفتقر القومية الأفغانية إلى الوقار كالفارسية لأن المسئولين تعلَّموا، بفضل قبعة أمان الله، أن الأشخاص الذين يسعون إلى إلهامهم بها ما زالوا على استعداد للقتال قبل أن يتخلوا عن التراث في مقابل حصة من كعكة التقدُّم التكنولوجي. لكنها تمضي في طريقها في صمت، في بعض الأحيان بتعقُّل في اتجاه المنافع العامة مثل الطرق ومكاتب البريد، وأحيانًا في اتجاه تلك التصرُّفات الغريبة المتسمة بالبذخ مثل الفندق هنا وإعادة بناء بَلْخ. هذه هي مخططات محمد جُل الشخصية؛ وهي تُظهر القومي المتطرف، الذي يهتم بالرموز أكثرَ من المنفعة؛ وهو في ذلك بمثابة دي فاليرا الأفغاني، الذي قد يذهب إلى حد تغيير اللغة الرسمية من الفارسية إلى الباشتو. ومع ذلك، فإن محمد جُل هو أكثر من مجرد متباهٍ؛ فحديثنا في بَلْخ أثبت أننا كنا نتواصل مع رجل فريد. فقد تلقَّى تعليمه في تركيا، وأصبح مساعدًا لأنور باشا، وكان معه بالقرب من بخارى عندما قتله الروس. يتمتع في بلده بسمعةٍ فريدة لعدم فساده وتنزُّهه عن المصالح الشخصية؛ هذا هو سرُّ نفوذه، الذي يتجاوز حدود تركستان. في الواقع، سمعنا أن هذا هو سبب إبقائه في تركستان.
أقيم الضريح في الجزء المأهول من المدينة إحياءً لذكرى خواجة أبي نصر بارسا، نجل وليٍّ أكثرَ شهرة وهو خواجة محمد بارسا، الذي أوصل الدِّين للشاعر الجامي عندما كان في الخامسة من عمره، وتوفِّي في المدينة المنورة سنة ١٤١٩. أصبح أبو نصر بارسا محاضرًا في العقيدة في هِرات، في المدرسة التي أسَّستها فيروزا بيجوم، والدة حسين بايقرا. يبدو أنه قد استقر في وقتٍ لاحق في بَلْخ؛ لأنه تقدَّم هناك في عام ١٤٥٢ لتقديم المشورة لبابر، ابن بايسنقر، بألا يعبر نهر أوكسوس ويهاجم أبا سعيد. توفِّي سنة ١٤٦٠.
جسمُ المبنى مثمَّن من القِرْميد الخالي من النقوش الذي تخفيه وتعلوه واجهةٌ من البلاط، وعلى المثمَّن تنتصب القبَّة المخدَّدة إلى ارتفاع ثمانين قدمًا. تستقر أيضًا على المثمن مئذنتان متلاصقتان بين القبَّة والواجهة.
اقتصرت ألوان الواجهة على الأبيض والأزرق الداكن والأزرق الفاتح، مُعزَّزةً بلمسات رصينة باللون الأسود. إن غياب اللون الأرجواني والألوان الدافئة الأخرى هو ما يُنتِج التأثير الفضي الذي أذهلنا عند وصولنا أول مرة. يستمر هذا التأثير مع القبَّة التي يغطي أضلاعها الدائرية السميكة قِرْميد صغيرٌ مزجَّج بلون فيروزي مخضر؛ وحيث تآكلت الطبقة الزجاجية في الجزء العلوي، تجد الأضلاع بيضاء، وتبدو كما لو كانت قد تساقط عليها الثلج. وكحال القبتين الأخريين من هذا النوع في هِرات وسمرقند، فإن قبَّة أبي نصر بارسا تتمتَّع بعظمة أثرية. غير أن المبنى برُمَّته واهٍ ورومانسي. ويبدو كأن قوةً مجهولة تعتصره إلى أعلى. والنتيجة هي خيال، وجمال خارق في بعض النواحي.
لم نتمكَّن من الدخول، ولكن عند التسلُّل إلى واحدة من النوافذ الست عشرة التي تحيط بالطبلة، داهمَنا صوتُ تدرُّب جوقة قرية. كان هذا الصوت صادرًا، كالمعتاد، من الملا وتلاميذه.
يوجد ضريحٌ آخر خارج البوابة الشرقية يُعرف باسم ضريح خواجة أجاشا. لا أعرف مَن كان الولي أجاشا. حمل هذا الاسمَ ثلاثُ محظيات جشعات لحسين بايقرا، وزوجة لبابر. وقد جئن من عائلة أوزبكية.
إنه ليس مبنًى مثيرًا للاهتمام. وقد اختفتِ القبَّة. ويوجد حول الطبلة نقشٌ مزجَّج بالخط الكوفي. كما توجد بالجوار منصاتٌ أخرى من تلك المنصات الاصطناعية الرابضة التي يرجع إليها الفضل في شهرة بَلْخ الأثرية.
تناولنا الغداء أسفل شجرة دُلْب وسط حشد من الحفَّارين المعمَّمين. مخطَّط المدينة الجديدة يضاهي في طموحه مدينة كانبرا، ولكن لا أحدَ ممن بوسعهم تجنُّبها سيأتي من مزار إلى هذه الأجواء المحمومة؛ إذ يبدو الأمر كما لو أن شخصًا يعيد بناء أفسس من أجل إقصاء سميرنا. في وقت لاحق، كنت أرسم الضريح عندما ظهر شخص ذو لحية سوداء يرتدي ثوبًا كابوليًّا، وتمتم بشيء عن صحتي، وذكر أنه مع أن التصوير الفوتوغرافي مسموح به، فإن الرسم ليس كذلك؛ ومن ثَم فإنه سيأخذ رسمي. عندئذٍ استحوذ عليَّ غضبٌ أعاقني حتى إنني لم أستطِع الكلام عدة دقائق. عندما تمكَّنت من الكلام، سبقني بالحديث أحد الخدم من الفندق، والذي، على حد تعبيره، «تشاجر» مع الرجل الغاشم المتصلِّف، وعلم أنه يعمل في مشروع إعادة البناء. وعندما كانا قد انتهيا، كنت أنا ورسمي بعيدَين عن الأنظار.
جاء الدكتور أبو المجيد هذا المساء لإعطائي حُقنة. كان عليه أن يطلب الإذن بالانصراف لفعل ذلك، وارتأى أنه من التحوُّط ألا يتناول معنا العشاء. لكننا تمكَّنا من إعطائه ويسكي وصودا باردَين، بعد أن حصلنا على أربع زجاجات صودا من المصوِّر ووضعناها في دلوٍ من الثلج. كان هذا انتصارًا لنا جميعًا. لكني استطعت أن ألاحظ أن مذاق «السدادة المحترقة» أعاد له مجددًا ذكرياتٍ حزينة عن شبابه وتوقُّعاته. ذهبت إلى منزله أمس الأول، وقد كان أحد البيوت الطينية العادية في المكان، ووجدت أنه كان لديه كراسي وأريكة مغطَّاة بقماش مزركش، ومكشكش، وفضفاض على طريقة الريف الإنجليزي.
أخبرنا أنه حتى مجيء فوتشير إلى هنا قبل بضع سنوات وشرائه جميعَ عملات بختر اليونانية القديمة، كانت لا تزال متداولة. منذ ذلك الحين، بدأ الناس يظنون أنها لا تقدَّر بثمن، ويطلبون مقابلها عشرين أو ثلاثين مِثلًا من القيمة التي حدَّدها المتحف لها.
بدأت الفاكهة في الظهور: المشمش اللذيذ، والآن بعض الكَرز، ولكنه كَرز أسود، وهو شديد المرارة لدرجةِ أننا صنعنا منه مربَّى.
قال السيد بورياتشينكو: «هل تريدان تأشيرتَي دخول إلى سمرقند؟ بالطبع تريدان ذلك. سأرسل برقيةً إلى موسكو على الفور أخبرهم فيها أن اثنين من أساتذة الثقافة الإسلامية من جامعة أكسفورد» — (فليسامحنا الرب، غادرَ كلانا أكسفورد دون الحصول على شهادة) — «قد وصلا إلى هنا وفي انتظار الإذن لعبور آموداريا. كلا، لا شيء يستحق الزيارة في ترمز. المكان الذي ينبغي أن تذهبا إليه هو أناو. لقد ألَّف البروفيسور سیمیونوف مؤخرًا كتابًا عن الآثار التيمورية هناك. أتمنَّى لو كان بوسعي أن أمنحكما التأشيراتِ على الفور، لكن يؤسفني أن أقول إن الأمر سيستغرق أسبوعًا أو نحو ذلك لتلقي ردٍّ. على أي حال، أنتما «هنا» لبعض الوقت، هذا هو المهم. لا بد أن نقيم حفلًا. هل ستأتيان؟»
سأل كريستوفر، غافلًا، من دهشته، عن شُكرِ الرجل: «متى؟»
«متى؟ لا أعرف متى. ما أهمية ذلك؟ هذا المساء؟ هل يناسبك هذا؟»
«تمامًا. في أي ساعة؟»
«في أي ساعة؟ في السابعة، هل هذا جيد؟ أم السادسة؟ أم الرابعة إلا خمس دقائق؟ يمكننا البدء الآن إذا كنت ترغب في ذلك.»
كانت الساعة الحادية عشرة والنصف، وكان صباحًا شديد الحرارة. فقال كريستوفر إن المساء ربما سيكون أفضل.
في السادسة والنصف خرجنا من الفندق على أطراف أصابعنا حتى لا يسمعنا المنتظِم، ووصلنا إلى بوابة القنصلية؛ حيث لوَّح الحراس بأسلحتهم كما فعلوا من قبل، ووجدنا أنفسنا في سلسلة من الأفنية التي تظلِّلها الأشجار، وفي الفناء الأمامي كان يوجد عددٌ من الشاحنات والسيارات، بما في ذلك سيارة فوكسهول حمراء. استقبلنا السيد بورياتشينكو في غرفة باردة وخالية من صور لينين وماركس، ومضاءة بمحطةِ إضاءة كهربائية خاصة. قلت إنني أظن من اسمه أنه لا بد وأنه من أوكرانيا. «أجل، من كييف، وزوجتي من ريازين.» دخلت زوجته، وكانت امرأة شابَّة ترتدي ملابسَ أرجوانية داكنة بسيطة، وكان وجهها البشوش محاطًا بشَعرٍ ينسدل مستويًا من مَفرق في المنتصف. تبِعها آخرون؛ رجل ضخم متعثر، تفوح منه رائحة عطرة خفيفة، ويصدُر من وجهه المليء بالحُفَر صوتٌ شبيه بصوتِ يمامة، وزوجته، وهي شقراء ذات شفتين حمراوين كان شعرها الذهبي مصفَّفًا باستقامة من جبهتها، والسيد بورياتشينكو البالغ من العمر خمس سنوات ويشبه كثيرًا شاليابين، وفتًى وفتاة ينتميان للزوجين الثانيين، والطبيب وهو رجل قصير وبدين ذو شارب أسود وشَعر كشعر جزار، وسيدة أخرى تضع بشكل متحفِّظ بعضَ الأصباغ على وجهها، وذات شعر أشقر منفوش على شكل عُرف ديك، والرجل السمين الذي رأيته في مكتب التلغراف، والذي قال إنه كان ضابطًا لاسلكيًّا في كانتربري أثناء الحرب، وشابان أنيقان وصلا للتو من كابول، وكانا قد أمضيا أسبوعين في الرحلة بسبب الأمطار، وكان آخر مَن وصل فتاة في الرابعة عشرة من عمرها، وهي ابنة السيدة ذات الأصباغ، وكانت حركاتها مبهجة للعين، ومن المقرَّر أن تصبح راقصة باليه.
