هناك طُرق كثيرة تتقاطع فيها ممارَسة الإعداد والانتحال
وتأثيراتهما وتتبادلان العلاقة فيما بينهما، ويساوي ذلك في الأهمية
الإبقاء على بعض الفروق الواضحة بينهما كأنشطة خلَّاقة. يشير إعداد
ما إلى علاقة مع نص أصلي أساسي أو أصل؛ رؤية سينمائية لمسرحية
«هاملت» لشكسبير، على سبيل المثال، برغم إعادة تفسيرها بوضوح
بالتعاون بين المخرج وكاتب السيناريو والممثلين، ومتطلبات النوع
الفني للانتقال من دراما المسرح إلى السينما، تبقى «هاملت»
ظاهريًّا، نسخة خاصة، برغم إنجازها في صيغ زمنية ونوعية بديلة، من
النص الثقافي الذي انبثقَت عنه. على الجانب الآخر، كثيرًا ما يتخذ
الانتحال رحلة أكثر حسمًا بعيدًا عن النص الأساسي إلى إنتاج وحقل
ثقافيين جديدين تمامًا. وربما يتضمن هذا، أو لا يتضمن، تحولًا
نوعيًّا، وربما لا يزال يتطلب التجاور الفكري لنص — على الأقل —
مقابل نص آخر، وهو ما رأيناه أساسيًّا لخبرة قراءة عمليات الإعداد
ومشاهدتها. لكن النص (أو النصوص) المنتحَل لا يُشار إليه، أو
يعترَف به، بجلاء دائمًا كما في عملية الإعداد. ربما تحدث في سياق
أقل وضوحًا مما يحدث في صناعة نسخة فيلم عن مسرحية تراثية. يسعى
هذا الفصل إلى توضيح بعض الصيغ والعمليات المختلفة للانتحال. وتم
تقسيم الأمثلة لتسهيل المناقشة إلى فئتين عريضتين: النصوص المطمورة
وعمليات الانتحال المتواصلة.
النصوص المطمورة والتفاعل
غالبًا ما تجدد الأعمال الموسيقية المسرحية والسينمائية التي
تم الاستشهاد بها فعليًّا كشكل أصيل من أشكال الإعداد، مسرحيات
أو قصائد أو روايات تراثية بأسلوب يستخدم الغناء والرقص لتوصيل
قصتها. «قصة الجانب الغربي»، و«قبليني يا كيت» عملان موسيقيان
معروفان يعتمدان على شكسبير، سبق ذِكْرهما، وهما مثالان
مُهمَّان للممارسة حيث إنهما عُرِضَا على المسرح أكثر من
الإعداد النوعي المتضمن في صناعة «البؤساء» لفيكتور هوجو، أو
«بيجماليون» لجورج برنارد شو إلى أداء يرتكز على الموسيقى.
«قصة الجانب الغربي» ما كان لها أن توجد بدون «روميو وجولييت»:
توني
Tony، وماريا
Maria هما بوضوح تجديد
حديث للبطلين «المنحوسين» في مسرحية شكسبير في سياق نيويورك في
خمسينيات القرن العشرين. قصة حبهما تنكرها المجتمعات المدنية
المتعادية، وخاصة عصابتا الجيت
Jets، والشارك
Sharks، من الواضح أن لها
أصولها في تنافس مونتاجو وكبوليت، «الضغائن القديمة» التي تقود
التحيز والعنف في فيرونا مسرح شكسبير.
١ وهذا الإعداد للمشهد المدرك بعناية ألقى الضوء على
قضية موضعية للصراع العرقي في نيويورك حين كتب العمل الموسيقي
ومُثِّل أول مرة: الاستياء من العنف تجاه الجالية البورتريكية المهاجرة.
٢
هناك الكثير من المتعة في تتبع العلاقات وتداخلاتها بين
النصين. تقدم سلالم المطافئ الأيقونية في «الجانب الغربي»
نظيرًا رائعًا لمشهد الشُّرْفة في نص مسرحية شكسبير. الشبيه
بأبي روميو ومستشاره، الراهب، يرى أول مرة في المسرحية وهو
يجمع العشب، يتحول إلى «دُكْ
Doc» المهذب، صاحب صيدلية
حيث يلتقي الكثير من الجيت
Jets. في إنتاج يعمل فيما
يتعلق «بالمراهقة» وسياقها، تصبح أواخر خمسينيات القرن العشرين
اللحظة التي تَشكَّلت فيها ثقافة المراهقة بالمصطلحات الثقافية
والتجارية، «دُكْ» هو الشخصية الأبوية الوحيدة التي نراها على
المسرح أو الشاشة (تحول العمل الموسيقي إلى فيلم سنة ١٩٦١م).
يُسمَع عن والدي ماريا، لكن فقط بالكلام؛ يتم إخلاء المسرح من
السلطة بصورة مؤثرة. وتظهر شخصيات أخرى مُفترَضة للسلطة على
خشبة المسرح في شكل الضابط كروبك
Krupke وزملائه من إدارة
شرطة مدينة نيويورك، لكنهم فاسدون بشكل يثير السخرية، وغير
مؤثرين في تناوُلهم للموقف المُتوتِّر في الشوارع التي
يحرسونها. لجولييت في مسرحية شكسبير مستشارة مناظرة في شخصية
مربية كوميدية. في «قصة الجانب الغربي»، يتم التقليل من شأن
الوجه الكوميدي لهذه العلاقة لصالح الاهتمامات الأخوية لأنيتا
Anita، خطيبة برناردو
Bernardo أخي زعيم عصابة
ماريا الأخ. يصور تتابع للقطات اغتصاب عصابة بتفصيل لا ينسى؛
نشاهد أنيتا تتحمل هذا على أيدي الجيت
Jets حين تُحاوِل نقل
رسالة ماريا إلى توني وتفشل. هذه قراءة أخرى موحية للمسرحية
وتجديد لها، كل من المزاح المعادي للنساء بشكل سيئ مع المربية
والخطاب الذي سُلِّم خطأ، ويرى جاك دريدا وآخرون أنه نقطة
التحول الحاسم في «روميو وجولييت» (دريدا، ١٩٩٢م، ٤١٩).
