المسخ الحديث
نتذكر باستمرار أن كتابة ما بعد الحداثة شكل يُطلَب فيه من
القارئ أن يكون على وعي بمؤلِّف العمل وبالحيلة المُستخدَمة في
العمل. لا جديد في هذا، كما تشير أية قراءة لأوفيد. يشد أوفيد
في «مسخ الكائنات» انتباهنا باستمرار إلى دور الراوي: الكثير
من أشهر حكاياته عن المَسْخ والتَّحوُّل، كما في حالة
بيجماليون، وفينوس وأدونيس، وليدا
Leda، وسوان
Swan، وديانا
Danae، والدش الذهبي، قصص
مُدْرجة ضمن قصص، مُحْتَواة في القَصِّ أو الغناء أو النسيج
المُعقَّد الذي يقدمه أورفيوس وأراكن وآخرون.
٥ تيسر عمليات انتحال الأساطير وسيلة للمؤلفين
المعاصرين للقيام بفحص واعٍ للعملية الفنية. لكن حكايات أوفيد
عن تحول الشكل وتغيُّره قصص كثيرًا ما تحدث تحت ضغط أحداث
مُعيَّنة مثل محاولة اغتصاب أو أسًى شديد، وتجد أيضًا متوازيات
مناسبة في الكثير من مواضيع هؤلاء الكتاب أنفسهم واهتماماتهم.
تجتذب الأسطورة أحداثًا من سياق الحياة اليومية إلى عالم
الآلهة وما فوق الطبيعة، والاستثنائي بمعنى الكلمة، ولهذا
السبب أثبتت أنها مصدر جذاب، وبشكل خاص لكُتَّاب الواقعية
السحرية، مثل رشدي، وجبريل جارسيا ماركيز، الذين يسعون إلى رفع
الحدث العادي إلى فضاء احتمالية أعظم. ليست الواقعية السحرية،
أو الانتحال الأسطوري، إنكارًا للقضايا الاجتماعية الواقعية:
تقترح أليسون شاروك أنه، برغم أن مواضيع الأسطورة تتناول
الأرباب والربات وعوالم أخرى غير عالمنا، إلا أنها الأسطورة
«توفر فضاء … لفحص القضايا العائلية …» (هاردي
Hardie، ٢٠٠٢م، ١٠٥).
٦ بالإضافة إلى تعزيز انطلاقات الفنتازيا المرتبطة
بالواقعية السحرية، تُعرَض الأسطورة لمناقشة أكثر المواضيع
ألفة: الأُسَر؛ الحب؛ الآباء والبنات.
أثبت هذا المزيج القوي من الاستثنائي واليومي أنه جزء من
الافتتان بمجموعة من انتحال أعمال أوفيد في العقود الأخيرة.
ساهم شعراء، منهم سيموس هيني، وسيمون أرميتاج، وكارول أن دوفي
وتيد هوز (الذي واصل كتابة عمله الطويل «حكايات من أوفيد
Tales from Ovid» في
١٩٩٧م)، في أنثولوجيا «بعد أوفيد
After
Ovid» (١٩٩٤م)؛ كتب كُتَّاب من أ. س. بايت
وجويس كارول أوتيس إلى الكاتب الهولندي سيز نوتبوم قصصًا قصيرة
عن «مسخ أوفيد
Ovid
Metamorphosed» (٢٠٠٠م، ٧٢–٧٧).
٧ يجلب الكثير من هذه النصوص إطار المرجع الأسطوري
إلى الأرض بمعنى الكلمة. إن إعادة قص أوتيس لموت أكتيون في
«أبناء أنجيوس ماك إليستر
The Sons of Angus
MacElster»، على سبيل المثال، تسرد وفاة
بطريرك كيب بريتون العنيف؛ في هذه النسخة تكون كلاب الصيد التي
تمزق أكتيون إربًا في هيئة أيل هم أبناء أنجيوس ماك إليستر
ناهشين جسد أبيهم السكران في الحظيرة بعد أن اعتدى على أمهم
(تيري
Terry، ٢٠٠٠م، ٧٢–٧٧).
٨ «مسز ميداس
Mrs.
Midas» عند كارول أنْ دوفي ربة بيت معاصرة
أذهلتها رؤية سرعة تَحوُّل الأشياء في بيتها إلى ذهب (هوفمان
Hofman ولاسدون
Lasdun، ١٩٩٤م،
٢٦٢).
لا يتجلى الحافز المزدوج الذي يظهر في عملية انتحال
الأسطورة، وهي تعويذة آنية للمدهش واليومي، أكثر مما يتجلى في
كتابات كيت أتكينسون. رواية أتكينسون «الكروكيت الإنساني
Human Croquet» (١٩٩٧م)،
إبداع متناص بعمق نوقش في موضع آخر فيما يتعلق بتلميحاته إلى
شكسبير (ساندرز، ٢٠٠١م، ٦٦–٨٣)، ينسج شبكة مادته المُعقَّدة،
متراوحًا من القصة العلمية إلى الكتابات المُوجَّهة للشباب لكل
من إ. نسبيت، وإنيد بلاتون في إطار أوفيدي واعٍ.
٩ تبدأ «الكروكيت الإنساني»، مثل «مسخ الكائنات»، من
نقطة الخلق من الهيولي. تتحول في صفحاتها الحكايات الخاصة عن
دافن إلى إكليل لتجنب الاهتمامات الجنسية المقيتة لأبوللو، وعن
أخوات فيتون اللائي يتم التلميح إليهن وقد تَحوَّلْن إلى أشجار
نتيجة الأسى الهائل.
١٠ تدرس الراوية بضمير المتكلم، المراهقة سريعة
الاستثارة إيزوبل فيرفكس
Fairfax، أوفيد وشكسبير في
المدرسة، ومن ثم لا نندهش حين يكون هذان الكاتبان من الأطر
المرجعية المشكلة لأفكارها. لكن إيزوبل غارقة في الأسى أيضًا،
مثل هاملت أو أخوات فيتون. يسيطر موت الأم بعنف على إيزوبل
وأخيها تشارلز، اللذين يُجدِّدان في تَجهُّمِهما حكاية
الجِنِّيات، وقد اكتشفَا جثتها في الغابة: «شكَّل غياب إليزا
Eliza حياتنا» (أتكينسون،
١٩٩٧م، ٢٨).
حين تطلب مدرِّسةٌ من إيزوبل ترجمة الفقرة المكتوبة عن أخوات
فيتون في أوفيد، تنتج نسخة عاطفية للغاية من هذه الحكاية عن
الأسى الهائل الذي لا يمكن احتواؤه (١٦٣). بالعكس وبشكل مساوٍ
تتخيل إيزوبل عند نقاط متنوعة من القصة أن أخاها يُمسخ في صورة
كلب: الموازي الأوفيدي قصة هيكوبا، نموذج آخر من الأسى الرهيب،
أثَّر بدوره على سطور من «هاملت».
١١ تَحوَّلَت هيكوبا إلى حالة كلبية نتيجة حِدادها
العميق على زوجها القتيل، الملك بريام:
زوجته سيئة الحظ
فقدت، بجانب كل شيء، شكلها الإنساني؛
نباحها الجديد الغريب أفزع النسيم.