وفقًا للمعايير الروسية، التي تختلف عن معاييرنا، لم يكن الطعام وافرًا في الواقع، وكيف له أن يكون كذلك؟ مع أنَّهم كانوا قد اشترَوا، بتكلفة كبيرة، آخرَ سردين في المدينة، كما اكتشفنا بعد ذلك. ولكنه اتسم بتلك الأجواء من الإفراط التي يحفُّها الروس دائمًا به، وفيما واصل ضيوفٌ جددٌ المجيء، وتواصل جلب طاولات جديدة، وكراسي جديدة، وقفز الأطفال فوق حجور الناس، وتتابعت الصحون، وظلت ممتلئة كعادتها بالسردين من الهند، والبابريكا من روسيا، واللحم الطازج مع سلطة البصل، والخبز. وكان دورق من الفودكا الصفراء، الذي تسبح فيه الفاكهة، يُعاد ملؤه بلا توقُّف. تذمَّر الروس الذين كانوا يغترفون منه بوفرة في الكئوس، غاضبين من رشفاتنا البطيئة. ولكن ذلك كان فقط في البداية.
كان الشابان القادمان من كابول قد جلبا عددًا من التسجيلات الإنجليزية الجديدة التي كانت قد طُلِبَت من بيشاور، ولكنها تلِفَت كلُّها في تحطُّم شاحنتهما بفعل عاصفة هبَّت عند هيباك، وكانت الخسارة خيبةَ أمل مأساوية لهذا المجتمع المعزول، ولكن عندما تسمعهما يعتذران عن ذلك، قد يظن المرء أن التسجيلات قد طُلبت لنا لا لهما. وفي ظل الظروف الحالية، استُبدل التانجو والجاز بموسيقى «شهرزاد»، و«بوريس جودونوف»، و«يفجيني أونيجين». رقصنا، وغنينا، وجلسنا لتناول الطعام، ورقصنا مرةً أخرى. كانت المحادثات بالفارسية، وما جعل الأمر أكثرَ غرابة، عند الحديث مع أبناء جِلدتي، كان الاستخدام اللازم للإيماءات الفارسية، من انحناء الرأس وارتجاف جَفن العين، ووضْع اليد على القلب، والتظاهر العام بإنكار الذات. خاطبَنا السيدُ بورياتشينكو والرجل الذي يشبه صوته صوت اليمامة بلقب «صاحب». ربما اعتقدا أنه يبدو أكثرَ مساواةً من لقبَي أصحاب السعادة وأصحاب المعالي الفارسيين اللذين كنا نستخدمهما في مخاطبتهما.
مرَّت الساعات سريعًا، وتدفَّق الدورق، وحُمل عامل التلغراف إلى الخارج، وشعرت بخدَر، وبدأ الروس في الإفصاح عن مشاعرهم، وعندما أفقتُ وجدتُ كريستوفر يلهث لالتقاط أنفاسه أسفلَ أفراد الجَمع بأكمله. كانت الساعة الثانية، وحان وقت العودة إلى المنزل. لم يكن الفندق يبعُد سوى بضع مئات من الياردات. ولكن السيد بورياتشينكو استدعى سيارة «كونسولسكي فوكسهول»، وأصرَّ على توصيلنا إليه. كان هذا تصرُّفًا ينم عن صداقة حقيقية. لأنه سواء كنا غير مستقرَّين في مشينا أم لا، كان سيصبح من غير الحكمة أن نخاطر بملاحظة الأفغان لذلك، وهي حقيقة قدَّرْناها عندما أدخل أحدُ الحراس بندقيته من نافذة السيارة.
كان هذا الصباح مرهقًا أكثرَ من المدى المعتاد في صباح الأيام التالية. عرَّجنا على القنصلية بعد تناول الشاي، وبدلًا من الزهور أخذنا معنا بعضَ صناديق السيجار، ووجدناهم جميعًا جالسِين في الخارج فيما يشبه ساحةً للألعاب الرياضية مجهَّزة بأراجيح، وعوارض جهاز متوازٍ، وشبكة عالية يمكن لأي عدد من الناس المنقسمين على جانبَيها أن يضربوا كرةَ قدم خفيفة بقبضاتهم. بدءوا مباراةً من أجلنا، وأُضيف إلى الجمع الآن ثلاثة أو أربعة رجال آخرين، من عامة الناس من الطبقة العاملة؛ حيث يعملون في قيادة السيارات وإصلاحها. بدا عامل التلغراف أكبرَ في العُمر.
أخبرنا السيد بورياتشينكو أن الروس الآخرين الوحيدين في هذا الجزء من البلاد كانوا أربعة من مكافحي الجراد يعيشون في خان آباد وما حولها. الجراد آفةٌ جديدة هنا. فقد وصل من موسكو منذ بضع سنوات، وتوالد على المنحدرات الشمالية لجبال هندوكوش، ومن هناك نزل إلى تركستان الروسية؛ حيث هدَّد محاصيل القطن.
ونظرًا لوجود طريق يربط بين هنا وخان آباد، وآخرَ من هناك إلى كابول، ويتجنَّب مضيق هيباك، قرَّرنا في النهاية عدمَ قطع الطريق بالجياد. ستأخذنا هذه التحويلة ١٥٠ ميلًا أبعدَ في اتجاه الشرق، إلى حدود خان آباد، وقد كانت ذريعةُ جعلِه متاحًا بسببِ انسداد الطريق في هيباك فرصةً لا يمكن تفويتها. يشعر كريستوفر بالأسف لعدم خوض الرحلة بالخيول، لكنني أظن أن التحويلة ستكون مشوقةً أكثر.
كان اليوم الذي ساقنا إلى هذه العَقبة قد بدأ بتعقيداتِ آثار حفل روسي آخر. لم يكن سوى حفل زاكوسكا (وجبة خفيفة) هذه المرة، ولكننا رقصنا مجددًا، ومجددًا تحرَّرت الأرواح وتشبَّثت بنا. قال السيد بورياتشينكو إنه حتى لو أن أمتين كبريين كجبلين لم تكونا قادرتين على تحقيق التقارب المتبادل، فلا يوجد مبرِّر يمنع أفراد هاتين الأمتين عن فِعل ذلك، وعن نفسه فقد أُعجِب بإنجلترا، وكان يأمُل لمصلحتنا أن تحدث فيها ثورةٌ قريبًا. وأضاف أنه لو كان بإمكاننا الإقامة في مزار بدلًا من الانطلاق بهذه العجلة غير المبررة، لرجع القنصلُ نفسُه في غضون بضعة أيام ومعه ذخيرةٌ من شراب البراندي الجيد، إضافةً إلى أنه كان لديه أمَل كبير في منحنا التأشيرات.
لم يكن لديَّ هذا الأمل. غير أنه قد هالني بشدة أن السياسة التي اتبعتها كلٌّ من روسيا وإنجلترا من أجل إجلاء مشترك من تركستان والهند قد بدأت تفقد مغزاها. بالنظر إلى مضيِّفينا، من رجال ونساء يتَّسمون بالهدوء والثقافة وينفقون أموالهم على الموسيقى الكلاسيكية، بدا لنا أنه من غير المعقول أن يُحرَموا من شيء حتى تأشيرات المرور عبر الهند. وأدركنا، عِلاوةً على ذلك، أن مصالح روسيا وإنجلترا في آسيا، بدلًا من التصارع كما اعتادتا، قد أصبحت الآن واحدة تقريبًا، لا سيما فيما يتعلق بالدول الفاصلة بينهما، والتي يتمثل غرضها من العلاقات الأجنبية في فرضِ نفسِها بمضايقة جاراتها الكبريات. لو وافق الروس على عرقلةِ تدفُّق الأموال والعقائد التي لا تزال تنفذ إلى الهند تملُّقًا لمذهب الماندان في الثورة العالمية؛ فقد ترى هذه الوحدةُ في المصالح النور. من شأن مؤتمرٍ بين حاكم طشقند ونائب الملك، حول بلاد فارس، وأفغانستان، وسنجان، والتبت، أن يفيد كلا الطرفين أكثرَ بكثير من الاستمرار في الترويج للثورة من جانب، والخوف منها على الجانب الآخر.
عندما غادرنا، مرةً أخرى في سيارة كونسولسكي فوكسهول، تبِعَنا الجمعُ بأكمله إلى البوابة، ملوِّحين توديعًا لنا ومتمنين لنا رحلة سالمة.
خارج مزار هذا الصباح قابلنا تنينًا. كان طوله ثلاث أقدام ونصفًا، وبطنه صفراء، وكان مرتفعًا جدًّا على قوائمه الأربع الصغيرة الشبيهة بقوائم أثاث شيبيندايل. هزَّ ذيله مهتاجًا، وفرَّ إلى داخل حفرة. وجدنا بالجوار عشًّا لطائر قَطًا به ثلاث بيضات.
في طشقورجان، حيث ينعطف الطريق إلى هيباك، توقَّفنا لتناول الفطور. كنت ألتقط صورةً فوتوغرافيةً للقلعة، وهي مبنًى شبيه بالمباني الصينية أعلى سيل جبلي، حينما قال أكبر حارسَينا سنًّا، والذي كان رجلًا مسنًّا عطوفًا يرتدي سترةً بيضاء مشقوقة الذيل ذات مربَّعات كبيرة، إن التصوير «غير ضروري». أجبته بأنه إذا كان يرى ذلك حقًّا، فإنه من الأفضل أن يرجع إلى مزار؛ فقد كانت الشاحنة شاحنتنا، ولم يكن بها مساحة كبيرة. لاحقًا، عندما كنت ألتقط صورةً أخرى لسهل أوكسوس من ارتفاع مناسب، تدخَّل مرةً أخرى وهزَّ ذراعي. هذه المرة زمجرت فيه حتى تدلَّى فكه ذهولًا وسقطت بندقيته. وعندما أخرجت الكاميرا بعد ذلك، لاذ بالصمت.
