الفصل السابع
«إننا فيكتوريون آخرون»؛ أو إعادة التفكير في القرن التاسع
عشر
ما يتكشف من أي نظرة تاريخية للانتحال هو احتشاد الاهتمام بشكل
ثابت حول مؤلِّفِين مُعيَّنِين ونصوص مُعيَّنة: أعمال شكسبير
والميثولوجيا وحكاية الجِنِّيَّات، وقد سبق تناولها في هذا المجلد
كنصوص نمطية قديمة، ملائمة للانتحال والمراجعة. فُسِّر الاهتمام
بنصوص خاصة، مثل «روبنسون كروزو» لديفو أو «جين إير» لبرنتي،
جزئيًّا فيما يتعلق بالتراث أيضًا. كما تلاحظ شانتال زابو بفصاحة:
«لكل قرن نص بمثابة الحلم يتم التماهي معه
interpellative dream-text:
«العاصفة» للقرن السابع عشر؛ «روبنسون كروزو» للقرن الثامن عشر؛
«جين إير» للقرن التاسع عشر؛ «قلب الظلام» لبداية القرن العشرين.
وهذه النصوص بمثابة ذريعة للنصوص الأخرى وضمان لها» (٢٠٠٢م، ١).
١ تحمل رواية ديفو الفكرة الرئيسية الخاصة بالدلالة
كتجربة مبكرة في الشكل؛ «جين إير» نص دالُّ بالنسبة للنزعة
الأنثوية، بالإضافة إلى أنها مداعبة مثيرة للفضول مع أجناس فنية
فرعية من قبيل قصص الحب القوطية. ويفترض أن التراثية سمة مطلوبة
غالبًا للمادة الخام من أجل الإعداد والانتحال. إذا كانت اللذة
الضمنية متضمنة في عملية تقييم أوجه الشبه والاختلاف بين النصوص،
بين المصدر والتقليد، التي اعتبرناها في موضع آخَر أساسية لخبرة
قراءة الإعداد ومشاهدته، فمن المحتمل أن تتطلب معرفة سابقة بالنص
(أو النصوص) الذي يتم تمثله واستيعابه وتجديده وتعديله في عملية
الإعداد.
إلا أن ما ينبثق من أي استكشاف تاريخي للانتحال هو أن النصوص
الخاصة والمؤلِّفين لا يكشفون فقط عن الاهتمام المستمر والمتطور
الذي يحث عملية الإعداد، لكن تصبح أجناسًا فنية خاصة، من بعض
الأوجه، أو حتى أجناسًا فنية خاصة وهي تنبثق في فترة زمنية
مُعيَّنة، بؤرة لحافز إبداع (أو إحياء) مشترك. والعصر الفيكتوري
(١٨٣٧–١٩٠١م)، بدون شك، مثال خاص ومُستمر على هذا. تعود عمليات
الإعداد مرة تلو أخرى، كما يشير هذا الفصل، إلى مَشهَد مُنتصَف
القرن التاسع عشر بحثًا عن الشخصيات، والحبكات، وأعراف الأجناس
الفنية، والمصطلح السرد وأسلوبه. ونحتاج بالتالي إلى فحص الحوافز
التي تكمن خلف هذا الاهتمام. من المناسب أن نقول: إن العصر
الفيكتوري كان له استثماره الخاص في الإعداد. كتب أدريان بول عن
سيادة شكسبير في الإنتاج الفني في العصر الفيكتوري، من المسرحيات
إلى الشعر إلى الرسم إلى القصة (٢٠٠٤م). ألمَح جورج إليوت، وتوماس
هاردي، وتشارلز ديكنز، والرسامون قبل الرفائيليين إلى الشاعر جميعًا.
٢ ولم يكن كُتَّاب العصور السابقة فقط الذين تَعرَّضوا
لدوافع إحياء الفيكتوريين: حظيت روايات ديكنز وشخصياته، مثل روايات
سير ولتر سكوت وشخصياته، بحياة تالية على خشبة المسارح العامة في
ذلك العصر.
٣ حتى هجا ديكنز هذه الحقيقة في «نيكولاس نيكلباي
Nicholas Nickleby» حيث يواجه
نيكولاس «أديبًا مهذبًا» وقد «مَسْرحَ في زمنه مائتين وسبعًا
وأربعين رواية بمجرد ظهورها، وبعضها بأسرع مما ظهرت» (مقتبس عن
كوكس
Cox، ٢٠٠٠م، ١٣٦). يضع جون
فولز عنوانًا ساخرًا مماثلًا في إحياء ما بَعْد الحداثة للرواية
الفيكتورية، «امرأة الضابط الفرنسي»، حين يُقارَن الخادم سام فارو
Farrow بسام ويلر
Weller من «مذكرات بيكويك
Pickwick Papers»، وهي شخصية
نعلم أنه يعرف أنها ليست من رواية ديكنز لكنها بالأحرى من إعداد
مسرحي شائع لها (فولز، ١٩٩٦م، [١٩٦٩م]، ٦٤). اعتراضات ديكنز على
نوعية بعض عمليات الإعداد المسرحي لأعماله إشارة أخرى إلى
الاختلافات الواضحة بين إنتاج ما يُعْرَف بالثقافة «السامِيَة
high» و«الهابطة
low» في تلك الفترة. كان الفن
السَّامِي يستثمر في قيم الإبداع والأصالة؛ الثقافة الشعبية في
تأخر الإعداد. في القرن العشرين، مع ظهور فرع معرفي مهيمن عن
الدراسات الثقافية، رأى دارسون مثل ستوارت هول وريموند وليمز سببًا
آخر للاحتفاء بالميول الإعدادية لأشكال ثقافية شائعة (هول، ١٩٧٢م، ٩٦).
٤ ويجدر إضافة أن العصر الفيكتوري مُغرٍ كموضوع للعصر
التنقيحي في الدراسات الثقافية جزئيًّا نتيجة التفاعل الحي
والتلقيح المُتبادَل بين الفنون السامِيَة والهابطة في هذه
الفترة.
والرواية هي الجنس الفني الذي أقام جسرًا جليًّا بين السامي
والهابط، النخبة والشعبي، في القرن التاسع عشر (انظر ويلر
Wheeler، ١٩٩٤م). نُشِرتْ
روايات كثيرة في حلقات، مشجعة إدمان القارئ للحبكات والشخصيات،
وشاحذة مهارات المؤلِّف لخلق التشويق بالنهاية «المثيرة» التي لا
تزال تُؤثِّر على التمثيليات المعاصرة في الراديو والتليفزيون. ليس
من قبيل الصُّدفة، على أية حال، أن القصة النثرية في العصر
الفيكتوري هي الجنس الفني الذي تطلع إليها باستمرار المعِدُّون
والمنتحلون. ولا يبرهن جنس الرواية ببساطة وبحد ذاته على أنه طبقة
ثرية يبحث فيها الإعداد المعاصر. شهد القرن التاسع عشر أيضًا نمو
أجناس فرعية في شكل الرواية: كانت هناك تجارب مبكرة في قصة
التشويق، شجع عليها المَيْل إلى النشر في حلقات؛ أدب الإحساس، الذي
وجد مصدره الخاص في نزوع معاصر إلى محاكمات قانونية مخزية وكانت
فيه شخصية ترتكز حول الأنثى بوضوح، ووصل إلى الذروة في ستينيات
القرن التاسع عشر؛ بدأت القصة البوليسية في الظهور كجنس فرعي أصيل
في حد ذاته، واهتمت على نطاق واسع بالجريمة، وعلم الجريمة، والطب
الشرعي في الرواية الفيكتورية؛ وكانت هناك تطورات من قبيل الرواية
الصناعية والإقليمية، وكان من روادها إليزابيث جسكيل، وتوماس
هاردي، وجورج إليوت وآخرون.