(أوفيد ١٩٨٧م، ٣٠٦)
تعود أتكينسون إلى أوفيد في مجموعتها القصصية الجديدة، «ليست
نهاية العالم» (٢٠٠٢م). هنا، نواجه مسوخًا وتَحوُّلات متنوعة،
تتأسس كلها في سياقات حديثة معروفة، وهي حقيقة تؤكدها
التلميحات السهلة لأتكينسون إلى أسماء تجارية وبرامج
تليفزيونية جماهيرية. نقابل، على سبيل المثال، إدِّي
Eddie، وهي نتاج اتصال
جنسي آثم بين أمها ونيبتون
Neptune في إحدى الإجازات
الصيفية التي لا تنسى في كريت؛ تستعيد قصتها قصص باسيفي
Pasiphae والثور، وليدا
Leda والإوز، وحكايات أخرى
كثيرة عن تحول جوفين Jovean
إلى شكل سمكة ودجاجة لكي يغوي النساء، كما تُحكَى في «مسخ
الكائنات». تجد كل قصة من القصص، معززة تصورنا عن أتكينسون
نفسها كصورة من أراكن، ناسجة شبكة حكاياتها معًا، رنينها
وصداها في الأخرى: ترجع شخصيات، وتُكتشَف ارتباطات عائلية، وفي
قصة يشاهد المارة تصادم سيارة وقد كشفوا لنا في الحكاية
السابقة مُواجَهة شنيعة مع الموت في هيئة هاديس
Hades في الطريق السريع
م٩. تؤطر المجموعةَ كلها القصةُ الكوميدية التراجيدية عن
تشارلين Charlene، وترودي
Trudi اللذين يجدان وسائل
الترف الجديرة بالثقة في الحياة الحديثة ومراكز التسوق تتدافع
أمام عيونهما متتبعين ما يظهر أنه هجمة نووية.
تقدم قصص أتكينسون، كما يشير عنوان المجموعة وينكر بسخرية
بنشر أكلاشيه، صورة رؤيوية للمجتمع البريطاني في بداية
الألفية. يصل كاتب آخَر بأوفيد إلى نهاية شبه رؤيوية هو سلمان
رشدي في روايته المثيرة للجدل، «آيات شيطانية
Satanic Verses» (١٩٨٨م).
لا يصبح المسخ بالنسبة لرشدي، رغم ذلك، وسيلة لتصوُّر
التَّحوُّل الخيالي فقط، برغم أن روايته تصور الكثير من تلك
الأمثلة، لكنه يصور أيضًا الظرف الخاص للمهاجر في أواخر القرن
العشرين. تقدم العبارة التي يصدر بها روايته، وهي مقتبسة من
«تاريخ الشيطان
The History of the
Devil» لدانيال ديفو، مفتاحًا. تصف
الشيطان بأنه متشرد، مستدعية بدورها المنفى المتنقل في
«الفردوس المفقود
Paradise
Lost» لجون ميلتون، لكن التوازي مع
المهاجر الحديث يَتجلَّى في أجلى صورة في وصف الشيطان بشخص
«حالته غير مستقرة … بدون مَقَر مُعيَّن».
١٢ يحدد رشدي في القيمة التقليدية الضمنية المنسوبة
للاقتباس عن ديفو بأن يكون للمرء «موضع»، أن يكون له مقر
ومجتمع ثابت، سببًا جزئيًّا للخوف غير المناسب من الجاليات
المهاجرة. الواقعية السحرية لرشدي مركزية لانتحاله أوفيد،
وخاصة نص «مسخ الكائنات». يستدعي أوفيد لإبداع عالَم خيالي
بأشكال مهجنة وكائنات أسطورية، ثم يستخدم هذه الكائنات ليناقش
الواقع الاجتماعي.
نبدأ الرواية «بسقوط» لتلك العبارة رنين في سياق ديني مسيحي،
مستدعية نزول الملائكة الأشرار من السماء إلى الجحيم («الفردوس
المفقود» متناص مرة أخرى) بالإضافة إلى إغواء حواء لآدم بتفاحة
المعرفة الجنسية. لا يخشى رشدي أن يلعب بأفكار السقوط هذه
باعتبارها سقوطًا وفعلًا خلاقًا، أو ولادة من نوع ما. السقوط
بهذا المعنى رمزي، إلا أن الرواية تبدأ بسقوط حرْفي، وإن يكن
خياليًّا، لممثلي بوليوود من طائرة تابعة للخطوط الجوية
الهندية فجَّرها مختطفوها.
١٣ بهذا الوصف يستدعي رشدي المتوازيات الأسطورية
بالإشارة إلى سقوط إيكاروس: «مجرد رجلين أسمرين، يسقطان بعنف،
لا جديد في ذلك، ربما تعتقد؛ تسلقا عاليًا جدًّا، تجاوَزَا
نفسيهما، طارَا قريبًا جدًّا من الشمس، أليس الأمر كذلك؟»
(رشدي، ١٩٩٨م، [١٩٨٨م]، ٥).
١٤ بَطلَانا بشكل له دلالته مُمثِّلان: حِرْفتُهما
التمثيل في رواية توحي بأن الحياة الحديثة أصبحت شبه حقيقة. لا
يمكن التقليل من شأن تأثير نظريات جان بودريه على كتابة رشدي.
١٥ في «التقليد والتزييف
Simulacra
and Simulation»، اقترح بودريه أن حالة ما
بعد الحداثة جعلت العوالم الاصطناعية المشيدة، مثل ديزني لاند
أو السينما، تظهر أكثر «واقعية» من الواقع (١٩٨١م).
إن كون مُمثِّلَي رشدي يرجع أصلُهما إلى صناعة السينما في
بومباي و«بوليوود» يؤكد العالم فوق الواقعي عند بودريه، عالم
التشبيه والتمثيل. حظيت بوليوود بسمعة تأسَّست على انتحال
النماذج الأسطورية والحبكات القصصية الكاملة وحققت شهرة كبيرة؛
حتى لقبها تلميح إلى ما يُفترض أنه سلفها في الولايات المتحدة،
إلى هوليوود، ويجد رشدي في هذا دعابة، «كانت ثقافة إعادة
التصنيع. تصميمها المعماري قلد ناطحات السحاب، سينماتها أعادت
بلا نهاية ابتكار «السبعة الكبار» …» (٦٤).
١٦ لكن يزعجه بالقدر نفسه ما يتضمنه أن كل مبدعي الفن
الهنود لهم «أصل» أو مصدر غربي. وهذا يناظر الاهتمام في كثير
من كتابات ما بعد الكولونيالية عن الحاجة إلى تَحدِّي هذه
«المصادر الأصلية» المُفترَضة أو مُعارضَتها، كما رأينا في
مناقشة «الدَّال» في أعمال هنري لويس جيتس الابن من قبل.
النكتة في اقتباس رشدي عن أي قارئ يفشل في ملاحظة أن السبعة
الكبيرة هي نفسها انتحال سينمائي بين ثقافي «لأصل» ياباني:
«الساموراي السبعة» لأكيرا كوروساوا.
١٧
كما يسقط جبريل وصلاح الدين مما يصفه رشدي بأنه أقصى مكان في
«الفضاء الجوي» في القرن العشرين (٥)، فإن ما يشاهدانه أوفيدي
إلى أقصى حد: «شاقين الطريق خارج الأبيض جاءت مجموعة متتابعة
في أشكال ضبابية، تمسخ بلا توقف، آلهة إلى ثيران، نساء إلى
عناكب، رجال إلى ذئاب» (٦). يهبط الرجلان في الثمانينيات في
لندن، وهو مكان في الوقت ذاته لندن وليس لندن، لأنه يفشل حقًّا
في تلبية توقعاتهما. تقدم لندن وبومباي في «آيات شيطانية»
مدينتين متوازيتين ممسوختين غير مستقرتين. بالنسبة لصلاح الدين
شامتشا
Chamcha، وكان اسمه من
قبل صلاح الدين شامتشاوالا
Chamchawala، وقد تلقى
تعليمه في إنجلترا، ألم التوقع المحبط عميق بصورة خاصة. ليندمج
في المجتمع الإنجليزي، يحاول صلاح الدين أن يغير شخصيته
ومظهره، وينجح فقط في أن يبدو غريبًا عن أسرته وأصوله الهندية.