هذا إعداد إذنْ، لكنه إعداد بأسلوب آخر. يمكن أن يقف «قصة
الجانب الغربي» وحده كعمل موسيقي بحكم حقه، بدون ربطه بمسرحية
«روميو وجولييت»، برغم أنني لا أزال أصر على أنه يعمق إدراك
التَّناص لدى مُشاهدي العمل الموسيقي ويُثري مجال الاستجابات
المحتملة. تعود بنا الغنائيات مثل «هناك مكان لنا» بلا شك إلى
قضايا الحيز الفضائي في المسرحية الأصلية؛ شعار عصابة الجيت
الذي يتكرر كثيرًا «من المهد إلى اللحد» يستدعي الحيز الفضائي
لاحتمالية الأبطال الشباب في المسرحية الذين لا يتحقق حبهم إلا
في وجه الموت وفي النهاية، حرفيًّا، في إطار مقبرة أسرة
كبوليت. هذا مثال رفيع للتجديد المستمر للنص الأصلي الذي رأينا
أنه جوهري في عملية الانتحال: بدلًا من حركات التقريب، أو
التفسير عَبْر الأجناس الفنية، التي رأينا أنها مركزية في
عملية الإعداد، لدينا هنا تفكير مُتجدِّد تمامًا فيما يتعلق
بالأصالة.
يضم «قبليني يا كيت» في صلبه، حرفيًّا وبشكل تام، كوميديا
شكسبير المعادية للنساء «ترويض الشرسة»: يدور العمل الموسيقي
(صُوِّر في ١٩٥٣م)، في نقلة ميتامسرحية، حول مجموعة من المؤدين
يؤدون على المسرح نسخة موسيقية من «ترويض الشرسة».
٣ يسجل المشاهدون مستويين من الإعداد والانتحال.
العمل الموسيقي الذي يطمر «الشرسة» إعداد أكثر صراحة، طبقًا
للخطوط التي أكَّدْنا عليها في الفصل الأول، مجدِّدًا شخصيات
مسرحية شكسبير وأحداثها في صيغة غناء ورقص. نتيجة لذلك ينبثق
عدد من الأغاني المركزية، بما فيها «أنا أكره الرجال»، من
العمل الموسيقي داخل العمل الموسيقي. هذه الصيغة ذاتها شبه
شكسبيرية، تستدعي المسرحيات داخل مسرحية في «هاملت» و«عذاب
الحب الضائع» و«حلم ليلة منتصف صيف»، ومسرحيات أخرى، لكن،
بالطبع، أكثر ما يستدعي الإطار الميتامسرحي لمسرحية «ترويض
الشرسة» ذاتها. تبدأ «الشرسة» «بالمقدمة»، التي تؤكد أن
المسرحية كلها عن علاقة المشاحنة بين كاترينيا
Katherina، وبترشيو
Petruchio بأداء فرقة من
الممثلين الرحل الذين خدعوا كريستوفر سلي
Silly السكران بالاعتقاد
بأنه لورد يشاهد أدوار مسرحية منزلية في عزبته الأرستقراطية.
يصور «قبليني يا كيت» عمله الموسيقي عن «الشرسة» بحبكة بين
نجمين مسرحيين متشاحنين، تزَوَّجَا ذات يوم لكنهما الآن
مُطلَّقين. هناك طرق واضحة ومرحة يعكس بها الأداءُ على خشبة
المسرح مزاجيهما بعيدًا عن أنظار الجمهور؛ ليلي فانيسي
Lilli Vanessi، على سبيل
المثال، صريحة ومتهورة بصورة تجعل شخصيتها تشبه كاترينيا.
بينما التجليات المتواصلة للسياسات الجنسية في الولايات
المتحدة في أوائل القرن العشرين، متضمنة التصرفات والحواجز
التي مرت عليها ليلي
Lilli
القوية، ربما لم تعد تبدو مسلية في عصر تنبه للعنف المنزلي،
وتبقى القضية أن «قبليني يا كيت» إعداد وانتحال في الوقت ذاته.
إذا كان الإعداد الصرف يكمن في العمل الموسيقي المطمور، فإن
الوجه الانتحالي يوجد في قصة الإطار الأوسع لممثلي المسرح في
الولايات المتحدة، وفي الحبكة الثانوية المرتبطة بها عن رجال
المافيا الذين يسعون إلى تسديد دين هورنشيو
Horrensio الإنتاج، بِلْ
كلهون
Bill Calhoun. يقدم
أعضاء العصابة واحدة من أشهر أغاني العرض، التي يصل عنوانها
ذاته تقريبًا إلى وضع كوميدي لعملية الانتحال من شكسبير: «جدد
شكسبير». حين اختارته أنجيلا كارتر كواحد من ثلاثة شعارات
لروايتها الجديدة على المسرح، شكسبير، والعمل الموسيقي، «أطفال
حكماء
Wise Children» (١٩٩٢م)،
كانت تتنبأ للقراء بتذكار ثقافي جلي لفيلم «قبليني يا كيت».
٤
يمكن رؤية «قبليني يا كيت» وفهمه بوضوح في سياق الانتحال من
شكسبير بشكل أكثر عمومية، الذي يمثل، كما نرى في الفصل الثالث،
مجالًا ثقافيًّا حقيقيًّا في حد ذاته، لكنه يرتبط أيضًا
بتقاليد ما يمكن وصفه بأفضل شكل بأنه «مسرحيات الكواليس»، وهي
نصوص تهتم بالذهاب خلف مشاهد تمثيل مسرحيات أو عروض معينة.
ويمكن أن يتحقق هذا بطريقة الانعكاس الذاتي على خشبة المسرح،
كما في «قبليني يا كيت» أو مسرحية مايكل فران عن مسرح
المستودعات الإنجليزية، «سكوت. شكسبير عاشقًا
Noises off. Shakespeare in
Love» (إخراج جون مادن، ١٩٩٨م) تعرض أيضًا
هذه الموتيفة علاقة خفية بين ويل
Will شكسبير وممثله النجم
توماس كنت
Kent (فيولا دي
ليسبز
Viola de Lesseps)
مقنَّعة بالدمج السينمائي لحياتيهما «الحقيقيتين» وأدائهما على
خشبة المسرح في «روميو وجولييت».
٥
تطورت مسرحية كواليس من هذا النوع في سياق قصة نثرية. تروي
رواية «صانع الألعاب
The
Playmaker» للمؤلف الأسترالي توماس كنيلي
(١٩٨٧م) بروفات إنتاج مسرحية «ضابط التجنيد
The
Recruiting Officer» (١٧٠٦م) لجورج فارقار وتمثيلها.
