الفصل الثامن
تاريخ ممتد؛ أو انتحال الحقائق
يعترف المؤلِّف بأنه مدَّ التاريخ مرة أو اثنتين ليناسب
نهاياته القصصية.
بيتر كاري «ملاحَظة المؤلف» على «جاك
ماجز»
حتى هذه النقطة كنا نناقش الإعداد والانتحال في إطار تناصِّ
النصوص التي تَنتحِل نصوصًا أخرى أو تُعِدُّها. في الفصل التالي
والأخير، متتبعين ريادة كريستيفا في كتابتها عن التَّناص في
«الرغبة في اللغة Desire in
Language» (١٩٨٠م)، نوسع معايير تلك المناظرة
لتشمل أشكالًا فنية مصاحبة، أي الرسم والموسيقى. لكن ثمة صيغة أخرى
موازية من الانتحال لا تستخدم المادة الأدبية أو الفنية كمادة خام،
بل تستخدم مادة المحتوى «الحقيقي» للحقائق، حقائق الأحداث
والشخصيات التاريخية. ماذا يحدث لعملية الانتحال حين يكون ما
«يُؤْخَذ» لغاية قصصية موجودًا حقًّا أو كان موجودًا؟
غالبًا ما تُجمَع الأنواع الأدبية التي نفحصها تحت هذا العنوان
معًا بالعنوان النوعي «القصة التاريخية». لكن القصة التاريخية
مصطلح مظلته واسعة. يمكن، على سبيل المثال، أن يشمل الروايات أو
المسرحيات التي تتناول «الماضي»، سواء كان معروفًا أم لا، مقدمة
تفاصيل نصية عن ذلك «الماضي» كاستراتيجية موثوق بها: إننا «نؤمن»
بأحداث تلك الروايات أو المسرحيات أو نسلم بصحتها جزئيًّا لأن
التفاصيل الأساسية مرسومة بدقة كبيرة. ثمة دراسات منفصلة تجري على
الدافع الأكبر باتجاه كتابة القصة التاريخية، لكن ما يحظى باهتمام
أكثر وضوحًا وإلحاحًا في هذه الدراسة تلك النصوص التي ينتحل فيها
المؤلفون بوعي الحقائق المعروفة عن حدث معين أو حياة معينة لتشكل
قصصهم، وقد تتنوع دوافعهم وراء ذلك. في بعض الأحيان، يُصوَّر حدثٌ
تاريخي ويعرض لمحتواه الأدبي والخيالي الثري ولأشكال التوازي
والمقارنات التي يستدعيها مع اهتمامات أكثر معاصرة أو محلية. أحد
أشهر الأمثلة على هذا من التراث المسرحي مسرحية أرثر ميلر «البوتقة
The Crucible» (١٩٥٣م). تصور
المسرحية الأحداث المحيطة بمطاردات السحرة التي حدثت سنة ١٦٩٢م في
مُستعمَرة سالم
Salem البيوريتانية
في نيو إنجلند
New England. إنها
دراسة مُتعاطِفة للمنافسات الشخصية والاضطرابات السيكولوجية التي
ساهمت في الاتهامات المفرطة للسحر ضد النساء، والرجال في النهاية،
في هذه الجالية، وأدت إلى عدة حالات شنيعة من الإعدام على الملأ.
لكن هدف ميلر من انتقاء هذه اللحظة الخاصة في التاريخ لمسرحيته
مزدوج. بينما كان يهتم بوضوح بالهستيريا الجماعية والحماسة الدينية
التي ساهَمت في إعدامات سالم، بحث أيضًا لتحفيز مُخيِّلة
المُشاهِدين عن مقارنة مباشرة مع «مطاردات السحرة» التي كانت تتم
في وطنه بالولايات المتحدة الأمريكية في خمسينيات القرن العشرين
على يد السيناتور جوي ماكارثي وأنصاره.