في وجه هذا المسخ الفاشل، يبدو جسمه عاجزًا عن إيقاف عملية
التغيير. يؤدي هذا إلى حادث كوميدي غريب في «ماريا السوداء» أو
سيارة الشرطة، حين يُقبَض على صلاح الدين، وقد صار في هيئة
ستاير — نصف إنسان ونصف معزة — ويضربه رجال الشرطة البريطانية بوحشية.
١٨ يجد رشدي في الصورة الأوفيدية وسيلة إيحاء باختزال
رجال من أمثال شامتشا إلى بهائم من منظور تَعصُّب عقول رجال
الشرطة البيض والآخَرِين الذين انهمكوا في الهجمات العرقية في
بريطانيا في ثمانينيات القرن العشرين.
يقبض رشدي في انتحاله للأسطورة على السلوك المُجرَّد من
الإنسانية لمن يقترفون العنف العرقي. يُستدعَى عالم أوفيد حيث
البهائم المهجنة، من قبيل المينوطور والستاير والسينتور، ليس
على أنه «عالم» مجرد «في مكان آخر» بل وسيلة لتقديم الأعمال
الوحشية المنحازة في إنجلترا المعاصرة.
١٩ فقط في وقت الليل السحري هروب صلاح الدين ومئات من
رفاقه البهائم من المستشفى، الذين يمثلون طالبي اللجوء
والمحجوزين بوحشية مماثلة، يوفر رشدي لنفسه وللقارئ لحظة من
التفاؤل الخيالي. هذا مثال بارز للتضخيم وإنضاج الأسطورة ناقشه
جينيت وبارت. لا تضيع الأسطورة الأوفيدية عن المسخ في عملية
الإعداد، في استكشاف أتكينسون، الاستكشاف الواقعي السحري
للأسى، أو في فحص رشدي، الفحص المؤلم عن مصير اللاجئ، لكن تمت
إضافة الكثير أو اكتسابه.
تُعرَض ميتالغة الأسطورة في هذه الأمثلة كشفرة في متناول
اليد لمناقشة الأفكار المُعقَّدة، والمثيرة للمشاكل غالبًا،
والتواصل معها. ينبغي أن يُذكَر أيضًا عرضها لأغراض سياسية،
خاصة في أعمال رشدي. بالتالي، تُمنَح الأسطورة الطيعة القابلة
للإعداد باستمرار جغرافيا اجتماعية وثقافية مناسبة. وقد يبدو
المسخ تصورًا مضادًّا بشكل خاص للانتحال فيما يتعلق بهذا
الشأن، لكن الحكايات الأوفيدية الأخرى قدمت إمكانية مماثلة
للتجديد، وخاصة قصة أورفيوس، الفنان الذي تستمر أغنيته إلى ما
بعد انتهاء قصته، ما بعد الموت. بالنسبة لعصر مهتم بالأوصاف
الواعية للعملية الفنية، تبين أن قصته واحدة من الاهتمامات
الخاصة والقيم الخاصة.
حكايات أورفيوس
ذات مرة وإلى الأبد، يوجد أورفيوس حين توجد أغنية.
رينيه ماريا ريلكه،
«سونيت أورفيوس
Sonette an
Orpheus» (١٩٢٨م)
٢٠
أورفيوس، موسيقار على درجة عظيمة من المَهارة، يتزوج الحورية
الجميلة أورديس
Eurydice لكنها
تُقتَل بلدغة ثعبان مميتة يوم العرس. ينزل أورفيوس، وقد أذهله
الأسى، إلى العالَم السفلي ليتوسل عودة زوجته إلى الحياة.
تبرهن موسيقاه على أنها بالغة التأثير، وتُلبَّى له رغبته، لكن
بشرط ألا ينظر إلى الخلف وهو يخرج أورديس من العالَم السفلي.
سواء نتيجة الحب أو الخوف أو القلق، يخرق أورفيوس الشرط وتموت
أورديس مرة أخرى. ينسحب أورفيوس، وقد حُرِم من دخول العالَم
السفلي مرة أخرى، إلى الغابة، وبأسًى ينأى بنفسه عن النساء.
تقطع مجموعة من الإناث الغيورات أوصاله في لحظة جنون باخوسي محض.
٢١ في بعض نسخ الحكاية يواصل رأس أورفيوس، وقد قُطِع،
الغناء حتى يَتَّحِد من جديد مع أورديس في النهاية في العالَم
السُّفلي. لم يكن أوفيد أول من روى قصة أورفيوس بهذا الشكل؛
ضمها فرجيل في الكتاب الرابع من «القصائد الريفية
Georgics».
٢٢ إلا أن وضعها في قصص «مسخ الكائنات» يعني أن قصة
أورفيوس ترتبط بشكل لا ينفصم بأعمال أوفيد. توجد قصة أورفيوس
وأورديس في الكتاب العاشر وتروى حكاية موته في الكتاب الحادي
عشر. ربما الأكثر أهمية أن أورفيوس أوفيد موضوع قصص وراوي قصص.
حين ينسحب إلى البراري، يجد العزاء في غناء الحكايات بما فيها
حكايات جنيميد
Ganymede،
وهياسينث
Hyacinth، وبيجماليون
وميرها
Myrrha، وفينوس،
وأدونيس، وأتالانتا
Atalanta.
إن وظيفة أورفيوس كراوٍ داخل قصص أوفيد تفسر جزئيًّا كونه
متاحًا للمعدِّين والمُنتحِلِين في القرون والأجيال التالية.
إنه نموذج أصلي للفنان، سواء كان موسيقارًا أو راوي قصص أو
رسامًا أو شاعرًا. يدفع هذا المنحى في قصته التلميحات إليه في
أعمال ميلتون، وشيلي، وبراوننج وآخرين (مايلز
Miles، ١٩٩٩م، ٦١–١٩٥).
٢٣
نتناول في معظم الانتحال الأسطوري الاهتمام بالأنماط
الأثرية. إذا اعتبر أورفيوس نمطًا أصليًّا للفنان فعلاقته
بأورديس تُعتبَر ملخصًا أدبيًّا للحب المفرط والثابت. صار
أورفيوس وأورديس، مثل روميو وجولييت، نمطين أثريين للحب، تتكرر
قصتهما في سياقات ثقافية متنوعة من الأوبرا إلى السينما
المعاصرة، ومن البرازيل إلى جنوب لندن. تُعرِّف مقولة بارت
إمكانية التلميح بشكل مُتجدِّد إلى القدرة المزدوجة للأسطورة،
وهي مقولة عن ميتالغة عَبْر الثقافة، والإفصاح أيضًا عن قدرة
سياقات ثقافية خاصة على استهلاك الأسطورة. تبقى عملية العالمية
بالنسبة لبارت نشاطًا سياسيًّا وذا طابع سياسي بعمق (١٩٩٣م،
[١٩٧٢م]، ١٤٢–١٤٥). تهتم الأسطورة، كنمط أثري، بدون شك
بالمواضيع التي تبقى حية عَبْر الحدود الثقافية والتاريخية:
الحب والموت والأسرة والانتقام. قد تُعتَبر هذه المواضيع في
بعض السياقات «عالمية»، إلا أن جوهر الإعداد والانتحال يبقِي
النمط الأثري الأسطوري نوعيًّا ومحليًّا وخاصًّا بلحظة
الإبداع.