٥
في أواخر القرن العشرين، وحركة ما بعد الحداثة تطور اهتمامها
الخاص بالميتا-قصة والكتابة التي اعترفت بمصادرها بصيغة أكثر
تفكيكية وصراحة عن ذي قبل، قدم العصر الفيكتوري مجالًا متنوعًا من
الأجناس الفنية والمناهج للفحص والانتحال. تحدد دومينيك هد هذا
الدافع في «أرض المياه» لجراهام سويفت، على سبيل المثال، على النحو
التالي: «يمثل جزء من الوعي الذاتي لسويفت استخدام عدة أجناس قصصية
معروفة في القصة الإنجليزية في القرن التاسع عشر: قصة السلالة
والرواية القوطية والقصة البوليسية، والأهم القصة الإقليمية التي
ترتبط فيها الشخصية ارتباطًا وثيقًا بالبيئة» (هد، ٢٠٠٢م، ٢٠٥).
تؤكد هد على أن نتيجة تجديدات سويفت ليست تهكمًا بحد ذاتها لكنها
بالأحرى عمليات بحث تحققت عن طريق التَّغيُّر الحديث وما بعد
الحديث (٢٠٥). الدافع هو باتجاه الاقتباس والإحياء لكنه أقل،
والهدف التفكيكي للهجاء في الذهن، من تأثير ابتكار ما بعد الحداثة
من خلال التَّشظِّي. وكانت هناك حالة مماثلة بالنسبة لباز لورمان
في مقارَبة ما بعد الحداثة بوعي للمتناصات الثقافية في أفلام مثل
«الطاحونة الحمراء» (انظر الفصل الرابع) ومقاربة ج. م. كوتسي
للأسلوب الأدبي في القرن الثامن عشر في روايته «فو» (انظر الفصل
السادس).
الكثير من «عمليات الإحياء» الحديثة المشهورة للرواية الفيكتورية
تضع نفسها بوعي في علاقة مع أكثر الأجناس الفنية الفرعية انتشارًا
في القرن التاسع عشر. إنها، رغم ذلك، عملية إحياء تستلزم نقدًا
وإعادة تقييم بقدر ما تستعين بالتنكر الأسلوبي أو المُعارَضة.
«امرأة الضابط الفرنسي» لجون فولز قصة حب تحمل أيضًا آثار رواية
اللغز والمسار العلمي في صفحاتها؛ «استحواذ
Possession» من تأليف أ. س.
بايت، تجديد واعٍ لعملية النقد الأدبي كشكل من أشكال القصة
البوليسية — «نقاد الأدب بمثابة مخبرين طبيعيين» (١٩٩١م، ٢٣٧) —
تشير في عنوانها الفرعي، قصة حب
A
Romance، ارتباط واضح تمامًا بقصص الحب في
لوحات ما قبل الرفائيليين. ربما لا تنتحل هذه الروايات كاتبًا
معينًا أو نصًّا معينًا، لكنها تُشكِّل انتحالًا بمصطلحات استقرَّت
هنا، حيث إنها تسعى إلى إحياء جنس أدبي معين، وفترة وأسلوب،
وتعديلها. لنقتبس عن جراهام ألن عن هذا الشكل من «عبر النصية»:
«ربما تصور الروايات علاقتها المعمارية
architextual بأجناس فنية
مُعيَّنة، أو أجناس فنية فرعية أو أعراف باحتواء عنوان فرعي، كما
هو الحال في الرواية القوطية «ألغاز أدولفو: قصة حب …
The Mysteries of Udolpho: A Romance لآن ردكليف» (٢٠٠٠م، ١٠٢).
٦ ربما يكون عنوان رواية بايت
Byatt صدًى مباشرًا للعنوان
الفرعي لرواية ردكليف. من المُؤكَّد أن نَصَّي فولز وبايت كليهما
يُعرَضان في الصفحة بشكل يذكِّر بالكثير من قصص القرن التاسع عشر،
ناهيك عن روايات إليوت وهاردي، مع اقتباسات أدبية غزيرة تُقدِّم
تصديرات كل فصل. وهي في هذا تحيي، ماديًّا وجماليًّا، الرواية
الفيكتورية بكل مادتها البارا-نصية.
تُستمَدُّ هذه الاقتباسات في حالة «امرأة الضابط الفرنسي» من
مصادر فعلية مُحدَّدة في القرن التاسع عشر، وأيضًا من عمليات إحياء
«تاريخية» من قبيل أعمال أسا بريجز ويانج.
٧ وهناك معرفة مهمة متضمنة في هذا بنصية التاريخ وبوضع
التاريخ كنص أو قصة. في «ميتا-تاريخ
Metahistory»، جادل هادن وايت
ببراعة بأن أي عمل تاريخي كان بناءً بلاغيًّا بقدر ما كان أي عمل
قصصي، وأن لعبة الأسطح البلاغية عَبْر السرد التاريخي أثَّرَت على
القارئ بقدر تأثير الأحداث أو «الحقائق» التي تُروَى (١٩٧٣م، ٣).
٨ التاريخ، في هذا الوصف، مسألة رأي؛ يتأثر ويتشكل
بالأجندة أو الموقف الشخصي للمؤرخ. يعود عدد من عمليات الإعداد
التي نتناولها هنا إلى القرن التاسع عشر أو يسعى إلى إنطاق مجموعات
مهمشة أو مكبوتة توحي بشيء مماثل في محاولة الكشف عن «التواريخ
الخبيئة»، القصص بين سطور الأعمال المنشورة حقيقية وقصصية. يتصادم
الميتا-قصة والميتا-تاريخ بطرق شيقة ومثيرة في سياق هذا الوعي
الذاتي بشأن الطبيعية البنيوية للنصوص.
تقف تصديرات الفصول في رواية أ. س. بايت «استحواذ» في مرحلة تبعد
أكثر عن الفترة التي تنتحلها؛ حيث إن التصديرات التي تبدعها
المؤلفة تشبه فقط أدبًا «حقيقيًّا» من القرن التاسع عشر. في إبداع
(أو إحياء) شعر شَاعرَيْها الفيكتوريَّيْن رندولف أش
Ash، وكريستابل لاموت
LaMotte — وهما موضوع بحث
أكاديمي لشخصيتيها الحديثتين المناظرتين رولاند ميتشل
Mitchell ومود بيلي
Bailey — تلمح بايت إلى أعمال
شعراء حقيقيين من القرن التاسع عشر؛ مثل: روبرت براوننج، وكرستينا
روزيتي، وإميلي ديكنسون.
