الفصل التاسع
انتحال الفنون والعلوم
وَجَد الأدب إلهامًا لا نهاية له في أعمال تراثية في الفن
بالإضافة إلى الأدب. تبتكر «فتاة بحلق لؤلؤ
Girl
with a Pearl Earring» لتراسي شيفالير (١٩٩٩م)
تاريخًا للمرأة المبهمة المصورة في اللوحة الرائعة التي رسمها
جوهانز فيرمير بالاسم نفسه، وانتهَت المؤلِّفة نفسها مؤخَّرًا من
تمرين مماثل في القصة مع أنسجة مطرزة شهيرة من العصور الوسطى في
المتحف القومي للعصور الوسطى (متحف كلوني) في روايتها «السيدة
ووحيد القرن
The Lady and the
Unicorn» (٢٠٠٣م).
١ يستخدم جوليان برنز دافعًا إلهاميًّا في «تاريخ للعالم
في عشرة فصول ونصف
A History of the World in 10
1/2 Chapters» (١٩٨٩م)، «رمث ميدوزا
The Raft of Medusa» لجريكو
(بالإضافة إلى قصة سفينة نوح في التوراة).
٢ في «المفتاح المظلم» (٢٠٠١م، وقد تناولناها في الفصل
السابع)، يطمر جيمس ويلسون عدة تلميحات للوحات ترنر
Turner في ثنايا الرواية. وهذا
امتداد لدافع قراءة ما بين السطور أو ملء الفجوات، وهو ما رأيناها
عمليًّا في كثير من الأدب الذي ينتحل كتابة تراثية. يرتكز المؤلِّف
في كل حالة على معرفة القارئ سلفًا بالعمل الفني الذي يتم التلميح
إليه وينتحل لأغراض السرد.
تُحقِّق «متهور
Headlong» لمايكل
فراين شيئًا مماثلًا، إن لم يكن أكثر انغماسًا، مع عرضها مع اللوحة
الرائعة لبيتر برويل «سقوط إيكاروس
Fall of
Icarus»، حيث ينحى فيها موت إيكاروس عن المركز
ويهمش إلى زاوية الإطار.
٣ باتحاد معرفة الباحث ببرويل مع أعراف رواية اللغز أو
القصة البوليسية، لدى فراين (خطأً) بطل يبيع لوحات اعتقد بأنه
اكتشف لوحة ضائعة ستجعله ثريًّا. في الطريق، يجد فراين متعة هائلة
في موازاة زهو راويه المتغطرس بمصير إيكاروس. وهذا، بالطبع، بعيد
تمامًا عمَّا حدث في المرة الأولى التي لاقت فيها لوحة برويل
اهتمامًا أدبيًّا: قصيدة أودن «ربة الفنون الجميلة
Musée des Beaux Arts» قابضًا
ببراعة على تهميش اللوحة لأسطورة الطموح المتغطرس في وصفها لتصوير
العمل للأحداث اليومية التي تجري على الأرض مؤدية إلى هلاك إيكاروس
في البحر بطيش.
٤
يمتد الانتحال بوضوح أبعد بكثير من إعداد نصوص أخرى في إبداعات
أدبية جديدة، متمثلة حيواتٍ وأحداثًا تاريخية، كما رأينا في الفصل
السابق، وأشكالًا فنية مصاحبة، كما ذكرنا من قبل، في العملية. يصبح
الرسم والنحت والتصوير والسينما والتأليف الموسيقي، تصبح جميعًا
جزءًا من كنز ثمين من «النصوص» المتاحة للمُعِدِّ. لا جديد في هذا؛
إنها عملية مستمرة لقرون وتجلَّت عَبْر الكثير من الثقافات. إلا
أنها اكتسبت إيقاعًا خاصًّا ودلالة خاصة في أعقاب نظرية ما بعد
الحداثة في أواخر القرن العشرين، وهي نظرية جعلتْنا ندرك باستمرار
عمليات التدخل والتفسير المتضمنة في أي علاقة أو انشغال بالأشكال
الفنية الموجودة.