١ عن طريق آلية لجنة أنشطة غير الأمريكيين في مجلس
النواب
HUAC كانت هذه المجموعة
مُصرَّة على فضح الشيوعية في المجتمع الأمريكي. كان أولئك الذين
يعملون في فنون التمثيل، الممثلون والمخرجون، ومن بينهم كتاب
المسرح، بؤرة خاصة للمراقبة وقوافل العروض العامة التي شُجِّعوا
فيها على التبليغ عن زملائهم. وقد حُكِم على ميلر نفسه بالسجن في
١٩٥٧م نتيجة فشله في العمل كمخبر للجنة أنشطة غير الأمريكيين
HUAC، برغم أن الحكم أُلغي
فيما بعد (بجسباي
Bigsby، ١٩٩٧م،
٣). لا تصرح مخطوطة «البوتقة» في أي موضع بهذا التناظر الحديث؛ يثق
ميلر ببساطة في إمكانية مشاهديه في التوصل إلى استنتاجاتهم.
بالطبع، يأتي المشاهدون إلى المسرحية اليوم بمعرفة مسبقة بالتناظر
التاريخي والسياسي، لكن «البوتقة» تبقى مثالًا مؤثرًا لاستدعاء
الماضي التاريخي في سياق أدبي كوسيلة لنقد النظام السياسي الحالي
ولو بشكل غير مباشر. لا جديد، بالطبع، فيما فعله ميلر: حقق وليم
شكسبير وبن جونسون شيئًا مماثلًا إلى حد بعيد في إنجلترا في بدايات
القرن السابع عشر حين عرضا وضع روما القديمة وقصصها كوسيلة للهروب
من الرقابة وكانت رغم ذلك تنتقد سياسات الحكومة حينذاك.
حديثًا استدعى رونان بينيت أيضًا مجتمع القرن السابع عشر ومناخه
الذي يتسم بالحماس الديني والأصولية في روايته «الفوضى في عامها
الثالث
Havoc in Its Third Year» (٢٠٠٣م).
٢ بوضعها في شمال إنجلترا في ثلاثينيات القرن السابع
عشر، العقد السابق على اندلاع الحروب الأهلية، يصور بينيت بلدة خلق
فيها القادة البيوريتانيين المُتزمِّتين عالمًا من الارتياب
والمُراقَبة حيث انقلب الجار على جاره، بنتائج مميتة غالبًا. برهنت
أشكال التوازي بين العالم الذي تُصوِّرُه الرواية وازدهار الأصولية
الدينية التي حدثت في كل من الجاليات المسلمة والمسيحية في بدايات
القرن الحادي والعشرين، ناهيك عن توابع أحداث ١١ / ٩ وآثارها
السياسية، على أنه لا مفر منها بالنسبة للقراء والنقاد
بالمثل.
يمكن استدعاء التاريخ غالبًا بهدف المقارنة أو المقابلة. لكن
كمَّا أكد بيتر ويدوسون «ثمة طرق كثيرة يمكن أن يستخدم بها «الأدب»
التاريخ، وغايات كثيرة يضعه من أجلها» (١٩٩٩م، ١٥٤).
٣ في نقاط مختلفة من هذا الكتاب، كان لدينا سبب لاستدعاء
شك ما بعد الحداثة في الماضي وما يُعرَف «بالحقائق» التاريخية.
تنتحل جان رايس «جين إير» برنتي في «بحر سرجاسو الواسع» لتكشف
العنصرية المطمورة في عصر الإمبريالية البريطانية وأدبها؛ يعيد
بيتر كاري كتابة «التوقعات الكبرى» لديكنز في «جاك ماجز» ليلقي
الضوء على الفجوات وحالات الغياب في رواية ديكنز، وبالتالي
اهتمامات العصر الفيكتوري: حياة الذين يُنقَلون إلى مُستعمَرة
العقاب في أستراليا. يعاد عرض التاريخ، سواء كان أدبيًّا أم غير
أدبي، في هذه الحالات ليشير إلى تلك الجاليات وأولئك الأفراد الذين
لم يُحكَ تاريخهم من قبل، إلى المهمشين والمحرومين من حقوقهم كما
تقدمهم أنطوانيت عند رايس أو ماجز عند كاري. يحقق دون ديليلو
تأثيرًا مماثلًا في «الميزان
Libra» (١٩٨٨م) برؤية حدث تاريخي
بارز، اغتيال الرئيس جون ف. كيندي في دالاس في ١٩٦٣م، ليس بالضبط
من منظور المغتال المعروف لي هارفي أوسوالد، بل عن طريق الأصوات
الداخلية لآخَرِين في حياته وأفكارهم.
٤ ما يتم الكشف عنه في العملية هو الفقر والحرمان من
الحقوق، وهو ما يضيع غالبًا من الحكايات التاريخية التي يغلب عليها
حس المؤامرة في عملية إطلاق النار.
