الفصل الثالث
سيرة تيليش: تطوره الفكري وتشكُّل الأُطر
باول تيليش ألماني، وُلد في العشرين من أغسطس عام ١٨٨٦م في قرية إشتارتسيدل Starzeddel بمقاطعة براندنبورج Brandenburg في بروسيا بألمانيا الشرقية،١ أبوه منها، ولكن أمه من مقاطعة رينيلاند بألمانيا الغربية، ولعل هذا أول
توتُّر له على قلب حدود — الحدود بين ألمانيا الشرقية وألمانيا الغربية؛٢ تحمل الأولى ميلًا ما للتأمُّل، مرتبطًا بكآبة ووعي حاد بالواجب والخطيئة
الشخصية، ولا يزال بها احترام كبير للسلطة والتقاليد الإقطاعية؛ أما ألمانيا الغربية
فتميزها الفتنة بالحياة، وحب التعيُّن والحركية والعقلانية والديمقراطية، فأثَّرت هذه
السمات المتصارعة على سياق حياته الداخلية والخارجية. وعلى الرغم من أن أمه ماتت
مبكرًا، وبالتالي كان تأثير أبيه هو المهيمن، فإن أُطر ميراثه من بيئته لم تعرف أبدًا
الترابط والانسجام، بل دائمًا التوتُّر على الحدود، مما يفسِّر لنا رؤيته للتاريخ بأنه
اختيار لخطٍّ يتجه صوب هدف، بدلًا من الفكرة الكلاسيكية التي تراه دائرة مغلقة؛ فمضمون
التاريخ في نظره تشكِّله فكرة الصراع بين مبدأين متعارضين. والحقيقة ديناميكية، نجدها
في قلب الصراع أو القدر٣ أو على الحدود بين المبدأين المتصارعين.
وقد قضى سنوات صباه في شونفليس؛ حيث كان أبوه — وهو لاهوتي محافظ، وقسيس بروتستانتي
كبير من رعاة الأبرشية اللوثرية — كان يعمل في منصب ديني رفيع كأسقف ومدير لكنيسة
الإقليم. وشونفليس مدينة صغيرة وهادئة شرق الألب، أُنشئت في العصور الوسطى، وما زالت
محتفظة بشيء من طابعها، ومحاطة بمراعٍ خصيبة وغابات كثيفة، مما ترك في الصبي باول
انطباعًا عميقًا بالطبيعة وإحساسًا رومانتيكيًّا بعبق التاريخ، فضلًا عن الارتباط
بالكنيسة بوصفها حاملة المعنى المقدَّس في قلب الحياة الإنسانية، «إنها المكان الذي
ينبغي أن نعيش فيه الخبرة بالسرِّ المقدَّس؛ نعيشها برهبة وجفول علوي.»٤
ومع هذا كان ينازعه دائمًا اشتياق لزيارة المدينة الكبيرة — برلين. وكان الخط الحديدي
الذي ينقله إليها هو في حد ذاته نصف أسطورة؛ وهذه الفتنة التي حملتها المدينة قد وقته
خطر الرفض الرومانتيكي للحضارة التقانية، وعلَّمته أن يقدِّر أهمية المدنية من أجل
تطوُّر الجانب النقدي للحياة العقلية والفنية؛ لقد ظل حتى آخر لحظة في حياته يشعر
بالارتباط الأقوى بالريف والطبيعة عمومًا، وهذا الارتباط تنامى في ذهنه أكثر عبْر
رحلاته وسفرياته البحرية في عرض البحار، وهو يرى أن مشهد البحر الصاخب المترامي الآفاق
الذي يفتئت دومًا على الشاطئ الجامد قد ألهمه بالكثير من رموزه وأفكاره، ومعظمها تُخلق
إما تحت الأشجار وإما في عرض البحار.٥ ومع هذا فإن الريف لم يستأثر به، وظلَّ على الحدود بينه وبين المدينة، أو
بين الطبيعة والمدنية.
