الفصل التاسع
اللاهوت الحضاري
يمثِّل باول تيليش مع كارل بارت القوسين المتطرفين اللذين يحصران بينهما متغيرات
اللاهوت البروتستانتي المعاصر. بارت يواصل تيار مارتن لوثر وكالفن مباشرة فيقيم لاهوته
على أساس مطلقية الرب؛ أي — أنه تعالى — ليس موضوعًا لمعرفتنا أو لأفعالنا، فلا ينبغي
أن يطمح عقل الإنسان المتناهي لاستكناه سرِّه. الإنسان على الأرض، والرب في السماء،
١ مفارق له؛ لقد تعالى سبحانه علوًّا كبيرًا. المسيحية ليست لها أية أسس
عقلانية، ولا ينبغي أن يكون. الوحي يحمل في ذاته كل حيثياته، فيرفض بارت أي دفاع عن
الوحي أو إثبات أو تبرير له، بأسانيد إنسانية حضارية. اللاهوت لاهوت الكنيسة فقط،
فليدخلها مَن يريد الحقيقة، ويمارس الطقوس الدينية، التي لن يفهمها إلا المؤمنون؛ بهذا
فقط تدخل الروح المقدَّسة في النفس الإنسانية.
هذه هي الصورة التي حدَّدها بارت لإعادة صياغة وإحياء المسيحية، والتي ينبغي في رأيه
أن تتكفل بها البروتستانتية؛ لذلك يمثِّل بارت أعنف مهاجمي اللاهوتيات الليبرالية التي
تفسِّر الوحي تبعًا لصالح الإنسان وحضارته؛ إنَّها — أي اللاهوتيات الليبرالية — هي تلك
الحركة البروتستانتية التي تفجَّرت في القرن التاسع عشر، بل ومنذ أيام كانط، أصبحت
الحضارة هي معيار صدق العقيدة، وباتت مهمة اللاهوتيين الليبراليين (الأحرار) هي الدفاع
عن العقيدة بمصطلحات الحضارة وفي حدودها، وتلك سخرية أنتجتها مسيحية الحاضر الواهنة،
وتقلص نفوذها؛ وعلى هذا يؤكد بارت أن اللاهوت ينبغي أن يقف في مواجهة الحضارة
العلمانية، ولا يتعامل معها إطلاقًا.
٢ ويُمثِّل تيليش الرفض التام لهذا التقابل بين اللاهوت والحضارة، ويؤكد أن
فلسفته للدين معنية أولًا بالعلاقة بينهما، والتي ينبغي تحديدها على أساس كليهما، الدين
لا يمكنه أن يهجر المطلق؛ الألوهية، ولن يسمح لنفسه أن يصبح مجرد منطقة محدودة داخل
الحضارة، أو أن يتخذ موقعًا جانبها، وهذا ما حاولته الحضارة الليبرالية؛ ليصبح الدين
نافلة ستندثر يومًا ما؛ لأن بنية الحضارة مكتملة بدونه، والحضارة بدورها قد ترى أنها
لن
تستسلم للدين بغير أن تتخلَّى عن استقلالها … عن الأوتونومية تمامًا، وربما عن نفسها،
وهي لا يمكن أن تتخلَّى عن الحق والعدل والحرية والعقل باسم المطلق الديني والحقيقة أن
«الدين هو الجوهر غير المشروط للحضارة، والحضارة هي الصورة المشروطة للدين.»
٣
إنَّ تيليش يستأنف الطَّريق الذي شقَّه تلميذ شلنج، إمام اللاهوت الليبرالي فردريش
شلايرماخر
F. Schleirmacher (١٧٦٨–١٨٣٤م) والذي
يعتبره أبا اللاهوت البروتستانتي الحديث والمعاصر بأسره؛ فإذا أخذنا في الاعتبار أنَّه
قام ليختلف عن اللاهوت الأرثوذكسي والكاثوليكي، فلا بد أن يكون تركيبًا من الله
والإنسان. وقد قام شلايرماخر — على حد تعبير تيليش — بهذا «التركيب العظيم»؛ إنه لم
يُنكِر فلسفة التنوير، لكن بتركيبه، انتصر عليها في قلب المجال اللاهوتي؛ فقد كان الدين
في عصر التنوير فقط لتحقيق الأمر الأخلاقي، أما في المجال المعرفي، فالفصل تام بين الرب
وبين الإنسان وعالمه، بحيث يتساوى الإيمان والإلحاد. وجاء شلايرماخر ليرفض هذا الفصل،
لم يقل بوحدة الوجود الصوفية، لكنه تمسَّك بمبدأ هوية
Identity الله في العالم والمصطلح الذي استعمله للخبرة بهذه الهوية هو
الشعور
Feeling. الدين ليس معرفة نظرية، ولا مجرد
فعل أخلاقي، إنه أساسًا شعور، شعور بالاعتماد المطلق على غير المشروط — على الرب.