عانت ما بعد الحداثة من مشاكل بشأن استبدال النسخ أو الأعمال
المقلِّدة الدقيقة «بالواقعي». تكتسب هذه الأعمال المقلِّدة،
بقدرتنا الماهرة دائمًا على إنتاج المواضيع والأشكال أو استنساخها
في عصر الإنتاج الشامل والنسخ، خاصية «فوق واقعية».
٥ يقدم جان بودريه أحد أكثر التأملات رحابة في هذا
الموضوع في تصويره للتزييف والتقليد في العصر الحديث (١٩٨١م)، لكن
ربما يبقى التصوير المبشر مقالًا بالِغ الأهمية كتبه ولتر بنيامين
بعنوان «العمل الفني في عصر التوالد التكنولوجي» (بنيامين، ٢٠٠٣م،
b [١٩٣٥م]، ٤، ٢٥٢).
٦ أوحى هذا المقال، وقد اشتهر من قبل بعنوان «العمل
الفني في عصر التوالد الميكانيكي»، بضياع «الهالة» في العصر
الحديث، عصر النسخ والاستنساخ. ولم يعتبر بنيامين النتيجة سلبية
بالضرورة، واقترح، في تعبير يرتبط بكلامنا عن عملية الإعداد، أن
تفكيك «الهالة»، الملازم للإعداد، حرر النصوص في حيواتها التالية
من القوة الخانقة التي تخنق الأصل (إيجلتون
Eagleton، ١٩٩٤م، ٤٠؛ فيريس
Ferris، ٢٠٠٤م، ٤٧). إن تصميمه
المثمر على العلاقة الثنائية بين الأصالة والتكرار، وهي العلاقة
التي أزعجت ت. س. إليوت وهارولد بلوم والمنظرين القانونيين أيضًا
(انظر جينز
Gaines، ١٩٩١م، ٦٤) مهم
للمناقشات السابقة والتالية في هذا المجلد.
ربما نحتاج ونحن نعود، في ضوء نظرية بنيامين، إلى مفهوم إليوت عن
التقاليد والموهبة الفردية، إلى القيام بانعطافة هائلة بعيدًا عن
فكرة أصالة التأليف باتجاه فهم يتسم بقدر أكبر من المشاركة
والاجتماعية في إنتاج الفن وإنتاج المعنى. يوحي ريتشارد باورز
بالقدر نفسه في استجابته للتكنولوجيا الجديدة في أعقاب نظريات
بنيامين في روايته «ثلاثة فلاحين في الطريق إلى حفلة راقصة
Three Farmers in Their Way to a
Dance». مشرِّحًا التصوير الفوتوغرافي وقدرة
السينما على التمكين من تقديم شكل جماعي ديموقراطي للتاريخ،
بملاءمة كُتَل القوى لاختيار اللحظة وتسجيلها، يلاحظ:
تكنولوجيا جديدة علينا بالفعل، تمد هذه القدرة إلى ما
وراء التصوير الفوتوغرافي الساكن. كل بيت على وشك أن
يتحوَّل إلى مكتب تحرير، مع كتب وصحف وأفلام وشرائط
تُقدِّم لمُشاهِد العصر الجديد أكثر بقليل من وقفات فظة
تُحشَد وتُوسَّع في القصص المطلوبة. سوف يجعل النسخ إبداع
الأعمال وتقديرها تفاعليًّا حقًّا.
(باورز ٢٠٠١م، [١٩٨٥م]، ٢٦٠)
تنبثق الخاصية التفاعلية للفن المُنتحل بقوة هائلة من الدراسات
التي نتناولها هنا؛ وتسعى بدورها للارتياب في أي تصوير لطيف للمعنى
يُفرَّغ من فن ما بعد الحداثة وأدبها بنقاء بفضل خصائصها المقلِّدة
أو التكرارية.
