الفصل السادس
تعامد القطبين: اللاهوت والفلسفة
يقول تيليش: «وقفت بحذرٍ على الحدود بين اللاهوت والفلسفة، معنيًّا بألا يضيع أحدهما
في الآخر»، و«بوصفي لاهوتيًّا حاولت أن أبقى فيلسوفًا، والعكس بالعكس، ربما كان أيسر
أن
أهجر الحدود بينهما، وأختار أحدهما أو الآخر. داخليًّا، كان ذلك هو المستحيل بالنسبة
لي. ولحسن الحظ كانت الظروف الخارجية مواتية لميولي الداخلية.»
١ فقد أُتيحت له — كما رأينا — الفرصةُ النظامية لدراسة وتدريس اللاهوت
والفلسفة معًا، وأن يصول ويجول في كليهما، والمحصلة أن نلقاه يبُزُّ اللاهوتيين
بتملُّكه لناصية الفلسفة، ويبُزُّ الفلاسفة بتملُّكه لناصية اللاهوت.
وثمرة هذا نلمسها منذ البداية في عمله المبكِّر (بالألمانية) «نسق العلوم تبعًا
لموضوعاتها ومناهجها» سنة ١٩٢٣م؛ فقد كان الهدف النهائي من هذا العمل هو تقديم الإجابة
عن التساؤلات الآتية: كيف للاهوت أن يكون عِلمًا بمعنى «عِلم
Wissenschaft»
٢ وكيف تتصل أنساقه العديدة بالعلوم الأخرى؟ ما هو الشيء المميَّز بشأن
منهجه؟ وقد أجاب بأن صنَّف كل الأنساق المنهجية بوصفها علومًا للتفكير، وللوجود،
وللحضارة
Kultur، وتمسَّك بأن أساس نسق العلوم ككل
هو فلسفة المعنى
Sinnphilosophie، وعرَّف الميتافيزيقا
بأنها محاولة التعبير عن غير المشروط في حدود الرموز العقلية. وعرَّف اللاهوت بأنه
الميتافيزيقا الثيونومية. وبهذه الطريقة حاول أن يكسب للاهوت مكانًا في قلب كلية
المعرفة الإنسانية. ونجاح هذا التحليل يفترض مقدمًا أن الخاصة الثيونومية للمعرفة ذاتها
لا بدَّ من الاعتراف بها؛ أي أن جذور التفكير كائنة في المطلق بوصفه أساس ولجة المعنى؛
ويغدو موضوع اللاهوت افتراضات مسبقة لكل ولأية معرفة (والمعرفة هنا بالمعنى الفلسفي،
أما المعرفة بمعنى العلوم الرياضية والتجريبية فلا تَرِدُ على بال تيليش)، وهكذا نجد
أن
اللاهوت والفلسفة، أو الدين والمعرفة، يتضمن كلٌّ منهما الآخر، وبالوقوف على الحدود
بينهما، نتبيَّن أن تلك هي العلاقة الحقيقية بينهما.
٣
•••
وكل نبضة من نبضات فكر تيليش تؤكد أن اللاهوت والفلسفة متآزران؛ إنهما يقفان في مربع
واحد وجبهة ثقافية حضارية واحدة، ومسلحان بسلاح مشترك أو أداة واحدة.
المربع الواحد يعني أن الموضوع واحد هو الحقيقة
Reality والوجود
Being على أن
الفلسفة هي التناول المعرفي للحقيقة؛ حيث تكون موضوعًا مفارقًا للذات. أما اللاهوت
فيثير نفس المشاكل التي تثيرها الفلسفة بشأن الحقيقة، لكن بأسلوب يجعلنا نعايش هذه
المشاكل بوصفها متضمنةً فينا ونابعةً منَّا، لا منفصلة عنَّا مفارقة لنا كما تطرحها
الفلسفة. الفلسفة تبحث في بنية الوجود، أما اللاهوت يعنى بمعنى الوجود بالنسبة للإنسان
واهتمامه القصي. وعلى الرغم من هذا القدح المُعلى للاهوت — خصوصًا من الزاوية الوجودية
— فإن المبحثَين متداخلان؛ الفيلسوف يهتم بمعنى الوجود، واللاهوتي يبدأ ببنية الوجود.
٤
اللاهوت والفلسفة أيضًا رفاق سلاح، أو
أن أداتهما واحدة هي العقل الأنطولوجي؛ ذلك أن تيليش يحلِّل العقل في حدود نمطين
متقابلين له، هما العقل الأنطولوجي الذي نستخدمه في التحليلات الميتافيزيقية، والعقل
التقني الذي نستخدمه في حل المشاكل العملية.