٩ يقدم عمل أش
Ash
توازيًا خاصًّا مع براوننج الذي حظي بالإعجاب نتيجة نوع من الإيحاء
بتغيير مصدر الصوت الشعري في أعماله، قدرته على إبداع أصوات مفردة
وإحيائها، سواء كانت حقيقية أم قصصية، في مونولوجاته الدرامية. في
الحقيقة، سيرة أش التي كتبتها إحدى شخصيات الرواية، مورتيمر كروبر
Cropper، بعنوان «المستبطن
العظيم
The Great Ventriloquist»،
كما لو كان للفت الأنظار إلى هذه الصيغة في كتابة بايت نفسها
(هولبرت
Hulbert، ١٩٩٣م، ٥٦) التي
تعارض في سياق هذه الرواية رسائل وجرائد وشعرًا من العصر
الفيكتوري، بالإضافة إلى نبرة النقد الأدبي الأنثوي وما بعد
الحداثة ومصطلحاته. ثمة طريقة مماثلة معروضة في رواية فولز «نزوة
A Maggot» (١٩٧٧م) التي تروي
الأحداث التي تُؤدِّي إلى ميلاد آن لي، مؤسِّسة حركة الشيكر.
١٠ برغم أن سرد «نزوة» في كثير من الأوجه إعادة بناء
دقيقة للحظة ومصطلح تاريخيين. يُنبِّهنا عنوان الرواية إلى حقيقة
أنها ليست إعادة بناء تاريخية نقية وخالصة. تعني كلمة «نزوة» بلهجة
القرن الثامن عشر هوًى أو حب مفاجئ. الحب المفاجئ هو ما يعنيه فولز
تمامًا، حيث إنه يعترض سياق السرد في مراحل مختلفة ليذكر القارئ
بأن الرواية، برغم ظهور العكس، نسخة من الأحداث مبنية بشكل فني
(كونور
Connor، ١٩٩٦م،
١٤٦).
هذه القصص «الإحيائية» ليست أبدًا إيحاء خالصًا بتغيير مصدر
الصوت. إنها تعتمد على إدراك القراء بأن قراءتهم تأتي من نقطة
التميز في العصر الحديث. تؤكد بايت نقطة الاتصال المدروسة هذه
بتضافر حبكتين وقصص حب متوازية في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يذهب فولز أبعد ببناء إدراك ميتا–قصصي، في قصص ما بعد الحداثة،
إدراك بالمصطلح الحديث والفهم الذي يعدل استجاباته، واستجاباتنا،
لشخصياته ومواضيعه التاريخية. تلفت عبارات في «امرأة الضابط
الفرنسي» من قبيل: «نلتقي هنا، مرة أخرى، هذا مثار النزاع بين
القرنين …» (١٩٩٦م، [١٩٦٩م]، ٥٢) الانتباه إلى المواجهة بين عقليات
الفترتين، كما تفعل المواجهة بين المؤلِّف وشخصيته في عربة السكة
الحديد في فصل شهير من الرواية. صيغة فولز في الإحياء صيغة تقاوم
الإيحاء التام بتغيير مصدر الصوت في أسلوب السرد الفيكتوري،
مُعتمِدة بدلًا من ذلك على دور الحكي في المجاوَرة والمقارَنة
والتعارُض الذي رأيناه بالفعل قوة دافعة لأسلوب الانتحال. إنه
يؤكد، على سبيل المثال، على أنه ليس راويًا يعلم كل ما هو جدير
بالتذكر من معظم قصص القرن التاسع عشر: «إذا تظاهرْتُ حتى الآن
أنني أعرف ما يدور في عقول شخصياتي وأعمق أفكارهم، فهذا يرجع إلى
أنني أكتب (بالضبط كما افترضْتُ بعض كلمات المعجم و«صوت») في عُرْف
مقبول عالميًّا في زمن قصتي: يقف الروائي بجوار الرب» (٩٧). عصره
بالمقابل ستينيات القرن العشرين وعصر ما بعد البنيوية: «إنني أعيش
في عصر آلان روب جرييه ورولان بارت …» (٩٧).
١١ في الفصل ١٣ من «امرأة الضابط الفرنسي»، يبرهن رب فولز
على أنه كائن وجودي. ولا يمثل هذا إلى حد بعيد تفكيك التأليف كرفض
صريح له، وهكذا يقدِّم صدًى مثيرًا لمناقشات بارت حول «حرية»
القارئ في كتاباته النظرية، برغم أن تلك الحرية في فولز يعاد
تخيلها باعتبارها حرية الشخصية الروائية.
بينما كانت «المفتاح المظلم
The Dark
Clue» لجيمس ويلسون أقل صراحة بشأن البعد
الميتا-قصصي في انتحالها للأسلوب الفيكتوري في كتابة القصة، إلا
أنها تحقق مع ذلك شيئًا مماثلًا تمامًا لقصص فولز وبايت، بمعارضة
أسلوب قصة الإحساس في القرن التاسع عشر، وهو أسلوب وصل إلى ذروته
في ستينيات القرن التاسع عشر (باكيت
Pykett، ١٩٩٤م، ١).
١٢ يُحيي ويلسون إعادة البناء الغريبة لقصة الإحساس فيما
يتعلق بعبارات المشاهدة شبه القانونية في حكاياتها التي تُروَى
بضمير المتكلم، بينما يلمح أيضًا إلى نص تراثي خاص: رواية ويلكي
كولينز «ذات الرداء الأبيض
The Woman in
White» (١٨٦٠م).
١٣ «ذات الرداء الأبيض» ليست مشهورة فقط باعتبارها سلف
هذا الأسلوب من قصة الإحساس ولكن أيضًا باعتبارها سلف قصة الجريمة
كجنس أدبي، والصيغة الخاصة من الرواية البوليسية التي أدركها
كولينز في تجسيد أكثر اكتمالًا في نصه التالي، «حجر القمر
The Moonstone» (١٨٦٨م). مرة
أخرى، يشير ويلسون إلى اهتمامه بالعودة إلى الأجناس الفنية الفرعية
في العصر الفيكتوري لرواية اللغز والجريمة في عنوانه الفرعي لرواية
«المفتاح المظلم»، «رواية تشويق»، وفي معارضته الرائعة لشغف كولينز
الخاص بالسرد المبني باتحاد من الرسائل والأبواب الصحفية والشهادات
القانونية. حدَّدَت لان باكيت كيف أن رواية كولينز تدين بالكثير
للميلودراما المسرحية الشائعة في أيامه (١٩٩٤م، ٤) ويبدو أن ويلسون
يعترف بهذا بتضمينه لمعارضة مسرحية عند نقطة من نقاط سرده.
١٤
كانت هذه أهمية «امرأة الضابط الفرنسي» في عصرها حتى جرى إعدادها
للمسرح عدة مرات حتى ارتبطت بالتجارة (كولينز، ١٩٩٩م، [١٨٦٠م]،
vii)؛ تستمر هذه القوة
الثقافية في العصر الحالي حين تكون موضوع إعداد موسيقي أو
تليفزيوني، معترفة مرة أخرى بالاقتراب الإبداعي للرواية من
الميلودراما كشكل. تبعث روايةُ ويلسون أثناء ذلك وتمنح صوتًا
جديدًا لبطلين من «ذات الرداء الأبيض»: الرسام ولتر هرترايت
Hartright، وزوجة أخيه ماريان
هلكوم
Halcombe. بين هذين الاثنين
المتنافرين يُحَلُّ اللغز الأصلي في رواية كولينز، ويتعلق بالموت
الزائف للورا
Laura أخت ماريون
Marion، وقد وضعها في مصحة تحت
هوية مزيفة زوجها الوغد سير برسيفال جلايد
Glyde. هنا يقوم ولتر وماريون
مرة أخرى بدور مخبرين هاويين. هذه المرة، رغم ذلك، غايتهما
المُحدَّدة هي البحث في حياة الرسام جوزيف ترنر الذي كُلِّف
هرترايت بكتابة سيرة حياته.