والشعور ليس البتة عاطفة شخصية، إنه حدس بالكلي غير المحدود، وبضغطه على عمق أساس
الوجود. هكذا قدَّم شلايرماخر للمثقفين التنويريين الذين يُنكِرون الدين، فلسفة تخلق
فهْمًا جديدًا للدين، يقوم على أن كل لاهوت لا بد أن يجيب بطريقة أو بأخرى عن السؤال
الذي يطرحه العقل الإنساني في كل مرحلة حضارية،
٤ وقدم أيضًا الطريق الذي يسير فيه تيليش، كما هو واضح.
وتيليش بوقوفه على الحدود بين الدين والحضارة، وبين الموقف الفردي والجمعي، يؤكد
كما
أكَّد أوغسطين أنَّ المجتمعات تشكَّلت على أساس، ولأنَّها القصي لموضوعٍ ما للحب
المشترك؛ يؤكد أنَّ الاهتمام القصي لا يشكل تجربة الفرد فحسب، بل وأيضًا المجتمع،
فيحدِّد القيمة والمصير لكل أمة أو جيل، ويتغلغل في كل منتجات الحضارة خصوصًا الفن،
ويعطيها طابعها الفريد؛ لذلك لا بد أن يحلل اللاهوتيون هذه المنتجات لكي يضعوا الإصبع
على العقيدة في كل موقف حضاري. وفهْم الموقف الحضاري بدوره يستلزم قبلًا معطيات قيمية
وتوجهات وجودية، إنَّه إذن دائرة مغلقة تبدأ من العقيدة الدينية وتنتهي إليها. يتوغَّل
تيليش في اللاهوت الحضاري، مستندًا على التمييز بين الدين كعقيدة تمثِّل تجربة وجودية
عميقة وتصلح أساسًا للبناء الحضاري، وبين الدين بممارساته الصورية وطقوسه الشكلية التي
أعلن أنها غير ذات أهمية إطلاقًا، أو بتعبيره اللاذع «الختان أو عدم الختان، ليس هو
المشكلة.» ولن يمثِّل حجة للمسيحية — في مواجهة الأديان الكبرى الأخرى أو العلمانية
والمثالية الأخلاقية — أن طقوسها أبسط أو شعائرها أفضل، خصوصًا وأنَّ العلمانية
والمثالية وما إليها سوف تتباهى بأنَّها مُتحررة أصلًا من الطقوس وأيضًا الخزعبلات. مجد
المسيحية في بساطتها التي تلخِّصها كلمتا القديس بولس «الوجود الجديد» صورة جديدة
لحضارة الإنسان.
٥ ولم يعتبر تيليش الوعظ مهمة احترافية، وكان قليل بل عديم الاهتمام بالدعوة
المستهلكة إلى الوصايا العشر. وبالاطلاع على مواعظه نلقاه لا يلجأ البتة إلى الوعد
والوعيد بالجنة والنار؛ فهذه الأساليب لم تَعُد تجدي كمدخل للتجربة الدينية في عصرنا
هذا. المدخل الحقيقي الفعال هو التجربة الوجودية، بل ولم يعتنِ بالمشاكل التقليدية
للاهوت المسيحي. وفي كتابه «الموقف الديني سنة ١٩٢٩م» أعلن أنَّه لا يُدافع عن أي مضمون
محدَّد للوحي، كالتجسيد والعشاء الرباني … بل يدافع عن العقيدة المسيحية في تفسيرها
الصحيح كعلاقة أبدية بين الله والإنسان، متضمنة دومًا في أوجه الحضارة وليس الدين سرًّا
ملغزًا لا شأن للعقل به كما رأى بارت، ولا هو في حاجة إلى الميتافيزيقيات المجردة التي
أمعنت الكاثوليكية في إثقال كاهله بها، «وليس ثمة لغة قدسية هبطت من سماوات علوية،
ووُضعت بين غلافي كتاب؛ اللغة الدينية لغة عادية، تتغيَّر تبعًا للقوى التي تعبِّر عنها.»