يحافظ الفيلم البرازيلي
Orfeu
Negro، أو «أورفيوس الأسود
Black Orpheus»، (إخراج
مارسيل كامو، ١٩٥٩م) في خمسينيات القرن العشرين، على أسماء
الشخصيات، والحبكة الأساسية للعاطفة المشئومة بين أورفيوس،
وأورديس لكنه يختار أن ينقل قصة أوفيد إلى مكان معاصر جدًّا في
كرنفال ريودي جانيرو، «نقلة تقريب» بمصطلحات جيرار جينيت
(١٩٩٧م، ٣٠٤).
٢٤ أورفيوس في هذا الفيلم موسيقار على درجة عالية من
المهارة، وهو أيضًا مُحصِّل في شبكة ترام ريو. نشاهده في
البداية يسترد جيتاره من مَكْتَب رَهْن، إحدى التلميحات
الكثيرة في الفيلم للفقر الذي يعيش فيه هذا البطل الأسطوري
الحديث: يعيش في بلدة من الأكواخ، أو فافيلا
favela على أطراف هضبة تطل
على عاصمة البرازيل. في لحظة يُقْنِع شابَّيْن، تُقَدَّم
نظرتهما بمعنى ما رأى المشاهدين في هذا الفيلم، أن لجيتاره،
وهو يعادل قيثارة أورفيوس، القُدْرة على جَعْل الشمس تشرق
وتغرب. ينسحب ارتباط ملابس أورفيوس بالشمس في هذا الفيلم على
الإيحاء في الكثير من نسخ الأسطورة بأن أورفيوس كان ابن
أبوللو. في النهاية، حين تَقتُل أورفيوسَ مجموعةٌ غيورة من
النساء كما تحكي الأسطورة، تصبح الشمس رمزًا للتَّجدُّد. يلتقط
أحد الولدين الجيتار، ويعزف لازمة ترتبط بأورفيوس فتبدأ الشمس
في الشروق. تنضم إليه في اللحظة ذاتها فتاة صغيرة ترتدي ملابس
بيضاء وتبدأ الرقص، قائلة لعازف الجيتار الشاب إنه الآن
أورفيوس. كانت أورديس ترتدي ملابس بيضاء حين رأيناها أول مرة،
ومن ثم تُوحِي بأن أورفيوس وأورديس يعيشان بعد الموت بانتقال
حبهما عَبْر الأجيال، ناهيك عن انتقاله عَبْر إعادة حكي قصتهما
بكثرة. هناك وعي ذاتي في «أورفيوس الأسود» بأن حكايتهما موجودة
من قبل، قصة قديمة. يخبر مسجل الزواج أورفيوس بشكل ساخر،
بتشجيع من خطيبته ميرا
Mira
يوقع عقد زواج، بأن اسم عروسه ينبغي أن يكون أورديس، وحين
يلتقي أورفيوس بأورديس أول مرة في مكان ابن عمها، يضحك: «مدهش،
أحببْتُك ألف سنة … إنها قصة موغلة في القدم.» هناك إحساس بأن
اسميهما يقدِّران المصير التراجيدي الذي ينتظرهما. لا يستطيع
أورفيوس هذا وأورديس الهروب من مصير سلفيهما؛ محكوم على قصتهما
بالتكرار.
إلا أن عملية التكرار الفني هذه خاصة إلى حدٍّ كبير فيما
يتعلق بالثقافة والزَّمَن والجغرافيا. يقدم وضع مشهد «أورفيوس
الأسود» نسخة مُذهِلة من العالَم السفلي الأسطوري. يدور الفيلم
كله حول العاطفة والجنون في كرنفال ريو، كما فَعلَت المسرحية
البرازيلية التي كتبها فينيسيوس دي موريس، «أورفيو دا كونسيشاو
Orfeu da Conceição»
(١٩٥٦م)، التي كانت مصدر الفيلم.
٢٥ بالإضافة إلى استدعاء التداعيات المألوفة في أعقاب
النظريات المُؤثِّرة التي قدَّمها ميخائيل باختين (انظر
باختين، ١٩٨٤م، [١٩٦٨م]؛ دينتيث، ١٩٩٥م) عن التحرر المُؤقَّت
للكرنفال من واقع الفقر المذهل والقاسي في الحياة اليومية في
ريو، تقدم عربدة اليوم توازيًا واضحًا للسُّكْر الباخوسي
للنساء في أسطورة أورفيوس.
٢٦ ينجرف المشاهدون في عاطفة اللحظة وإثارتها
كالمشاركين، وتؤكد موسيقى الفيلم ذلك منذ البداية بثقة بضربات
الطبل المصاحبة لتقدُّم الكرنفال متخللة الآذان والعقول. يطارد
أورديس في زحام الكرنفال والمعربدين فيه شخصٌ في هيئة الهيكل
العظمي لمجسد الموت حتى نهاية خط الترام حيث يعمل أورفيوس عادة
وحيث قابَلتْه أول مرة في بداية الفيلم.
٢٧ تُقدِّم محطةُ الترام باللعب على كلمة «نهاية
terminus»، وهو جزء من
نسيج التورية اللفظية في الفيلم؛ الفضاءَ المُظلِم الذي تلتقي
فيه بمصيرها، تضيف الإضاءة الحمراء المنذرة بالسوء والأزيز
المهدِّد الصادر عن كابلات الكهرباء إلى الإحساس بالهلاك. بعد
ذلك نُشاهد عرَبة إسعاف تُسرِع في شوارع المدينة ومُجسِّد
الموت ينطلق خلفها. تدخل نفقًا في الطريق، في استدعاء حديث
لقارون
Charon مسئول العبَّارة
الذي يأخذ الناس عَبْر نهر ستاكس إلى العالَم السفلي: نقطة
اللاعودة كما توضح أسطورة أورفيوس مرتين.
٢٨ نرى على أطراف الهضبة والمُنحَدرات انبطاح أجساد
المُعَربِدين السكارى، تساقط المفرطين في تناول الشراب في
الكرنفال، وليس من قبيل الصدفة أن الجثث تشبه الأرواح المفقودة
في العالَم السفلي. «انتهى الكرنفال»، كما يخبرهم أحد رجال
الشرطة. «أورفيوس الأسود» في الوقت ذاته أصيل ومرجعي بصورة
مذهلة: تدين هذه النسخة المدنية عن «العالَم السفلي» بالكثير،
على سبيل المثال، لإعادة التَّصوُّر السينمائي الذي قدمه جان
كوكتو لأسطورة أورفيوس في باريس ما بعد الحرب في العمل الشهير
«أورفي
Orphée» (١٩٥٠م).
٢٩
ويدعى الرجل الأعمى الذي أرشد قبل ذلك أورديس إلى اتجاهات
المدينة عند وصولها إلى ريو بشكل مناسب هِرمِز، وهو الذي يخبر
أورفيوس بهلاك حبه الجديد. هرمز في الميثولوجيا رسول، لكنه
أيضًا إله النَّقْل، ومن هنا جاء ارتباطه بفضاء محطة الترام.
٣٠ إنه طبقًا للتقاليد المُرشِد الروحي إلى العالَم
السفلي وهو الذي يأخذ أورفيوس ليجد أورديس في المشرحة المحلية.
القسم الثاني عشر من المشرحة، بشكل حرفي تمامًا، موضع «الأرواح
الضائعة». لا أحد هنا سوى حارس غارق في أكوام من الأعمال
الكتابية. بهذه الطريقة، يوجد تماثل كامل ومحير مع العالم الذي
لا يذكر اسمه، عالم البيروقراطية الحديثة والمصير المحزن
للأشخاص المفقودين في أمريكا الجنوبية في فترات طويلة من القرن
العشرين. يمر أورفيوس، متنقلًا إلى بئر السلم المضاء بلون
محمر، بكلب حراسة ينبح: إنه سِرْبيروس، الكلب متعدد الرءوس
الذي يحرس بوابات العالَم السفلي.