٦ يمثل المسرحية مجموعة من الممثلين المحكوم عليهم،
وقد حشدهم لهذا الغرض الضابط رالف كلارك
Clark، وهو ضابط في الجيش
البريطاني اشترك في الإشراف على مُستعمَرة العقاب التي تأسَّست
في سيدني بأستراليا في أواخر القرن الثامن عشر. يردد كنيلي، في
تعليق مضحك ومؤثر عن فترة البروفات، أصداء مهمة بين أحداث
مسرحية فارقار، التي تصور الخدع الجنسية لمجموعة من ضباط
التجنيد في بلدة إقليمية في شروزبيري، والحياة اليومية في
مُستعمَرة العقاب حيث يسود الموقع الخاص في التسلسل الهرمي
وحيث الكثيرات من النساء المحكوم عليهن ملكية جنسية لضباط
الجيش والمشرفين.
٧ يقع الضابط كلارك في حب ممثله الرئيسي، ماري
برينهام
Brenham، لص ملابس
محكوم عليه يمثل دور سيلفيا
Silvia التي ترتدي ملابس
الرجال في كوميديا فارقار، لكننا ندرك دائمًا المعايير
الجغرافية والزمنية لقصة الحب هذه. نعلم في خاتمة الرواية —
يشيد كنيلي قصته في خمسة فصول وخاتمة، تذكير واعٍ بالبنية
الدرامية — بعودة رالف لخطيبته الإنجليزية. ماري برينهام، حال
معظم المحكوم عليهم الذين تتبعنا حيواتهم، سقط ببساطة من السجل
التاريخي. يرتبط هدف كنيلي من كتابة هذه الرواية بما هو أبعد
بكثير من وضع الأحداث سنة ١٧٨٩م الذي يوهم بتذكره؛ يمثل
التعتيم على عالم المجتمع العقابي الذي تقدمه الرواية حيوات
مُجتمَعات السكان الأصليين المرحَّلين في أستراليا. بالنسبة
لكل مزاعم المسرحية داخل الرواية بأنها «أول» إنتاج مسرحي في
الأرض الجديدة، يدرك القارئ تمامًا أن مُستعمَرة العقاب في
سيدني أبعد من أن تكون الوجود «الأصلي» على الجزيرة. خلف
انتحاله السطحي لمسرحية فارقار ليستكشف مستعمرة العقاب (اشتغل
كنيلي أيضًا كثيرًا على السجلات التاريخية للفترة ذاتها)، يهتم
المؤلف بفعل أكثر عدوانية وإمبريالية للانتحال الثقافي:
السيطرة على حقوق الأرض والمطالب الثقافية للشعوب الأصلية.
الرواية مخصصة «لأربانو
Arabanoo وإخوته الذين ما
زالوا مفقودين»، واستمر كنيلي مشاركًا بارزًا في الحملة ضد
قوانين الهجرة الحالية الصارمة في أستراليا. الانتحال إذن، كما
هو حال الإعداد، يُظلِّل بطرق مفيدة المجالات الاستطرادية
للحقول المعرفية الأخرى، وبشكل خاص هنا الخطاب القانوني
المتعلِّق بمناطق من الأرض مثيرة للخلاف وبحقوق
الملكية.
مرت رواية كنيلي، بشكل يثير الفضول، بعملية أخرى من الإعداد
حين أبدعتها الكاتبة المسرحية تمبرليك ورتنبيكر كدراما للمسرح،
«طيبات بلادنا
Our Country
Good» (١٩٨٨م).
٨ متبعة مُمارَسة الإعداد التي تناولناها في الفصل
السابق، بدَّلت ورتنبيكر وكثَّفت وغيَّرت اتجاه بؤرة رواية
كنيلي. اختارت استهلال المسرحية بمشهد على ظهر سفينة تنقل
المساجين إلى أستراليا، ولا يتم تذكر ذلك في الرواية إلا
بالفلاش باك وذكريات مشتركة. مضيفة شخصية خاصة، وإلى حد ما
ناطقة باسمها، لحاكم ويلز الجنوبية الجديدة، أرثر فيليب، تطمر
ورتنبيكر في مسرحيتها العديد من التبريرات المتواصلة لقوى
التأهيل وقوى البناء الاجتماعي للفنون عمومًا، والمسرح على وجه
الخصوص. كانت لديها دوافعها السياسية للقيام بذلك في أواخر
ثمانينيات القرن العشرين. وكان للمناظرات المتواصلة في
المسرحية حول الأهمية الاجتماعية والثقافية للفنون رنينها
الموضعي إلى حد بعيد في فترة انقطع فيها الاعتماد المالي لمركز
الفنون في المملكة المتحدة. في تَحوُّل مهم، ثبت أن «طيبات
بلادنا» بدورها مسرحية جماهيرية إلى حد بعيد على المسرح وبأداء
جماعات مسرح السجن. وتجد هذه الفرق التمثيلية رنينًا شخصيًّا
في النص المسرحي. قراءة التعليقات المتاحة لعدد من ممثلي السجن
عن التأثير الإيحائي للخبرة الفنية في تقديم «طيبات بلادنا»
على خشبة المسرح، تُولِّد إحساسًا بما توصف به الأحداث في
رواية كنيلي وقد اكتملت الدائرة (ورتنبيكر، ١٩٩١م، [١٩٨٨م]،
vi–xvi).
قدَّمتْ فرقةُ البلاط الملكي المسرحية في لندن مسرحيةَ
ورتنبيكر أول مرة على خشبة المسرح بجانب «ضابط التجنيد». لنوضح
الارتباطات أكثر، ضم إنتاج العملين ممثلي الفرقة المسرحية
ذاتها. ذات ليلة يمكن أن يرى المشاهدون ممثلًا معينًا يمثل دور
جستس بلانس Balance في «ضابط
التجنيد» وفي اليوم التالي يرون الممثل نفسه في دور كيتش
فريمان Freeman في «طيبات
بلادنا»، الجلاد العام الذي يفترض أنه يقوم بدور بلانس في
إنتاج الأستراليين المحكوم عليهم. كان هؤلاء المشاهدون الذين
رأوا المسرحيتين في تتابع سريع مدعوين لوضع رضاهم والمادة التي
شاهدوها في المواجهة، بالضبط كما يفعلون في الرواية المؤسِّسة
التي كتبها كنيلي.
ثمة مُعالَجة مزدوجة أخرى كثيرًا ما قدَّمتْها على المسرح
بعض الفرق لأسباب مشابهة وبتأثيرات متشابهة، معالجة «كورس
الرفض
A Chorus of
Disapproval» لألن أيكبورن.
٩ هذه المسرحية أيضًا عن فرقة مسرحية تعد بروفات
مسرحية، هذه المرة فرقة مسرحية بريطانية إقليمية. تقدم الفرقة
على المسرح عملًا أوبراليًّا على سبيل الهواية لعملٍ موسيقي
يرجع إلى القرن الثامن عشر لجون جاي بعنوان «أوبرا المتسولين
The Beggars’ Opera».