٥ وفي عصرنا الأوتونومي يحتل العقل التقني قَصَبَ السَّبْق، فأصبح الاهتمام
فقط بالوسائل المؤدية إلى الأهداف الجزئية، وأُهمل العقل الأنطولوجي؛ أُهملت بنية العقل
التي تمكِّننا من استكناه الحقيقة ومن تشكيلها. ولأن العقل الأنطولوجي هو مصدر القيمة
والمعنى، فقد ضاعا من إنسان هذا العصر، ويغدو الدين هو الوسيلة الفعَّالة لرأب هذا
الصدع؛ فهو الذي سيعرض علينا مباشرةً وبحيوية جوهر العقل الأنطولوجي، ويعيده إلينا
ويعيدنا إليه عودة حميمة مُعاشة؛ لأن جوهر العقل الأنطولوجي في ذات الهوية مع مضمون
الوحي المُنزَّل، وما هو أنطولوجي وما هو لاهوتي يتطابقان في نقطة واحدة؛ إذ إن كليهما
يعالجان الوجود كما هو، وتيليش يتحدث عنهما بمصطلحات واحدة.
على هذا النحو نجد أن حال الحضارة المعاصرة، وتطوراتها، أو بالأحرى تردياتها، تجعلها
في حاجة مُلحة للدين، للوحي المسيحي كأساس ثقافي لها؛ أي لأن تصبح ثيونومية، هذه هي
الأطروحة الرئيسية لتيليش، وكما نرى أيًّا كانت زاوية تفكيره، فإنها تحيلنا
إليها.
•••
ويبقى التأثير الكبير على فكر تيليش،
للفلسفة المثالية الألمانية العتيدة؛ إنه ترعرع في أجوائها وتشبَّع بها، وامتلأ حماسًا
لها، وعانى من كارثة الحرب العالمية الأولى حين كَرَثَت بها وبفلسفته المثالية الأثيرة،
فلسفة شلنج. ثم إن المثالية الألمانية كانت دائمًا فلسفة الانشطار على العقل والعلم
والعالَم من أجل الحرية الإنسانية التي هي ضرورية لفكر تيليش، اللاهوتي والفلسفي على
السواء؛ لذلك كان تفكير تيليش الذي يصطبغ بالصبغة الوجودية، هو أيضًا تفكير مثالي، فقيل
إن المثالية والوجودية تتنازعان عقليته، أو إنه يقف على الحدود بينهما، فحين يفكِّر في
الله يفكِّر تفكيرًا مثاليًّا، وحين يفكِّر في الإنسان يفكِّر تفكيرًا وجوديًّا، وليس
يوجد موضوع من موضوعات تفكيره لا يندرج بصورة أو بأخرى تحت لواء العلاقة بين الله
والإنسان.
وتيليش نفسه يؤكد أنه فيلسوف مثالي «على أن نفهم المثالية بمعنى دخول الوجود والفكر
في ذات الهوية، وكمبدأ للحقيقة.»
٦ أي أن الأبستمولوجيا (فلسفة المعرفة) تُردُّ إلى الأنطولوجيا (فلسفة
الوجود)، هي مجرد فرع منها، وكل تقرير أبستمولوجي هي ضمنًا أنطولوجي. إن مفهوم الفلسفة
عنده دائمًا يدور حول الأنطولوجيا.
لذلك فنحن نرى أن تيليش فيلسوف مثالي بمعنى أنه فيلسوف أنطولوجي، وليس بالمعنى الحرفي
لمصطلح المثالية الذي يفيد أسبقية الفكر على الوجود، وهو فيلسوف أنطولوجي بكل ما في
الكلمة من معنًى؛ الأنطولوجيا هي إطار تفكيره وطريقته التي يمكن من خلالها العثور على
المعنى الجذري لكافة المبادئ حتى رأى أن فلسفة الأخلاق — مثلًا — «هي علم الوجود
الأخلاقي للإنسان، الذي يسعى للوصول إلى جذور الالتزام الأخلاقي ومعيار صحته ومنابع
مضامينه وقوى تحقيقه. وتعتمد الإجابة على هذه الأسئلة بصورة مباشرة على مبدأ الوجود.»
٧ أي على فلسفة الأنطولوجيا. كان لا بد أن يبقى أنطولوجيًّا من حيث هو
لاهوتي.
فقد لاحظنا من حديثه عن الرفقة المشتركة بين اللاهوت والفلسفة، أن الأنطولوجيا هي
حلقة الربط بينهما، بل وإننا نرى أن الأنطولوجيا عند تيليش هي حلقة الربط بين اللاهوت
وبين العقل على الإجمال. إنه بطبيعة الحال — كلاهوتي وكوجودي — لا عقلاني إلى حدٍّ ما،
يرى أبعادًا تنِدُّ عن سلطان العقل ونطاقه، وهو لم يعتقد أبدًا بصحة البراهين
الميتافيزيقية أو المنطقية على العقائد الدينية المعينة، خصوصًا على وجود الرب، وأكد
أن
جوهر الإنجيل لا يمكن استنباطه من المبادئ الفلسفية، بل وكان شديد العناية بالدلالة
العميقة جدًّا للعقائد اللاعقلانية في الديانة المسيحية، وأهمها الكريسماس: ميلاد
المسيح … الرب الذي هو طفل رضيع … ثم مُدان مصلوب، وعلى الرغم من هذا فإنه كما يقف على
الحدود بين المثالية والوجودية، يقف على الحدود بين العقلانية واللاعقلانية، لم يفعل
ما
فعله كيركجور الذي أكَّد أن الإيمان جملةً وتفصيلًا هو الخروج من دائرة المعقول الخانقة
المميتة، هو عينه «اللامعقول» أو ما يسميه الإغريق الجنون الإلهي!