٣١ في النهاية يجد أورفيوس نفسه في غرفة بها
مُغَنُّون وراقصون في ثياب بيضاء في حالة نَشْوة أو سُكْر،
نسخة من طقس الفودو، حالة في العالَم السفلي يتم الوصول إليها بالعقاقير.
٣٢ تُبتكَر أغنية أورفيوس لتستحضر أورديس ويسمع
صوتها، لكنه على انعطافة مميتة لا يرى إلا امرأة عجوزًا تقوم
بدور الوسيط لكلماتها. يتم الإفصاح عن الإحساس المرير الذي
ينتاب أورفيوس نتيجة الفقد بلغة اجتماعية يتم التلميح إليها في
موضع آخر: «أنا أفقر من أفقر زنجي» وهي الترجمة في العناوين
الفرعية في خمسينيات القرن العشرين. للتأكيد على انتهاء
الكرنفال، نلاحظ أورفيوس يحمل جثة أورديس عَبْر الشوارع التي
تنظفها شاحنات الزبالة، أنقاض الليل واضحة في كل مكان من
حوله.
يبدو أن الموسيقى وَحْدَها تقدم وسيلة التحمل في ختام
الفيلم، مستمرة على ما يبدو إلى ما بعد الإطار الزمني
المُؤقَّت للكرنفال، وبطرق ما تصمد أكثر حتى من تماثيل العشاق،
الحجرية الثابتة، التي تعود في تتر الختام. استمرت قصة أورفيوس
وأورديس بدون شك عَبْر العصور وعَبْر الثقافات، ربما مصدقة
دعاوى سابقة بعالمية الأسطورة. إلا أن أي ادعاء بالعالمية يثير
الخطر المصاحب لنزع التاريخية
dehistoricizing
والاختيارات الخاصة عن أي عمل فني مُفْرد. إن موسيقى «أورفيوس
الأسود»، رغم ذلك، باعتبارها محلية وخاصة مثل المهرجان
البرازيلي الذي يُقدِّم عرضها الأساسي، وجذور هاتين الممارستين
في الإرث المعقد للكولونيالية البرتغالية تستحق الاعتراف. هناك
بالتأكيد حالة يمكن تقديمها لقابلية الإعداد البنيوي لبعض
القصص النمطية القديمة– وهذا جوهر القراءات البنيوية في الأدب
والأنثروبولوجيا، رغم كل شيء، لكن علينا، قُرَّاءً ومُشاهدِين،
أن نبقى مُتيقِّظين للسياقات الخاصة، سياسية وثقافية وجمالية،
لكل نسخة جديدة. «أورفيوس الأسود» ذاته جدَّده المخرج
البرازيلي كارلوس ديجو بعنوان «أورفيو
Orfeu» (١٩٩٩م).
٣٣ في هذه النسخة، تبقى مواضع الكرنفال والفافيلا
favela (كما تبقى موسيقى
جوبيم في الفيلم الأصلي)، لكن في نقلة تقريب حاسمة للاهتمامات
المعاصرة الخاصة، مُجَسِّد الموت في البرازيل في بداية الألفية
تاجِر مُخدَّرات محلي.
٣٤ قصة حب أورفيوس وأورديس «عالمية»، إلا أن تهديدات
هذه الصورة الخاصة لأورفيوس وأورديس في شوارع ريو توضع في سياق
(أو يعاد وضعها في سياق)
(
recontextualized) بشكل
مدروس ومُذهِل.
النموذج الأسطوري المقدم في «أورفيوس الأسود» و«أورفيو»
نموذج في وسط الحياة اليومية، يمكن الفن، وإن يكن مؤقتًا، من
أن يكون متعاليًا. وهو رأي يشارك فيه فيلم باز لورمان
«الطاحونة الحمراء
Moulin
Rouge» (٢٠٠١م). باستدعائه الواقعي السحري
لباريس تسعينيات القرن التاسع عشر وملهى الطاحونة الحمراء سيئ
السُّمعة في مونمارتر، ينتج لورمان عملًا سينمائيًّا بطوليًّا.
٣٥ «الطاحونة الحمراء» عمل موسيقي تمامًا يشير إلى
أصوله في الأفلام الموسيقية العظيمة في هوليوود بتلميحات واضحة
إلى بسباي بِرْكيلي وفريد أستير، بالإضافة إلى الأعمال
الموسيقية الرائدة مثل «كباريه
Cabaret» لبوب فوس.
٣٦ لكن «الطاحونة الحمراء» إعادة ابتكار ما بعد
الحداثة لهذا الجنس الفني. كشفَت ما بعد الحداثة، بالإضافة إلى
أنها تبرهن على اهتمام بالتَّناص، عن وَلَع بالمعارضة
والاقتباس كأفعال متزامنة للإبداع والتشظي (هيستيري
Hoesterey، ٢٠٠١م؛ سيم
Sim، ٢٠٠١م). بحث لورمان
في وضع المشهد الباريسي الخاص به عمَّا يميز نهاية القرن
التاسع عشر وتاريخ الطاحونة الحمراء، لكنه حطم بشكل مُتعمَّد
إعادة الخلق التاريخي بالشكل نفسه باختيار موسيقى تصويرية من
سبعينيات القرن العشرين إلى تسعينيات القرن العشرين. بصيغة
استدراك بشكل مُماثِل، الأزياء في الفيلم منسوخة بمثابرة من
اللوحات والرسوم التخطيطية المعاصرة للا جولو وجين أفريل لهنري
دي تولوز لوتريك في الطاحونة الحمراء، وقد ارتداها مُغنُّون
وراقصون يؤدون أعمال ديفيد بوي، وتي ريكس، ونيرفانا، وإلتون
جون، ومادونا.
٣٧ هناك صدام متعمد للأزمنة والسياقات، راسمة
متوازيات دالة بين إسراف القرن العشرين وإسراف نهاية القرن
التاسع عشر.
ثمة توازٍ زمني متضمن في جماليات لورمان: يُوصَف الفنانون
البوهيميون في مونمارتر بأنهم «أطفال الثورة». وهذا لا يمكِّن
فقط لورمان من عزف أغنية مارك بولان التي تحمل الاسم نفسه،
لكنه يستدعي حركة السلام في ستينيات القرن العشرين.
٣٨ الأبعاد الهندية والغريبة في المسرحية داخل الفيلم
التي أبدعها الكاتب الإنجليزي كرستيان
Christian تستدعي باريس
تسعينيات القرن التاسع عشر واهتمامها بالغرائب، تصفية ستينيات
القرن العشرين مع ديانة شرقية وانفجار جماليات سينما بوليوود
في تسعينيات القرن العشرين في المسار الرئيسي لهوليوود.
بوليوود، كما لاحظنا من قبل، جنس فني يتحدد جزئيًّا بعمليات
الانتحال الخاصة به. جماليات بوليوود ملائمة بشكل مثالي لأسلوب
إخراج ما بعد الحداثة الذي يتبعه لورمان، لكنها تَحْمِل أكثر
من مُجرَّد رنين فني مَحْض في هذا الفيلم، يصل وَهُمْ يستثمرون
في قلب الفيلم إعداد أسطورة وعمل موسيقي يناسب العصر الحديث،
واهتمامه الخاص بقصة أورفيوس وأورديس «الخالدة» و«المناسبة
لزمنها».