تعجَّبنا من أن السلطات في مزار منَحَتنا حارسَين بدلًا من واحد. عندئذٍ اعترف الحارسان بأنفسهما أن ذلك كان لمنعِنا من التقاط الصور الفوتوغرافية. كان المسكينان في غاية الحزن لعدم تمكُّنهما من أداء واجبهما. لكن حقًّا ليس بوسعنا أن نساعدهما في ذلك.
كانت الأرض لا تزال قاحلة، غير أن بريقًا متقدًا قد حلَّ في ذلك الوقت محل الكآبة المعدنية للسهل الواقع أمام مزار. كانت المراعي هناك تتألَّف من برسيم شائك جافٍّ. لم تكن توجد أي أشجار، ولم يكن في المنطقة سوى القليل من مظاهر الحياة. كل ستة عشر ميلًا كنا نمرُّ على رِباط منعزِل. ورأينا في مرة من المرات سربًا من النسور مكوَّمًا في اجتماع حول بِركة. وأحيانًا كان الجراد يطن بالجوار في أسراب صغيرة. بدأت سفوح جبال شاديان، التي تحيط بسهل تركستان في الجنوب، في الانحناء باتجاه الشمال وصعدناها تدريجيًّا. فجأة، على بُعد ثمانية وثمانين ميلًا من مزار، توقَّف الارتفاع وهبط الطريق مسافة ألف قدم. أسفل منا، تمايلت قافلة من الجِمال، صاعدةً جانب التل ببطء، وكان كل جمل فيها مُحمَّلًا بزوج من المهود الخشبية به سيدات. امتدَّت أسفلها المستنقَعات المتلألئة لقندوز ومنطقة قطغن. وبعيدًا، عبر ضوء الشمس الضبابي، ارتفعت جبال خان آباد آخذةً معها مخيلتي عبر ممر واخان إلى جبال بامير والصين نفسها.
عند سفح المنحدر، كانت شاحنة أخرى تنتظر على عتبة جسر من الأعمدة والعشب، امتد عبر نهر في طريق مشقوق بعمق اثنتي عشرة قدمًا. كان سائقنا على وشْك المرور عندما تقدَّمت الشاحنة الأخرى فجأةً. اهتزَّ الجسر وتدلَّى. وفي غيمة من الأتربة والأعواد، وعلى صوت صيحات ولُهاث وأخشاب تنفلج، انحرفت الشاحنة بانقلابة جانبية بطيئة في النهر؛ حيث هبطت وسقفها مغمور في المياه، وانكشف هيكلها على نحوٍ فاضح، بينما رفرفت عجلاتها البائسة في الهواء. كان الرُّكاب قد نزلوا، وخرج السائق، الذي كانت مقصورته قد مالت بها الضِّفة المقابلة لأعلى، دون إصابات. لكنَّ أحدًا صاح بأن امرأةً بالداخل، وببسالة زائدة عن الحد رميت نفسي أنا وكريستوفر على الحُطام، فقطعنا الحبال التي تحيط بالجزء الخارجي، وأزلنا بالات الأمتعة التي كانت في الداخل، لنكتشف أنه لا يوجد أحدٌ بالداخل على الإطلاق. بعد إنقاذ البالات من التيار، ازدانت المنطقة بأكملها بأقمشةٍ مزركَشة بنقوش نباتات عشبية، وبساتين من القبعات الحريرية الوردية، ومروج من السجاجيد، جميعها بُسطت لتجف.
وكان قد انبثق من الحقول سربٌ من رجال نصف عراة لتبيُّن الكارثة. عندئذٍ، ركب حاكم قندوز فرسًا عداءً رماديًّا سريعًا، وقد كان رجلًا غاضبًا ذا لحية حمراء، وبدأ بالتعامل مع الأهالي بسوطه، آمرًا إياهم بسحب الشاحنة خارج النهر وإصلاح الجسر قبل الصباح. وضعنا أمتعتنا فوق الخيل وعبرنا النهر إلى رِباط، كان مزدحمًا جدًّا حتى إننا فضَّلنا النوم في العراء.
كان من بين رُكاب الشاحنة المحطَّمة رجل طويل ذو لحية سوداء كثيفة، ويرتدي بذلة يومية، ويتحدَّث الألمانية. قال إنه أحد أفراد سكرتارية الملك، وإنه يخوض هذه الرحلة كي يؤلِّف كتابَ رِحلات عن أفغانستان. جلس على ضِفة النهر، مدوِّنًا كلَّ شيء عنها بمثابرة من اليمين إلى اليسار. نظر بارتياب إلى شراب الويسكي الذي نحمله، مع أننا كنا في ذلك الوقت قد تعلَّمنا عادةَ تسميته بالشربات في العلن.
قادنا مسارٌ رملي عبر قصبات المستنقع العالية إلى شاطئ مفتوح بجوار نهر قندوز، في موقعٍ أقبل فيه تدفُّقه، من ماء طيني مثلَّج وردي اللون، بعرض ستين ياردة، يكتسح مُنعطَفًا في طريقه إلى نهر أوكسوس بسرعة قطار سريع. كان الشاطئ مزدحمًا بالناس، وكانت الحرارة الشديدة تنبعث من الرمال المتلألئة، وأمام صفحة السماء الزرقاء الرائقة ذات المسحة الوردية، تداخلت الصورتان الظليتان لصفٍّ من الجِمال وآخر من الصفصاف. عندما وصلنا، كانت العبَّارة تُفرِغ حمولتها على الضِّفة المقابلة، مكدَّسة بالرجال والخيل والبضائع. كانت تتألَّف من صندلَين غير مصقولين مرتفعَي المؤخرة، مربوطَين معًا بمنصة مُسيَّجة من المنتصف. باغتها التيار. وفي الوقت نفسه، اندفع بنشاط صفٌّ من سباحِين ممسكِين باستقامةٍ حبلَ قطرٍ سريع عبر النهر، بينما استخدم رجل في مؤخر أحد الصندلين مجدافًا عريضًا كدَفة توجيه. في النهاية، وبفضل المنعطَف، اصطدمت بشاطئنا على مسافةِ ربع ميل في اتجاه مجرى النهر. بعيدًا في الأعلى، كان سباحون آخرون يوجِّهون بأنفسهم الخيول والماشية للعبور. عندما عادوا إلى اليابسة، رأينا أن العديد من هؤلاء السباحين المحترفين كانت لهم ثمار قَرْع كبيرة مربوطة بظهورهم. كانت بشرتهم بنيةً داكنة من أثر التعرض للشمس، وكان لبعضهم وجوه تدل على أنهم سكان أصليون من ذوي المهن المتدنية، ولكن لم يستطِع أحد أن يخبرنا عما إذا كانوا ينتمون لعِرق معيَّن. لم يمنعنا من الانضمام إليهم في رحلة العودة سوى مراعاتنا لحشمة الأفغان البدائيين.
كان يتعيَّن الآن سَحبُ العبَّارة ضد تيار النهر إلى قمة المنعطف مرة أخرى، حيث اعتلت شاحنتنا المنصة المُسيَّجة. اقتربنا من الضِّفة الأخرى بسرعة عشر عُقَد في الساعة، وكنت أستعد للسباحة لإنقاذ حياتي عندما خفَّ الاصطدام باستدارةٍ بارعة، واحتككنا بالجرف الترابي المنخفض. كان حماس الحشد يعادل الحماس في منطقة باتني في يوم سباق القوارب؛ حيث السباحون العراة ذوو البشرة الداكنة، والأوزبك الضخام البنية في أرديتهم المزيَّنة بنقوش الورود، والتركمان الرابضون والمحدِّقون بفضول معتمرين قبعاتِ فِراء مدبَّبة، والهزارة في عمائمهم السوداء التي تضاهي في عرْضها قبعات أسكوت، ورجل أو رجلان بلحيةٍ مهذَّبة ظنناهما من کافرستان، ساعدنا في الصعود إلى الحقل بالأعلى. مشى حاكم قندوز متغطرسًا وسطهم جميعًا، والسوط في يده، فبدا مثل خادم اسكتلندي، وهو يُشرِف باهتمام على العملية بأكملها.
يطلق سكان خان آباد على هذه القضبان الصفراء اسم «سيخ»، ويصنعون نوعًا من الخيوط من ثمارها الخضراء.
عند سفح الجبال التحقنا بالطريق القادم من كابول، الذي اكتسب فيه الصف المزدوج لخطوط الهاتف المعلَّقة على مسافاتٍ قريبة أهميةً سياسية جديدة، إذا كانت تمتد، كما افترضنا، إلى مدخل وادي واخان، ذلك الجزء الضيق من أفغانستان الذي يفصل بين الدول الآسيوية الثلاث الكبار؛ روسيا، والصين، والهند. قادنا انخفاض مفاجئ إلى المدينة؛ حيث تبيَّن أن مدير الخارجية كان شابًّا في الثامنة عشرة من عمره جعله التهاب الزائدة الدودية يبدو أكبر سنًّا. ظهرت فجأةً وسط مفرداته الفارسية الكلمات الآتية بالإنجليزية: «حذاء»، و«برنامج»، و«سكر»، و«سيارة نقل صغيرة». اصطحبنا لشرب الشاي في قاعة استقبال الحاكم، وهي غرفة طولها تسعون قدمًا مزيَّنة بالشعارات الوطنية بالأبيض والأسود على ستارة برتقالية في إحدى نهايتَيها.
وإذ كنا نشعر بالتعب ومتسخَين، طلبنا الحصول على غرف. ولكن بدلًا من بيت الضيافة المتوقَّع، الذي كان قد انهار مؤخرًا، قادنا إلى أيكة من أشجار دُلْب تُصدِر حفيفًا، في ارتفاع أشجار الدردار، يرجع تاريخها، كما قال، إلى «أيام الميرات»، بعبارة أخرى، إلى ما قبل غزو الأمير دوست محمد لبدخشان. هنا نُصبت الخِيام، وفُرشَت البُسُط، ووُضعت الطاولات والكراسي، وأضيئت المصابيح في استقبالنا. قال إنه كان بوسعهم تقديمُ ما هو أفضل لو أنهم كانوا قد علموا بقدومنا، لكن لم يكن يوجد خط هاتف بين هنا ومزار لتنبيهه.
نُسمي حارسَينا «القس» و«راعي الأبرشية». لعدم علمي بأن خيمة ثالثة في الخلفية كانت تحتوي على مرحاضٍ حُفِر حديثًا، سألت «القس» عن مكانه. في البداية لم يفهم، مع أنني استخدمت الكلمات الفارسية العادية. ثم خمَّن. قال: «آه، أنت تقصد «جواب الشاي».»
تعبير ملطَّف جميل عن تلك المهمة الأساسية.