٦
فيمكن أن يُفهم الدين جدًّا، ولكن في إطار التاريخ والحضارة الإنسانية، تمامًا كما
أنهما يمكن أن يُفهما من زاوية دينية.
•••
وعلى هذا الأساس قام «اللاهوت النسقي» لتيليش، ليؤكد أنَّ ثمة وجوهًا عدة للإنجيل،
كل
وجهٍ يلائم عصرًا من العصور. ومصادر اللاهوت النسقي ثلاثة: الإنجيل وهو طبعًا المصدر
الأساسي — التقليد
Tradition — تاريخ الدين والحضارة.
ولكن ما هو معيار
norm الالتجاء إلى هذه المصادر،
والأخذ منها؟ المعيار هو التساؤل الوجودي الذي تطرحه طبيعة الحضارة في مرحلتها
التاريخية المعينة؛
٧ فقد ساد في نهاية الحضارة القديمة القلق الأونطيقي، وفي نهاية العصور
الوسطى ساد القلق الأخلاقي؛ أما في العصر الحديث فيسود القلق الروحي؛ وسيادة نمط يحدد
المعيار اللاهوتي لا ينفي أن النمطين الآخرين حاضران ومؤثران، كما سبق أن أوضحنا.
٨
شهدت نهاية العصور القديمة صراع الإمبراطوريات: غزو الإسكندر للشرق، الحروب بين
أتباعه وقادته، غزو روما للشرق والغرب، تحوُّلها لإمبراطورية على يد قيصر، طغيان
الأباطرة، انهيار المدينة المستقلة، والدولة القومية … وتلاشي البقية الباقية من البنى
الأرستقراطية-الديمقراطية للمجتمع. ساد الفرد شعور بأن مصيره في يد قوة سياسية أو
طبيعية هائجة لا يرتكن إليها، سيطر القلق الأونطيقي، وصار التساؤل المُلح عن المصير
والموت؛ فكانت الكنيسة القديمة مشغولة بالموت، وصاغت لاهوتًا يجعل الإنجيل يهب الإنسان
الخلود، لا سيما من خلال المشاركة في ماهية يسوع الحية أبدًا.
أمَّا في العصور الوسطى، فقد كان التأثير الحاسم للرسالات السماوية، ليتفاقم القلق
الأخلاقي، ويتخذ رمزًا هو غضب الرب وبطشه وعقابه الرهيب؛ فكانت مظاهر الحياة الدينية
التي طبعت العصر كالحج والاستغفار والولاء للأيقونات … من أجل نوال الرحمة الإلهية
ومغفرة الذنوب؛ فكانت الكنيسة مشغولة بالإجابة عن تساؤل الذنب والإدانة، بالخطيئة
وبالإله الغفور الرحيم، وصاغت لاهوتًا يجعل الإنجيل يهب الإنسان الخلاص وطريق التوبة
والغفران، وتفاقم الأمر حتى انتهى بصياغة صكوك الغفران!
ثم ظهر العصر الحديث بسقوط الحكم الاستبدادي، ونمو الليبرالية والديمقراطية، ثم نشأة
الحضارة التقانية. إنَّ ما حدث انتصار للإنسان على القوى الهائجة السياسية والطبيعية
معًا، فتراجع قلق الموت، ولما كان الانتصار للإنسان لا عليه فقد أكسبه ثقة بنفسه
وببلوغه سن الرشد، فتراجع أيضًا القلق الأخلاقي، وصار العدم الروحي هو المسيطر. والسؤال
الوجودي لعصرنا، والذي يشكل معيارنا لصياغة اللاهوت من مصادره الثلاثة إنَّما هو عن
تأكيد-الذات على الرغم من الخواء واللامعنى.
والإجابة التي نخرج بها من الإنجيل هي أنه يعطينا الأمان ويدرأ عنَّا العدم الروحي
الذي يهددنا حين يمنحنا فرصة المشاركة في القوة اللامتناهية للوجود-ذاته، الرب، عن طريق
الإيمان به. هذه هي إجابة الإنجيل عن سؤالنا المعاصر، «وهي لا تلغي إجابتي المرحلتين
السابقتين، ولا تحل محلهما.»