حين ندخل أول مرة العالَم النموذجي لباريس في الفيلم، يغني
تولوز لوتريك في نافذة طاحونة هوائية زائفة بمثابة واجهة
للطاحونة الحمراء الحقيقية. ثم تقترب الكاميرا عَبْر مشهد
المدينة حتى المدخل الذي يؤدي إلى قرية مونمارتر، ويميزه مدخل
فم الجحيم، وهو يشبه ما كان يستخدم في مسارح القرون الوسطى
ومَشانق المسرحيات الغامضة، وبالتالي الصور المستحضرة من لوحات
هيرونايموس بوش.
٣٩ إشارة لورمان مرة أخرى إشارة أدبية: مدخل فم
الجحيم إلى
Cabaret d’enfer
(كباريه الجحيم) الذي كان يقف مقابل الطاحونة الحمراء في
الساحة البيضاء، بواجهته سيئة السمعة وعليها صور ساقطة لأرواح
ملعونة (ميلنر
Milner، ١٩٨٨م، ١٤٠).
٤٠ التداعيات الجحيمية للملهى الليلي مفهومة ضمنيًّا
بهذه الصورة، قراءة تَتعزَّز أكثر بكلمات والد كرستيان الذي
يحذره من دخول هذا العالم الخطير: «ابتعد عن قرية الإثم هذه،
إنها سدوم وعموراء.» يؤكد الراوي بضمير المُتكلِّم المُثقَل في
قصة كرستيان الارتباط: «الطاحونة الحمراء ملهى ليلي وصالة رقص
وماخور، يحكمها هارولد زيدلر
Zidler، مملكة اللذة
الليلية حيث يأتي الأغنياء والأقوياء ليلعبوا مع الكائنات
الشابة والجميلة في العالَم السفلي.» إذا كان كرستيان أورفيوس
الذي نعرفه، يهبط إلى العالَم السفلي المُغرِي في ملهى زيدلر–
كان المالك الحقيقي للطاحونة الحمراء تشارلز زيدلر (هانسون
وهانسون
Hanson، ١٩٥٦م، ١٢٨)؛
حيث لوحة الألوان السائدة هي البرتقالي والأحمر المتوهِّج،
وحيث تشبه المجاديف المضيئة للطاحونة الهوائية للحظة المذراة
الحمراء في السماء، فإن أورديس الخاصة به هي ساتين
Satine المحظية والممثلة.
يتم التعبير عن العاطفة الهائلة لكرستيان وساتين موسيقيًّا
طوال الفيلم وتُغلَّف في الدويت الذي يقدمانه «تعال مهما يكن»
وسطره المركزي «أحبك حتى يوم مماتي.» إلا أن حبهما، رغم كل
شيء، محكوم عليه، بأن يكون محتومًا ومؤقتًا في العالَم المادي
في الملهى الليلي كما كان حال حب سلفيهما الأسطوريين: تموت
ساتين، بدون سابق إنذار سواء لكرستيان أو لنفسها.
أسطورة أورفيوس وأورديس مُجرَّد أسطورة من عِدَّة نصوص
ثانوية بارزة في «الطاحونة الحمراء»: أوبرا جياكومو بوتشيني
«البوهيمية
La Bohème»، وتدور
أحداثها في شتاء باريس في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، بؤرة
أخرى حاسمة للتلميح.
٤١ في تلك الأوبرا، التي ذهب لورمان ليخرجها في
نيويورك بعد تصوير فيلم «الطاحونة الحمراء»، مجموعة من
الدارسين والفنانين والموسيقيين والمُغَنِّين والكُتاب يصارعون
للبقاء على قيد الحياة في علية باريس. يقع رودولفو
Rodolfo، وهو مؤلِّف، في
حب ميمي
Mimi. ويشكل هذا
الثنائي بؤرة عدة دويتات في الأوبرا بأسلوب مماثل لاتحاد
كرستيان وساتين في «الطاحونة الحمراء». تعاني ميمي من الدَّرَن
ويُقدِّم موتُها النهاية المؤثرة للأوبرا. لا تحتاج متوازيات
«الطاحونة الحمراء»، الذي يشير إلى دينه للأوبرا بالإضافة إلى
العمل الموسيقي في بناه ومرجعيات موسيقاه التصويرية، إلى دليل.
تشترك «البوهيمية» في المكان الباريسي في القرن العشرين مع
فيلم لورمان بطريقة لا يمكن للمشهد الأسطوري لأورفيوس أن يشترك
بها. لكن في ذروة أداء مسرحية كرستيان داخل الفيلم عن عازف
السيتار المعدم تظهر من جديد قصة أورفيوس وأورديس بكل قوتها.
٤٢
وقد أخبرها زيدلر أنها تموت من هزال الدرن وأن طالب يدها،
الدوق، ينوي أن يقتل كرستيان، تختار ساتين حبيبها بجهد مضحية
بنفسها لتنقذ حياته. ومن ثم نشاهد جهوده المضنية ليدخل مرة
أخرى إلى العالَم السفلي في الملهى الليلي، فقط ليضعه أتباع
الدوق في البالوعة. في النهاية يصل إلى مدخل، ويمشي، كاسرًا
إطار الأداء، على خشبة المسرح لينبذ ساتين، وهو يعتقد أنها قد
خانته من أجل مكسب مالي. وهو يبتعد إلى الممر المركزي للمسرح،
تبدأ ساتين تغني أغنيتهما. في انحراف حيوي عن إقناع أورفيوس
للعالم السفلي من خلال قوة أغنيته، يعود كرستيان إلى ساتين
بقوة العاطفة الكامنة في صوتها.
يبدو أن «أورفيوس الأسود»، و«الطاحونة الحمراء» يجسدان حقيقة
ادعاء ريلكه في تصدير هذا القسم بأنه «يوجد أورفيوس حين توجد
أغنية». ماذا إذن على القارئ أن يفعل برواية لا تبرز موسيقى أو
أغنية، ولا تشير إلى ارتباطاتها الأورفية بالطريقة التي يسلكها
كامو ولورمان؟ «ضوء النهار
The Light of
Day» لجراهام سويفت، على ما أقترح، انتحال
لأورفيوس بطريقة «الوكيل النقدي
critical
proxy» كما تسميها شانتال زابو (٢٠٠٢م، ١٢١).
٤٣ إنه شيء لم يُشِر إليه المبدع بأي شكل صريح. كما
أشارت المناقَشات السابقة لتناص أسلوب سويفت، أزعج رفضُه
الاستشهاد بمصادر صراحةً النقادَ (انظر الفصل الثاني). لا
يعتمد عمل سويفت على مصادره إلى الحد الذي يجعله يفشل في أن
يكون له معنًى بدون معرفة الانتحال الجاري. الافتقار إلى معرفة
سابقة بِرَنين قصة أورفيوس لن يُفشِل أية قراءة لرواية «ضوء
النهار»، أو مواضيعها المُعقَّدة عن النفي والكشف والحب. إلا
أن القارئ الذي يُقارِب الرواية وهو يُدرِك التيار النصي
الثانوي الذي تُقدِّمه أسطورة أورفيوس أمامه فرصة لتفسيرات
إضافية لا يمكن إلا أن تُثْرِي فَهْم الرواية. قرار سويفت، على
سبيل المثال، أن يذكر قبل الخاتمة بفصول قليلة شبكة الكهف التي
توجد تحت تشِزْلهُرْست معقول بما يكفي في حد ذاته.