٨ كلا، لم يُنكِر تيليش كل وأية علاقة بين الدين والمباحث العقلية، ولم يُخرج
التجربة الدينية بأسرها من عالم المعقول، أو جعلها حرامًا على العقل، وليس صحيحًا في
نظره «أن العقيدة الدينية هي الإيمان بأشياء بغير دليل»
٩ … وهذا بسبب التطابق الذي ذكرناه بين ما هو لاهوتي وما هو أنطولوجي، والذي
يجعل المباحث الأنطولوجية تستطيع أن تؤيد الدين، فقط إذا ما بدأت من مصادره، أو أكدت
على محصلة مؤداها أن الرب هو الوجود
ذاته
Being-itself، وبهذا «يصبح الوحي هو العقل متوغِّلًا في النسيج العقلاني، كما أن
كلمة الرب هي الكلمة متوغلة في كافة الكلمات.»
١٠ الحقائق الدينية لا تقتصر على حياة الفرد ومشاعره واتجاهاته وسلوكه، بل
تتضمن إشارة إلى الواقع الخارجي المستقل عنه، إشارة يمكن التحقُّق منها تحققًا عقليًّا
وفلسفيًّا؛ لهذا تمثِّل الأنطولوجيا تأييدًا للدين، ولهذا أيضًا كانت إطار تفكير
تيليش.
إن الأنطولوجيا هي التي تميِّز تيليش عن الوجوديين اللاهوتيين والدينيين الذين
جعلناهم رفاقًا له [الفصل الأول: الالتقاء بين الوجودية والدين] أمثال مارتن بوبر
وبيرديائيف وأوناونو وجاسيت … إلخ؛ فقد انصبَّت عنايتهم على الوجود الشخصي فحسب.
ووجودية تيليش بذلك الأساس الأنطولوجي أعمق من وجوديتهم وأقرب إلى اللاهوتيين
الوجوديين، خصوصًا بولتمان ومدرسة جوجارتن وبوري …
ولأن تيليش فيلسوف وجودي، فليست تحمل الأنطولوجيا معه الدلالة القديمة من حيث أنها
بحث ميتافيزيقي مطلق في مجردات ثبوتية ساكنة كالجوهر والماهية … الأنطولوجيا عنده من
أجل تحقيق «المهمة التي تنتهي، والمتحصلة في إيضاح الوجود، باعتباره كذلك، أو باعتباره
ذلك الذي يشارك فيه كل ما هو كائن.»
١١ وقد ظلت دائمًا أنطولوجيا إنسانية، إن صح التعبير.
فتيليش فيلسوف وجودي؛ لذلك كان لا بد أن تكون نقطة بدئه للنظرية الأنطولوجية هي
الموقف الإنساني، وأكد أن تحليل الوجود الإنساني هو الطريق الوحيد لفهم البنية
الأنطولوجية للحقيقة، أما بقية الكائنات أو الأشياء فنفهمها عن طريق المماثلة Analogy بالإنسان — ذات الإنسان وذات كل نفس حية —
ويمتد منهج المماثلة إلى كل فرد حتى في المملكة غير العضوية.
وأساسه أن الإنسان هو الموجود الوحيد الذي تتحد فيه كل مستويات الوجود؛ فليس الإنسان
محض موضوع فائق بين الموضوعات، بل إنه الوجود الذي يطرح السؤال الأنطولوجي، والذي يمكن
أن نجد الإجابة الأنطولوجية في وعيه بذاته؛ لأنه يمر بخبرة فورية ومباشرة ببنية الوجود
وعناصره، خبرة تعني التداخل بين النفس والعالم، والاعتماد المتبادل بينهما؛ إنهما
القطبان المشكِّلان لبنية الوجود، وبالتالي لبنية الأنطولوجيا؛
١٢ وهذان القطبان بدورهما يعنيان أن وجود الإنسان يرتد إلى مبدأي التفرُّد
والمشاركة مع الآخرين.
إنها عين النقطة التي حددناها للفلسفة الوجودية في الفصل الثاني، والتي يلخصها مصطلح
هيدجر البارع Dasein (الوجود هنالك) في العالم بمعية
الآخرين.
وتتوغَّل وجودية الأنطولوجيا التيليشية، حتى نجد أن العناصر الأنطولوجية هي ذاتها
عناصر أو مقولات الموقف الإنساني؛ أي الفردية والمشاركة، الديناميكية والصورة، الحرية
والمصير؛
١٣ فالذات ذات؛ فقط لأنها في عالَم، في كونٍ له بنية، تنتمي إليه، ولكن أيضًا
تنفصل عنه. إن أنطولوجيا تيليش، أو فلسفته بعامة، أو بصفة أكثر عمومية، العلاقة التي
ارتآها بين اللاهوت والفلسفة، فقد أفضت بنا — وكان لا بد وأن تفضي — إلى قلب نزعته
الوجودية.