رأينا أن استعادة الأصوات الضائعة أو المقموعة موتيفة شائعة في
الكثير من عمليات الانتحال التي تناولناها كثيرًا. في القصص
النثرية التي تراجع مسرحيات شكسبير؛ مثل انتحال «العاصفة» في
«اللازوردي
Indigo» لمارينا ورنر
أو «الملك لير» في «ألف هيكتار» لجين سميلي، ويأتي السرد فيهما
كلتيهما بضمير المتكلم، يُبذَل جهدٌ واعٍ لإعطاء صوت، وبالتالي
مجموعة من الحوافز الشاملة، لشخصيات مهمشة في مسرح شكسبير أو غائبة
تمامًا عنه.
٥ يمكن تحديد غاية مشترَكة في هذا الشأن في الكثير من
القصص التاريخية فيما بعد الحداثة أو الميتاقصة التاريخية
historiographic كما تُدعَى
أحيانًا، التي تعرض تقنية السرد بضمير المتكلم.
٦ امتُدِحت رواية «تاريخ حقيقي لعصابة كيلي
True History of the Kelly
Gang» لبيتر كاري (٢٠٠٠م)، على سبيل المثال،
باعتبارها إنجازًا لافتًا للإيحاء بتغيير مصدر الصوت. من المؤكد أن
كاري يقدم بحيوية المصطلح واللهجة والترقيم المميِّز الذي يوحي
بأننا نستقبل صوت نيد كيلي مباشرة.
٧ والرواية مَبنية في سلسلة من رسائل كتبها كيلي إلى
ابنته ليتأكد من أنها تسمع القصة منه إضافة إلى الآخرين. لهذا
السبب تحل «رزم» الرسائل مكان الفصول في هذه الرواية التي تتميز
بالإدراك الذاتي. يتلاعب كاري بثقة بطرق التفاصيل الأرشيفية
المسجلة في تأطير مُقدِّمة التأليف لكل «رزمة»: «٥٩ صفحة من قطع
الثُّمْن كلها من محتوى لب الخشب العالي ومتحوِّلة إلى اللون
البني، ثنايا ومكر وتلويث ودموع ضئيلة» (٢٠٠٠م، ٧٣).
٨ تحقق هذه المادة المُؤطَّرة غايتين متعارضتين في
السرد. إنها بمثابة وجود متأصِّل؛ إننا مدربون كقراءٍ على الثقة
بالدليل التاريخي للمادة الأرشيفية المفهرسة بهذه الطريقة. إلا أن
هذه الأطر أيضًا تذكير بالأصوات التاريخية والمفسرين التاريخيين
غير كيلي نفسه؛ يتم تذكيرنا بهذه الطريقة بأن استراتيجية السرد غير
الجدير بالثقة، السرد المفضل فيما بعد الحداثة، ربما تكون مرتبطة
بحالة نيد. بقدر ما يُضفَى عليه بعد أسطوري في كتب التاريخ
الأسترالي كنسخة وطنية لأسطورة روبين هود، وهو رجل فقير من مقاطعة
أيرلندية عانى من عنصرية شديدة وواجه السلطات في هجمات جريئة
وحصار، ربما يعيد كيلي أيضًا كتابة تاريخه الخاص، فارضًا الرقابة
على «حقائق» مَعيَّنة أو يزين آخرين في نظر مشاهديه الذين تتوجه
إليهم ابنته.