كثيرًا ما كان النتاج الفني لأندي ورهول بمثابة المَحك الحاسم في
مُناظَرات حول إفراغ المعنى في فن ما بعد الحداثة، الفن الاشتقاقي.
٧ إن صوره «المتعددة» المكررة المطبوعة باستخدام الشاشة
الحرير
screen-printed لأيقونات
القرن العشرين تتراوح من إلفيس بريسلي إلى ماو تسي تونج إلى مارلين
مونرو، دراسة حالة مهمة.
٨ ما يحققه عنصر النسخ والإعداد في الأعمال الفنية
لورهول هو تأكيد أيقونية هذه الصور («العلامات
brands»)، ومن ثم قابليتها
للنسخ في عصر النسخ الميكانيكي، لكن ذلك لا يعني أن أعماله ببساطة
مفرَّغة من المعنى عمليًّا. إنها تعليقه «المتعدد» على القوة وسحر
الشهرة والسمعة في العصر الحديث. إنها، بالتوسع، تعرض صورة مونرو
لنوع من الانتحال المجازي الذي استكشفته بالتفصيل جويس كارول أوتيس
في روايتها «شقراء»، وهو ما ناقشناه في الفصل السابق.
٩
صورة مونرو حالة مهمة؛ حيث إنها تنعش القضايا المصاحبة لحقوق
النَّشر والملكية التي قَدَّمت ستارة خلفية للكثير من المناقشات عن
الإعداد في هذا المجلد. فحصت المنظِّرة القانونية روزماري كومبز
Coombes المحاولات التي قامت
بها في المحاكم مطربة البوب مادونا للحصول على حق نشر صورتها. تأتي
الصعوبة مع الخاصية التلميحية أو المرجعية لصورة مادونا، التي
استدعت مسيرة مونرو في السينما ومظهرها في مناسبات كثيرة: في
الفيديو لتسجيل «الفتاة المادية» على سبيل المثال تقلد مادونا بوعي
أداء مونرو في أغنية «الماس أفضل صديق للبنت» في «السادة يفضلون
الشقراوات Gentlemen Prefer
Blondes» (١٩٥١م). إذا كانت مادونا تسجل
العلامة التجارية لمظهرها، ومن المعروف أنه مشتق من مظهر مونرو،
فما المغزى القانوني؟ تقاتل كومبز:
إذا كانت صورة مادونا تنتحل التشابه مع معبودة شاشة
سابقة، والرمزية الدينية، والبلاغة الأنثوية والخيال
السادي الماسوشي لتخاطب الطموحات والمخاوف الجنسية
المعاصرة فقد تنبثق قيمة الصورة إلى حد بعيد من الإرث
الثقافي الجمعي الذي ترسم عليه مثلما تنبثق من جهودها
الفردية. لكن إذا سلمنا لمادونا بحقوق ملكية قاطعة في
صورتها، فإننا في الوقت ذاته نصعِّب على الآخرين انتحال
الموارد ذاتها لغايات جديدة، ونجمد نجومية مادونا
نفسها.
(١٩٩٤م، ١٠٧-١٠٨)
من منظور قانون العقد، تجادل كومبز من أجل مرونة أكبر في
مقاربتنا للشكل الفني، مُفتَرِضة استراتيجية حيث يمكننا أن نبتعد
عن مهمة حقوق النشر الفردية الخاصة باتجاه قبول حقيقة أن الجزء
الأساسي في العملية الفنية إعداد وتفسير (أو إعادة تفسير). بدون
المرونة يصبح المدخل الفني للمجال العام معوَّقًا بالحاجة إلى
موافقة. تقدم جين جينز Gaines
برهانًا موازيًا عن «التشابه الأيقوني» في كتابها «الصور المتنازع
عليها Contested Images» (١٩٩١م،
xvi).
أثارت الفنانة سيندي شيرمان مُناظَرات مُماثِلة عن الأصالة
والمصداقية في تجديداتها الفوتوغرافية للوحات أيقونية من عصر
النهضة (كروز وآخرون
Cruz el al.، ١٩٩٧م).