٩
وبسهولة يمكن ملاحظة كيف أن روح التثليث المسيحي قد شبعت هذه النظرة، سواء بوعي أو
بدون وعي من صاحبها؛ فاللاهوت ثلاثي المصادر، يتصدَّى لثلاثة أسئلة، ليعطي ثلاث إجابات
ملائمة لثلاث مراحل حضارية، عانت أنماطًا ثلاثة من القلق … لكن تيليش أسير المشروع
الثقافي الغربي، أُطُر الحضارة الغربية هي القضبان الحديدية التي يصب فيها فكره،
اللاهوتي والفلسفي على السواء!
•••
فهل يشفع له أن تعامله المرن مع اللاهوت، مكَّنه من العناية بالحوار بين الديانات
المختلفة على أساس أنها جميعًا تملك عنصرًا مشتركًا يتمثَّل في أن الألوهية هي الاهتمام
القصي، وكأنه يواصل حلم أو مشروع «ابن عربي» بوحدة الأديان، وربما يدفعه من أعماقه شعور
مُمض بأن الحرب العالمية حدثت بسبب من نماء وتعاظم النزعة القومية؛ مما جعله يحلم
دائمًا بمجتمع يضم البشر أجمعين. يقول تيليش حوار لا مواجهة؛ فلا ينبغي أن تنافس
الأديان الكبرى بعضها، بل عليها أن تلتقي معًا من أجل مواجهة التحدي الحقيقي، وهو أشباه
الديانات المعاصرة من قبل النزعة الإنسانية الليبرالية والنزعة القومية والشيوعية
والفاشية والنازية والعلمية المتطرفة … إلخ وتيليش يقول عنها أشباه Quasi ديانات، وليس ديانات زائفة Pseudo لأنها تحمل تماثلًا مع الدين من حيث قوة استحواذ الاهتمام
القصي، على الشخص ولحدٍّ قد يدفعه لتكريس الحياة، وربما بذلها، إن الدين لن ينتهي
أبدًا، والهجوم الحقيقي عليه من هؤلاء؛ فلتتحد الأديان معًا من أجل السؤال المطروح عن
مستقبل الدين في مواجهة انتصار العلمانية الأوتونومية، الذي عم وساد في معظم أنحاء
العالم الغربي الآن.
يقول تيليش صراحة: «إنَّنا نُسيء إلى يسوع حين نقر بأنه مؤسس ديانة جديدة أو آتٍ
بشيء
آخَر أنقى وأصفى»
١٠ لم يكن يبحث إلا عن الوجود الجديد. والمسيحية بغير أن تفقد أسسها التاريخية
يمكنها استيعاب الكثير من العناصر في الجهود الفلسفية القديمة للتوفيق بين الديانات
المختلفة.
فالمسيحية نفسها لم تحدِّد موقفها حيال الأديان الأخرى، ولا ألغتها جميعًا. أنبياء
اليهود اعتبروا آلهة الديانة الوثنية مجرد قوى أدنى من يهوا خصوصًا فيما يتعلق بالتنبؤ
بالمستقبل وتحديده، والاستجابة إلى الصلوات ونشر العدالة. الآلهة الأخرى حقائق منافسة،
ويهوا له القوى العليا؛ ثم كان يسوع ليؤكد مطلقية الرب، وأنه الوجود الفريد الذي لا
يُقارن ولا يُنافس. ومع المسيحية المبكِّرة كان الحكم على الأديان الأخرى تحدِّده فكرة
اللوجوس اليوناني (العقل/الكلمة) الذي هو كائن في معظم الأديان الأخرى.
١١
كل هذه الحقائق المعروفة جيدًا، والتي تعني العالمية المذهلة للمسيحية، ينبغي أن
نأخذها الآن في الاعتبار ونحن ننظر في المواجهة بين المسيحية والأديان الأخرى؛ لندرك
أنَّ المسيحية لم تنظر لذاتها أبدًا بوصفها الديانة التي تستبعد تمامًا أو تنكر إنكارًا
مطلقًا أية ديانة أخرى؛ إنَّها لم تفقد تبصُّرها وتفعل هذا إلا بعد النجاح المذهل
السريع للإسلام، وانتزاعه المسيحية من أماكن عديدة، أهمها مصر، إنَّه محصلة لأول مواجهة
للمسيحية مع ديانة جديدة للعالم؛ والحملات الصليبية أقوى تعبير عن هذه الخاصية غير
العقلانية والاستحواذية التي اكتسبتها المسيحية تحت تأثير نجاح الإسلام، وهي في الآن
نفسه دليلٌ على أنَّ المسيحية كانت تحارب حكمًا سياسيًّا قويًّا؛ واستبصارٌ ديني عميق.