١٥ في صيغة موازية لصيغة بايت وفولز في أعمالهما
«الإحيائية»، يدمج ويلسون هنا شخصيات قصصية وحقيقية من العصر
الفيكتوري. ما يستطيع أن يفعله أيضًا في العملية هو الكشف عن كثير
من التوترات الجنسية التي كانت ضمنية في نص كولينز وقد تعرف عليها
وناقشها أجيال من القراء والنقاد. حدَّد جون سوزرلاند التيار
الجنسي الخفي في «ذات الرداء الأبيض» في المواجهة بين ماريان،
والكونت فوسكو
Fosco، الوغد
الميلودرامي الإيطالي في العمل، لكن هناك أيضًا بالتأكيد كيمياء
جنسية بين ولتر وماريان، برغم عاطفته السطحية تجاه أختها غير
الشقيقة الأجمل بصورة تقليدية وزواجه منها في النهاية.
١٦ يبدو ويلسون راضيًا تقريبًا عن تَوقُّع القُرَّاء بهذا
الشأن حين تحدث مواجهة جنسية مزعجة بين أبطاله مؤخرًا في
الرواية.
هذا العنصر العدواني جنسيًّا في نص «مفتاح الظلام» جزء من
الاستثمار الأوسع للرواية في استكشاف التيارات الجنسية المستترة
والقمع الجنسي في العصر الفيكتوري. وهذا يشكل الكثير من اللغز
الخفي في حياة ترنر الذي يكشفه ولتر في سياق بحثه في سيرة حياته —
في حركة موازية لحركة «الاستحواذ» لبايت، يتوازى هنا فن السيرة
الشخصية مع فن المتخصص في البحث الجنائي أو الطب الشرعي — وهو ما
عليه أن يواجهه كعنصر أكثر إظلامًا في شخصيته في سياق السرد. وفيما
يتعلق بهذا يجب التأكيد على أن ويلسون يبدو حريصًا على أن يجعل بطل
كولينز غامضًا ومعقدًا، وهو بطل رائع وطيب إلى حد ما، يسمى بشكل
مناسب «هرترايت». أحد أوجه تقنية ترنر التي تعتمد على الرسم الذي
بدأ يفتن هرترايت ويشغل ذهنه (ومرة أخرى، كما في رواية بايت،
يستحوذ موضوع الباحث في منعطفات عديدة على ذهنه ويحاصره) توزيع
الضوء والظل chiaroscuro في عمله.
يقدم «قاموس أكسفورد الإنجليزي» تعريفًا ثلاثيًّا لهذا المصطلح.
إنه في لغة الرسم «معالجة الضوء والظل في الرسم والتلوين». وهذا
عنصر معروف في تقنية ترنر وهو ما يسعى هرترايت إلى محاكاته: تشجع
الرواية على إدراك لوحات ترنر طوال الوقت لكي نفهم كيف ولماذا
تتكشف الأحداث بهذه الصورة. لكن كلمة
chiaroscuro يمكن أن تعني
أيضًا «استخدام النقيض في الأدب»، قوة دافعة للانتحال كما رأينا.
بالإضافة إلى أنها تشير، عَبْر اشتقاقها الإيطالي، إلى «شبه
المكشوف half-revealed» (chiaro = واضح؛ oscuro = معتم/غامض)؛ عنوان
ويلسون، «المفتاح المظلم»، ترجمة حرفية لكلمة
chiaroscuro من بعض الأوجه،
لكنه يلقي الضوء على استثمار القصة البوليسية الكشف عمَّا كان
غامضًا في البداية، في إلقاء الضوء على أشياء كانت في الظل، الفكرة
ذاتها التي يبدو أن رواية جراهام سويفت «ضوء النهار» تقدم تورية
لها بجلاء شديد في الفصل الثاني. ربما يُقترَح موازٍ لفن كاتب
السيرة الذاتية في العبارة، برغم أنها تَلفِت الانتباه إلى الإلهام
غير المريح للأسرار الغامضة في المجتمع الفيكتوري، عالَم العهر
والإباحية الذي يسحب ولتر بكل معنى الكلمة إلى أزقته الخلفية. هذا
هو التيار الخفي نفسه في المجتمع الفيكتوري الذي يزعج فولز ويشغله
في «امرأة الضابط الفرنسي». المنظور المزدوج البارز كأسلوب سائد في
رواية فولز يرشدنا كقراء لنرى أشكال التعارض والتناقض المتأصلين في
فهمنا للمجتمع الفيكتوري: «ماذا يواجهنا في القرن العشرين؟ عصر
كانت المرأة فيه مقدسة sacred؛
وحيث يمكنك شراء فتاة في الثالثة عشرة من عمرها بجنيهات قليلة …
حيث بنيت كنائس أكثر مما بني في التاريخ السابق كله في البلاد؛
وحيث كان بيت من كل ستين بيتًا في لندن ماخورًا …» (١٩٩٦م،
[١٩٦٩م]، ٢٥٨). يعمل القارئ كمخبر من نوع ما حين يواجه هذه القصة،
عارفًا المتوازيات وأيضًا الاختلافات الدالَّة بين تمثيل القرن
العشرين المنجز في الروايات وسياقها الشائع، وحالًّا شفرة مجموعة
كاملة من الشفرات والمفاتيح في العملية.
يبدو أن العصر الفيكتوري وعالَم الجريمة النشط فيه يقدمان مثالًا
خاصًّا لأنواع التناقض الاجتماعي والثقافي، وربما يفسر هذا جزئيًّا
الافتتان المستمر بانتحال أساليب القصة في القرن التاسع عشر بشكل
كبير في الكتابة المعاصرة. توجد أيضًا متوازيات مع عصرنا المدني —
عمومًا — لا ينبغي التقليل من شأنها. في روايات ديكنز وكولينز، من
بين آخَرِين كثيرين، لندن بمثابة شخصية حقيقية. العصر الفيكتوري
يعالج بعضًا من أكثر اهتماماتنا المعاصرة بالطبقة، والتدرُّج
الاجتماعي، ومسائل الإمبراطورية والإمبريالية. كما لاحظَت جوتري
شكرافورتي سبيفاك: «لا ينبغي قراءة الأدب البريطاني في القرن
التاسع عشر بدون تذكر أن الإمبريالية، باعتبارها الرسالة
الاجتماعية لإنجلترا، كانت جزءًا أساسيًّا من التمثيل الثقافي
لإنجلترا بالنسبة للإنجليز» (١٩٩٧م، [١٩٨٩م]، ١٤٨). وهذه كلها
أسباب للاهتمام المستمر بتقديم التفسيرات والتجديدات المعروفة التي
تُولي اهتمامًا بالقصة الفيكتورية.
لكن يجدر بنا التوغل أكثر في هذا الاهتمام؛ لأنه، إضافة إلى
الاهتمام بالعصر الفيكتوري ككل، ظهر اهتمام خاص بعقد الستينيات في
القرن التاسع عشر، وكان، كما رأينا من قبل، عقد قصة الإحساس وظهور
أجناس أدبية فرعية ترتبط بها مثل الرواية البوليسية وألغاز القتل.