٤٤ لكن إذا كان القارئ يعي أن في النسختين اللتين
قدَّمهما فرجيل وأوفيد للأسطورة، ينزل أورفيوس إلى العالَم
السفلي عن طريق كهف، فهذا الارتباط البسيط للكهوف بالعوالم
السفلية، وبالامتداد مع قصة أورفيوس وأورديس، يأتي بالأسطورة
إلى العالم اليومي لهذه الرواية بطرق مثيرة. ماذا نفعل بمعرفة
أن التيار الأسطوري لرواية سويفت يوسع شبكة المعاني الضمنية
المتاحة للقارئ النَّشِط والمتفاعل. إنه مثال كلاسيكي للطريقة
التي يعتمد بها هذا الشكل من التَّناص المطمور، التَّناص الذي
لا يشير أو يحتاج إلى إطار تفسيري للتناص لأية قراءة مثلما
تفعل بالضرورة بعض عمليات الإعداد الصريحة، يعتمد أساسًا على
معرفة القارئ بما يتضمنه العمل من النصوص الثانوية
والمُتناصَّة. إنه مثال عملي لنظرية ولفجانج إزر عن استقبال
القارئ: تمتد المناورة والسيطرة بالتأكيد بواسطة النص على
القارئ، لكن تبقى عملية القراءة مُعتمِدة على صيغ مختلفة
ومخالفة للتعاون بين القارئ والقصة في إنتاج المعنى (إزر،
٢٠٠١م، ١٧٩–١٨٤).
٤٥
ما تبرهن عليه رواية سويفت في النهاية هو أن أحداثها تدور
غالبًا في العالَم اليومي اليومي: عالَم السوبر ماركت، ومَحارق
الجثث، ومطابخ الضواحي التي تثير أعمق المشاعر وأكثرها قَتامة.
يساهم عنوان رواية سويفت، «ضوء النهار»، في الكلمات الختامية
في الرواية، وهو متعدد الدلالة. الراوي بضمير المتكلم، جورج
ويب Webb، شرطي فاشل تَحوَّل
إلى مُخبِر خاص، تكلفه بالعمل باستمرار زوجات مرتابات لإثبات
زنى أزواجهن لهن بإيجاد دليل قاطع في «ضوء النهار»، وكثيرًا ما
يكون الدليل صورًا فوتوغرافية. التصوير الفوتوغرافي وسيط
أزعجتْ سويفت قدرتُه على الرؤية الواضحة والإعاقة في رواية
سابقة، «خارج هذا العالم Out of this
World»، بشأن صورة لصحفي عن الحرب. هنا
الصور الفوتوغرافية تجلب حقيقة الزنى إلى ضوء النهار إلا أنها
تعجز عن حكاية قصة العلاقات كاملة. ويصبح هذا بدوره استعارة عن
قصة جورج، استعارة مُتَشظِّية وغير مكتملة في أوجه كثيرة.
يعترف بأن هناك أشياء لا يمكن قولها أو الكشف عنها
ببساطة.
إذا كان جورج يستخدم التورية صراحة في اسمه الأول، مؤكِّدًا
على أن مهنته القذرة تعني أنه ليس «القديس جورج»، إنَّ لقبه هو
الذي يحمل القارئ المتناص والمُشارِك إلى العالم الأسطوري الذي
افترضه. ويب Web(b)s والنسج
weaving يحملان معنى
قويًّا في النصوص الكلاسيكية من «أوديسة» هوميروس، وبنلوب
Penelope تنسج كَفَن والد
زوجها وتفكه في محاولة لطرد طالبي يدها أثناء غياب زوجها الذي
امتد تسعة عشر عامًا، إلى «مسخ الكائنات» لأوفيد، حيث يقدم
تطريز أراكن مجالًا للعديد من القصص المُقْحَمة بأسلوب مماثل
لأغنية أورفيوس.
تُقدِّم رواية هنري جيمس «ميدان واشنطن
Washington Square» نسخة
مذهلة ومُحيِّرة من هذا في القرن العشرين حين تكسب كاترين في
نهاية الرواية «عيشها من التطريز … طوال الحياة، إذا جاز
التعبير» (جيمس، ١٩٨٤م، [١٨٨٠م]، ٢٢٠).
٤٦ نسيج
webs الاتصال
الذي تشجعه رواية سويفت يحملنا كقراء عَبْر خط من الحياة
اليومية إلى العوالم السفلية وحنايا الأسطورة. بالطريقة ذاتها
تصبغ الرواية الكليشيهات والعبارات المُبتذَلة، مثل «عبور خط»،
«أشخاص مفقودون»، «آمنة كالمنازل»، «وقت نقتله»، بمغزًى جديد،
وهكذا تشجعنا النصوص الثانوية الأسطورية للقصة على إعادة تقييم
ما يبدو سطحيًّا فيما نقرأ.
وبالنسبة لجورج يكون العالَم السفلي الذي تقع في شباكه
حبيبته أورديس هو نظام السجون البريطانية. ساره بؤرة عاطفته
المخلصة، والمسيطرة، وهي زبونة سابقة. إنها، كما نعرف فقط
بالتدريج من السرد الاستطرادي الذي يقدمه جورج، استخدَمَت
المخبر الخاص لتتأكد من أن زوجها أنهى علاقته حقًّا مع
الكرواتية المقيمة معهما. لكن ساره قتلت زوجها في اللحظة التي
بدا أنه عاد فيها إلى حظيرة حياتهما الزوجية. وهذا فعل لا
يُقدَّم له أبدًا تفسيرٌ إلا أنه تبقى هناك تأملات بلا نهاية
في صفحات النص. السرد استِعَادي؛ ينظر للخلف عَبْر فترة تَمتَد
لعامين، ما يَتذكَّره جورج بشكل مضطرب وما يتذكره نصف تذكر ليس
إلا مثالًا لتلميحات النظر للخلف في هذه الرواية. إنه، كما حدث
مع أورفيوس، فعل محفوف بالخطر والضياع، يكشف حقائق مُؤلِمة،
كما يكشف قمع الحقيقة. إنه نص لا يأتي كل شيء فيه في ضوء
النهار الساطع؛ تبقى الدوافع والأفعال ملفوفة بالعتمة،
والمشاعر دفينة، والقضايا بلا حلول. بوب
Bob، زوج ساره، يأتي بعدة
تلميحات لاذعة، واقعية ومتخيلة، بالنظر إلى الخلف في مسار
السرد. تاركًا الشقة التي أسكن فيها خليلته، ينظر إلى الخلف،
كما لو كان يتذكر العاطفة السابقة التي تواجه الفضاء الذي
احتواها: «تمشَّى حتى باب السيارة، وقبل أن يدخل، وبالتواء
سريع وغريب في رأسه، تَطلَّع إلى أعلى، تَطلَّع حوله، تَطلَّع
إلى الخلف» (سويفت، ٢٠٠٣م، ١٢٦). فيما بعد، سائقًا السيارة خلف
العربة التي ينقل فيها بوب خليلته إلى المطار، يتساءل جورج إن
كان بوب يتطلع خلفه إلى مكان عمله في المستشفى (١٤١). بعد
الافتراق في غرفة الانتظار بالمَطار يعود بوب إلى الشقة مرة
أخيرة. كما هو الحال مع أورفيوس يمكن وصف تلك الغلطة بأنها
غلطته المميتة. يجعله التطلع للخلف يعود متأخِّرًا إلى المنزل
الذي يعيش فيه مع ساره. ويبدو أن هذا بدوره يغرس في عقلها
إحساسًا بالشك بشأن المستقبل بينهما، ربما مثيرًا الطعنة
المميتة، مع أن السرد لا يوضح أبدًا شيئًا من هذا.
الواضح من هذه القراءة أن انتحال قصة أورفيوس يُسوَّى من
خلال شخصيتين على الأقل. يقوم بوب وجورج بوظيفة أورفيوس؛
ينزلان إلى العوالم السفلية؛ ينغمسان في العملية المحفوفة
بالخطر، التطلع إلى الخلف. وفي مسار مماثل يوجد بعث سويف
«للعالم السفلي» في عدة مواضع مخططة بعناية في هذه الرواية.