قال بصوتٍ منخفِض حزين: «كلا، لا يمكنكما الذهاب إلى حضرة إمام؛ لأنها قريبة من النهر، ولا يمكنكما الذهاب لرؤية الينابيع الساخنة في تشایاب للسبب نفسِه؛ فالنهر يمثِّل الحدود، وسيكون من غير الملائم السماح لكما بالذهاب إلى هناك. أما عن طريق شيترال، فسيُغلق ممر دورا بالثلج لمدة شهرين آخرين. وعلى أي حال، في الحالات الثلاث كلها، سيتعيَّن عليكما الحصول على إذن من كابول.»
يؤسفني عدم الذهاب إلى حضرة إمام، حيث أخبرنا مدير الخارجية أن الضريح هناك مغطًّى بالبلاط.
لذلك، غدًا، بعد عشرة أشهر من السفر، سنتوجَّه إلى الوطن.
يوجد قليل مما يثير اهتمامنا هنا، باستثناء معسكرنا اللطيف الظليل. جرف الفيضان الجسر المبني من القِرْميد فوق النهر. يُقال إن أشجار الفاصوليا الهندية التي تُعطِّر حديقة الحاكم أتت من روسيا. يبيعون الجليد بدلًا من الثلج في البازار.
على بُعد ثمانية عشر ميلًا من خان آباد، التحقنا بطريق نهر قندوز مرة أخرى عندما دخل الجبال، وما زلنا بجانب جزء منه هنا في باميان؛ وفي الواقع، لولا هذا النهر، لكان من الصعب تخيُّل كيف كان يمكن إنشاء طريق سريع فوق جبال هندوكوش. في الوقت الحالي، تبيَّن أنه مصدر إزعاج، أو أصل لشيء من هذا القبيل. أجبرَنا رافدٌ صغير، ممتلئ عن آخره بالمياه الجليدية، على التوقُّف وسط سهل بجلان.
لم يكن أمامنا ما نفعله سوى الانتظار، وتحديد علامات للماء بالحجارة لنرى ما إذا كانت ترتفع أم تهبِط. الظل الوحيد الذي حصلنا عليه، عندما استقررنا في المرعى البارد، كان من تكتُّلات عشب السهوب. كان بالقرب منا تل صغير على شكل بُزاق، تعلوه بضعة مقابر وضريح مقابل سلسلة جبال جليدية كبيرة في الشرق. بعد فترة من الوقت، انضمت إلينا شاحنة أخرى، ونظَّم رجالها مباراة للرماية على قطعةٍ معدنية، انضم إليها «القس» و«راعي الأبرشية» والسيد جمال. استحممت أنا وكريستوفر، غير أن المياه كانت قذرة حتى إننا اضطُررنا لتنظيف أجسادنا بعد ذلك بفرشاة ملابس. عند المساء، بسطنا فراشَينا بجوار الشاحنة. تجمَّع بعوض بحجم النسور كما لو كان قد سمِع جرس العشاء.
في الصباح الباكر لليوم التالي، كنت مستلقيًا في فراشي، عندما وصل عند النهر رجل مُسن على ظهر حصان كستنائي. كان يرتدي عباءةً بلونِ شوكولاتة باهتٍ مزيَّنة بنقوش ورود، وكان طرف عمامته ملفوفًا حول وجهه فوق لحية رمادية داكنة. وكان يحمل فوق السَّرج حَمَلًا بُنيًّا. خلفه، جاء ابنه الذي يبلغ الثانية عشرة من عمره على قدمَيه، متبخترًا في عباءة حمراء بلون زهور الغُرنوقي وعمامة بيضاء في مثل حجمه، حاملًا عصًا يوجِّه بها خطوات نعجة سوداء وحَمَلها الأسود.
بعدما احتشد الجمع عند مخاضة النهر، بدأت عملية العبور. قاد الرجل المسن أولًا حصانه إلى التيار، ملاقيًا صعوبةً في إبقاء رأس حصانه في مواجهة التيار، وثبَّت الحَمَلَ البُنيَّ على الجهة الأخرى. وبينما كان عائدًا، أمسك الطفل بالحَمَل الأسود. ثم أعطاه لأبيه، الذي عاود النزول إلى الماء ممسكًا به متدليًا من ساق واحدة فصرخ. تبِعتهم النعجة ناعقةً في تعاطف. غير أن التيار سحبها بعيدًا، واستقر بها على الضِّفة التي انطلقت منها. وفي أثناء ذلك، ظلَّ حَمَلُها يَثغو، مع أنه كان في أمان حينئذٍ على الضِّفة الأخرى مع الحَمَل البُني. رجع الرجل المسن مجددًا، وساعد ابنه في توجيه النعجة المبتلة المرتعشة مسافةَ مائة ياردة إلى الضِّفة أعلى المَخاضة. فأخذها التيار من هناك مرة أخرى، واستقر بها بعناية عند المَخاضة نفسِها، ولكن هذه المرة على الجهة الأخرى، حيث استقبلها الحَمَلان استقبالًا حارًّا. وضع الصبي الصغير قدمَه فوق حذاء أبيه، وقفز خلفه مستقصيًا التيار بعصاه أثناء عبورهما، ليرى إن كان القاع صلبًا. نزل من فوق حصانه على الضِّفة الأخرى، وأعاد الحَمَلَ البُني لسَرج أبيه، وحثَّ النعجة والحَمَل الأسود على السير، وانطلق في هرولة متمايلًا، وعباءته الغُرنوقية تُرفرف خلفه. تبِعهم الحصان الكستنائي، وغابت القافلة في الأفق.
كان السؤال في ذلك الحين هو عما إذا كان ينبغي لنا نحن أيضًا أن نواصل المسير على ظهور الخيل. ولكن المياه كانت قد انخفضت بمقدار ثلاث بوصات ونصف في الليل، وعزم السيد جمال على تقديم عرض للحفاظ على عَقْده. جُمِع ثلاثون رجلًا من قرية مستترة عن الأنظار، بعضهم ليسحب من الأمام بالحبال، وبعضهم للدفع من الخلف. وصلت الشاحنة إلى منحدر المَخاضة، وطارت لتسقط بمقدمتها في المياه، وانقلبت وكادت تقتل الرجال الذين في المقدمة، وفي غضون عشر ثوانٍ كان التيار قد حملها بعيدًا للغاية لتخرج من الجهة الأخرى. تراجَعَت، وحوَّلَت طرفها الأمامي عن التيار، وسبحت في النهر بسرعة ثلاثين ميلًا في الساعة، يتبعها حشدٌ من الرجال الصائحين ذوي الجذوع المكسوة بالشَّعر ويعتمرون قلنسوات ضيقة، والذين جاءوا في الوقت المناسب لإعطائها دفعةً قوية أخرى على اليابسة عند المَخاضة الثانية على مسافةٍ أبعد مع اتجاه مجرى النهر. لم تمس نقطة مياه واحدة الأجزاء الأساسية للمحرِّك.
كانت بجلان نفسُها مجموعةً من القرى في الطرف الجنوبي للسَّهل، وكانت قائمةً وسط الحقول حيث كانت الذرة جاهزةً للحصاد ومفروشة ليجفَّ في كومات. عبَرنا نهر قندوز مجددًا عبر بلدة بُل خُمري، وهو جسرٌ قديم من القِرْميد ذو قوس واحدة، ووجدت بجواره مجموعة من القرنفلات البيضاء الصغيرة فوق قصبات طويلة. بدءًا من هناك أضحى الطريق ذا تجهيزات هندسية جيدة مع تدرُّجات طفيفة تُحمَل على حواجز أو تمرُّ عبْر قواطع، ولكن نظرًا لكونه لا يزال في أرضٍ ترابية، فلم يكن يوجد ما يحافظ على هذه الأشغال، وكانت الأمطار تقطع فيها كالجبن. وقد استوجب كلٌّ منها تقريبًا، بدلًا من أن تكون ملائمة، تحويلًا في الطريق عبْر أرض لم يكن بها طريق على الإطلاق.
حينئذٍ بدأ الجزء الأجمل على الإطلاق في الرحلة، الذي جعلنا نشتاق إلى أن نكون على ظهور الخيل. ابتعد الطريق عن النهر، وبدأ هجومًا مباشرًا على قلب جبال هندوكوش، صاعدًا معاقلها الخضراء، دون تعرُّجات، وإنما عبْر سلسلة من المرتفعات الشديدة الانحدار التي تقود من حَيدٍ لآخر. على جميع الجوانب، بالأسفل والأعلى، وعلى مرمى البصر، كانت جروف العشب المتموِّج مزينةً بتنوُّع لا نهائي من الزهور، الصفراء، والبيضاء، والأرجوانية، والوردية، النامية بصورة فنية رائعة؛ إذ ليست متقاربة للغاية، ولا شديدة التبعثر، ولا ينمو أيٌّ من أنواعها بإفراط، حتى بدا وكأن بستانيَّ أحدِ الأمراء، كما لو كان بيكون من الشرق، قد نسَّق سلسلة الجبال بأكملها. الهندباء البرية الزرقاء، وخبازات الخَطْمي الوردية الطويلة، ومجموعات زهور الذرة الليمونية اللون فوق عُقَد بُنية ضخمة، ورُقع من عناقيد زهرية مدبَّبة بيضاء قصيرة كالياسمين، ونبتة كاسر حجر كبيرة ذات أوراق مرقَّطة، وزهرة صغيرة بلون أصفر سمني، وبقلب بُني كمسك الحدائق، وباقات من قراصات زرقاء ووردية بأوراق غير لاذعة، وباقات متشعِّبة من زهور الكَركَند بلون زهري مورد، كل ذلك كان فقط غيضًا من فيض الزهور التي ومضت أمامنا من هذا البستان الملوَّن الشاسع الذي تحفُّه السُّحب من أعلى وتعاريج تركستان الشديدة الانحسار بالأسفل، كانت تغمز لنا أحيانًا من تحت شجيرات الفستق، بينما كانت شاحنتنا الخرِبة تصدر أزيزًا وتنفث دخانها ونحن نلعنها في طريقنا إلى أعلى ممرِّ كامبيراك.
مندفعين فوق المرتفعات الخضراء، وصلنا إلى ممرٍّ ضيق، بطول ميلين؛ حيث أصبح الطريق قاعَ سيلٍ من الحجارة السائبة، وبالكاد تمكَّنت الشاحنة من أن تندسَّ بين الجلاميد غير المتماسكة. عندما انفتح هذا، كان نهر قندوز أسفلنا مرةً أخرى؛ حيث ارتفعت قمم ثلجية هائلة من الجهة الأخرى له. عند هذه النقطة، قادنا النهر غربًا ممتطيًا أحصنته النهرية البيضاء صوبنا نزولًا على امتداد الوادي، حتى أرغمنا الظلام على التوقُّف في قريةٍ تُسمى تالة أو برفك أو تالة-برفك في بعض الأحيان.