تدور «الاستحواذ»، و«المفتاح المظلم»، و«امرأة الضابط الفرنسي»
كلها جزئيًّا في ستينيات القرن التاسع عشر، إضافة إلى روايتي
كولينز «ذات الرداء الأبيض»، و«حجر القمر»، ورواية تشارلز ديكنز
«التوقعات الكبرى»، ومع أن أحداثها تدور قبل ذلك بسنوات، إلا أنها
نُشِرَت في ستينيات القرن التاسع عشر. ونتناول هذه الرواية بمزيد
من التفصيل فيما بعدُ، لكن يكفي أن نقول هنا إنها تحمل آثارًا
واضحة من الاهتمام المعاصر بالجريمة وتقنيات قصة التشويق؛ مكتبة
ويميك Wemmick لدراسات علم الجريمة
وأدب الإدانة مُجرَّد مؤشر واضح لهذه الحقيقة في الرواية. لكن، كما
يوحي الاهتمام الواسع والمتطور إلى حد بعيد لهذه الرواية بنظريات
الطبيعة والتنشئة (ديكنز، ١٩٩٤م، [١٨٦١م]،
xiv)، تمثل ستينيات القرن
التاسع عشر انعطافة حاسمة فيما يتعلق بإعادة تفكير ما بعد الحداثة
في الرواية الفيكتورية وسياقها الأكثر عمقًا في القيم الاجتماعية
والثقافية الفيكتورية؛ لأنه كان العصر الذي شهد أحد أعظم التحديات
التي واجهت الفهم الديني للعالم والهوية متمثلًا في نظرية تشارلز
داروين عن النشوء. نُشر «أصل الأنواع» أول مرة سنة ١٨٥٩م. وليس من
قبيل الصدفة أن يصدر جون فولز كثيرًا من الفصول في «امرأة الضابط
الفرنسي» بأفكار مؤثرة لداروين عن التكيف والبيئة، أو تكون الشخصية
الرئيسية في عمله جيولوجيًّا، عالِم ينفتح على المقارَبة
الداروينية ليفهم العالَم من حوله.
نُشِرت «التوقعات الكبرى» أول مرة في حلقات بين ديسمبر ١٨٦٠م،
وأغسطس ١٨٦١م في دورية «طوال العام
All the Year
Round». في ١٨٦٠م، نشرت هذه الدورية أيضًا
مقالين مهمين عن نظرية داروين في التكيف والتنوع والبقاء على قيد
الحياة: نشر «الأنواع» في يونيو، ونشر «الانتخاب الطبيعي» في
يوليو. يبدو تأثير هذا على رواية ديكنز، وهو محل جدال، عن طريق
مساري حبكة كل من بيب
Pip، وإستيلا
Estella، في أن الأصول
البيولوجية ليست إلا جزءًا من تشكيلنا الاجتماعي والبيئي المعقد،
لا يمكن التقليل من شأنه. في «حبكات داروين
Darwin’s Plots» رأى جليان بير
أن نثر داروين تشكل بقراءته عَبْر عدة فروع معرفية وأنه وجد الصورة
الأدبية عن التناظر مفيدة بصورة خاصة في الإفصاح عن أفكاره العلمية
(١٩٨٣م، ٨٠).
١٧ يبدو من العكسي بالقدر نفسه ضرورة سحب الروايات
المنهمكة في عملية الإعداد الأدبي، بإبداع نظائر وتنويعات خاصة بها
طبقًا للسياق الثقافي والجغرافي والتاريخي، إلى نظريات
داروين.
هكذا يبرهن العصر الفيكتوري في النهاية على أنه مناسب للانتحال؛
لأنه يعالج بحدة الكثير من الاهتمامات المهيمنة في عصر ما بعد
الحداثة: مسائل الهوية؛ مسائل الشروط البيئية والوراثية؛ والصيغ
الجنسية المكبوتة والمقهورة؛ والجريمة والعنف؛ الظاهرة المدنية؛
عمليات القانون والسُّلطة؛ العلم والدين؛ ميراث الإمبراطورية بعد
الكولونيالية. في تنقيح الراوي العارف بكل شيء في القصة في القرن
التاسع عشر، يستبدل به (أو بها) غالبًا الراوي غير الجدير بالثقة
الذي عرفناه شائعًا في القصة المنتحلة، يجد مؤلِّفو ما بعد الحداثة
طريقة ميتا-قصصية ليتأملوا في دوافعهم الخلاقة في التأليف. هكذا
ينتهي هذا الفصل بقراءة دقيقة لرواية معاصرة محددة تجسد كل هذه
الدوافع في انتحالها وإعدادها الرائع لرواية تشارلز ديكنز
«التوقعات الكبرى»، وهي بمثابة حالة اختبار مفيد للدعاوى التي طرحت
من قبل: «جاك ماجز» لبيتر كاري (١٩٩٧م).
الخروج من الظلال: جاك ماجز لبيتر كاري
مثل الكثير من الكتَّاب الذين تم استدعاؤهم وتناولهم في هذه
الصفحات، لا يقتصر اهتمام الروائي الأسترالي بيتر كاري
بالانتحال على عمل واحد من أعماله. عُرِف، مثل ج. م. كوتسي أو
جون فولز، ككاتب متناص بعمق. رُبِطت روايات مثل «إليويكر
Illywhacker» (١٩٨٥م)،
و«أوسكار ولوسيندا
Oscar and
Lucinda» (١٩٨٨م) بكتابة القرن التاسع
عشر، وخاصة أعمال تشارلز ديكنز، ونصوص الواقعية السحرية في
أمريكا الجنوبية، وأفلام فيرنر هيرزوج، إذا اكتفينا بذكر
القليل (وودكوك، ٢٠٠٣م، ٨٢).
١٨ يدين التسلسل الافتتاحي الرائع لرواية «أوسكار
ولوسيندا» الذي يصور تنشئة أوسكار بين إخوة بليموث وحادثة حلوى
الخوخ المحرمة بالكثير لعمل إدموند جوز عن السيرة الذاتية
الفيكتورية الاستعادية، «أب وابن
Father and
Son» (١٩٠٧م).
١٩ أنكر كاري عند نشر «أوسكار ولوسيندا»، ربما في مكر
مدروس، أنه كان قارئًا جيدًا لديكنز (وودكوك، ٢٠٠٣م، ٥٨)، لكن
ربما لا يكون هناك شك في انغماسه في أعمال الروائي الفيكتوري
عند كتابة روايته «جاك ماجز
Jack
Maggs» (١٩٩٧م)، وهي انتحال مباشر لرواية
«التوقعات الكبرى». «جاك ماجز» في عنوان كاري تجديد ما بعد
كولونيالي لأبل ماجويتش
Magwitch المدان عند
ديكنز، الرجل الذي تجعله ثروته في ويلز الجنوبية الجديدة يُعرض
بتعبير بيب بيريب
Pip Pirrip
بوصفه جنتلمان «التوقعات الكبرى» في تلك الرواية. إذا كانت
رواية ديكنز، كما وصفتها كيت فلِنْت، نصًّا مشبعًا بموتيفة
العودة، أو على الأقل بمحاولة العودة (ديكنز ١٩٩٤م، [١٨٦١م]،
vii)، فإن قصة كاري كذلك
بصورة مضاعفة.