وهو على أية حال قد خرج من أعطاف حياة شونفليس الهادئة الوادعة المشبعة بزخم الدين،
حين التحق بالمدرسة الثانوية في كونجسبرج Köngisberg —
موطن كانط — وتلقَّى تعليمًا علمانيًّا؛ فواجه لأول مرة المُثل الكلاسيكية لليبرالية
الأوروبية، مثل حرية التفكير الخاضع فقط لمعايير العقل؛ وعلى الرغم من رفضه لليبرالية
الاقتصادية، فإنه يؤكد دائمًا ليبراليته في التفكير. لقد تلقَّى هذه المُثل — والتي
عايشها أكثر في برلين، حين انتقل والده للعمل هناك عام ١٩٠٠م — بحماس شديد، لكن لا
يُخِلُّ إطلاقًا من ولائه للدين وتحمُّسه الأعمق لحيثيات اللاهوت؛ فقيمة تيليش تتجلى
في
وقوفه على الحدود بينهما — حسب تعبيره الأثير —
وجمعهما معًا بحيث جعلهما القطبين المتعامدين والمُشكِّلين لهيكل تفكيره؛ القطب الديني
اللاهوتي الذي استقطبه في طفولته وصباه (شونفليس)، والقطب الفلسفي الناسوتي الذي
استقطبه في مراهقته ويفاعته (كونجسبرج وبرلين)، على أن الأول بالطبع هو الأساس والجذر
والجذع. إن تيليش ينشغل بالدين وبصره شاخص إلى الاشتراكية والعدالة الاجتماعية والحرية
والقضايا الثقافية، أو مشاكل الحضارة المعاصرة، ومن قبلُ ومن بعدُ بالمعضلة الوجودية
للإنسان الفرد.
ويخبرنا تيليش أن الخيال الذي تأجج في خاطره بين سن الرابعة عشرة والسابعة عشرة ثم
لازمه طوال حياته، هو الذي حال بينه وبين الوقوع في براثن المدرسية — بالمعنى الحرفي
للكلمة، وكان الخيال وأعظم تعبيراته — أي الإبداع الفني، له دائمًا تأثير كبير على
أفكاره الفلسفية واللاهوتية؛ لقد تذوَّق الموسيقى منذ طفولته، وكان أبوه يؤلِّفها،
ويؤكد أن الموسيقى الكنائسية شيء أكثر من ضروري لتتحقق التجربة الدينية، ولكن عشقه
للفنون اتجه توًّا للأدب، فله سحر خاص وهو أكثر الفنون تضمنًا للفلسفة، «ويرى تيليش أن
تعاطفه الغريزي مع الفلسفة الوجودية يعود من ناحيةٍ ما إلى فهْمٍ وجودي لأعمال شكسبير
التي ترجمها شليجل إلى الألمانية، خصوصًا «هاملت».»٦ ولم يجد تيليش أبعادًا وجودية في أعمال جوته؛ لذلك لم تجذبه كثيرًا.
ويُعَدُّ ريلكه أكثر الشعراء الألمان تأثيرًا عليه؛ لواقعيته المستقاة من التحليل
النفسي، ولثرائه الصوفي والشحنة الشاعرية المشبعة بمضمون ميتافيزيقي؛ على أن زوجة تيليش
هي التي قادته حقيقةً إلى عالم الشعر؛ ولم يكن الأب يُبدي اهتمامًا بالفنون البصرية،
فلم يلتفت إليها في طفولته وصباه، ولكن الخراب والقبح الذي خلَّفته الحرب العالمية
الأولى جعل فن التصوير يجتذبه، وتطوَّر الأمر إلى دراسة منهجية لتاريخه ومعايشة عميقة
لاتجاهاته الحديثة، وتبقى فنون العمارة والموزيكو والفسيفساء، ولا شك أن التاريخ
والمعمار الكنسي كفيل بها.