١٠ وتعرض نص جاي للعديد من عمليات الإعداد الثقافي
وعمليات التنقية، مقدمًا بشكل رائع النموذج لمسرحية برتولد
بريخت «أوبرا الثلاثة بنسات
The Threepenny
Opera».
١١ يتأكد أيكبورن من أن مشاهديه على دراية بالارتباط
الخاص بين مسرحيته ومسرحية جاي باستهلال «كورس الرفض» في
النهاية إذا جاز التعبير، والستارة تسدل على الأداء الناجح
والممثلون يحنون رءوسهم. نتيجة لهذا، حين تتقهقر المسرحية إلى
الخلف في الزمن إلى بداية عملية الاستماع والبروفات يعرف
المشاهدون أنها تقتفي صعود جوي جونز
Guy
Jones من المسرح مفعمًا بالأمل في قيادة
الإنسان. بالطبع، روح الدعابة التي تكمن في حقيقة أن جوي
يتماهى أيضًا مع دوره في شخصية مكبث البطل المجرم زير النساء
في مسرحية جاي، تزعج كل ممثلات الفرقة. تنبعث معظم الكوميديا
في «كورس الرفض» من انهماك المشاهدين بنشاط مع النص المطمور
«أوبرا المتسولين»، باللعب على التشابه والاختلاف مرة أخرى.
يلقي أيكبورن الضوء على استمرارية الممثل والدور وأيضًا على
الثغرات بين وضعه الإقليمي المميز وعالَم الرذيلة في القرن
الثامن عشر في الأوبرا الكوميدية التي كتبها جاي. حين تمثل
الدراما الموسيقية لجاي بشكل مُشترَك مع مسرحية أيكبورن، تصبح
هذه الارتباطات والاختلافات أكثر ارتباطًا بالنسبة
للمشاهدين.
يبدأ التفاعل الحماسي بين عمليات الانتحال ومصادرها في
الظهور، إذن، كوجه أساسي وحيوي لخبرة القراءة أو المشاهدة،
منتجًا معاني وتطبيقاتٍ وأصداءً جديدة. لكن، كما أكَّدْنا
بالفعل، لا يكشف الانتحال دائمًا علاقاته المؤسسة وعلاقاته
البينية مع مثل هذه المسرحيات التي توصف بأنها نصوص مطمورة.
التلميح إلى النص (أو النصوص) الأصلي قد يكون عمومًا أكثر
إبهامًا عمَّا هو في تلك المواقف الصريحة، مما يؤدي إلى أن
تطرح، بطرق متناقضة أحيانًا، مسائل الملكية الفكرية، والاعتراف
الحقيقي، وفي أسوأ الأحوال تهمة السرقة الأدبية.
الانتحال المتواصل: تقدير أم سرقة أدبية؟
حين فاز جرهام سويفت بجائزة البوكر في ١٩٩٦م على روايته
«النظم الأخيرة
Last Orders»،
ظهر بسرعة خلاف حول الجائزة.
١٢ كما كتبت باميلا كوبر
Cooper، كانت الارتباطات
واضحة بين رواية سويفت والقصة الأمريكية الكلاسيكية التي كتبها
وليم فوكنر «وأنا أرقد محتضرًا
As I Lay
Dying» (١٩٣٠م).
في رسالة إلى ملحق مراجعة الكتب في صحيفة «الأسترالي
The Australian»،
أكد جون فلو Flow من
جامعة كوينزلاند
Queensland على
بعض التشابهات القوية في البنية والمحتوى، بما في ذلك
المونولوج المُوجَّه إلى الشخص الميت، مونولوج يتكون
من نقاط مُرقَّمة، ومونولوج مُكوَّن من جملة
واحدة.
(كوبر ٢٠٠٢م، ١٧)
كان اتهام فلو بأن هذا الخط الذي يمكن إثبات أنه مُتأثِّر
بفوكنر أبقى كتاب سويفت اشتقاقًا دون المستوى من «وأنا أرقد
محتضرًا» وهو بالتالي لا يستحق الجائزة حيث إن توصية المحكمين
لفتت الانتباه إلى أصالة الكتاب. تواصلت الاتهامات والاتهامات
المُضادَّة في الصحافة البريطانية مع بعض محكمي البوكر، ومنهم
يونثان كو، معترفين بأنهم لم يقرءوا كتاب فوكنر أبدًا (كوبر،
٢٠٠٢م، ٦٠)، ويدافع جوليان برنز عن سويفت على أساس أن
الاستعارة والانتحال من السمات المميزة للعملية الفنية.
١٣ وصف سويفت نفسه «النظم الأخيرة» بأنها «تقدير»
لفوكنر، وينبغي التأكيد على أن العمل الأقدم الذي كتبه قورن
بكتابات فوكنر، ناهيك عن «أرض المياه
Waterland» (١٩٨٣م)
بالطريقة التي تناولت بها الأرض باعتبارها شخصية. كانت هناك،
وانتقاد فلو على «النظم الأخيرة» يتجلَّى، تداخلات بنيوية
بارزة بين حكاية فوكنر عن مجموعة من عائلات الميسيسبي ينقلون
جثة الزوجة/الأم إلى بلدة جيفرسون لدفنها وقصة سويفت عن أربعة
أصدقاء ذكور ينقلون رماد صديقهم الراحل، الجزار جاك دودز
Dodds، لينثروه في نهاية
مارجيت بيير.
١٤
تتشكل رواية فوكنر بسلسلة من المونولوجات المتجاورة، من كل
فرد في الأسرة، ومن بينهم دارل
Darl، وهو شخص شعْري جدًّا
لكن تفكيره غريب إلى حد بعيد، يُقدِّم بمعنًى ما الوعي السردي
الأساسي في الرواية، ويحجزه الأقارب بشكل ساخر في المصحة، ويشم
مشاهدو الكوميديا الغريبة رائحة تفوح بقوة من التابوت محمولًا
عَبْر الفيضانات والسفن المحلية في الطريق إلى المثوى الأخير.
في نقطة مُعيَّنة لدينا مونولوج من جملة واحدة من شخصية واحدة
في رواية فوكنر، الطفل فاردمن
Vardaman، وبالمقارنة لدى
سويفت تعجب فينس
Vince من
«المتسولين الكبار» عند النصب التذكاري البحري في شاتهام
(سويفت، ١٩٩٦م، ١٣٠).