٢٠ إنه يعود إلى قصة ماجويتش وعودة ماجويتش إلى لندن
ليقابل «ابنه بالتبني»، بيب، وهنا تحول إلى شخصية أكثر
استحقاقًا للتوبيخ، شخصية هنري فيبز
Phipps، فارضًا عليها
بوضوح مجموعة من القيم والاهتمامات السياسية لما بعد
الكولونيالية. كما هو الحال مع تعرض جان رايس في «بحر سرجاسو
الواسع» للإمبريالية الضمنية في «جين إير»، يقترح بروس وودكوك
أن كاري يعرض القمع والتحيز في أساس نص ديكنز والثقافة
الفيكتورية:
تجاور «جاك ماجز» الخفي والمرئي لتكشف عنفًا
اجتماعيًّا رهيبًا تحت سطح المثال الإمبريالي … إنها
«بحر سرجاسو الواسع» بيتر كاري: عملية انتقام بعد
كولونيالي ضد ثقافة أب. تنقح، مثل رواية جان رايس،
عناصر نص تراثي من قلب التقاليد الأدبية الإنجليزية
لتكشف التاريخ البديل الخفي الذي طمستْه هذه السيطرة
الثقافية أو قمعته.
(٢٠٠٣م، ١٢٠)
إذا كانت رواية ديكنز ترى أبل ماجويتش بعيون بيب تمامًا
والسرد المُكوَّن من طبقات بضمير المتكلم، فإن كاري يعكس
المنظور بحيث نرى الأحداث من منظور ماجز إلى حد بعيد. تبدأ
الرواية عند عودة ماجز من مُستعمَرة العقاب في ويلز الجنوبية
الجديدة. يحقق له كاري بكل معنى الكلمة عفوًا شرطيًّا في سياق
روايته. بالإضافة إلى هيبو-نص ديكنز بوضوح، يُجدِّد كاري أدب
الجريمة الأسترالي، وهو مثال أوَّلِي يمكن أن تلحف به «حياته
الطبيعية
His Natural Life»
لماركوس كلارك (١٨٨٥م).
٢١ تعمل «صانع اللعب» لتوماس كنيلي، وقد ناقشناها في
الفصل الثاني، في إطار نصي مماثل. يكتب كاري وكنيلي بوعي من
نقطة تميز ما بعد الكولونيالية، «يردان» على مسألة نقل
المدانين وبناء مستعمرة عقابية بريطانية في أستراليا. وكان
لهذا، في رأي كنيلي، رَنين إضافي مدمر أثر على الجاليات
الأصلية البدائية.
أثَّر كتاب «الشاطئ المميت
The Fatal
Shore» لروبرت هوز (١٩٨٨م) على استجابة
كاري لقضايا الإمبراطورية في الثقافة الأسترالية، ويناقش بشكل
مباشر «التوقُّعات الكبرى» في سياق ما بعد الكولونيالية.
٢٢ بالتالي، وفي فقرة تستشهد بكاري كمؤلِّف بَعْد
كولونيالي، وجد إدوارد سعيد في هذه الدراسة في مقدِّمة
«الثقافة والإمبريالية
Culture and
Imperialism» (1993: xvi-xvii) دليلًا
آخَر كانت بحاجة إليه لتأثير النظرية على عمليات الإعداد.
اقترح سعيد أن ماجويتش المدان المنقول في «التوقعات الكبرى»
استعارة للعلاقة بين إنجلترا وذريتها الكولونيالية: «الحظر
المفروض على عودة ماجويتش ليس عقابيًّا فقط لكنه إمبريالي:
يمكن أخذ أشخاص إلى أماكن مثل أستراليا، لكن لا يمكن السماح
لهم «بالعودة» إلى فضاء متروبوليتاني، الذي، كما تشهد قصة
ديكنز، يتم التخطيط له بدقة شديدة، يعبر عن …»
(
xvii). يسمح كاري
لماجويتش بالعودة في سياق رواية تبرهن، مثل الكثير من عمليات
الإعداد التي ناقشناها في هذا الفصل لقصص من القرن التاسع عشر،
على افتتان عميق بالفضاء المتروبوليتاني للندن.
في «جاك ماجز»، يعيد كاري كتابة نهاية المدان التقليدية
بالإضافة إلى المصير الخاص بماجويتش في رواية ديكنز، حيث يموت
بين ذراعي بيب. يسمح كاري لماجز «بعودة» إضافية إلى «وطنه»
الأسترالي وأسرته، مما يبرهن على تنقيح أكثر تعقيدًا مما قد
توحي به النظرة الأولى، حيث يرفض ماجز طوال القصة هويته
الأسترالية بإصرار، نابذًا أسرته هناك لصالح اهتمام ملح بالطفل
المجهض في ماضيه الإجرامي وبيبز «المُتبنَّى». تشير مير ني
فلاثوين إلى الطرق التي تكرر بها الرواية، مقلدة أعراف قصة
الإحساس في ستينيات القرن التاسع عشر، مجازات الأبوة الفاشلة،
ناهيك عن صورة وليم الرابع المحتضر؛ تبدأ الرواية في ١٨٣٧م
بملك مُعْتَل والملكة فيكتوريا على وشك اعتلاء العرش.
٢٣ ترى أن كاري لا يهرب تمامًا من النماذج التي يسعى
إلى فضحها حيث إنه يستبدل بطريركية أسترالية مثالية بالنسخة
الإمبريالية التي تنتقدها الرواية. الصورة الأخيرة التي تقدم
إلى القراء عن ماجويتش أثناء عودته إلى ويلز الجنوبية الجديدة
إحياء إمبريالي داخل الأسرة وفي نادي كريكيت محلي (١٩٩٩م، ٩٠).
ربما تُكشَف حدود المنظور ما بعد الكولونيالي لكاري بهذا،
بالإضافة إلى الغياب المزعوم للصوت البدائي من هذا النص، برغم
أن الكثير من الخطابات القانونية في المناظرات الممتدة عن
الملكية والتملك في الرواية عن مناظرة حقوق الأرض الأسترالية
تُستدعَى بوعي.
تستحق مقاربة كاري «لنهاية» ماجز المزيد من التحليل. أعلن
كثير من النقاد في وقت نشر «جاك ماجز» عن عدم اقتناعهم
«بالنهاية السعيدة» للرواية. لكننا نسجل أن كاري، مثل فولز من
قبله، يعي بعمق هذا الإحساس الثقيل بخاتمة القصة. قدم فولز في
«امرأة الضابط الفرنسي» نهايات بديلة، ويعترف بأن «أعراف القصة
الفيكتورية لا تسمح، ولم تسمح، بمكان لنهاية مفتوحة وغير
حاسمة» (١٩٩٦م، [١٩٦٩م]، ٣٨). تُنشَر «التوقعات الكبرى»
باستمرار في طبعات حديثة مع نهاياتها البديلة، رغم ذلك؛ أولًا،
النهاية شبه السعيدة التي أقحمها بلوير ليتون
Lytton محرر ديكنز، وفيها
يُقدَّم تلميحٌ قوي بأن بيب وإستيلا ربما يعيشان سعيدين بعد
ذلك إلى الأبد، والنهاية الأكثر ظلمة التي فضلها ديكنز في
البداية. هناك من ثم سلف عند ديكنز للوعي الزائف الذي يحيط
«بالنهاية السعيدة» التي يقدمها كاري لماجز، وفيها يبدأ هو
وميرسي لاركين Larkin حياة
جديدة في أستراليا (بورتر
Porter، ١٩٩٧م، ١٦؛ عن ني
فلاثوين، ١٩٩٩م، ٩١). وكما يلاحظ وودكوك هناك «قصة من قصص
الجِنِّيَّات، غير حقيقية بتعمد» تظهر في هذا القسم (٢٠٠٣م،
١٣٧) بوصفها أنشودة رعوية عن الأسر السعيدة؛ لا شيء مما يسبق
ذلك في الرواية يبدو أنه ينبئ بهذه النتيجة، ومناخ عدم
الواقعية يَتَّحِد بالنهاية الكلية التي تشير إلى مجموعة ميرسي
من الطبعات الأولى لرواية عن ماجز، «موت ماجز
The Death of Maggs». في
الدائرية السردية نرى للمرة الأولى ميرسي في هذه الرواية
تتناول كتبًا في المكتبة الشخصية لبيرسي باكل
Buckle. هناك بُعدٌ قصصي
أدبي لهذه النهاية التي يبدو أنه لا مَفرَّ منها. حتى الإهداء
المطبوع إلى باكل في «موت ماجز» يبدو زائفًا من منظور ما سبق
أن قرأناه. يمكن للنصوص أن تكذب وتضلل، وقصة كاري تلهو بهذه
الاحتمالية طوال سردها وتحتفظ بإدراكها المتشكك بما يتعلق
بالنصوص حتى ختامها.