استيقظنا هذا الصباح لندرك أننا تركنا آسيا الوسطى. كانت قبائل من الجنوب تتجه شمالًا، وكانوا من الأفغان الأصليين، الداكني البشرة، ويشبهون هنودًا في ملابسهم، ويسوقون صفوفًا من مائتَي أو ثلاثمائة جمل. توَّجت قلاعٌ مهدَّمة وجدران حصينةٌ المرتفعات المقابلة. جرى النهر، كما لو كان قد أثاره انحساره، مُزبِدًا من خانقٍ ترتفع جدرانه الصخرية العمودية مئات الأقدام نحو السماء الزرقاء. ظل هذا التكوين، تتخلله قرًى مزروعة من حين لآخر، مسافة أربعين ميلًا، وبدأ برسم لثلثَي دائرة. عبرنا النهر ثماني أو تسع مرات عبر جسور خشبية. اصطفَّت أشجار الرمان بزهورها القرمزية وشجيرات وردية من نوع ملتفة الثمار على حافة المياه. قادنا في النهاية جسرٌ آخر بعيدًا عن الطريق الرئيسي في اتجاه الغرب إلى وادي باميان.
منذ أن تركنا سهل نهر أوكسوس، ارتفعنا قرابة ٦٠٠٠ قدم، ولمعت ألوان هذا الوادي العجيب بجروفه ذات اللون الأحمر الراوندي، وقممه النيلية اللون المسقوفة بثلج متلألئ، والذرة النامية حديثًا ذات اللون الأخضر الفسفوري الحاد، بتوهُّج مضاعف في جو الجبال الصافي. أعلى الوديان الجانبية، وقعت عيوننا على أطلال وكهوف. شحب لون الجروف. وفجأة، كعشِّ دبابير ضخم، كانت كهوف الرهبان البوذيين التي لا حصر لها معلقةً هناك، ومتجمعةً حول تمثالَي بوذا العملاقين.
لاح لنا في الأفق من منحدر عبر النهر منزلٌ إفرنجي بسقف معدني. كان الحاكم غائبًا، لكن نائبه، الذي كان يشبه خنزير بحر مصاب بالربو في منامته الزرقاء، بدا قلقًا من وصولنا دون سابق إنذار وهاتَفَ كابول لإعلان الخبر. خرجنا إلى شرفة، ونظرنا لأسفل إلى الحقول الخضراء البرَّاقة؛ حيث كانت تصطفُّ على النهر الأزرق الرمادي أشجار حَور خضراء زبرجدية، والمسارات الترابية الحمراء التي يسوق فيها الفلاحون حيواناتهم، ثم نظرنا لأعلى لنجد تمثالَي بوذا، على بُعد ميل، يُطِلان على الشرفة كما لو كانا في زيارة من زيارات فترةِ ما بعد الظهيرة. سقطت صفحة من ضوء أصفر وبنفسجي من السُّحب. أصابت الواديَ رجفةٌ، تبِعتها هبَّة مطر. ثم اندلعت العاصفة وهزَّت المنزل طوال ساعة من الزمن. عندما انقشعت، كان يتناثر على الجبال النيلية اللون جليدٌ جديد.
يبلغ ارتفاع التمثال الكبير ١٧٤ قدمًا، والصغير ١١٥ قدمًا؛ ويفصل بينهما ربع ميل. يحمل التمثال الأكبر آثار قشرة جصية، والتي كانت مطلية باللون الأحمر، على ما يبدو كأساس للطبقة المذهَّبة. ليس لأيٍّ منهما قيمة فنية. ولكن يمكن لي استيعاب ذلك؛ فما يصيبني بالاشمئزاز هو إنكارهما للحِس، المتمثل في افتقارهما لأي فخر بضخامتهما الرخوة البشعة. وحتى المواد المستخدَمة ليست جميلة؛ حيث شُيد الجرف من الحصى المضغوط، وليس من الحجارة. أُعطي عدد كبير من الحفارين الرهبان مَعاولَ، وطُلبَ منهم أن يقلِّدوا تمثالًا مهيبًا من الهند أو الصين شبيهًا بتماثيل العصر الهِلينسْتي. لم تكن النتيجة منصِفةً حتى لكرامة العمال.
ظُلَّات الكوَّتين اللتين تحويان التمثالين مكسوَّة بالجص ومطلية. في الكوة الصغرى مُعلَّقٌ مشهد انتصار، بالألوان الأحمر والأصفر والأزرق، والذي تَعرَّف به هاكين وهِرتسفلد، وآخرون على تأثير ساساني؛ غير أن الدليل على هذه الفكرة يأتي من ماسون الذي رأي نقشًا بهلويًّا هنا قبل مائة عام. الرسومات حول رأس التمثال الأكبر محفوظة في حالةٍ أفضل، ويمكن تفحُّصها من كَثَب بالوقوف على الرأس نفسِه. على كلا جانبَي الكوة، أسفل انحناء القنطرة، تتدلَّى خمسة أنواط بقطر عشر أقدام تقريبًا، تحتوي على تماثيل بوديساتفا. يحيط بهذه التماثيل هالاتٌ على شكل حدوة حصان بالألوان الأبيض والأصفر والأزرق، ولها شعور مخضَّبة باللون الأحمر. وبين كل نوط والآخر توجد زهرة لوتس ثلاثية الأفرع، أو على الأقل ظننا أنها كذلك، مع أنها قد تُفسَّر في سياقات أخرى بأنها حامل مِصباح غاز كَنَسي يحمل ثلاث كرات زجاجية. يشغل المنطقة التالية بالأعلى رصيفٌ في مربعاتٍ تبدو بصورةٍ مخالفة لحقيقتها، وتشغل المنطقة أعلاها كسوة خشبية من ستائر بومبيانية ذات إطار من ريش الطاووس. يوجد أعلى هذا صفَّان آخران من تماثيل بوديساتفا الجالسة أمام هالات وعروش بالتناوب، والعروش مزيَّنة بسجاجيد مرصَّعة. وبينها كئوس كبيرة على سُوق، عليها نقوش تشبه الخطوط الساكسونية وملائكة الكروبيم الأطفال. المنطقة العليا مفقودة. الألوان هي الألوان الجصية العادية، وهي اللون الرمادي الأردوازي والأصفر الفاقع، ولون الشوكولاتة المحمر الصدئ، ومَسحة عُنابية باهتة، والأزرق الزاهي كلون زهرة الجريس.
تدل الأشكال على أن الأفكار الفارسية والهندية والصينية والهلينستية، تلاقت كلها في باميان في القرنين الخامس والسادس. من المشوق أن يكون لدينا تسجيل لهذا اللقاء. غير أن ثمرته ليست سارَّة. الاستثناء الوحيد هو الصف الأسفل لتماثيل بوديساتفا، الذي يقول عنه هاكين إنه أقدم من الصفوف الأخرى. إذ يتمتع بتلك الأجواء الساكنة، البهية رغم فراغها، وهو أفضل ما يمكن أن يتوقعه المرء من الأيقونات البوذية.
تحتفظ الغرف في الجرف بسجلٍّ مماثل من الأفكار المعمارية المعاصرة. كان الرهبان ملزَمين بإعطاء شكل معيَّن للأجزاء الداخلية لعمارتهم الشعائرية. ولكن من بين جميع الأعراف المتاحة أمامهم، لا بد أن الجزء الداخلي للقبَّة الحجرية الهندية كان بلا شك الأقلَّ ملاءمة لإعادة إنتاجه في أعمدة المونوليث. ومع ذلك، فقد حفروه هنا، بأقواسه المتدلية الضخمة، ودعاماته المتقاطعة الثقيلة، وقُبَيبته غير الملائمة. أسفر التأثير الساساني عن نتائجَ أكثر اتساقًا. إذ توجد صالة فسيحة تشبه على نحوٍ استثنائي الغرفَ المقبَّبة في فيروز آباد، ويمكن من خلال تشكيلاتها، المقسَّمة إلى أقواسٍ أو شيء من هذا القبيل أعلى حنايا المقرنصات، معرفةُ الكيفية التي استخدم بها الساسانيون الجص في الأصل. يظهر في كهوفٍ أخرى قبابٌ تستقر على جدران دائرية ومُثمَّنة، بعضها منحوت بإتقان، وأحدها مزيَّن بإفريز من الأرابيسك، يمكن أن يكون نموذجًا أوليًّا للإفريز الذي في مسجد الجمعة بقزوين، الذي بُني بعد هذا الأثر بستة قرون. إلا أن الرابط الأبرز مع العمارة الإسلامية، الذي يثبت اقتباسها المباشر من ابتكارات عابدي النار في الماضي، موجود في كهف مربع حيث تستقر قبَّة على أربع حنايا مقرنصة تتألَّف كلٌّ منها من خمس أقواس مركزية. يعاود هذا التصميم الأكثر تفردًا، بالإضافة إلى قوس آخر، الظهورَ في ضريح في كاسان بتركستان، بُني في القرن الرابع عشر.
ترك علماء الآثار الفرنسيون الكهوف في حالة جيدة، وأصلحوا الجص المطلي، وأضافوا سلالم عندما استلزم ذلك، ووضعوا ملاحظات واضحة بالفرنسية والفارسية لإرشاد أولئك الذين لم تُتَح لهم الفرصة لدراسة تقاريرهم المنشورة: «المجموعة سي؛ قاعة اجتماعات»، «المجموعة دي، الحرم، ذو تأثيرات إيرانية» … إلخ.
لا يزال طريق كابول، بعدما عاودنا الالتحاق به، يمضي بحِذاء رافد فرعي صغير أخير من نهر قندوز، أدَّى بنا تجاه ممر شیبر، خروجًا إلى تلالٍ جرداء كانت الذُّرة عليها لا تزال نِثارًا أخضر على التربة البُنية. هناك قابلنا رجلًا قال إن الطريق على الجهة الأخرى للممر كان مسدودًا بفعل انهيار أرضي. كان قد فات أوان استكشافه. ومن ثَم رجعنا إلى قريةِ شیبر، التي تتألَّف من مجموعة معزولة من المنازل تحت القمم الجرداء.
في هذا الصباح في باميان، انطفأت النار بينما كان كريستوفر يخفق البيض بخنجره، وطلب من «راعي الأبرشية» إحضارَ المزيد من الخشب. وطلب ذلك منه مرةً أخرى. ثم حثَّ الرجل بالخنجر. الآن في شیبر، أراد «راعي الأبرشية» و«القس» مشاركتنا غرفتنا. قلنا إنها ليست كبيرة بما يكفي. لم يكن «راعي الأبرشية» معتادًا على هذه المعاملة، وألقى علينا محاضرة حول الأمر. قال إنه لا شك في أن لنا عاداتنا الإفرنجية. ولكنه يرجونا أن ندرك أن، في أفغانستان، كل شيء يعتمد على الصداقة. إذا فعل أشياءَ من أجلنا، فهذا لأننا أصدقاؤه، وليس لأننا طلبنا منه أن يفعلها. وأنه حارس في وظيفة حكومية، وليس خادمنا. وأنه يأمُل أن نكون، لِما تبقَّى من الرحلة، أصدقاء جيدين؛ كي «يتمكن» من فعل أشياء لنا. وهكذا.