١٥ تنطق الجثة في رواية فوكنر، جثة أدِّي بندرين
Bundren، بمونولوج واحد،
منبعث إذا جاز التعبير مما بعد القبر، كما يفعل جاك دودز في
رواية سويفت (٢٨٥). في الروايتين كلتيهما، يشارك القراء في
مونولوجات المرأتين اللتين تُرِكتا: كورا تل
Tull في «وأنا أرقد
محتضرًا»، وآمي
Amy، أرملة
جاك، في «النظم الأخيرة». في تتابع لافت في حكاية فوكنر، يحكي
كاش
Cash، أكبر أبناء بندرين،
عن الاهتمام المرَضي الذي صمم به التابوت الذي تنقل فيه الآن
جثة أمه المتعفنة؛ يعلن تثبيت أجزاء التابوت ويحدد بالفعل
والصوت بداية الرواية. تحول هذا القِسْم في «النظم الأخيرة»
إلى «قواعد» ري جونسون
Ray
Johnson للرهان على الجياد. لهذه القوائم
في الروايتين كلتيهما تطبيق مَجازي في الحياة. بأسلوب يشبه
أسلوب دارل وكاش في رواية فوكنر، ويقدم صوتاهما المميزان جدًّا
وآراؤهما العامة — شعرية دارل وحساسيته وهما عرضة للتمزق التام
والانهيار، برجماتية كاش وواقعيته، برغم أنهما حادتان إلى حد
بعيد — يقدمان الحكايات المتجاورة في «وأنا أرقد محتضرًا»،
وتعتبره مونولوجات ري في «النظم الأخيرة» الوعي الأساسي في نص
سويفت. بين ثغرات حكاية ري أو بين سطورها، نعرف بحبه لآمي زوجة
جاك، وابتعاده عن زوجته وابنته، بالإضافة إلى ماضي هذه
المجموعة المُعقَّدة من الأصدقاء والرفاق (ترجع علاقات كثيرة
إلى خبرات زمن الحرب في أربعينيات القرن العشرين).
المثير والمزعِج في حالة «النظم الأخيرة» و«تقدير» فوكنر هو
ما قد يسمى في دراسات شكسبير اختبار المصادر أو الاستعارات
الخلاقة، موردة تلميحات إلى، أو تعديلات على، أوفيد وبلوتارك
وتوماس لوج والكوميديات الرومانية إلخ، يصبح في حالة الرواية
الجديدة مناقشة مختزلة للسرقة الأدبية و«عدم الأصالة».
١٦ يلمِّح روبرت ويمان إلى هذه النقطة في ملاحظته أن:
«المسافة في المجتمعات قبل الرأسمالية بين انتحال الشاعر لنص
أو موضوع مُعيَّن وإنتاجه وملكيته (أو إنتاج الشاعرة وملكيتها)
الفكرية مسافة ضئيلة للغاية: المدى الذي يُقدَّم به موضوعه
matière، المدى الذي يخطط
به «المصدر» والنوع الفني وأنماط الحبكة والمواضيع، إلخ أعظم
بكثير …» (١٩٨٨م، ٤٣٤). إنه تساؤل ذو توجه ماركسي في الصميم عن
المِلْكية و«التَّملُّك»، لكن يجدر أن نضيف أن كتابه عن «الأدب
Literature» في هذه
السلسلة، أكد أن الكتابة «التنقيحية» مجموعة فرعية أساسية مما
يمكن تصنيفه بأنه أدبي (١٩٩٩م).
لا مَفرَّ من التناغم بين العملين، عمل فوكنر وعمل سويفت،
لكن الاتهام الخاص بالمديونية مهم بشكل خاص في سياق هذا
الكتاب، وهو اتهام أثاره فلو وآخرون. بدا أن فلو يقترح أن
رواية سويفت بلا قيمة؛ لأنها ليست «أصيلة»، وهو استنتاج لا
يمكن دعمه في سياق ثقافة ما بعد الحداثة فيما يتعلق
بالاستعارات والارتجال. لكن ما شغل أيضًا الكثير من النقاد
والقراء الذين استجابوا لاتهام فلو فكرة أن سويفت كان بمعنى ما
غير أمين فكريًّا بتجديد الرواية المهمة التي كتبها فوكنر بما
يلائم أواخر القرن العشرين والمصطلحات العامية الإنجليزية بدون
أن يعترف بذلك بشكل مناسب. هل تستعيد «النظم الأخيرة» وضْعَها
الثقافي إذا سجل سويفت، في ملاحظة استهلالية، اعترافًا صريحًا
بدينه، أو تعمد إعلان تقديره صراحة؟ هل كان ينبغي أن يشير
عنوان روايته إلى علاقة التَّناص كما تشير «عوليس» جويس إلى
تفاعلها مع ملحمة هوميروس؟ إلا أن رواية جويس تُربَط أيضًا
بمسرحية «هاملت» لشكسبير لكن الرواية الصادرة في ١٩٢٢م لا تحمل
أثرًا لهذه العلاقة في عنوانها. هل يجعلها ذلك تفتقر إلى
الأمانة، أقل جدارة بالمصطلحات الأدبية، أقل أصالة؟ لا،
بالتأكيد. تثير الاستجابة لرواية «النظم الأخيرة» سؤالًا
مهمًّا عمَّا إن كان على الروائي أن يعترف «بشكل مناسب»
بالتَّناص والتلميح. إن ذلك بالتأكيد، إذا التزمنا ببعض نظريات
جينيت عن الكتابة الماسحة التي ناقشناها في الفصل السابق، جزء
من لذة الاستجابة التي يكونها القارئ وهو يتتبع هذه العلاقات
في حد ذاتها. من المهم بالتأكيد، بدون رغبة في اختزال عملية
القراءة إلى لعبة «مأزق الانتحال»، أن نعترف بأنه لربط نص
مُعَد ومنتحل بنص واحد يَتناصُّ معه ربما تغلق بالفعل الفرصة
أمام قراءته في علاقته بالنصوص الأخرى. ويصح هذا بالتأكيد
بالنسبة لرواية «النظم الأخيرة».
تركز رواية سويفت كلها من نواحٍ عديدة على البحث عن عائلة
والإحساس بالبيت، وهو حال كثير من روايات الترحال، وتُركِّز
بؤرتها النهائية على نقطة البداية بدل التركيز على غاية نظرية.
ينتحل سويفت كثيرًا من النصوص الأدبية الأصلية بهذا المعنى.