١٠ هناك ولاء وخيانة في وقت واحد يؤثران في صورتها
الفوتوغرافية لنفسها في وضع شخصية من شخصيات كارافاجيو (انظر، على
سبيل المثال، تجديدها للوحة «ولد لدغته سحلية»).
١١ لقد حوَّلت الجنس الفني، من الفن الرفيع إلى التصوير
الفوتوغرافي، بصرف النظر عن المستوى الذي يمكن نسخ هذا به مباشرة؛
وأثارت قضايا النوع والتصوير باستبدال نموذج الولد عند كارافاجيو
بنفسها. العمل «عملها» بقدر ما يثير الأسئلة والتطبيقات التي تعتمد
تمامًا على تَدخُّلها في العمل الفني الأصلي الذي تشير إليه الصورة
الفوتوغرافية، وسوف توضع عليها طبقات من المعاني الإضافية بنظرة
الملاحظ للصورة في ظروف وسياقات ثقافية جديدة. تحدث بمعنى ما عودة
تاريخية هنا، عودة إلى حرية التقليد والاستعارة والتمثل والارتجال،
وهو ما يُشاهَد في أعمال شكسبير ومعاصريه في أوائل العصر الحديث،
والنَّأْي عن التعريفات القانونية للسرقة الأدبية وانتهاك حقوق
النشر التي تسود في العصر الحديث. إنه رأي مثير للخلاف والنزاع
لكنه ينعش أفكارًا أساسية بشأن حرية الإبداع التي نتأملها
جيدًا.
اقترح ميشيل فوكو، مناقشًا وظيفة المؤلِّف، أن القيمة التي تنسب
«للتأليف» في عملية الإبداع مالت إلى النهاية بإنكار التَّناص
(١٩٧٩م، ٢٠). ما يُبحَث عنه في أي جدال فني ضد «الحقوق الفردية» في
صورة معينة أو نثر، أو ملكيتها، فَهْمٌ أو تعريف تعاوني واجتماعي
بشكل أكبر للإنتاج وإعادة الإنتاج: «يتجاوز المفهوم الحقيقي
للتأليف المديونية النوعية والتقليدية التي تميز الأعمال باعتبارها
منتجًا لا يقدمه أفراد بقدر ما تقدمه مجتمعات» (جينز، ١٩٩١م، ٧٧).
وهذا الإنتاج التعاوني للمعنى الثقافي، ناهيك عنه في ممارسة
التاريخ، هو ما يطرحه ريتشارد باورز في «ثلاثة فلاحين في طريقهم
إلى حفلة راقصة». لا تستهل هذه الرواية بعمل فني واحد بل بعملين
موحيين: جداريات هنري فورد المهمة في دترويت لديجو ريفيرا، إجلالًا
لها وتصويرًا مروعًا، كما يفهمه باورز، لعصر الآلة، وصورة
فوتوغرافية مثيرة ومبهمة تصور ثلاثة فلاحين شباب إلى حفل راقص في
قرية وقد التقطها أوجست ساندر في ١٩١٤م، وأوروبا تقف في وضع
استعداد على شفا الصدمة الجماعية المروعة للحرب العظمى.