ليس خطؤنا أنه ليس معنا خادم. فقد حاولنا الحصول على واحد في كل مدينة ذهبنا إليها منذ كنا في هِرات، وفي كل مرة كانت السلطات تجيبنا بأن الحراس الذين يمدوننا بهم سيعملون كخدم. ومن ثَم فنحن في تنمُّرنا على «راعي الأبرشية» لا نفعل شيئًا سوى تطبيق كلام السلطات. ومع ذلك، فقد أحرجنا كلامه.
أعدَّ القرويون حفلًا غنائيًّا بعد العشاء.
قال «القس»: «لا تُعزف الموسيقى الجيدة إلا في أفغانستان، وبلاد فارس، وإنجلترا، والهند.»
سأل كريستوفر: «ماذا عن روسيا؟»
«روسيا؟ الموسيقى الروسية رديئة بلا شك.»
يبلغ ارتفاع ممر شیبر ١٠ آلاف قدم، وكنا قد اقتربنا من خط الثلج قبل أن نترك التدفُّق الأخير لنهر قندوز؛ حيث بدأ في رحلته الطويلة إلى نهر أوكسوس وبحر آرال. بعد خمس دقائق بدأ تدفُّق آخر في رحلة إلى نهر السند والمحيط الهندي. تتسم الجغرافيا بإثارة خاصة.
بعد تجاوز الممر بمِيل، بلغنا الانهيارات الأرضية الأولى، وهي كومات من الوحل السائل والحصى التي تُخفي صخورًا كبيرة. وها قد شرعت مجموعةٌ من عمال الطرق الجيدين في العمل. ولكن عند مجموعة العقبات الثانية والأضخم، بعد عشرة أميال، لم أجد سوى بعض القرويين المرتبكين الذين كانوا يتمرَّغون في الوحل كالأطفال، واضطُررت لأداء دور رئيس العمال لأفرض بعض النظام على عملياتهم. الآن كانت المحاصيل أسفل الطريق، التي كانت بالفعل شِبه تالفة نتيجة لأنهار الوحل، مُهدَّدةً بفيضانٍ آخر، وهُرعت النساء الهلعات المسكينات من القرية بالمناجل لإنقاذ المتبقي منها لاستخدامه ككلأ. رأى أهل القرية أن من واجبهم إخلاء الطريق، لكن ذلك لم يكن رأي مجموعة من سائقي البغال الذين تصادف مرورهم، واستُقبلوا، عند احتجاجهم على إجبارهم على هذا العمل، بوابل من الضربات من السيد جمال، وبمشهد «القس» وهو يصوِّب بندقيته تجاههم. فأذعنوا فزعين.
كان النهر، النهر الجديد الذي يجري إلى الهند، مكسوًّا بورود وردية اللون ونباتات سبيريا بيضاء. ازداد أهل الوادي خصوبةً. وأحاطت بساتين من الجوز بالقرى؛ حيث كان التجار الهنود بعمائمهم المبهجة الضيقة يجلسون في متاجرهم. وبعد ذلك، كصفعة على الوجه، أتى جسر شاريكار الحديدي.
أدَّى بنا طريق منحدِر متعرِّج نزولًا من هضبة شاريكار إلى سهلٍ أصغر داخل حلقة من الجبال؛ حيث ومضت المياه الجارية وألواح الحديد المموجة وسط الأشجار. عند مدخل العاصمة، جرَّدت الشرطة «القس» و«راعي الأبرشية» من بندقيتيهما، مما أزعجهما كثيرًا، ولكن ما كان أحد سيصدق أنهما موظفان حكوميان بسبب عمائمهما. مضينا بالسيارة إلى مكتب الخارجية؛ حيث كانت النباتات المتسلقة الإنجليزية الحمراء الزاهية تتسلق الدرابزين الحديدي، ثم إلى الفندق حيث كانت توجد أوراق للكتابة في كل غرفة نوم، ثم إلى المفوضية الروسية حيث لم يكن قد وصلهم ردٌّ على تلغراف السيد بورياتشينكو، ثم إلى المتجر الألماني، حيث رفضوا أن يبيعوا لنا شراب الهوك دون إذن من وزارة التجارة؛ وأخيرًا إلى مفوَّضيتنا حيث طلب منا الوزير، السير ريتشارد ماكونوتشي، أن نقيم. المفوَّضية منزلٌ أبيض، تُضفي عليه الأعمدة مهابةً، ومؤثَّث كما لو كان في الوطن، دون شبكاتِ بعوضٍ أو مراوحَ تُذكِّر المرء بالشرق. يقول كريستوفر إنه يجد أن من الغريب أن يكون في غرفة لا تتساقط حوائطها.
يتوافق الرأي في القنصلية مع اعتبار أنه من السُّخف رفضُ منْح الدبلوماسيين الروس في كابول تأشيراتِ مرور عبر الهند. حتى إذا تقدَّموا بعيدًا في اتجاه الحدود وصولًا إلى منطقةٍ مثل جلال آباد، تُرسل حكومة الهند شكاوى رسمية. والنتيجة هي نوع من الاتفاق الضمني بين المفوَّضيتين والحكومة الأفغانية على منْع الإنجليز من السفر في شمال البلاد، وعلى منْع الروس من السفر في جنوبها. لهذا السبب لم تتمكَّن السلطات في مزار من السماح لنا بعبور نهر أوكسوس، مع أنهم لا يعترفون بهذا السبب كي لا يبدو أنه يحدُّ من سيادتهم. كنا محظوظين لتقدُّمنا إلى هذا الحد، وخاصةً أنه يبدو أن حاجي لال محمد الذي أحضر السيارة، وسائقنا جمشيد تاروبوريفالا، أشاعا حكايةً مفادها أننا عملاء سرِّيون نعمل في وضع الخرائط. في المرة التالية التي أقوم فيها برحلة كهذه، سآخذ دروسًا في التجسُّس مسبقًا. ولأن عليَّ تحمُّل عيوب المهنة بأي حال، فقد أجني كذلك بعضًا من مميزاتها، إن كان لها مميزات.
تعتمد الدبلوماسية البريطانية الآن على ورود الوزير. ففي حفل عيد ميلاد الملك، في ٣ يونيو، كان قد اكتمل تفتُّحها، ولم يكن الأفغان، المحِبُّون جميعهم للورود، قد رأوا زهورًا رسمية بهذا الحجم من قبل. في الصباح التالي، كانت بطاقات الزيارة من وزير البلاط ترفرف من أجود الأشجار؛ فقد تركها البستاني الخاص به في الليل. الآن يريد جميع الوزراء الآخرين غرسات أيضًا، كما يحدِثون لغطًا حول زهور الفاوانيا، التي وُعِدوا بها للعام التالي.
كانت باقات الورود الرسمية بديعة، ولكنني أفضِّل شجرةً أفغانية تقف عند البوابة في المقدمة. يبلغ ارتفاعها خمس عشرة قدمًا، ومكسوة بزهور بيضاء وافرة حتى إنه لا تكاد تُرى منها ورقة واحدة.
الحديقة هنا بهيجة جدًّا حتى إنه يصعب مغادرتها، وعامرة بأزهارِ سويت ويليام، وأجراس كانتربري، وزهور الحوض المزروعة وسط العشب، والمصاطب، والتعريشات الظليلة؛ قد يحسبها المرء إنجلترا حتى يلاحظ الجبل الأرجواني خلف المنزل الأبيض الكبير. يوجد تسعون شخصًا في المنشأة بأكملها، وفي ملعب التنس هذا المساء كان يوجد ستة من جامعي الكرات في زيِّهم الموحَّد في مباراة واحدة. يشتكي أناس، رغم أنني لم أُرِد قطُّ أن أفعل مثلهم، من أن سفاراتنا ومفوَّضياتنا ترى أنه ليس من واجبها ألا تساعد الزائرين، وذلك اعتمادًا على رسالةِ اللورد ساليسبري. قد لا يوجد غرضٌ آخرُ من وجود هذه المفوَّضية، بغضِّ النظر عما يمكن أن يراه الزائر. وليس فقط الزائر الإنجليز. فالأمريكيون الذين يأتون إلى هنا غالبًا ما يواجهون صعوباتٍ من نوعٍ ما، ولعدم وجود مفوَّضية لهم، يطلبون المساعدة من مفوَّضيتنا، وبالفعل ينالونها.
ينتصب «برجا النصر» الشهيران، وبينهما مسافة ٧٠٠ ياردة، على الطريق إلى قرية روضة؛ وهما جذعان على شكلِ نجمة ثمانية، ارتفاعُ كلٍّ منهما سبعون قدمًا، ولهما الآن سطح من قبَّعة من القصدير لتجنيبهما المزيدَ من التلف. يُبين فيجيني الذي رسمهما سنة ١٨٣٦، أن هيكليهما الفوقيين الدائريين كانا يفوقان ضِعف ارتفاعهما. بُنيا كمئذنتين، تذكاريتين وليستا دينيتين؛ إذ لا تدل الأرضية على أنه كان يوجد مسجد في المنطقة في أي وقت من الأوقات. كان من عادات الساسانيين بناء أبراج كهذه، وبعد مجيء الإسلام استمر الفُرس في هذه العادة، حتى حوالي القرن الرابع عشر. والمآذن في دامغان وسبزوار، والكثير من المآذن في أفغانستان، منعزلةٌ على نحوٍ مماثل.
كان يوجد دومًا خلطٌ حول بناةِ هذين البرجَين. نشر جيه إيه رولينسون النقوشَ المحفورة عليهما سنة ١٨٤٣، ونسبَ أكبرَ البرجين وأفخمَهما إلى محمود، ابن سُبُكتِكِين، مؤسِّس الإمبراطورية الغزنوية وراعي الفردوسي وابن سينا. ولكن لا بد أن رولينسون قد اختلط عليه الأمر في ملاحظاته؛ ففي عام ١٩٢٥ عندما تحصَّل فلاري الاختصاصي في دراسة النقوش على بعض الصور الفوتوغرافية، وجد أن النقش ذا الصلة بمحمود كان في الحقيقة على البرج الأصغر، بينما يحمل البرج الأكبر نقشًا بِاسم سليله مسعود الثالث، ابن إبراهيم. ولذلك، فلا بد أن البرج الأصغر يرجع إلى ما قبل عام ١٠٣٠، وأن البرج الأكبر يرجع إلى ما بين عامَي ١٠٩٩ و١١١٤.