وقد تلقَّى تيليش تعليمه العالي في اللاهوت والفلسفة بجامعات ماربورج ودرسدن
وفرانكفورت، ووجد في فلسفة شلنج F. W. Schelling
(١٧٧٥م–١٨٥٤م) للطبيعة، بغيته التي تتجاوب مع عشقه لها وتمنحه الإطار النظري لتفسيرها
بأنها المظهر الدينامي لروح الخالق والهادف إلى إدراك الحرية المتعالية على الثنائية
التناقضية القائمة بين الإنسانية والحتمية الكونية.٧ والواقع أن شلنج هو الوثن الفلسفي لتيليش؛ فهو يبالغ كثيرًا في تقدير قيمته
وتأثيره على الفكر الأوروبي، وكان قد حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من برسلاو Breslau عام ١٩١١م برسالة موضوعها: (التصوف والوعي بالذنب في تطور شلنج الفلسفي Mystik
and Schuldbewusstein in Schellings philosophischer Entwiekluing)، وبعد هذا بعام (١٩١٢م)
حصل من جامعة هال Hall على الدكتوراه وإجازة في
اللاهوت، فعُيِّن في نفس العام قسيسًا في الكنيسة اللوثرية الإنجيليكية، وعمل طوال
الحرب العالمية الأولى كقسيس وواعظ في الجيش، في قلب الجبهة.٨
وكانت الحرب هي التجربة العميقة، التي حدَّدت معالم تفكيره واتجاهه؛ فقد تركت بنفسه
آثارًا أليمة بما خلَّفته من دمار وخراب، خصوصًا في وطنه ألمانيا، وقد قدَّمت له دليلًا
على إفلاس الحضارة Kultur Culture٩ الغربية، وأنها في انتظار نهاية حقبة من تاريخها؛ هذا لأن إيمانها بالعقل
فقط جعلها حضارة علمانية أوتونومية؛ أي معتمدة فقط على نفسها
Autonomous، فكانت كل نواتجها التي جسَّدتها الحرب
لتشهد عليها بالخواء والتناهي والعجز عن إشباع ذاتها، وأنها تعيش في قرنها العشرين
نهاية هذه الحقبة، فبدت له الفرصة متاحة لإعادة بنائها على أساس جديد، هو الأساس الديني
أو الثيولوجي، لتغدو حضارة ثيونومية؛ أي معتمدة على
الدين Theonomous هذا هو المَثَل الأعلى المنشود الذي يحدِّد المهمة الإيجابية
للاهوت في القرن العشرين؛ على أن الخروج من مرحلة الاعتماد على النفس؛ الأوتونومي autonomy، لا يعني العود فورًا إلى النقيض المباشر،
التبعية والاعتماد على الآخرين؛ الهترونومي heternomy،
وقد كان تاريخ النهضة في أوروبا وبدء حضاراتها الحديثة، هو تاريخ لصراعٍ دامٍ وبطولي
للخروج منها؛ وتيليش بلا شك يرفض أي تبعية، سواء دينية أو علمانية، إن ما ينشده هو
وقوفٌ يقظٌ واعٍ على الحدود بينهما، ومُركَّب جدلي من هترونومي العصر الوسيط وأتونومي
العصر الحديث. إن التساؤل بشأنهما التساؤل بشأن المعيار النهائي للوجود الإنساني. فلا
بد طبعًا من الأتونومية، من الاعتماد على النفس، لكن بصورة هترونومية إلى حدٍّ ما؛ أي
معضدة ومستفيدة ومُشبعة بالبُعد الثيولوجي؛ أي صورة ثيونومية، «بالثيونومي يتم قهر
وتجاوز التناقض بين الأتونومي والهيترونومي.»١٠ وقد مثَّلت فكرة الثيونومي محكًّا نهائيًّا يوجِّه فلسفة تيليش ويحدِّد
تقييمه للفلسفات الأخرى. والفلسفة التي يُعجب بها ويستفيد منها، يعتبرها ثيونومية، حتى
ولو كانت إلحادية كفلسفات نيتشه وهيدجر!