١٢ رواية باورز وراويه حريصان على تَخيُّل تاريخ لهؤلاء
الرجال الثلاثة الذين لا تُذْكَر أسماؤهم وربما جُنِّدوا في الجيش
البروسي خلال شهور من التقاط الصورة لهم. في حركة إبداعية مُماثِلة
لأولئك المؤلِّفِين الذين تطلعنا إليهم، الذين سَعَوا إلى استعادة
أصوات مفقودة في الأدب والتاريخ، يكتب باورز قصة في الفجوات
التاريخية والثغرات التي تُقدِّمها حقائق قليلة معروفة عن هذه
الصورة. تأمل الراوي، بمزيد من التضافر في قصته، قصة المستقبِل،
وبالامتداد في قصة المؤرِّخ، وقصة كاتب السيرة، دور الدخيل في
قراءة المعنى في هذه الصورة مع حبكة ثالثة عن عامل أمريكي في مجال
تكنولوجيا المعلومات يجد ارتباطًا شخصيًّا بهذه الصورة، يقدم باورز
حالة قوية للإنتاج التعاوني للتأثير الفني والمعرفة التاريخية،
نتيجة، كما يعبر: «استحالة معرفة أين تنتهي المعرفة ويبدأ التورط»
(٢٠٠١م، [١٩٨٥م]، ٢٠٦). مفكرًا في أن «الوصف والتغيير من أجزاء
العملية ذاتها ولا يمكن الفصل بينهما …» (٢٠٦)، يؤكد باورز أنه «لا
يوجد تفسير بدون مشاركة …» (٢٠٧). وهذا التصور الحاسم للمشاركة،
الثقافية والاجتماعية والجمالية، ما أود اقتراحه، وآمل أن أكون قد
حددته في الأمثلة التي استشهدْتُ بها في هذا الكتاب، هو أن الإعداد
والانتحال يمثلان ويؤديان كعمليات فنية وجمالية.
قد يكون من الخطير، بالطبع، أن أضمِّن أن خط التأثير يسير في
اتجاه واحد تمامًا: للرسم والتصوير الفوتوغرافي علاقة تَناص
تلميحية مع الأدب أيضًا. جددت لوحات ما قبل الروفائيليين في القرن
التاسع عشر بلا نهاية مشاهد وصورًا من دراما شكسبير، مجسدة غالبًا
بصريًّا أحداثًا تحدث فقط بعيدًا عن أنظار المشاهدين في المسرحيات
نفسها، مثل غرق أوفيليا المُزيَّن بالزهور كما وصفه جيرترود في
«هاملت» (الفصل الرابع، المشهد السابع، ١٣٨–١٥٥)، وصورها بشكل رائع
جون إفريت ميلايس.
١٣ يتأثر تناول أنجيلا كارتر لموت أوفيليا في عدد من
رواياتها وقصصها القصيرة، كما قيل، باللوحة المثيرة التي رسمها
ميلايس بقدر تأثره بالوصف الشعري الذي قدمه شكسبير (ساج
Sage، ١٩٩٤م، ٣٣). سجل جوناثان
بيت أيضًا «الملاحظة» الواعية التي قدمها لورانس أوليفير عن هذه
الصورة في السياق السينمائي حين قدَّم المسرحية للسينما في ١٩٤٨م
(بيت، ١٩٩٧م، ٢٢٦).
١٤ أثَّر فن ما قبل الرفائيليين بدوره في اللوحات
الفوتوغرافية البارزة لجوليا مارجريت كاميرون، التي أثَّرَت
أعمالها على الغزوات في قصص فرجينيا وولف، وخاصة روايتها «بين
الفصول
Between the Acts» (١٩٤١م)
التي تُصوِّر مجموعة من الممثلين ينتجون لوحات تاريخية على مسرح ريفي.
١٥ ومع تنامي ارتباطات وروابط من هذا النوع في جدالنا
ربما نحتاج إلى قليل من التفكير فيما يتعلق بخطوط التأثير وإلى
كثير من التفكير فيما يتعلق بشبكات التلميح والتأثير
«المتبادَل».
وجدت الموسيقى أيضًا نقطة مرجعية مهمة في الأدب التراثي. تطلعت
الأوبرا والباليه والأعمال الموسيقية، كما ذكرنا في الفصل الأول،
إلى تراث شكسبير وإلى حكايات الجِنِّيَّات والميثولوجيا، ضمن مصادر
أخرى عديدة، للبحث عن حبكات ومادة خام لمنتجاتها الإبداعية الخاصة.