حيلة الرحلة قديمة ونمط أصلي في الأدب الغربي والآداب الأخرى،
كما هو حال موضوع الموت. كما دوَّن سويفت، إن: «قصة ضغط الميت
على الحي، في أعقاب الموت، قديمة قدم هوميروس» (مقتبسة في كوبر
٢٠٠٢م، ١٧). كان سويفت كاتبًا تلميحيًّا بعمق. تبدأ «أرض
المياه» بعبارة مقتبسة عن ديكنز في «التوقعات الكبرى»: «كانت
بلادنا بلاد المستنقعات …»، وتحمل رواية «بعد دائمًا
Ever After» (١٩٩٢م) أصداء
من «هاملت»، كما نرى في الفصل الثالث؛ وكما نستدعي في الفصل
الرابع، تنقح «نور النهار
The Light of
Day» (٢٠٠٣م) القصة البوليسية، ملمحة في
العملية إلى كل من رواية جراهام جرين «نهاية العلاقة الغرامية
The End of the Affair»
والأسطورة الكلاسيكية عن أورفيوس.
١٧ وحددت باميلا كوبر روابط أخرى بين «النظم الأخيرة»
وشعر ت. س. إليوت، خاصة قصيدة «الأرض الخراب
The Waste Land» مع
لازمتها عن حانة لندن «الزمن من فضلكم أيها السادة». قصيدة
إليوت، بالطبع، غنية جدًّا بالتَّناص في حد ذاتها، لكن مما
يثير دهشة القارئ مبكرًا العمل الرائد لجيفري تشوسر في القرون
الوسطى، «حكايات كانتربري»، التي تأتي افتتاحيتها المفعمة
بالأمل في الربيع: «عندما تساقط رذاذ أبريل/ واحترق جفاف مارس
واجتثه من جذوره» (تشوسر ١٩٨٦م، افتتاحية عامة
II، ١–١٦). ويعكس إليوت
العبارة إلى «أبريل أقسى الشهور». ينبهنا الاستدعاء بدوره إلى
مجموعة موازية من التلميحات في رواية سويفت إلى قصة الحج عند
تشوسر. تظهر القصة لتمتع يقظة القارئ بلعبة التَّناص: «ابحث عن
إشارات إلى كانتربري» (١٨١). وهناك حتى منعطف مهم إلى
كاتدرائية كانتربري.
بانتحال «حكايات كانتربري» لتشوسر، ينتحل سويفت ويعد
الاستراتيجية الأدبية القديمة التي توازي بين الرحلة الحقيقية
أو موضع الحج والرحلة الداخلية أو السفر الروحي. يتم التلميح
إلى كل هذه المواضيع وإلى التَّناص مع تشوسر إيماء في الصفحات
الأولى من «النظم الأخيرة». يجلس ري في حانة بيرموندسي
Bermondsey — التي تسمى
بشكل ساخر «المدرب والحصان» حيث، كما تعتقد الشخصيات، «لم تذهب
قط إلى أي مكان» (٦) — وهي توازي بالطبع نُزُل سويثرك
Southwark، التابارد
Tabard، حيث يتقابل الحجاج
التسعة والعشرون في كتاب تشوسر معًا أول مرة ويقررون السفر
معًا، يقضون الوقت بحكاية قصص بإيحاء وتوصية من هاري بيلي،
المضيف. ينتظر ري رفاقه للقيام برحلة إلى مارجيت بيير لنثر
رماد جاك. يوجد، كما في رواية فوكنر «وأنا أرقد محتضرًا»، عنصر
كوميدي مُروِّع في هذا الجمع وهذه الرحلة، وهي حقيقة يؤكدها
الإناء الذي يوضع فيه رماد جاك؛ بدل أن يكون كأسًا مُقدَّسة
تشبه بالفعل وعاء قهوة سريعة التحضير؛ إلا أن «الحج» إلى
مارجيت يثبت في جوهره أنه خبرة ترتبط بعيد الغطاس بالنسبة
للرجال الأربع الذين يشملهم الحج. كما لاحظنا بالفعل. تشبه
روايةُ «النظم الأخيرة» روايةَ «وأنا أرقد محتضرًا» من حيث
إنها تُبنَى حول سلسلة من المونولوجات تهتم بأحداث الماضي
والحاضر، لكن هذه البنية تردد أيضًا أصداءَ خاصيةِ «تعدُّدِ
الأصوات» في قصيدة تشوسر بالقصص والحكايات المغروسة فيها
(فيليبس
Phillips، ٢٠٠٠م، ٢).
بشكل ممتع، تمثل البنية الخاصة عند تشوسر مجموعة من رواة القصص
من أصول متنوعة، «شعب سوندري
sondry» (١٩٨٦م، استهلال
عام،
I، ٢٥)، اجتمعوا معًا في
موضع، ولغاية لها نظائر أدبية عديدة، عبر القرون وعبر
الثقافات، من رواة القصص الفلورنسيين في القرن الخامس عشر عند
بوكاتشيو في «دكاميرون»، اجتمعوا معًا في منزل ريفي نتيجة
انتشار الطاعون، إلى جالية عالمية عند رانا دسجوبتا في مطار
نتيجة المناخ السيئ في روايته «ألغيت رحلة طوكيو
Tokyo Cancelled» (٢٠٠٥م).
١٨
سافر حجاج تشوسر على ظهور الجياد؛ الموكب الجنائزي الغريب في
رواية فوكنر تحرك إلى الأمام بحصان وشاحنة؛ يسافر أبطال سويفت
في سيارة مرسيدس أو «مرس» ملاكي زرقاء قدمها لهم فينس
Vince، بائع سيارات
مستعملة. هكذا تصبح السيارة في «النظم الأخيرة» شعارًا لوسيلة
الانتقال الجديدة التي يستخدمها سكان جنوب لندن؛ حركة سهلة،
اجتماعيًّا وجغرافيًّا، تدفع شخصيات مثل فينس بعيدًا عن عمل
العائلة في الجزارة، وتجعل الرحلات إلى كنت
Kent بسيطة وغير مهمة
تقريبًا مقارنة بالرحلات التي تُذكَر أكثر ويُحكَى عنها، رحلات
القفز في ثلاثينيات القرن العشرين.
تُرسَم «النظم الأخيرة»، مثل «وأنا أرقد محتضرًا»، وأيضًا
مثل زيارات الحج المنظمة في القرون الوسطى، بمواضع خاصة
مُحدَّدة ومتنوِّعة، محطات في الطريق، وعلامات مميزة، تحمل
معاني بالنسبة للماضي والحاضر: «يسافر الرجال الأربع، مدفوعين
بغرض مُشترَك، معًا عبر جزء صغير من إنجلترا، مستكشفين أنفسهم،
ويستكشف كل منهم الآخر وعالمه وزمنه وتاريخه» (كوبر، ٢٠٠٢م،
٢٣). يتضمن جزء من الاهتمام بهذه العملية التاريخية بالنسبة
لسويفت انشغالًا بماضي إنجلترا. أحد الأعمال السينمائية المهمة
المُتناصَّة فيلم «حكاية كانتربري» (١٩٤٤م) وهو تأمُّلات في
زمن الحرب في الهوية الإنجليزية لمايكل بويل وإمرك بريسبرجر،
وفيه أربعة أشخاص يقومون برحلة إلى كانتربري توحي بجلاء بالحج.