يتمثَّل الفرْق بينهما في الاتساع؛ حيث يبلغ قُطر البرج الأكبر، مع استبعاد القاعدة الصخرية، حوالي أربع وعشرين قدمًا، بينما يبلغ قُطر الأصغر حوالي اثنتين وعشرين قدمًا. كلاهما مبني بقِرْميد بلون بني غني مشوب بلون أحمر، ومزيَّن بطين نضيج محفور باللون نفسِه. في كلا البرجين، كلُّ تجويف من التجاويف الثمانية بين الأطراف المستدقة للنجوم مقسَّم إلى ثماني مناطق مزخرفة بأعماقٍ مختلفة. بين المناطق الثالثة والرابعة، والخامسة والسادسة، والسادسة والسابعة، تقطع البناءَ القِرْميدي رافداتٌ خشبية.
باستثناء الأنماط المتعرِّجة التي نُظم القِرْميد بها، تقتصر زخرفة البرج الأصغر على شريطين ضيقين من الطين النضيج في المنتصف، وعلى الألواح الستة عشر من الكتابة الكوفية العريضة بالأعلى، التي تصف محمود بأنه «السلطان المهيب، وملك الإسلام، ومؤتمَن المجتمع، وأبو المظفر، وسند المسلمين، وعون الفقراء، أبو القاسم محمود — أنار الله ثباته — ابن سُبُكتِكِين الغزنوي … أمير المؤمنين». البرج الأكبر أكثر ثراءً، وقِطَع القِرْميد فيه متقاربة أكثر، وجميع المناطق الثمانية مملوءة بزخرفة متقنة، ومؤطَّرة بنقوشٍ أقل في بعض الأحيان. يوجد ستة عشر لوحًا آخر حول الجزء العلوي فيها عرْضٌ بألقاب مسعود، ويتميز خطُّها الكوفي بأنه أطول وأجمل؛ إذ يبرز من متاهةِ أنماط كجنود يخرجون من حشد. بشكل عام، عندما يتعلَّق الأمر بمقارنة مبنيَين متشابهين في التصميم لكنهما يعودان إلى عصرين مختلفين، تكون بساطة المبنى الأقدم مفضَّلة. الأمر هنا ليس كذلك. فلجودة أشغال القِرْميد في البرج الأكبر ودقَّة زخرفته خصائص وظيفية. إذ تجعلان البرجَ ثابتًا على الأرض؛ مما يمنحه ذلك الشعور بالقوة والتماسك الذي يحتاج إليه لدعم العمود أعلاه. تُظهر صورةٌ قديمة في المفوَّضية بكابول، التُقطَت حوالي عام ١٨٧٠، تفاصيلَ هذا العمود. كانت أول خمس وعشرين قدمًا بسيطة وربما كانت مخفية، عندما بُني البرج لأول مرة، وكانت له شرفة خشبية. قُسِّم بعد ذلك إلى أضلاع زخرفية، منحنية ومسطَّحة بالتناوب. يعلو ذلك ثمانية أزواج من الكوَّات المتطاولة وطوقٌ من النحت يبدو وكأنه كان يحتوي على نقش بالخط الكوفي.
من المثير للاهتمام أن أتذكَّر أن هذه المئذنة بُنيت في القرن نفسِه الذي بُنيت فيه مئذنة قنبد قابوس. كلتاهما ضخمة، وتستحق الإفراط في التفاخر. لكن الفرق بين زخرفة إحداهما وبساطة الأخرى يُظهر أن فكرتين مختلفتين كانتا قائمتين في العمارة الفارسية في ذلك الوقت. كانت العمارة السلجوقية، التي تلت ذلك، ثمرةَ هاتين الفكرتين، وورثت عبقرية كلتيهما محقِّقةً التوازن المثالي بين الزخرفة والبناء.
استقطب قبر السلطان محمود، الذي يقع في قرية الروضة على بُعد نصف ميل، انتباهَ الرحالة أكثرَ من البرجين. يقول ابن بطوطة، في منتصف القرن الرابع عشر، إنه كانت تعلوه تكية. زاره بابر بالطبع، ورأى قبرَي السلطانين إبراهيم ومسعود القريبين. وبعد ذلك أتى إليه فيجيني في عام ١٨٣٦، وبعد ست سنوات، جاء جيش إنجليزي، وهو الذي أخذ بوابة القبر لأن مؤرِّخًا أحمقَ — أعتقد أنه كان فيريشتا — قال إنها بوابة معبد سومناث الهندوسي في جوجارات، وإن محمودًا سرقها عندما نهب المدينة. استُخدمت معجزات وسائل النقل (إذ يبلغ قياسها ١٦ قدمًا ونصفًا في ١٣ قدمًا ونصف) لإحضارها إلى أجرا، بينما طلب اللورد إلينبورو من أمراء الهند ملاحظةَ إلى أي مدًى «تُثبِت الحكومة البريطانية حُبها لكم، عندما تعتبر شرفَكم شرفَها، وتستخدم قوة قواتها لتعيد إليكم بوابة معبد سومناث، التي ظلت زمنًا طويلًا تَذكارًا لخضوعكم للأفغان». أدَّت السخرية التي قوبل هذا الإعلان إلى إرسال البوابة إلى مكان في غياهب الحصن في أجرا، حيث لا تزال هناك. خشبها من خشب الدوداري الأفغاني، وبها نقشٌ على عتبتها يدعو بالمغفرة من الله لأبي القاسم محمود، ابن سُبُكتِكِين. ومع ذلك، فإن أسطورةً أصلها الهندوسي لا تزال موجودة في الكتب المدرسية. بإمكان حكومة الهند دحضُ البوابة تمامًا. لم يتمكَّن أحدٌ قطُّ من إيجاد مسوِّغ لسلبها حتى بنشر وصف لنقوشها، التي تتسم بالتفرُّد في الفن الإسلامي.
بعد الحرب، عندما كان نيدرماير هنا، كانت المقبرة مكشوفة. وجدناها الآن تحت قبَّة فسيحة، ويمكن الوصول إليها عبْر أروقة مسقوفة وحديقة ورود.
كان ثلاثة رجال مسنين يتلون القرآن من مصاحف كبيرة، بينما انحنى مرشدانا فوق سور خشبي لإزالة الغطاء الأسود؛ لتهتزَّ بَتَلات الورود التي كانت تغطيه وتشكِّل كومةً في إحدى نهايتيه. وعندئذٍ ظهر مهدٌ حجري مقلوب بنهايتين مثلَّثتين، وبطول خمس أقدام وارتفاع عشرين بوصة، على وطيدةٍ عريضة. الحجر من الرخام الأبيض وشبه الشفاف. على الجهة التي تواجه مكة، يوجد نقشٌ بالخط الكوفي في صفَّين يبدأ بالعبارة: «تقبَّل الله بقبولٍ حسنٍ الأميرَ النبيل والقائد نظام الدين أبا القاسم محمود بن سُبُكتِكِين». وعلى الجهة الأخرى، حلية صغيرة ثلاثية الأوراق مكتوب عليها: «توفِّي … مساء يوم الخميس قبل انتهاء شهر ربيع الثاني بسبع ليالٍ، سنة ٤٢١.» كان ذلك يوافق ١٨ فبراير ١٠٣٠.
تكمُن قيمة المقبرة كعمل فني في عمقِ نحتِها ووفرتِه، وفي لمعانِ الرخام الذي مرَّ عليه الزمن، وقبل كل شيء في النقش الرئيسي. يتميز الخط الكوفي بجمالٍ ذي وظيفة عملية؛ فعند النظر إليه من الناحية التصميمية البحتة، يبدو بروزه الفريد في حدِّ ذاته شكلًا من أشكال الخطابة، في نقله للحديث من صيغته المسموعة إلى صيغةٍ مرئية. لقد استمتعت برؤيةِ عدة نماذج له في الأشهر العشرة الماضية. غير أنه لا يمكن لأيٍّ منها مضاهاة هذه الرموز المتناغمة الطويلة، التي تتداخل معها أوراق أشجار متراقصة، والتي تنعى فقْدَ محمود، فاتح الهند، وبلاد فارس، وأوكسيانا، بعد تسعة قرون من وفاته، وفي العاصمة التي حكم منها.
أُبعدَ الحشد الذي تبِعنا إلى الحديقة من الضريح بينما كنا نشاهد القبر؛ مما أغضب رجلًا أراد الصلاة في المكان. صاح قائلًا: «لمَ تسمحون بدخول أولئك الكتبة المهرطِقين؟ هذا لا يصح.» أيَّده الحشد، وبدأ الناس في الصياح أيضًا، حتى إنهم قد هدَّدوا حارسَينا بأن يتعاركوا معهما. لقد كانت زيارة القبر من اقتراحهما. وكان وزير الخارجية قد أرسل برقيةً من كابول تفيد بأنه يمكننا أن نرى كل شيء.
سمِع السيد جمال أنه بُعَيدَ عبورنا تحطَّمت شِحنتان تمامًا بفعل التيار الذي عطَّلنا على سهل بجلان، وأن العبَّارة في نهر قندوز انقلبت وغرقت، وأغرقت خمس نساء.
نقيم الآن في الفندق الموجود هنا، الذي يديره الهنود ولا يخلو من أمارات التحضُّر؛ فقد انتهَوا للتو من بناء ملحق وأرسلوا برقيةً يطلبون فيها رئيسَ طهاة ألمانيًّا. تتسم كابول في معظم أنحائها بالبساطة والتواضع، كما لو كانت بَلْخ بالمعنى الجيد للتعبير. فهي تتمركز حول بضعة تلال جرداء ترتفع فجأةً من السهل الأخضر وتعمل كدفاعات للمدينة. وتزيِّن الجبالُ الثلجية الأفقَ، ويقع المجلس النيابي في حقل للذُّرة، وتخفي جادَّات طويلة مشارفَ المدينة. في الشتاء، على ارتفاع ٦٠٠٠ قدم، قد تكون البرودة صعبة. لكن الطقس في الوقت الحالي رائع، فهو حارٌّ ولكنه منعِش دائمًا. دُور السينما والمشروبات الكحولية ممنوعة. وقد كان على طبيب المفوَّضية الامتناع عن علاج النساء بناءً على طلب الكنيسة، ولكنهن يترددن عليه أحيانًا متنكراتٍ في هيئة صِبية. وسياسة التغريب القسرية غير مطبَّقة. ومع ذلك، يُباشر التغريب بالاقتداء، وأشعر أنه ربما يكون الأفغان قد وصلوا للاعتدال الذي تتطلع إليه آسيا. فحتى أكثرهم قومية يُظهر تباينًا مُرضيًا مع إثبات الذات المُختالة التي يتمسك بها الفارسي المعاصر.
التقيت هذا الصباح في المفوَّضية بالكولونيل بورتر، الذي سألني عن طبيعةِ عملي. فقلت إنني كنت أشاهد العمارة الإسلامية.
ردَّ قائلًا: «فلتعلم أنني رأيت قدرًا كبيرًا من العمارة الإسلامية بطريقة أو بأخرى في فلسطين ومصر وبلاد فارس، وقد كرَّست قدرًا كبيرًا من التفكير في المسألة. ويمكنني أن أخبرك بحل المشكلة إن أردت.»