كان لعلم الموسيقى اهتمام استمر وقتًا طويلًا في مُمارَسة الإعداد
والانتحال، والكثير من المصطلحات التي عرضناها ونحن نناقش الإعداد
الأدبي تظهر من جديد في هذا السياق: نسخة، تفسير، نسخ، تقليد،
تنوع. لكن هناك بعض الاختلافات الدقيقة في السيمنطيقا تستحق
الذِّكْر. في السياق الموسيقي، تتضمن الكلمات التي ربما تُؤخَذ في
وسط حرْفي صارم على أنها توحي بنسخ مباشر بدون تعديل يحدث تحولًا
في التسجيل، تتضمن بدلًا من ذلك نوعًا من عمليات التفسير، وفي
الوقت ذاته يرى ريتشارد باورز أنها صيغة حقيقية من استجابة القارئ
أو المشاهد للفن. في علم الموسيقى، على سبيل المثال، لا يشير النسخ
إلى استنساخ بسيط للحن سابق أو نمط من الأنغام، لكنه يشير إلى عزف
في ثُمانيات أو أكثر فوق
above
نغمة سابقة أو تحتها
below؛
«النسخة» الموسيقية «تنويعة» واضحة على شكل موجود من قبل،
موسيقيًّا أو غير موسيقي؛ ولا يعني «التقليد» محاكاة بسيطة، نسْخًا
أو تزييفًا بدون تعديل أو إضافة أو توليدًا، كما يُفهم أحيانًا في
السياق الأدبي، لكنه يعني تكرار الجملة الموسيقية بطبقة نغمية مختلفة.
١٦ وقد جادلْتُ في موضع آخَر من هذا الكتاب بشأن
الاحتمالات التي ظهرت نتيجة استخدام مصطلحات علم الموسيقى في
مناقشة عملية الإعداد والانتحال، ومرة أخرى هذه التعريفات
النَّشِطة للعبارات التي صارت فاسدة في الدراسة الأدبية أو ساكنة
static بشكل واضح في تطبيقها
لتعريفات مفيدة إلى حد كبير.
انتعشَت الموسيقى في صفحات القصة بطريقة ثرية وجوهرية بالقدر
نفسه. استدعاء فورستر للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن في صميم روايته
«نهاية هوارد
Howard’s End» مثال
ينطبق على هذه الحالة.
١٧ أثرت الموسيقى حرْفيًّا في القصة في شكل الحفلة
الموسيقية التي يحضرها معًا الأخوات شليجل
Schlegel والكاتب الفقير
ليونارد بست
Bast، لكنها أيضًا
بمثابة استعارة مركزية وحركة جوهرية في نص فورستر. تُحذِّرُنا
هيلين شليجل مبكرًا كقراء ومُفسِّرين للسيمفونية من أن «تتطلعوا
إلى جزء حيث تعتقدون أنكم تخلصتم من العفاريت وهي تعود» (١٩٨٥م،
[١٩١٠م]، ٤٦) ويخلق فورستر فضاء محددًا «لوقع أقدام الجِنِّيَّات»
للتأليف الموسيقي في قصته.
تقدم «تنويعات البقة الذهبية The Gold Bug
Variations» لريتشارد باورز استخدامًا مماثلًا
لمتتالية «تنويعات جولدبرج Goldberg
Variations» لباخ، متتالية موسيقية وردَت في
موضع آخَر من هذا الكتاب كمثال لعملية إعداد في شكل فني. لا تنتحل
رواية باورز باخ وحده؛ يلعب عنوان روايته على الاسم الشائع لمقطوعة
باخ وعلى القصة القصيرة «البقة الذهبية» لإدجار آلان بو. في قلب
هذه القصة شفرة مفكوكة أو لغز محلول. ويرتبط هذا بالاهتمامات
العلمية لباورز في روايته التي تتطلع للعِرْق لفك الشفرة الوراثية
للدنا DNA في فترة مبكرة من القرن
العشرين. من ثم تعتبر روايته التنوع موضوعها الرئيسي. على السطح
تضافر قصتين من قصص الحب، تقلد البينة السردية بشكل متعمد الأنماط
المتشابكة للبنية الحلزونية المزدوجة للدنا. تتضافر كتابة باورز
دائمًا وترتبط بالنماذج العلمية والفنية. الفك الحقيقي لشفرة الدنا
على يد فرنسيس كريك وجيمس واطسون، ونشره في مقال، يوصف بجمال شعري
هائل في «تنويعات البقة الذهبية»: «تكسر القطعة قلبها بحرقة. إنها
قصة جميلة، قصة الحج في أواخر القرن العشرين، يضغط التفسير للخارج
…» (باورز، ١٩٩١م، ٤٨١).