١٢
إنَّ مشكلة المسيحية في مواجهة مَن يرفضونها ويتمسَّكون بديانات أخرى، ليست حق الرفض،
بل طبيعته، فإذا كان رفضًا شاملًا فهو خطأ؛ لأنَّه لا يجعل أرضية مشتركة تكفل قبولًا
أو
رفضًا، أما إذا كان رفضًا لأجزاء وقبولًا لأجزاء، فهذا موقف أكثر تسامحًا، لكنه أسلوب
تجزيئي لا يناسب الحكم على الدين، ولا حتى على الفلسفة؛ أما أسلوب الرفض الثالث، فهو
مركَّب جدلي من الرفض والقبول، وهذا هو الموقف الذي ينبغي التمسُّك به؛ لأنَّه يُمكن
أن
يخلق أرضية مشتركة بين الديانات المختلفة.
١٣
•••
ويبقى أخيرًا، وأيضًا أولًا، ودائمًا، وفي كل خطوة المحك وآية الانضباط؛ يبقى المنهج.
والواقع أن تيليش أضفى النسقية على لاهوته، فغذَّى اللاهوت المسيحي عمومًا وأثراه، حين
قدَّم منهجه الفريد، منهج
التضايف Method of Correlation، الذي يحمل سمة تيليش المميزة، فيحلو له أحيانًا أن يسمي
لاهوته «لاهوت التضايف».
ومنهج التضايف — بحكم طبيعة المنهج — الإطار لكل ما سبق؛ إنه تبرير وتعميق اللاهوت
بأن تضايفه إلى الموقفين الفردي والحضاري. وقد كانت وظيفة الكنيسة دائمًا هي الإجابة
عن
التساؤلات المتضمَّنة في كل وجود إنساني، فلا بد أن يستغل اللاهوت المادة الضخمة
والعميقة للتحليل الوجودي في كافة المجالات الحضارية، وهو لا يستطيع أن يقبلها ببساطة،
فكيف إذن؟ الكيفية أو المنهج هو «أن يأخذ بيمناه تحليلات الموقف الوجودي، وبيسراه رسالة
الوحي المسيحي، ويضايف الأسئلة المتضمنة في الأولى على الإجابات المتضمنة في الثانية»؛
١٤ أي يواجه التحليل الوجودي بالرموز التي عبَّرت بها المسيحية عن الاهتمام
القصي، وهذا هو المنهج الملائم لكلٍّ من رسالة يسوع والمأزق الإنساني كما تكشَّف في
الحضارة المعاصرة. والبروتستانتية بما تنطوي عليه من نزعة نقدية ورفض التبعية المطلقة
للسلطات الدينية شيء عظيم جدًّا، ولكن لا بد لها من البعد البنائي، من الوجود في قلب
التوتر على الحدود بين البنائي والتصويبي؛ وحين تجعل من العقيدة إجابات عن أسئلة الوجود
الإنساني في مرحلته التاريخية المعينة، سوف يتحقق البعدان التصويبي والبنائي، وسوف
يتعيَّن على اللاهوت أن يتواجد في توترات حقائق الوحي مع الموقف الوجودي والحضاري
للإنسان.
والإجابة اللاهوتية ليست مشتقة من التساؤل الوجودي؛ لأنَّ الفلسفة الوجودية لا تعطي
أبدًا أية إجابة فقط تحدِّد شكلها، والسؤال لا يحدِّد الإجابة بأكثر مما تحدِّد الإجابة
السؤال؛ الاثنان متضايفان. التضايف أساس فلسفي عام، حتى إنَّ الوحي هو التضايف بين
العقل وبين أساس الوجود؛ أي الألوهية.
من الواضح أنَّ التضايف هو منهج الربط بين اللاهوت والحضارة، على الأسس الوجودية،
وبنظرة أعمق نلاحظ أنَّه منهج الربط بين المقاطعات الشاسعة التي أراد تيليش أن يقف على
الحدود بينها، فهل تُراه استطاع؟