إذا كانت طوبوجرافيا لندن كلها ملموسة تمامًا في القصة النثرية
التي قدمها سويف بتروٍّ، فظلال عالم الأسطورة تقدم خريطة نفسية
بديلة. كما لو أن راوي سويفت يسكن في الليمبو الذي يسكن فيه
الراوي بضمير المتكلم في رواية جراهام جرين «نهاية العلاقة
الغرامية» (١٩٥١م)، وهو راوٍ استعادي آخر يعاني من الأوهام
والفقد والحب: «إذا فشل كتابي هذا في أن يأخذ مسارًا مستقيمًا،
فإن ذلك يعود إلى أنني فقدْتُ منطقة غريبة: ليس لدي خريطة»
(جرين، ٢٠٠١م، ٥٠).
٤٧ كثيرًا ما قورن الحوار المقتضب الذي قدمه سويفت
بحوار جِرين. بشكل مثير، اقترحت هرميون لي رواية جِرين كمُتناص
آخر مُحتمَل لرواية «ضوء النهار».
٤٨ البطلة التي تسيطر على فكر الراوي بضمير المتكلم
في النصين، اسمها ساره؛ القصتان استعاديتان عن الحب والفقد؛
إلا أن الأمر يبدو وكأن لي تقول إن الشخصية الكوميدية الهامشية
في رواية جرين، باركيز
Parkis
المخبر، مُنِح في رواية سويفت دورًا أساسيًّا (٢٠٠٣م، ٩). يمكن
إضافة أن شخصية ساره في روايتي جرين وسويفت تبقى بعيدة عن
القارئ والراوي، تبقى لغزًا في قلب النص. يمكن قول الكلام نفسه
عن مساهمة أورديس في نُسَخِ أسطورتها: صامتة تمامًا غالبًا في
تسلسل أحداث العالَم السفلي، وقد هُمِّشتْ في الكثير من
التجديدات التالية للقصة، توضع في الخلف في الظلال مع اهتمام
فني ذاتي بشخصية أورفيوس. رغم ذلك، كافحت كثيرات من الكاتبات
والناقدات الأنثويات ونقحن أسطورةَ أورفيوس، ليمنحن أورديس
صوتًا، ومن بينهن ﻫ. د. في قصيدتها التي تحمل اسمها في ١٩١٧م
حيث تنتقد بطلتها «عجرفة» أورفيوس («أورديس»، ١، ٦، مقتبسة في
مايلز، ١٩٩٩م، ١٥٩–١٦٢) في التطلع إلى الخلف فيتسبب في إعادتها
إلى ظلمة العالَم السفلي في المرة الثانية، حين كانت كما يشير فرجيل بحدة «على حافة/
ضوء النهار» (فرجيل، ١٩٨٣م، ١٢٥).
٤٩ هذا مثال لما تصفه راشيل بلو دوبلسيس بأنه «شعرية
التمزق والنقد» التي تخضع لها الأسطورة باستمرار على أيدي
الكاتبات (١٩٨٥م، ٣٢).
٥٠
هناك صور مكررة للعتمة في «ضوء النهار»: يوضع جورج باستمرار
في الظلال أو في مواضع لا يخترقها الضوء إلا جزئيًّا، من مكتبه
إلى سيارته، إلى غرف تحقيقات الشرطة، إلى غرفة الانتظار في
السجن حيث يزور حبيبته أورديس، تقدم هذه المواجهات الأخيرة
إيقاع وجوده الخاوي بشكل غريب إلا من هذا، كما تقدم طقوس هذا
الوجود. مغادرًا المحرقة، حيث أخذ زهورًا لإحياء الذكرى
السنوية لموت بوب، يصف دخول الطريق من جديد بأنه ينطلق «عائدًا
إلى العالم»؛ فيما بعد، يصبح طابور زوار السجن بكل أبعاده
أرواحًا في الليمبو. العالَم السفلي في كل مكان وكل يوم في هذه
الرواية. ما يحمله ذكر الكهوف تحت تشِزْلهُرْست في الفصول
الختامية هو عالَم أسطوري من العاطفة القوية والأفعال، عالَم
لا يعرف التراجع: «الأصداء، متاهة الأنفاق، قصص الأشباح.
الشعور بأن المرء قد لا يرجع أبدًا إلى النور» (سويفت، ٢٠٠٣م،
٢٣٧). تنتهي القصة وجورج يأمل في يوم تَتحرَّر فيه ساره في
ذراعيه، في «ضوء النهار الساطع». يمكن قراءة هذا بشكل تفاؤلي،
لكن أي قارئ مطلع على أسطورة أورفيوس وأورديس لا يمكن إلا أن
يخشى ما قد تتكشف عنه هذه القصة. النماذج المألوفة للأسطورة
تسمح لسويفت بالسكوت عن الكثير.
قدمت مسوخ أوفيد وقصص أورفيوس تنوعًا هائلًا في عمليات
الانتحال الثقافي. وهذه العلاقة المتداخلة، في بعض هذه
التجديدات، إن لم يكن في كلها، صريحة؛ في أخرى يعمل التَّناص
بشكل خفي، يحدث تحت سطح القصة. في كل الحالات يعدل الوعي
بالأساطير المؤثرة استجابتنا كقراء للنصوص المعَدَّة
والمنتحلة. تمد النماذج الأسطورية القارئ أو المشاهد بسلسلة من
النقاط المرجعية المألوفة ومجموعة من التوقُّعات التي يمكن أن
يعتمد عليها الروائي، أو الفنان، أو المخرج، أو الكاتب
المسرحي، أو الموسيقار، أو الشاعر كمختصر تعليمي، وهو في الوقت
ذاته يستثمرها أو يلويها أو ينقل موضعها بطرق إبداعية جديدة،
وفي سياقات لها رنين جديد. كثيرًا ما يرشد التعهد السياسي هذه
الأعمال ويؤثر على أعمال الإحياء؛ لأن كما تلاحظ دوبلسيس:
«تغيير قصة يشير إلى انشقاق على معايير اجتماعية بالإضافة إلى
الأشكال القصصية» (١٩٨٥م، ٢٠). إننا ندخل بالتالي إلى المجال
الخادع، مجال «نية» المؤلِّف، عالم من بعض النواحي سعى مفهوم
بارت عن القارئ كمبدع فعَّال للمعاني إلى أن يتحاشاه، إلا أنه
يبدو أنه لا مَفرَّ منه في أي دراسة أصيلة عن الدوافع الكامنة
في فن الإعداد (باتريسون
Patterson، ١٩٨٧م،
١٣٥–١٤٦). في مثل هذه الأعمال، أعمال الإعداد أو الانتحال،
كثيرًا ما يكون الوعي السياسي، أو حتى التعقد السياسي، مطلوبًا
من القارئ أو المُشاهد الذي يستقبل النص أو العمل الذي أعيد
إبداعه، مع أن هناك أيضًا فروقًا مهمة بين الاستجابات لعمليات
الإعداد في صيغ نوعية مختلفة، لفيلم أو أغنية أو أدب على سبيل
المثال. هناك، من ثم، قضايا حاسمة يثيرها هذا كله، قضايا تتعلق
بالعلاقة والتفاعل بين الكاتب والقارئ أو المُشاهِد، والنوع
الفني، قضايا يحلها الحدوث المتجدِّد والمتعدِّد للأسطورة. كل
لحظة من لحظات التلقي فريدة ومتميزة رغم خضوعها للكثير من
الأعراف والتقاليد، لمعارف الماضي والنصوص السابقة، تصبح القصة
القديمة فيما يتعلق بهذا قصة جديدة جدًّا، تُروَى، وتُقرَأ،
للمرة الأولى.