١٩ وحدَّد النُّقَّاد أيضًا تلميحات إلى القصيدتين
الإنجليزيتين القديمتين «المتجول» و«الملاح» (كوبر، ٢٠٠٢م، ٣٢)
في اهتمام الرواية بمشاهد طبيعية مختلفة: الأرض واليابسة والبحر.
٢٠ أمامنا على الأرجح نسخة من نهاية الأرض في مارجيت
بيير في الختام، وأيضًا الصحراء ومواضع بحرية في ذكريات الحرب
التي يَتذكَّرها عدد من الرجال. أشارت دي دياز (٢٠٠١م، ٢٣) إلى
استخدام قصيدتي «المتجول» و«الملاح» أعمالًا موازية من الكتاب
المُقدَّس، واقتفت كوبر بشكل صحيح عناصر من حبكة عدن في «النظم
الأخيرة» في الصراع بين قابيل وهابيل في الصراع بين ليني
Lenny، وفينس.
٢١ ومن ثم يكون الموكب الجنائزي الممتد في رواية
سويفت نسخة دنيوية من حج القرون الوسطى، ولا يكون كذلك في
الوقت ذاته، بالضبط كما كان حجاج تشوسر في «حكايات كانتربري»
خليطًا من المشبعين بالروح التجارية والأنانيين
والأتقياء.
يبدأ الرجال الأربعة في رواية سويفت رحلتهم في أبريل وهناك
«أغبياء في الأفق» (٣٠)، وبإحساس بالوعد، بالضبط كما تبدأ
قصيدة تشوسر بشكل رائع. لكنها أيضًا قصيدة رثاء نثرية. الرواية
رحلة عبر إنجلترا بعد الإمبريالية؛ تتأمل لازمة السرد في مدى
تَغيُّر الأمور بالنسبة للذَّكَر البريطاني. حيث إن هذه الرحلة
هي بدون شك مشروع ذَكَري. الزوجة في هذه الرواية، آمي، ليست
زوجة باث Bath الرحالة، تختار
أن تمكث في الخلف، مقاومة السخرية المروعة في الذهاب إلى
مارجيت مع رماد جاك وكانت رحلة خططت للقيام بها معه وهو على
قيد الحياة، بعد أن يحالا إلى المعاش. الإحساس الثابت الذي
تشعر به آمي تجاه الرحلة في الرواية أقل بكثير مما تشعر به وهي
تأخذ طريق أتوبيس ٤٤ بشكل متكرر لترى ابنتها وابنة جاك،
المختلة عقليًّا، في المستشفى.
تقدم لنا رواية سويفت موضعًا وطبوجرافيا اجتماعية مثلما يقدم
لنا نص تشوسر، لكننا نتلقى أيضًا نسخة من إنجلترا الأدبية التي
يشكل نص تشوسر جزءًا منها. إنجلترا «النظم الأخيرة»، التي
تُستدعَى أيضًا في ذلك العنوان متعدد الإحالات، متغيرة وخالدة
بشكل غريب، تقف على سيقانها الأخيرة إلا أنها ثابتة. وبطريقة
ما تبدأ الكشف عن رد على الاتهامات بالسرقة الأدبية الموجهة
لهذه الرواية في علاقتها برواية فوكنر «وأنا أرقد محتضرًا».
بالطبع متناص فوكنر حاسم وكاشف ومتحرك، حتى في إلقاء الضوء على
تماثُل جنوب لندن الذي يقدمه سويفت مع أدب الميسيسبي في
ثلاثينيات القرن العشرين. لكننا، كما لاحظت كوبر قبلي، لا
نَتعامل مع إطار مفرد للانتحال أو التَّناص لكن بالأحرى مع
«سيمفونية من النصوص المُتناصَّة». وهذه هي الطريقة التي توضع
بها هذه النصوص المُتناصَّة مقابل بعضها البعض كما تكشف عنها
القصة الكاملة لرواية «النظم الأخيرة» (٢٠٠٢م، ٣٧).
الاستعارة الموسيقية عن سيمفونية النصوص أو تعدد الأصوات في
«النظم الأخيرة» مفيدة، حيث إنها من الخلافات الرئيسية في هذا
الكتاب حيث نحتاج، بحثًا عن طرق للإفصاح عن عمليات الإعداد
والانتحال، إلى معجم أكثر نشاطًا، معجم حركي، كما وصفته، معجم
ديناميكي، يتحرك إلى الأمام بدلًا من عمليات البحث التي تتطلع
تمامًا إلى الخلف بحثًا عن المصدر أو الأصل. استعارة الرحلة
المفضلة عند سويفت نفسه نقطة مرجعية مفيدة بالتأكيد. في دراسة
التفسيرات وتقديم تفسيرات جديدة ومتنوعة للنصوص التراثية أو
الراسخة، نكون في رحلة تأخذنا عَبْر نقاط مسرحية متنوعة، نقاط
تاريخية وجغرافية. لكن ثمة خطورة أيضًا في نشر موتيفة الرحلة.
يبدو أنه كمصطلح يؤكد على نقطة بداية ونهاية، على أصل وغاية،
يمكن أن تختزل فكرة الرحلة عملية الإعداد إلى غائية خطية. إن
تقنية سرد سويفت ضد الخطية أكثر مما يتضمن هذا: تثبت عمليات
السرد في اللجوء إلى الإنجليزية القديمة والأدب الإنجليزي في
القرون الوسطى أنها دائرية ومتشابكة أكثر منها حركة مباشرة من
«أ» إلى «ب» (تقوم الحكايات الدائرية في رواية فوكو «وأنا أرقد
محتضرًا» بوظيفة مماثلة).
تعود رحلة الرجال الأربعة إلى مارجيت بهم إلى الماضي أيضًا.
عرض سويفت هذا الفهم غير الخطي
antilinear لنصية التاريخ
من قبل، بأبرز ما يكون في «أرض الماء»، وهي حركة نفسية وسردية
تميز أسلوبه في التَّناص. لكن ربما يمكن البحث في الموسيقى
وعلم الموسيقى عن بعض أبلغ الاستعارات عن العملية الحركية في
الإعداد. اشتق معظم موسيقى الباروك الأوروبية في القرنين
السادس عشر والسابع عشر زخم الإبداع والإنجاز من الارتجال على
موسيقى الرقص والبنى النمطية، مع أشكال من قبيل البيرجماسكا
والفوليا والبساميزو.