يمثل عنوان رواية كاري حيلة مماثلة: يبدو أن «تاريخ حقيقي لعصابة
كيلي» للوهلة الأولى يُركِّز على صدق هذه النسخة من القصة التي
تُحْكَى من منظور العصابة. إلا أن كاري تجنَّب بوعي ذاتي استخدام
أداة تعريف هنا، إنه ليس التاريخ الحقيقي. هذا الغياب المميَّز
يوحي بأننا نحتاج إلى التساؤل عن تعبير «تاريخ حقيقي». قد يشتبه
قارئ متيقظ في خاصية اجتماع لفظين متناقضين في المصطلح، حيث كانت
ثقافة أواخر القرن العشرين تشير إلى التاريخ نفسه ببساطة غالبًا
على أنه تقييم شخص واحد، وتفسير للأحداث من الوثائق المتاحة أو
المتبقية والآثار الثابتة التي خلفتها وراءها. ما يحدث لأولئك، من
قبيل عائلة نيد كيلي في هذه الحالة على سبيل المثال، التي قلصت
الأمية من قدرتها على أن تترك وراءها آثارًا نصية عن وجودها؛ كيف
يتحدث التاريخ باسمهم أو عنهم؟ يهتم كاري في هذه الرواية، مثلما
اهتم في روايته السابقة «جاك ماجز»، بتقديم صوت لمن فقدوا أصواتهم؛
إن قصص كاري، كما يلاحظ بروس وودكوك «مأهولة بشخصيات مهجنة تعيش
بين الفراغات أو على الحواف» (٢٠٠٣م، ١)، مضيفًا «أنها تعيد رواية
قصص المهمشين والغرباء والخارجين على القانون … بأصوات يعاد
ابتكارها» (١٣٨). وقد وصف وودكوك هذا بشكل جدير بالذكر بأنه أقل
إيحاء بتغيير مصدر الصوت مما يحدث في «عمل تمثيلي، حرفة» (٢٠٠٣م،
١٣٨). بانتحال قصة حياة كيلي، يسنُّ كاري معنى سيمنطيقًّا للانتحال
بإنجاز «حرفة» أو «سيطرة» لكنه ليس عملًا عدوانيًّا؛ إنه حريص على
إعطاء صوت لحيوات الفقراء الذين يراهم مهمشين في السجل التاريخي
وبه. ونموذجه في ذلك بدون شك المؤلف الأمريكي وليم فوكنر، الذي
يقدم أيضًا تصديرًا لهذه الرواية: «الماضي ليس ميتًا، وليس
ماضيًا».
من المهم أن نتمسك بأن كاري «يعيد ابتكار» التاريخ، بالإضافة إلى
استعادة أصوات يعتقد أن التاريخ الرسمي قمعها. لا يربط تعبير
«تاريخ حقيقي» مشروعه بممارسة البحث والتفسير التاريخيين فقط بل
يربطه أيضًا بفن القصة. في القرن السابع عشر، أعلن كثير من
الروايات النثرية القصيرة والقصص الغرامية أنها «تواريخ حقيقية»
بهذه الطريقة، وارتبطت في الوقت ذاته إلى حد بعيد بأعراف الكتابة
الرومانسية مثلما ارتبطتْ بحدث تاريخي حقيقي أو شخصية بارزة (انظر
وودكوك، ٢٠٠٣م، ١٤٢). «أرونوكو، أو العبد الملكي
Oroonoko, or the Royal Slave»
(١٦٨٨م) و«السيدة السعيدة سيئة الحظ: تاريخ حقيقي
The Unfortunate Happy Lady: A True
History» (١٦٩٨م) لأفرا بيهن مثالان للتبسيط.
تلعب بيهن على الارتباط الاشتقاقي بين كلمة «تاريخ» والمصطلح
الفرنسي histoire الذي يدل على
«القصة» أو الحكاية، بطريقة تصور سلفًا وتحصل سلفًا على الكثير من
المواجهات المازحة لما بعد الحداثة مع التاريخ.
بابتكار رواية مكتوبة في شكل رسائل يستدعي كاري في الوقت ذاته
أسلوب الحقيقة وأسلوب القصة. يأتي استلهام الرواية من مشاهدة وثيقة
أصلية من هذا النوع من تأليف كيلي، تستدعي بدورها الجنس الأدبي
الموازي، السيرة الشخصية؛ وهناك أيضًا نماذج أخرى أساسية هي بوضوح
تلك الأشكال القصصية من روايات الرسائل والتَّشرُّد في القرن
الثامن عشر. لا يُلغى التاريخ بعمليات الانتحال والإعداد لكن
استقراره يصبح موضع شك. كما تلاحظ ليندا هتشيون: «لا تنكر بعد
الحداثة [التاريخ] … تتساءل فقط كيف يمكن أن نعرف حقيقة أحداث
الماضي اليوم، إلا من خلال آثاره ونصوصه، والحقائق التي نشيدها
ونمنحها معنى …» (١٩٨٨م، ٢٢٥).
٩ يبدو أن كاري يدرك بدقة أن هذه «الآثار» والطُّرق
المُعقَّدة والمثيرة للشك ينبغي علينا أن نتناولها في تفسير
روايته.