لا يعيد انتحال كاري لرواية «التوقعات الكبرى» كتابة الأحداث
فقط في الرواية التراثية التي كتبها ديكنز، إنه يذهب خطوة أبعد
بجلب نسخة المؤلف نفسه إلى قلب القصة. توبياس أوتيس
Oates، صحفي مبتدئ في
كتابة الرواية، مُتلهِّف على التأييد والنجاح، تنويعة مطموسة
إلى حد ما على ما نعرف عن سيرة ديكنز. لاحظَت كيت فلينت أن
ديكنز كَتَب «التوقعات الكبرى» في لحظة مثيرة من حياته
الشخصية. في ١١ مارس ١٨٦١م، كتب إلى صديقه ويلز
W. H. Wills أنه «مثقل
تمامًا بالأعباء ومقيد في الحياة» (عن ديكنز، ١٩٩٤م،
x؛ ديكنز ١٩٣٨م، ٢١٢).
انفصل عن زوجته في ١٨٥٨م، وتعرض لكثير من الفضائح بشأن علاقته
التي راجت حولها الشائعات مع الممثلة إلين تيرنان
Tiernan (كَبْلان
Kaplan، ١٩٨٨م، ٤١٦-٤١٧).
شهدت ١٨٦١م عدم استقرار في الساحة العالمية، وشهدت اندلاع
الحرب الأهلية الأمريكية. تهتم قصة كاري بالحياة الأسرية
المضطربة التي عاشها ديكنز، لكنها لم تهتم بالعلاقة مع «نيلي
Nelly» تيرنان، بقدر
اهتمامها بالتلميحات المُبكِّرة في حياة ديكنز عن عاطفة سيطرت
على ذهنه تجاه أخت زوجته، ماري هوجرث
Hogarth. ماتت ماري ميتة
تراجيدية مُبكِّرة وهي في السابعة عشرة من عمرها، ورغم أن
ديكنز ذُهِل بشكل لا يمكن إنكاره نتيجة موتها فإن غرور حكايته
عن موتها لا مفر منه: «حمدًا للرب أنها ماتت بين ذراعَيَّ …
وآخِر ما هَمسَت به من كلمات كان عنِّي» (أكرويد
Ackroyd، ١٩٩٠م،
٢٢٦).
في «جاك ماجز» يبرهن توبياس أوتيس على أنه شخصية تافهة تستحق
التوبيخ بوضوح، لا يستغل فقط من حوله غذاءً لقصته مع إحساس
ضئيل بالمسئولية الخلقية، لكن حياته الشخصية تبقى زوجته ماري
(انزلاق اسم ماري هوجرث إلى اسم زوجة أوتيس في «جاك ماجز»
مدروس بالتأكيد من جانب كاري) وأختها ليزي وريندر
Warrender ضحيتين
لأنانيته. يبدو أن الإحياء القصصي الذي قام به كاري لديكنز
يدين بالكثير في هذا لشخص تافه، وإن يكن لامعًا، صورته السيرة
الشخصية التذكارية التي كتبها بيتر أكرويد (١٩٩٠م). بالإضافة
إلى هذا التوازي الواضح بين حياة أوتيس وما هو معروف عن حياة
ديكنز، تُبنَى «جاك ماجز» حول سلسلة من المتوازيات والأصداء،
خارجية وداخلية. هناك عدة متوازيات نصية مع «التوقعات الكبرى»،
أصداء داخلية إذا جاز التعبير، وأيضًا مع أعمال أخرى من أعمال
ديكنز. مجتمع السرقة الذي يجد ماجز نفسَه موضوعًا فيه وهو طفل
نسخة من مصنع فاجين Fagin
للأطفال اللصوص في «أوليفر تويست»، على سبيل المثال. يستخدم
أوتيس، كما نعلم، شخصية ماجز في عدد من رواياته بعد ذلك:
«ناموا أخيرًا، وزحف توبياس أوتيس إلى الخارج. هذا المشهد، أو
بالأحرى خصوصيات وضعه، تظهر من جديد ليس فقط في «موت ماجز»
و«مايكل آدمز Michael Adams»،
بل تقريبًا في كل ما كتب توبياس أوتيس» (كارى، ١٩٩٧م،
١٩٧).
«التوقعات الكبرى» قصة تتأسس على الارتباطات بين الأشياء.
كثيرًا ما يحاول بيب الاحتفاظ بالأجزاء المكونة لحياته منفصلة،
مرتبكًا كما يحدث حين يزوره جوي جرجيري
Joe
Gargery في لندن، يشعر بعالم كِنْت يسير
خلفه عن بُعْد وبشكل لا يرتبط بوجوده الجديد كجنتلمان، وربما
حتى بشكل يثير الشبهة.
٢٤ ما يفشل بيب في إدراكه هو كيف ترتبط حياته الجديدة
ارتباطًا حميمًا بخبراته في «الشراك» (ديكنز، ١٩٩٤م، [١٨٦١م]،
٢٢٢)، معززة بثروة ماجويتش وتأييده. ثمة خيوط أخرى تترابط
أخيرًا في الرواية حين نعلم أن المنافس الرئيسي لماجز في
الجريمة، كومبيسون
Compeyson،
هو العريس الذي هجر مس هافيشام
Havisham يوم عرسها وأن
إستيلا ابنة ماجويتش حقًّا. يتحقق ترابط رواية كاري في العلاقة
بين الهيبو نص والهيبر نص والتوازي المحدد مع حياة ديكنز
الخاصة. هناك أيضًا عدة صور للتوازي في السرد. يصبح أوتيس في
نواحٍ عديدة ظل ماجز ونظيره، تنويعة كاري على شخصية شائعة في
القصة في القرن التاسع عشر، شخصية الشبح أو القرين. تعكس
الأحداث في حياة ماجز وحياة أوتيس كل منها الأخرى بانتظام
مزعج. إن الإجهاض الرهيب لطفل ماجز من صوفيا
Sophia في منزل ما بريتن
Ma Britten، الذي يُروَى
بفلاش باك في السرد، وهو نفسه صدًى نصي لبنية السَّرْد عند
ديكنز في «التوقعات الكبرى» بقصصه داخل القصص، يعكسه الإجهاض
المميت الذي تم بأدوية أعطاها توبياس وماري لليزي بدون معرفة
كل منهما بما فعله الآخر. تتأسَّس بالتالي مخطوطة الرواية
المتصورة التي يكتبها أوتيس بشكل مهلهل عن حياة ماجز، وهي
محطوطة تحترق في النار بناء على وصية ماجز وتدل سلفًا على حرق
ملاءات سرير ليزي بعد موتها المؤلم (وحرق الجنين المجهض أيضًا،
مما يُؤثِّر على الارتباط المزعج بين الذرية الخلَّاقة
لأوتيس).