ولم يبدأ تيليش عمله الأكاديمي إلا بعد انتهاء الحرب، وفي جامعة برلين؛ حيث حاضر
فيما
بين عامي ١٩١٩–١٩٢٤م في تطور لاهوت الحضارة، معنيًّا بعلاقة الدين بالسياسة والفن
والأدب والفلسفة وعلم نفس الأعماق والاجتماع، وكانت محاضراته هذه باكورة مشروعه
الثيونومي، وجعل الدين مركزًا تتصل به كل مجالات الحضارة.١١ وحاضر أيضًا في جامعتَي درسدن ولايبسج. وفي عام ١٩٢٥م انتقل لتدريس اللاهوت
في جامعة ماربورج؛ حيث زامل هيدجر وبولتمان، وبدأ في عمله الضخم «اللاهوت النسقي»، ولم
يظهر الجزء الأول منه إلا عام ١٩٥١م، وفي عام ١٩٢٩م قَبِل منصب أستاذ الفلسفة في جامعة
فرانكفورت، وهي من أكثر جامعات ألمانيا حداثة وليبرالية، وليس بها كلية للاهوت، فحاول
أن يتخذ من هذا فرصةً لكي ينجز للفلسفة إنجازه للاهوت.
وحينما كان يُدرِّس في الجامعات شارك بحماس في مناقشات نظامية كانت تدور من أجل فهْم
جديد للموقف الإنساني، فكتب ونشر فيما بين عامَي ١٩١٩–١٩٣٣م أكثر من مائة مقالة ودراسة
حول هذا، مؤكدًا أن الفهْم الجديد للموقف الإنساني لا مندوحة له عن أن يكون دينيًّا
ثيولوجيًّا؛ لتغدو الحضارة ثيونومية. إنها المنطلق لمجمل فكر تيليش، وإذا كان المعتمَد
أكاديميًّا أن هذا المنطلق هو «اللاهوت الحضاري» فإننا نرى المصطلحين اسمَيْن لمسمًّى
واحد هو علاقة تبادلية حميمة بين اللاهوت والوحي المُنزَّل وبين الحضارة الإنسانية؛ لو
نظرنا إلى هذه العلاقة من ناحية اللاهوت كان المشروع هو «اللاهوت الحضاري»، ولو نظرنا
من ناحية الحضارة كان المشروع هو «الحضارة الثيونومية». وفي استيفائه لها، لم يهتم فقط
بالمجالات الفعلية للحضارة كالفن والفلسفة والسياسة … إلخ، بل اهتم أيضًا بالأبعاد
المعيارية؛ أي الأخلاق، فوضع تقابلًا بين أخلاق الحضارة العلمانية فقط؛ أي الأوتونومية،
وبين أخلاق الحضارة الثيونومية، مؤداه أن الأولى مشروطة وهي أخلاقيات السلطة والقانون
والعدالة؛ أما الثانية فغير مشروطة وهي أخلاقيات المغامرة واللطف الإلهي Grace والحب.١٢ وقد أردف هذا بمناقشة «التربية» في ضوء هذا الهدف — الحضارة
الثيونومية.
•••
ومن الناحية الأخرى، أو الجهة الأخرى للحدود، نجد أن تيليش ينتمي للبرجوازية الرفيعة،
وأتاحت له مهنة والده — بوصفه الراعي الديني الكبير — أن يقيم علاقات شخصية وثيقة مع
البرجوازية الرفيعة جدًّا — بقايا الأرستقراطية. ومع هذا نلقاه يتعاطف بشدة وإيجابية
مع
اليسار، مهتديًا في هذا بأقوال المسيح ضد الظلم الاجتماعي وضد الأغنياء، وانضم عام
١٩١٨م للحركة الاشتراكية، وكان مناصرًا للحزب الاشتراكي الديمقراطي. وتيليش شديد
الإعجاب، بل متدله بماركس، ينسب إليه كل ما لذَّ وطاب من آيات التفلسف، بدءًا من
العلمية الصارمة، وانتهاءً بالعنصر النبوئي وطابع الرسالة في فلسفته، ومرورًا
«بالوجودية» السياسية! مدَّعيًا — مثلًا — أن مفهوم الصدق عنده هو نفسه عند كيركجور،
الصدق بالنسبة للوجود الإنساني، وما يخص موقف حياتنا ويقهر الاغتراب؛١٣ ولكن لم يكن أبدًا ماركسيًّا أو شيوعيًّا.