يبدو أن على كاري، من خلال حيلة بارزة لسرد الأحداث بضمير الغائب
بعد إعدام كيلي والإفصاح عن تفاعل الرجل الواثق بمخطوطات كيلي، أن
يلمح إلى أحد حوافزه حين ينتحل التاريخ في هذه الرواية. يسأل كرنو
Curnow بحسد: «ماذا عنا نحن
الأستراليين، إيه؟ … ما العيب فينا؟ أليس عندنا جيفرسون؟ ديزريلي؟
ربما لا يكون عندنا أفضل من لص جياد، وقاتِل نبدي إعجابنا به؟ ألا
بد أن نقدِّم دائمًا هذه الصورة المربكة عن أنفسنا؟» (٢٠٠٠م، ٤١٩).
١٠ تنبثق الشهرة الأيقونية التي يحظى بها كيلي في
أستراليا، في جزء كبير منها، من طريقة موته وأسلوبه، ويبدو أنها
تؤكد ادعاء جان بودريه بأن التاريخ تَحوَّل إلى أسطورة في العصر
الحديث وأن هذا الموت المبكر ينتج بعدًا أسطوريًّا خاصًّا. يستشهد
بودريه بأمثلة خاصة عن مارلين مونرو وجيمس دين وجون كيندي (١٩٨١م،
٢٤)، معلنًا أن: «التاريخ مرجعيتنا الضائعة، أي إنه أسطورتنا» (٤٣).
١١ يتساءل كاري بالتأكيد عن عملية التحول إلى أسطورة إلا
أنه ليس في جانب كرنو في الرواية. بالطريقة نفسها وجدت مراجعة ما
بعد الكولونيالية في «التوقعات الكبرى» تعاطفًا مع جالية المدانين
في ويلز الجنوبية الجديدة حتى إنه يبحث هنا عن حافز وسبب لحياة
كيلي وأفعاله وفَهْم القارئ.
بالضبط كما يعتمد انتحال رواية تراثية على معرفة القارئ بالنص
السابق من أجل تقدير تام لتساؤلات إنجازه التنقيحي، إذا جاز
التعبير، وإمكانية نقده، يعتمد انتحال حياة كيلي في «تاريخ حقيقي
لعصابة كيلي» على إدراك القارئ، ولو بالخطوط العريضة، لحياته
والأسطورة التي تحيط بها. يستخدم كاري حياة كيلي لخلق إحساس
بالقدَر في الرواية مماثل لإدراك مسار الحبكة في مسرحية أو رواية
تراثية؛ بمعنى أننا نعرف كقراء وكيلي يكتب تاريخه الشخصي كيف
ينتهي. يؤكد كاري هذا حتى بالنسبة لمن لم يبدأ باستهلال الرواية
بإطلاق النار الذي يؤدي إلى القبض على كيلي وإعدامه في النهاية.
الدَّالُّ الأيقوني لهذا المصنوع يدويًّا، وشخصيته المفترضة، شخصية
«مونيتور
Monitor» (الاسم مشتق من
الجوانا، أو سحلية المراقب، من كائنات الغابات الممطرة في
أستراليا)، يحدد موضع القارئ مباشرة فيما يتعلق بالسجل التاريخي.
١٢ تتشكل حياة نيد، مثلما تتشكل حياة أنطوانيت عند جان
رايس، بإدراكنا لنهايتها؛ كما يلاحظ وودكوك: «يعاند نيد إحساسٌ
بالجبرية والقدر. على عكس جاك ماجز، يبدو نيد كيلي عند كاري
مُحاصَرًا بتاريخ مخطوط كتبه لنفسه، برغم أمله في أن يتمكن
مستقبلًا من قراءة قصته مع ابنته في أمريكا، إلا أنه يدرك أيضًا
نهايته الوشيكة …» (٢٠٠٣م، ١٥٠).
رواية أخرى تنتحل حياة تاريخية وميثولوجيا، وتبدأ بالنهاية
المأساوية لبطلها، رواية جويس كارول أوتيس «شقراء
Blonde»، «سيرتها الشخصية
المتخيلة» (العبارة لهيلري مانتل، عن طبعة الغلاف العادي للرواية)
لمعبودة السينما نورما جين بيكر، المشهورة بالاسم السينمائي مارلين مونرو.