نظرية الدنا كلها عن التوافق والتناغم، لكن ربما يكون الأكثر
أهمية أن باورز يجد توافقًا بين أنماط التنوع في مؤلَّفات جولدبرج
لباخ وأنماط الإعداد الوراثي، وهي في أوجه كثيرة قصة يرويها
الحلزون المزدوج. تناولنا في الفصل السابع نموذج داروين للإعداد
البيئي كنظير مهم لممارسة الإعداد الأدبي، وفي الحلزون المزدَوَج
يجد باورز معادلًا علميًّا في القرن العشرين. وهو في هذا يجادل من
أجل فهم أوسع لمصطلح مثل «الترجمة»، وبالتوسع فهمنا للإعداد
والتجديد: «ليس الهدف مد المصدر بل توسيع الغاية، احتضان أكثر مما
كان ممكنًا من قبل … يصبح التنوع أكثر ثراء في لغة جديدة» (١٩٩١م،
٤٩١). في قصة باورز، يبرهن الفن، مثل العلم، نتيجة تناصه، على أنه
يهتم أقل بالأصداء أو التكرارات أو إعادة الصياغة، مهما تكن أساسية
في الممارسة، مما يهتم بتعريف الشفرات المشتركة والاحتمالات.
يمكِّن اكتشاف هذه الشفرات من عمليات إبداع (أو إحياء) بلا نهاية
في سياقات جديدة.
كان جزء من رحلة هذا الكتاب أو حجه لاكتشاف وسائل لمناقشة
الإعداد والانتحال وتفسيرهما كعمليات أدبية وفنية تتجاوز المناقشة
الساكنة أو الجامدة للمصدر أو التأثير الذي أعاق أحيانًا دراسة
نصوص تم إنتاجها في هذا المجال. الجماهير الحالية لفيلم أو موسيقى
شعبية خبراء بدرجة عالية في استدعاء عمليات التَّناص وتأثيراتها.
الاقتباس والتلميح والتهكم والمعارَضة كلها صيغ سائدة في البرامج
الثقافية الشائعة مثل «آل سِمْبسون والحديقة الجنوبية
The Simpsons and South Park».
مع القُرَّاء والمُشاهدِين الذين يتوقون بالفعل لفن البحث عن أطر
وسياقات مرجعية أوسع بالنسبة للمادة التي يتلقونها نحتاج بدورنا
إلى أن نُطوِّر معجمًا نظريًّا أكثر ديناميكية لوصف عمليات
الاستجابة هذه وتحريكها.
بحثًا عن نماذج ومصطلحات أنشط لدعم «المصطلح النقدي الجديد»
لدراسة هذه الأشكال، أثبت علم الموسيقى أنه فرع مفيد بصورة خاصة،
يقدم لنا قوالب ونماذج متنوعة وموحية بقدر تنوع الزخارف على
الأرضيات ونغمات موسيقى الجاز وخصائصها الارتجالية. العلوم، أيضًا،
وخاصة نظريات الإعداد التي شرحها ماندل وداروين، وأولئك الذين
عرضوا نظريات كريك وواطسون، قدمت نقطة مرجعية قوية بالقدر نفسه.
ومن ثم يبدو من المناسب أن نتحرك باتجاه استنتاجنا وهذه الأنماط
المُتكرِّرة، والإبداعية، الأنماط التي قدمها باخ والدنا تبزغ في
عقولنا.