يبقى أوتيس أيضًا لصًّا بالسرد كما هو حال ماجز نفسه. تصبح
أوصاف مثل «المدان» أو «الكاتب» مُتقلِّبة وغادرة في سياق «جاك
ماجز» حيث يمكن تطبيقها على ماجز أو أوتيس بكثرة. عدد من القصص
المقحمة في النص، على سبيل المثال، نتاج لدافع ماجز لكتابة قصة
حياته لهنري فيبز. يتحاشى ماجز، في انزلاق لليقينية النصية،
وصف «الأسترالي» الذي يبدو أن أوتيس ومن بعض الأوجه كاري
حريصان على لصقه به (كاري، ١٩٩٧م، ٣١٢-٣١٣). يسلب أوتيس، بدلًا
من الفضة المدموغة التي تدرب ماجز وهو طفل على سرقتها، الحيوات
«الحقيقية» (سرد كاري متردد بقدر متساوٍ بشأن صفتي «حقيقي»
و«قصصي») كمادة خام لقصته. يصف ماجز شعوره بأنه «سُرِق» بعد
النوبة الأولى من السير نومًا، أثناءها يسجل أوتيس ملاحظات
دقيقة عن نوبات غضب ماجز بشأن حياته كمدان أسترالي ليضمِّنها
في روايته: «كان مسروقًا، مسلوبًا، وما كان ليحتمل هذا» (٣٢).
يؤيد أوتيس، في توازٍ آخَر مباشر مع الافتتان الفعَّال عند
ديكنز طوال مسيرته المهنية مع أعمال العقل المجرم، العلم
الزائف المرتبط بالتنويم المغناطيسي في القرن التاسع عشر
(أكرويد، ١٩٩٠م، ٤٤٨–٤٥١). وقد رأى البعضُ في ذلك سلفًا للعلاج
النفسي الحديث، وبهذه الطريقة لا يوازي كاري فقط طريقة حديثة
في إضفاء بعد سيكولوجي على مدان ديكنز، لكنه يوازي أيضًا أفعال
السرقة والانتحال المتأصلة في الأيديولوجيا
الإمبريالية.
الاستراتيجيات الميتا-قصصية للرواية مكملة لفضح
الضلالات الكولونيالية. وتلفت الانتباه لعملية ابتكار
القصص … كانتحال أو سرقة. بالضبط كما سرقت إنجلترا حق
ميلاد ماجز بجعله لصًّا، يستعمر توبياس أوتيس ماجز
ليرضي مخيلته، ويسرق قصة ماجز من أجل قصته.
(وودكوك ٢٠٠٣م، ١٢٩)
يهيمن القلق على قارئ «جاك ماجز» كما يهيمن على قارئ «بحر
سرجاسو الواسع» من أن الأبطال قد يبرهنون على عجزهم عن الفرار
من مسارات الحبكة التي حددتها أسماؤهم ونظائرهم في الأدب.
للإحساس الذي ينتاب بيب في «التوقعات الكبرى» بأن ماجويتش لا
يمكن أن يهرب من هويته الأولية كمدان معنى ضمني واضح بالنسبة
لمحاولات الأول الهروب من حياته مع جوي
Joe ببطء:
كلما ألبسته أكثر وكلما ألبسته أفضل بدَا أكثر مثل
الشارد الذي يمشي بتراخٍ في المُستنقَعات. كان هذا
التأثير على خيالي القلق قابلًا لأن يُعزَى جزئيًّا،
بلا شك، إلى وجهه القديم وطريقة تصبح أكثر أُلْفَة
بالنسبة لي؛ لكنني صدقتُ أيضًا أنه جر إحدى ساقيه كما
لو كان يحمل حديدًا، وأنه من الرأس إلى القدم مدان منذ
الأزل.
(ديكنز، ١٩٩٤م، [١٨٦١م]، ٣٣٣)
يستمتع كاري بتأمل قدرة شخصيته على إعادة كتابة مصيرها. في
مواجهة أساسية في عربة متحرِّكة، مواجهة تردد بوعي صدى مواجهة
فولز مع بطله في مقصورة قطار في «امرأة الضابط الفرنسي»، يجعل
كاري ماجز يقابل أوتيس في الرواية التي يكتبها ويتحدَّى
النهاية الانتقامية التي في ذهنه للشخصية التي تتأسس على
حياته. وكما رأينا بالفعل، يعيد كاري أيضًا كتابة نهاية ماجز؛
مشهد سرير موت الأسترالي في سن كبيرة بمثابة نظير لذلك الذي
يتخيله له أوتيس. يتحدد عنوان رواية أوتيس بهذا المصير، «موت
ماجز»؛ الموت حرقًا، بالطبع، تجديد بدوره لموت مس هافيشام في
رواية ديكنز. يتركنا العنصر الخيالي لهذه النهاية، رغم ذلك، في
قدر كبير من الشك حول كيفية تحرير ماجز من قيوده
النصية.
ما يحققه كاري لشخصيته يجعله مرحلة أساسية في الطريق التي لا
يستطيع أبدًا أن يسلكها في «التوقعات الكبرى» حيث إن هذا السرد
نُطِق من خلال ملاحظة بيب ومنظوره، وهو يتكلم بضمير المتكلم.
رواية كاري عن ماجز/ماجويتش تحمل الاسم نفسه بتعمد. والصورة
التي يعرضها كاري بانتظام في السرد ليشير إلى هذه الحركة
الأساسية هي إخراج ماجز من الظلال. كما في الكثير من قصص القرن
التاسع عشر، وفي الكثير من عمليات الانتحال التي تناولناها في
هذا الفصل، ناهيك عن «امرأة الضابط الفرنسي» لفولز، و«المفتاح
المظلم» لويلسون، لندن وجود مدوٍّ لكنه ذو وجهين في هذه
الرواية، عاصمة أضواء الغاز والشوارع الجانبية، موضع المنازل
الرائعة وأيضًا الأزقة والممرات الخلفية، مضاءة وغير مضاءة.
إنها المواضع الأخيرة التي يُرَى ماجز كثيرًا وهو يتسلل إليها
أو يخرج منها. يُخرِج كاري بمعنى الكلمة خبرات شخصيته من
الظلال إلى النور. وفي موضع آخر رواية مهتمة بالنصوص الثانوية
والحقائق الخفية؛ هنري فيبز، النظير المظلم لبيب أو قرينه في
«جاك ماجز»، مذنب بممارسة اللواط بعنف مع جندي المشاة إدوارد
كونستابل Constable والتسبب في
انتحار رفيقة كونستابل. بطرق أخرى ينتهك أوتيس حياة ماجز
وأفكاره في تصوير قوطي لفن الروائي. يكشف كاري بهذه الطريقة ما
كان يمكن غالبًا أن يوجد فقط كنص ثانوي أو ما بين السطور في
القصة الفيكتورية، سواء الكولونيالية أم الكبت الجنسي أم
العنف. بهذه الطريقة، «يظهر» سرد كاري ببراعة عالم الرواية
الفيكتورية ولغة ديكنز لكن الضوء الذي يلقيه على موضوعه حديث
بشكل لا مفر منه.