١٣ يشير بودريه في «التصوير والتزييف» (١٩٨١م) إلى حياة
مونرو (وموتها)، كما ذَكرْنا من قبل، كوضع أسطوري، وتعتمد أوتيس
بوضوح على إدراك قارئها لوضع مونرو كمعبودة للجماهير في فَهْم
روايتها. تؤكد أوتيس في تصدير الرواية أن «شقراء» «حياة» مقطَّرة
بشكل راديكالي في شكل قصة، و… المَجاز المُرسَل هو أساس الانتحال»
(٢٠٠٠م،
ix). وبدا أن غلاف الطبعة
الأولى من الرواية بالغلاف العادي في المملكة المتحدة يُؤكِّد على
غاية أوتيس: صور جزءًا من صورة فوتوغرافية أيقونية لمونرو، صورة
توصف بالفعل في الرواية، ما زالت تعتبر لقطة دعائية لفيلم «محطة
أتوبيس
Bus Stop». الفصل الذي
نقصده بعنوان: «ربة الحب الأمريكية على حاجز نفق، مدينة نيويورك
١٩٥٤م»:
فتاة بَضَّة الجسد في بداية جمالها الجسدي. في ثوب صيفي
كريب من الحرير العاجي بصديرة ترفع ثدييها في ثنايا
مُتموِّجة من القماش. تقف منفردة بساقين عاريتين على حاجز
نفق في نيويورك. شعرها الأشقر مُلقًى للخلف بانتشاء، وتيار
هوائي يرفع جيبتها التي تخفق تمامًا.
(أوتيس ٢٠٠٠م، ٦٠١)
إلا أن ما يقدم لنا كمستهلكين للرواية مُجرَّد لمحة من الشَّعْر
الأشقر البلاتيني لمونرو من تلك الصورة الفوتوغرافية. «شقراء»
العنوان كافية لتدل ضمنًا على مارلين، بسخرية إضافية، بالطبع، من
أن شقرتها ذاتها كانت عملية تزييف وتصميم ذاتي في سياق إبداع
هوليوود لصورتها. تمسك أوتيس هنا بنقطة حاسمة فيما يتعلق
بالانتحال: المَجاز المرسل هو أساس الشكل الذي نتناوله، ويرتكز على
الدَّوال البسيطة ليحكي قصصًا أكبر: حفنة من شقرة البيروكسيد
peroxide كافية لتوحي بأسطورة
مارلين مونرو ونجوميتها، والمآسي المصاحبة في حياتها الشخصية،
بالطريقة نفسها التي يستحضر بها بيتر كاري درع نيد كيلي، درع
«المراقب» المصنوع منزليًّا ميثولوجيا مشابهة. في رواية جان رايس
«بحر سرجاسو الواسع» يكفي بيت إنجليزي فخم وشمعة للإيحاء بالنار في
قاعة ثورنفيلد في «جين إير». وفي «شقراء» ترتكز التسميات الواعية
التي تضعها أوتيس على معرفة القارئ «بحقائق» سيرة مونرو؛ يتم تقديم
عدة ممثلين لم تُحدَّد أسماؤهم إلا أنهم معروفون في حياتها:
«الرياضي السابق» هو جوي دي ماجيو؛ «الرئيس» المستبد جنسيًّا هو
جون ف. كيندي (برغم وجود أشكال موضعية مهمة من التوازي مع علاقة
كلينتون بمونيكا ليفينسكي
Lewinsky
عند نشر رواية أوتيس)؛ «أوه
O» هو
لورانس أوليفير؛ «الكاتب المسرحي» هو أرثر ميلر.
١٤ قارئ ما بعد الحداثة متيقظ لهذه الدَّوال، وللتفاعل
السيمنطيقي بين المصدر الذي تستحضره وإعادة الكتابة التي تحيط بهذه
العمليات الإحيائية المتشظية لحياة حقيقية سابقة للأحداث التي
توصف.
تبدأ «شقراء» أوتيس، مثل رواية كاري «تاريخ حقيقي لعصابة كيلي»،
من النهاية، مع موت مونرو، الذي راجت حوله نظريات المؤامرة. مرة
أخرى تكون المعرفة السابقة للقارئ وتوقعه عنصرين حاسمين في فهم
ديناميكية السرد. إننا شركاء في عملية الانتحال، نقرأ باستمرار ما
بين السطور. وتحقق رواية أخرى لجويس كارول أوتيس، «المياه السوداء
Black Waters» (١٩٩٣م)،
تأثيرًا موازيًا وتنتحل حدثًا تاريخيًّا حقيقيًّا. الهيبو-نص
الحقيقي للنص هو ما يعرف بمأساة شباكوديك، حبكة قصصية أخرى عن عضو
آخر من عائلة كيندي، السيناتور إدوارد كيندي.