وفي عام ١٩٢٠م تحددت هويته تمامًا بالاشتراكية الدينية Religious socialism وكان دائمًا من أبرز وأنشط أعضائها، وذلك على
أساس ما تقدَّم من خطوط عامة في فكره؛ فالمجتمع المعاصر فقدَ تكامله وخسرَ جوهر وجوده،
وطغيان الماديات جعله في خواء، وفي مسيس الحاجة إلى نوع من الخلاص، وهذا الخلاص يستلزم
من ناحيةٍ قيمَ العدالة الاجتماعية، والتقارب الطبقي، وعدالة توزيع الثروة في المجتمع،
أي الاشتراكية، ويستلزم من الناحية الأخرى — أو الجهة الأخرى للحدود — الدين ذا التجربة
الروحية والأبعاد الوجودية العميقة؛ لذلك لا يتم الخلاص المنشود إلا بواسطة إحلال
الاشتراكية الدينية محل الثقافة البرجوازية، إنها تستهدف إصلاح المجتمع بحيث يصبح الدين
روحه، فيمكن أن تصبح الحضارة ثيونومية؛ يقول تيليش: «الاشتراكية الدينية ينبغي أن تُفهم
بوصفها حركةً صوب الثيونومي الجديد؛ فهي أكثر من مجرَّد نسق اقتصادي حديث، إنها فهْم
شامل للوجود، صورة للثيونومي المطلوب والمتوقَّع الآن.»١٤ إنها تبدو الحل الذي يفرض نفسه؛ فتيليش يرفض فكرة اليوتوبيا، ويرى أن مملكة
الله لا تتحقق أبدًا في المكان والزمان، فطالما يوجد إنسان على ظهر الأرض سيوجد دائمًا
الخير والشر والصواب والخطأ؛ مملكة الله ومدينة الله فكرةٌ متعالية ترانسندنتالية يمكن
فقط أن تمثِّل معيارًا للحكم على المجتمعات؛ أما الاشتراكية الدينية فهي البديل الواقعي
والسليم.
وقد كانت حركة الاشتراكية الدينية منتشرة في أوروبا، وقوية في ألمانيا تصدر جريدة
«أوراق من أجل اشتراكية
دينية» Blätter für Religiösen Socializmus، فانضم إليها الشاب المتحمِّس باول تيلش، وشارك بمقالات في هذه
الجريدة، ولكنه بدأ يستشعر روح الوهن والشيخوخة والدوجماطيقية فيها، فانفصل مع جمعٍ من
زملائه الشباب في حركةٍ تروم أن تبث في اللاهوت الصارم للاشتراكية الدينية الألمانية
حياةً وعزمًا أنضر، وقدرةً على مواجهة متغيرات الفكر والواقع؛ وأصدر بمعية زملائه مجلة
«أوراق جديدة
للاشتراكية Neue Blätter
für Socializmus» تهدف إلى إعادة قولبتها على أساس منظور ديني وفلسفي
حديث، وهو شخصيًّا لم ينشغل بغير المسائل النظرية، ولكن المجلة بتأثير زملائه تصدت
أيضًا للمشاكل العملية والواقع السياسي الجاري.١٥
وفي هذه الدعوى نجد الدين لتعضيد الاشتراكية، بقدْر ما نجد الاشتراكية لتعضيده،
مبدؤها أن الرب ذو علاقة، ليست فقط بالفرد وحياته الداخلية، أو بالكنيسة بوصفها كيانًا
اجتماعيًّا؛ الرب ذو علاقة بالكون وهذا يتضمن الطبيعة والتاريخ والشخصية؛ ولذلك يؤكد
تيليش أن الكنيسة سوف تفشل في أداء مهمتها إن هي صاغت رسالتها بصورة مطلقة وبغير أن تضع
الصراع الطبقي في اعتبارها، وأن الاشتراكية الدينية هي فقط التي تستطيع أن تحمل رسالة
الكنيسة إلى كتل البروليتاريا التي لم تَعد تدخلها اللهم إلا للتعميد والزواج
والجنازات؛ لذلك فالاشتراكية الدينية، وليست الرسالة الداخلية، هي الشكل الضروري للنشاط
المسيحي بين الطبقات العاملة. على هذا المحور انصبت جهود تيليش لجلو الصدأ عن المبادئ