٢٢ الارتجال أو التنوع على أساس راسخ أو قاعدة تناص
أساسي لتأليفها وبنيتها. بُنِيتْ عمومًا الإبداعات الموسيقية
لديجو أورتيز، وماركو أوسيليني، وهنري بورسيل في إسبانيا
وإيطاليا وإنجلترا بالترتيب، على أساس «الخلفيات» أو الأنماط
الآلية الأساسية الهارمونية المكررة، التي تُعزَف على العود،
أو الهاربسيكورد، أو التشيلُّو، أو الاثنين معًا، على سطحها
الخطوط الأكثر ارتجالية تُؤدَّى بالفلوت، أو الريكوردر، أو
المعزف، أو الكمان.
٢٣ لدينا في هذا نموذج جميل إلى حدٍّ ما للطريقة التي
ربما يعمل بها المتناص (أو النصوص المُتناصَّة)
intertext(s) في رواية مثل
«النظم الأخيرة» باعتباره القاعدة أو «الخلفية» بالنسبة
للقارئ، معلنًا عن النغمة العليا أو العمل المُرتجَل، وهو عمل
أو مُنتَج ثقافي إبداعي جديد. ويبدو أن مفهوم إليوت «للتقاليد
والموهبة الفردية» يعثر على حياة جمالية جديدة في هذا
السياق.
ربما أحد أشهر السياقات الموسيقية التي تحدث فيها هذه
العملية المستمرة برغم دائريتها، عملية الابتكار على «خلفية»
أساسية عمل جوهان سبستيان باخ بعنوان «لحن بتنويعات مختلفة
Aria mit verschiedenen
Veraenderungen» (مشهور باسم «تنويعات
جولدبرج
The Goldberg
Variations»).
٢٤ تُصوِّر ثلاثون تنويعة أداء افتتاحية اللحن
الأساسي وختامه. كما يصف ريتشارد باورز بفصاحة في روايته
الرائعة «تنويعات البق الذهبي
The Gold Bug
Variations» (تناقش أكثر في الفصل التاسع):
٢٥
تُشيَّد المجموعة حول تخطيط علاقات طيعة ومتنامية بشكل
لا نهائي. كل من الثلاثين، تطور كامل، يتجلى حتى ينكر أنه
يختلف في تصوره عن الأقارب بتحور ضئيل فقط … شكون بشكل
واسع لا يمكن تصوره، بسكالجيا تطورية مبنية على تكرار هذه
القاعدة وتدويرها.
٢٦
(١٩٩١م، ٥٧٨)
نقطة الإشارة الاستعارية عند باورز هنا هو النمط الوراثي
الذي تكشف بالبحث عن الدنا
DNA
في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين والتماهي مع
حلزون مضاعف متشابك على يدي كريك وواطسون.
٢٧ لكن نثره يقدم لنا مجموعة لا تُقدَّر من المصطلحات
للتفكير من جديد في عملية الإعداد، بعيدًا عن الآراء
الاستاتيكية أو خطية تمامًا. التجليات، عمليات التدوير، عمليات
التحور، التكرارات، التطورات، التنويعات: احتمالات مثيرة وبلا
نهاية.
يمكن أن يوجد النظير الموسيقي الحديث لاستعراض خلفيات موسيقى
الباروك في الخصائص الارتجالية لموسيقى الجاز. نغمات الجاز
نفسها نماذج للتكرار مع التنوع، كثيرًا ما تشير أو تقدم
تقديرًا للأعمال التراثية (انظر أيضًا ماك كليري
McClary، ٢٠٠١م). مثال قوي
على هذا سوت دوق إلينجتون «هذه العاصفة الجميلة
Such Sweet Thunder»
ويتأسس على عدد من مسرحيات شكسبير وسونيتاته (١٩٩٩م، [١٩٥٧م]).
٢٨ تمثل التفسيرات الفنية التي يقدمها إلينجتون لنصوص
شكسبيرية أساسية نظرية هنري لويس جيتس الابن عن «الدال» في
الثقافة الأمريكية الأفريقية، كما تناولناها في المقدمة،
وينتحلها جيتس من المؤلفين البارزين لموسيقى الجاز: «في تقاليد
الجاز مؤلفات كونت بيزي («تدل») وأوسكار بيترسون («دالة»)
تُشيَّد حول أفكار المراجعة الشكلية والتضمين» (١٩٨٨م،
١٢٣).
لدينا في فترة أحدث مثال عملي عن المزج في أنواع موسيقية مثل
موسيقى الراب والهيب هوب. وصف ديفيد هسموندال هذا بشكل مثير
بالسرقة كما هو حال الحيلة الثقافية أو عملية التدخل، مشيرًا
إلى طرق ينبغي أن تثار بها من جديد مناظرات عن السرقة وحقوق
الملكية الفكرية والأدبية بطرق أكثر إيجابية، طرق مفيدة
اجتماعيًّا ومعززة.
٢٩ يتساءل هسموندال، مستكشفًا ما يصفه بالأصوات
«المتشابكة» في الراب، عن المدى الذي يمكن به إخضاع اهتمام
الراب في الانتحال والتَّناص «وتغيير السياق» لقانون الملكية
الفكرية المتعارَف عليه: «إلى أي مدى تعني عملية تغيير السياق،
وضع العينة بجوار الأصوات الأخرى، يمكن أن يُعزى التأليف
(والمكافآت المالية المترتبة على ذلك) إلى مَنْ يمزج، لا من
يُمزَج؟» (٢٠٠٠م، ٢٨٠). إننا نتعامل، كما حدث مع الضجة بشأن
رواية سويفت «النظم الأخيرة»، مع أخلاقيات مُعقَّدة عن
المديونية، برغم التعقيد الإضافي الذي أشار إليه ديفيد سنجيك
بأن لغة الموسيقى لا تحمل علامات الاقتباس (١٩٩٤م، ٣٤٩).
٣٠ ربما نحتاج مع بعض هذه الاعترافات الاحتفالية
لقدرة الراب على المزج لدعم جمالية جديدة، إلى أن نرى عمليات
الإعداد والانتحال في الأدب من نقطة الأفضلية الأكثر إيجابية،
ونراها تبدع احتمالات ثقافية وجمالية جديدة تقف بجوار النصوص
التي ألهمتها، تثريها بدل أن «تسرقها». وقد يقدم هذا «خلفيات»
لتبرئة جراهام سويفت، وترسيخ منهج أكثر حيوية لاستكشاف عملية
الانتحال.