١٥ في الحدث الحقيقي، سنة ١٩٦٩م، غرقت ماري جو كوبشن في
سيارة كان يقودها كيندي. وتبين فيما بعد أنه مذنب بمغادرة مسرح
الحادثة، برغم أن الكثير من الأسئلة تبقى مثارة بشأن الطريقة التي
ماتت بها كوبشن بالضبط. ما يبقى واضحًا أن آمال كيندي في ضمان
ترشيح الحزب له للرئاسة، وقد بدت مرتفعة حتى هذه الحادثة، غرقت هي
الأخرى في مياه مستنقعات كيب كود في تلك الليلة من شهر يوليو.
١٦ في رواية أوتيس تُنقَل الأحداث إلى مين في تسعينيات
القرن العشرين.
١٧ هذا الوضع التاريخي يستدل عليه بوضوح بمناقشة الحملة
الرئاسية الفاشلة لمايكل دوكاكيس ضد جورج بوش الأب في ١٩٨٨م.
١٨ إلا أن وصف القصة «للسيناتور» الجائع للسلطة والجنس،
وغرق كيلي كيليهر
Kelleher،
والتغطية الناتجة لحماية آماله الرئاسية تدعو بشكل لا لبس فيه إلى
التفكير في أحداث شباكوديك. تعتمد أوتيس، مثل ميلر في مسرحية
«البوتقة»، على معرفة القارئ المتيقظ بقصة نظائر من «الواقع». غطاء
طبعة الغلاف العادي من الكتاب يؤكد على هذه الغاية مع إشارته إلى
«قصة مذهلة صارت أسطورة أمريكية»، حتى بدون ذكر شباكوديك بشكل
خاص.
يُبنى سرد «المياه السوداء» ببراعة في شكل مونولوج داخلي، يدور
في رأس كيلي في الدقائق، أو الساعات، التي تغرق فيها. تتناقض
الرواية بتعمد فيما يتعلق بالزمن؛ نعرف أن كيلي وجدت جيبًا
هوائيًّا في السيارة المغمورة، لكن تبقى هناك احتمالية أنها ترى
فلاش حياتها أمام عينيها في الثواني التي تسبق موتها. الأقسام التي
تحدث باندفاع الكلمات بدون علامات ترقيم أو بعلامات ترقيم ضئيلة
تؤكد هذا الاحتمال المفزع. اللوازم اللفظية أيضًا تؤكد ذلك،
بالنسبة لكل تنقيح مشروع أوتيس، لا مفر من النهاية: «بالضبط قبل أن
تنحرف السيارة عن الطريق»؛ «والمياه السوداء تملأ رئتيها
وتموت».
يمكن مقارنة مشروع أوتيس برواية كاري «تاريخ حقيقي لعصابة كيلي»
من حيث إن أوتيس تنتحل قصة حادثة شباكوديك، محولة التاريخ إلى قصة،
في محاولة لرد صوت ماري جو كوبشن الصامتة. ثمة جهد واعٍ لتذكُّر
تاريخٍ مفقود أيضًا، لرؤية حياة كوبشن بقيمتها الخاصة وليس فقط
مجرد ملحق لأسطورة عائلة كيندي. في السرد، تفكر كيلي حتى في حقيقة
ألا يشك المرء أبدًا في قدرته على حكي قصته الخاصة. بهذه الطريقة
تجعل أوتيس الرواية تتكلم باسمها بطريقة لا يمكن أن يقوم بها
التسجيل التاريخي. التاريخ، كما رأينا في مواقف لا تحصى في هذه
الدراسة، هو في الحقيقة تاريخ النصية
textualities، قصص يحكيها رواة
معينون طبقًا لأيديولوجيات وسياقات معينة (انظر، على سبيل المثال،
وايت White، ١٩٨٧م). بهذا المعنى،
يبرهن التاريخ على أنه مادة خام ومتناص تنتحله الحكاية، القصة
histoire.