البروتستانتية الأصيلة وإعادة صياغتها لتواصل قدرتها على الاستمرار وعلى أداء دورها،
ولم تكن مهمته سهلة؛ لأن البروتستانتية اللوثرية كانت من الأصول المكينة التي ارتكزت
عليها نشأة الليبرالية والرأسمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، فضلًا عن أن
الاشتراكيين يخشون من تأثير الكنيسة على تثبيط الهمم النازعة إلى تحقيق الحكومة
الاشتراكية؛ والكنيسة بدورها تخشى على رموزها المقدَّسة من مد الفكر الاشتراكي، فتقف
في
وجهه وتبدو مضادة أكثر للنزعة الإنسانية. وتجاهر طبقة الصفوة بإعجابها بالكنيسة لوقوفها
في وجه الوثنية القومية، فيقوى موقف الكنيسة النائي عن مطالب الطبقة العاملة، وهي
الكثرة الغالبة، وها هنا لنا أن نتذكر القول المأثور عن الاشتراكيين والشيوعيين
الملاحدة من أن الله اختار الوقوف في صف الأغنياء، وعلى الفقراء البحث عن إلهٍ آخَر!
وعلى هذا تبدو جهود تيليش مسألة ملحة، وهي تتبلور في مقاله «المبدأ البروتستانتي
والموقف البروليتاري»١٦ حيث يعالج هذه الإشكالية معالجة هامة بالنسبة للاهوت وللاشتراكية وللفلسفة
الوجودية على السواء.
والتقابل معروف بين الاشتراكية بنزعتها الجمعية التي تجعل الفرد يضيع في غمار الطبقة؛
وبين الوجودية بنزعتها الفردية، ولكن تيليش فيلسوف على الحدود، فيقول: «علينا ألا نخلط
أحبولة انعدام المساواة Riddle of Inequality، مع
واقعة أن كل فرد منَّا ذاتٌ فريدة لا تُقارن. كوننا ذواتًا ينتمي بالقطع لكرامتنا كبشر.
هذه الكينونة مُنحت لنا، ولا بد أن نُعمِلها ونُكثِّفها، ولا نجعلها تغرق في المستنقع
الآسن الذي يهددنا كثيرًا هذه الأيام. لا بد أن يزود المرء عن كل فردانية، وعن تفرُّد
كل ذات إنسانية، ولكن لا ينبغي أن ينخدع باعتقاد أن هذا هو حل لأحبولة انعدام المساواة؛
ولسوء الحظ ثمت الرجعيون الذين يروِّجون لهذا الخلط كي يبرروا الظلم الاجتماعي.»١٧ وتمثل الاشتراكية الخلاص الوحيد من الظلم الاجتماعي، الخلاص المتكامل
المتوازن؛ لأنها دينية — صوب الثيونومي. آمن تيليش بأنه بعد الوحي السماوي لا يوجد ما
هو أسمى وأعظم من الاشتراكية الدينية، وكان على يقين دائمًا من أن اللحظة التاريخية
لتحققها قد تأتي، ولم يفقد أبدًا إيمانه بها، على الرغم من أنها لم تتحقق ولم تأتِ
لحظتها التاريخية، بل أتت النازية إلى مقاعد الحكم في ألمانيا.١٨
وإيمان تيليش بالحرية جعله يجاهر بنقدٍ قاسٍ وعنيفٍ لهتلر، وبعدائه للنازية، فأُبعِد
عن العمل في الجامعات ليكون أول أكاديمي غير يهودي تستبعده النازية من العمل في
الجامعة. وفي صيف عام ١٩٣٣م تصادف أن كان بألمانيا الألماني المهاجر إلى أمريكا
راينهولد نيبور، الذي قام بترجمة بعض أعمال تيليش المبكرة من الألمانية إلى الإنجليزية،
وهو يتفق معه في الاشتراكية الدينية، ويختلف في اللاهوت الحضاري. التقى نيبور بتيليش
وأتاح له فرصة الهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية ففعل «وسفره لأمريكا وثَّق علاقته