«حقًّا. ما هو؟»
«الأمر برُمَّته «ذو طبيعة قضيبية»»، ونطق بالكلمة بهمسٍ بغيض.
هالتني لأول وهلة ملاحظةُ أن لفرويد تأثيرًا على الحدود الشمالية الغربية، ولكن سرعان ما اكتشفت أن العالَم بأسْره من منظور الكولونيل بورتر كان ذا طبيعة قضيبية.
عصرًا، أوصلَنا فليتشر من المفوَّضية بالسيارة إلى دار الأمان وبغمان، حيث أحلامُ أمان الله غير المكتملة. كان من المقرَّر أن تكون المدينة الأولى نيودلهي، والأخيرة سيملا جديدة، اللتين بُنيتا بالإعانات المالية الإنجليزية، التي ادخرها والد أمان الله، حبيب الله، عامًا بعد عام ولم يُنفِقها قطُّ. تتصل دار الأمان بكابول بجادَّات من أجمل الجادَّات في العالم، بطول أربعة أميال، مستقيمة تمامًا، وباتساع طريق جريت ويست، وتصطفُّ فيها أشجار الحَور ذات الجذوع البيضاء الطويلة. تجري أمام أشجار الحَور جداول تحوطها حواف عشبية. وخلفها ممراتُ مشيٍ مظلَّلة وتشابُك من الورود الصفراء والبيضاء، التي اكتمل ازدهارها الآن والغنية بالرائحة العطِرة. ثم في النهاية، يا إلهي، تظهر الزاوية — وليس حتى الواجهة — ذات الأبراج لمكتب بلدية فرنسي تحيطه حديقة بلدية فرنسية مهجورة تمامًا. بينما أسفلها، تمامًا في مركز المشهد بأكمله الممتد لأربعة أميال، يوجد مصنعٌ ألماني لأعواد الثقاب مبني على طراز منزل ريفي بالأسمنت المسلَّح.
تمتد بغمان، أو سيملا الأفغانية، على منحدرٍ مكسوٍّ بالأشجار على ارتفاع ألفين أو ثلاثة آلاف قدم فوق السهل؛ حيث تتخلل الفرجاتُ العشبيةُ أشجارَ الحور والجوز، وتعزف أوركسترا من جداول الجبال، ويظهر الثلج عبر الأشجار قريبًا على نحوٍ غير متوقع. في كل فرجة يوجد منزل أو مكتب أو مسرح بذلك المظهر المريع، الذي يُذكِّر على نحوٍ سيئ بالمنتجعات الصحية الألمانية والمناطق الخلفية من حي بيملكو في لندن، لدرجةٍ يستحيل معها تصوُّر أين وجد أمان الله المهندسين المعماريين لتصميم تلك المباني، ولو على سبيل المزاح. ولكنها ليست مزحةً على الإطلاق. فهذه المباني غيرُ المأهولة، والبالية، والبغيضة، تلوِّث منظر الغابة والجداول ومشهد السهل أسفلها، حيث تمضي الممرات الظليلة الضيقة متعرجةً عبر الحقول غير المنتظمة. يتمثَّل أوج هذه الحضارة الزائفة في حلبة سباق، لا تتجاوز في حجمها حقلَ كريكت، أُجبرت الفيَلة على التسابُق حول أركانها الحادة.
اشتريت بعض اللازورد، ليس لأنه كان رخيصًا أو جيدَ اللون، ولكن لأنه يأتي من المناجم الشهيرة بالقرب من إشكاشم في ولاية بدخشان؛ ومن ثَم فهو حجر أصلي طحنه الرسامون القدامى للحصول على اللون الأزرق. يخضع بيعه لاحتكار حكومي، وتذهب جميع صادرات المناجم إلى برلين.
خرج كريستوفر لشرب الجِعة مع مُعلِّم ألماني، بينما كنت أنا، مثل مَرْثا في الكتاب المقدَّس، المُرتبِكة في خِدمةٍ كثيرة، منشغلًا في حَزْم الأمتعة ودفع الفاتورة. لقد حلَّ منتصف الليل.
مع توالي الممرات، تجد ممرَّ خيبر لطيفًا على نحوٍ ممتع. وهذا هو ما يجعله مسرحًا لمثلِ هذه الأعمال المذهلة. تُفسِح مساراتُ آسيا الوسطى؛ حيث خطُّ الهاتف الوحيد على أعمدته الخشبية الواهنة، مجالًا لمعرفة الوفرة الرومانية. لا يوجد طريق واحد فقط، بل طريقان متدرِّجان ينعطفان صعودًا وهبوطًا على طول الممر الضيق: الطريق الأسفلتي الأملس كشارع بيكاديللي والمُحاط بأسوار منخفضة ذات فتحات، والآخر، سلفه، متروك للجِمال، ولكنه لا يزال طريقًا سريعًا لم نشهد مثله منذ كنا في دمشق. متشابكًا مع كلا الطريقين، يأتي طريقٌ ثالثٌ أكبر، وهو سكة حديدية، تؤدي إلى مقدمة الممر وسرعان ما تمتد بعده، متلألئةً عبر الأنفاق، التي تنحسر أفواهها السوداء، المحاطة ببوابات ضخمة من البناء الأحمر، إلى المسافة الرمادية الموحِشة. تحدُّ الطريقين والسكة الحديدية من الجانبين أرصفةٌ من حجارة مقطَّعة تربط بين الجبال، وتحملها جسورٌ حديدية عبر الوديان وفيما بينها. وحُزَم من أسلاك الهاتف مثبتة على أعمدة معدنية بواسطة عوازل بيضاء لامعة، وإشارات حمراء وخضراء ترصِّع الضباب في الجو الحار المتقد، وأحواض شرب على شكل توابيت قديمة، وعلامات طريق متباعدة، بين الواحدة والأخرى ثلاثين ياردة، عن اقتراب إل، وجيه، وبي — لندي كوتال، وجمرود، وبيشاور — جميعها تُكمل الدليل على المعاقل الرمادية الأنيقة الجاثمة على كل حافة وقمة، والتي تفيد بأنه إذا كان على الإنجليز أن يهتموا بالدفاع عن الهند، فذلك ينبغي أن يتحقَّق بأقل قَدْر من الإزعاج للأفراد. كان هذا شعورنا. كان مشهد الحس السليم هو ما أبهجنا وسط الحرارة الرهيبة، حيث أوكار رجال القبائل، والصلات العميقة بين الحجاج والفاتحين، مشهد يبعث على الرضا والتفاخر بالوطنية.
كان السيد جمال في حالة من الهياج. وصرخ متجهِّمًا من المظهر المتألق للطريق قائلًا: «سَرَك بِسیار خَرَاب! يا له من طريق سيئ للغاية! يجب أن تحلوا ضيوفًا عليَّ الليلة في خيبر.» مررنا بلندي كوتال، حيث كان أفراد فوج هامبر من جوركا يلعبون الهوكي، ولكننا لم نرَ أيَّ ضبَّاط باستثناء أولئك الذين كانوا يمرون بسرعةٍ كبيرة في ملابس التنس وسيارات الموريس؛ ومن ثَم لم نتمكَّن من إيصال رسائل هامبر. في قرية خيبر، وهي قرية عادية على الممر، حيث كان كلُّ منزل منطقةً مسيَّجةً محصَّنة لها برجُ مراقبة خاص، توقَّف السيد جمال، وقفز حشدٌ من الأطفال المشاكسين في الشاحنة، غير عابئين بنا أو بحقائبنا، لتحية والدهم. هُرع مالك الشاحنة، وهو رأسمالي كبير، من منزله ليرى كيف كان حال شاحنته على الطرق الأفغانية. كشف مساعد السيد جمال، رافعًا المقعدَ الأمامي، عن مخزون سِرِّي من السُّكر الروسي اشتراه في مزار. وصل أقاربه أيضًا، وسرعان ما تجمَّعت القرية بأكملها في حلقة للترحيب بالغائب، بعد ثلاثة أشهُر من الغياب.
كنا نودُّ قَبول دعوة السيد جمال. فقد كان سيصبح من الممتع أن نسير إلى ثُكنات لندي كوتال في اليوم التالي، وأن نُظهِر تبسُّطًا بقضاء الليلة على الطريق مع سائقنا. ولكننا حتى الآن لسنا متأكدِين مما إذا كنا سنلحق بالباخرة «مالوجا» في بومباي. بروح دعابته المعتادة، ترك السيد جمال أُسرته وتابَع المضيَّ بنا على الطريق. انفرجت التلال، كاشفةً عن الأشجار اللانهائية المتناثرة في أنحاء الهند. في السابعة والنصف، كنا نحتسي شراب الجين الفوَّار في الصالة الرخامية بفندق دِين.
ودَّعَنا السيد جمال بأسًى شديد. كان قد قطع بنا مسافةً إجمالية تُقدَّر بنحو ٨٤٠ ميلًا ما بين مزار وبيشاور. لم يكن قَطُّ سيئ المزاج أو مكتئبًا بسبب العقبات، بل كان دائمًا هادئًا، ومبتهِجًا، ودقيقًا في المواعيد، ومهذَّبًا، ومتقِنًا لعمله. خلال الرحلة بأكملها، وعلى أصعب الطرق التي يمكن أن تمرَّ عليها السيارات، لم نرَ مرةً واحدةً صندوق الأدوات يُفتح أو إطارًا يتغيَّر.
كانت الشاحنة من طراز شيفروليه.
كان من الغريب أن أرى عند قطب منار زخرفةً على الطراز السلجوقي منحوتة في الحجر وليس في الجص. لقد ذهبَت عنها ميزتها بهذه المادة الأخرى؛ إذ تصبح هنديةً ومتكلَّفةً وتفقد حريتها.
غادر هذا القطار بيشاور بعد خمس عشرة ساعةً فقط من مغادرتنا لها؛ لذلك لم يكن لدينا كثير من الوقت.
بعد تجرِبة سابقة في رحلةٍ مبهِجة حقًّا مع شركة بي آند أوه في الموسم المزدحِم، ركبت والفزع يعتريني. غير أن ذلك كان قبل أربع سنوات، عندما كانت المنافسة الإيطالية قد بدأت لتوِّها. ألمَسُ الآن تغييرًا نحو الأفضل في السلوك والالتزام. كما أن القارب نصف ممتلئ فقط؛ ومن ثَم نجونا من الإقامة في مقر إقامة جماعي. رغم ذلك، فالأمر أشبه بعقوبة مروِّعة؛ حيث يُمحى أسبوعان من حياة المرء بتكلفة كبيرة.
أجاب كريستوفر: «لا، ولكنني كنت في أفغانستان.»
قال تشيتشيستر: «آه، أفغانستان، إنها في الهند، أليس كذلك؟»