بحركة علم نفس الأعماق Depth-Psychology التي اهتم بها
من منطلق اهتمامه بالعلاقة بين الدين والتحليل والعلاج النفسي.»١٩ والملاحظ أن تيليش سعيد جدًّا بالتحليل النفسي مع فرويد وخلفائه، ويهتم به
اهتمامًا بالغًا ويعوِّل عليه تعويلًا كبيرًا، وبغير أدنى إشارة إلى الاتجاهات
السيكولوجية العلمية حقيقة! بصفة عامة ثقافة تيليش العلمية ضحلة جدًّا، وليس ذا إلمام
بالتطورات العلمية، لا في الرياضيات ولا العلوم الطبيعية ولا الإنسانية. ولكن الدين
والعلم مجالان ليس من الضروري أن يلتقيا فلسفيًّا؛ فهما منفصلان تمامًا، منهجًا
وموضوعًا وغاية، فلا يدينه هذا كثيرًا، المهم أن تيليش على الرغم من ميوله اليسارية،
تلقَّى دعوة للعمل كأستاذ اللاهوت وفلسفة الدين في المعهد اللاهوتي الاتحادي بنيويورك،
وظل بهذا المعهد حتى عام ١٩٥٥م، ثم تقلَّد الأستاذية بجامعة هارفارد العريقة (من ١٩٥٥م
حتى ١٩٦٢م) ثم جامعة شيكاغو منذ عام ١٩٦٢م وحتى وفاته في الثاني والعشرين من أكتوبر عام
١٩٦٥م، عن تسعة وسبعين عامًا، وقد ظل محتفظًا بنشاطه ومقدرته على العمل والإنجاز،
وتأثيره على الأوساط الثقافية حتى آخر لحظة في حياته. والمحصلة رصيد ضخم من الأعمال
اللاهوتية الفلسفية.
١
Paul Tilllich, May Search for Absolutes, Simon and
Schuster, New York, 1967. p. 23-24.
٢
لم يمتد الأجل بتيليش ليرى انهيار سور برلين وتوحُّد ألمانيا.
٣
Paul Tillich, On The Boundary, Charles Scribner’s sons, New
York, 1966. p. 14-15.
٤
Paul Tillich, The New Being, Charles Scribner’s son, New
York, 1955. p. 99.
٥
P. Tillich, On The Boundary, p.
16–18.
٦
Ibid, p. 26-27.
٧
في تفصيل هذه التناقضية، وتأثيرها على الفلسفة الحديثة مقدمة كتابنا: العلم
والاغتراب والحرية: مقال في فلسفة العلم من الحتمية إلى اللاحتمية، الهيئة
العامة للكتاب، القاهرة، ١٩٨٧م، ص٧ –٢٣ .
٨
P. T., My Search for Absolutes, p.
33.
٩
رغم أن علماء النفس والاجتماع والأنثربولوجيا يعتمدون «ثقافة» ترجمةً لهذا
المصطلح، فإن «ثقافة» ما زالت ترتبط في الفلسفة بأبعاد ترانسندنتالية؛ لذلك
فضَّلنا حضارةً لتدل على المعنى المقصود؛ أما
Civilization فهي مدنية، وهي فعلًا مشتقة
من Civil أي مدينة.
١٠
Paul Tillich, Systematic Theology, Vol. I university of
Chicago Press, 1951. p. 147.
١١
Paul Tillich, My search for absolutes, p.
41–44.
١٢
P. Tillich, Theology of Culture, pp.
127–145.
١٣
P. Tillich, A History of Christian Thought, p.
484-485.
١٤
P. Tillich, On The Boundary, p. 81.
١٥
Ibid, p. 42.
١٦
P. Tillich, the Protestant Era, University of Chicago
Press, trans by, J. L. Adams, 1948. pp. 161–181.
١٧
P. Tillich, The Eternal Now, Charles scribners sons, New
York, 1963. p. 41-42.
١٨
W. Nicolas, Systematic and Philosophical Theology, p.
247.
١٩
P. Tillich, My Search for Absolutes, p.
49.