في غاية الجمال
كان المنزل على بُعد ثلاثة أميالٍ من المحطة، لكن قُبَيل انطلاق العربة المستأجَرة التي كان يعلوها الغبار بخمس دقائق، بدأ الأطفال يُطلُّون برءوسهم من نافذتها قائلين: «ألم نوشِك على الوصول بعدُ؟» وكلما مرُّوا بأحد المنازل — وهو أمر لم يكن يتكرر كثيرًا — كانوا جميعًا يقولون: «مَرحى! أهذا هو المنزل؟» لكن في كل مرة لم يكن هو المنزل المقصود، حتى وصلوا إلى قمة التل، بعد اجتياز مَحجرٍ طباشيري مباشرةً وقبل الوصول إلى حُفرة الحصى؛ إذ كان ثَمَّةَ منزلٌ أبيض به حديقةٌ خضراء ويمتدُّ من خلفه بستانُ فاكهة، قالت الأم: «ها نحن قد وصلنا!»
قال روبرت: «ما أشدَّ بياض هذا المنزل!»
قالت أنثيا: «وانظروا إلى جمال الزهور!»
قالت جين: «وإلى ثمار البرقوق!»
قال سيريل موافقًا: «ما أجملها!»
قال الصغير: «أريد أن أمشي.» وتوقفَتِ العربة مع آخر صوتِ قعقعةٍ واهتزازٍ لها.
تعرَّض الجميع للركل وداس بعضهم أقدامَ بعضٍ في تدافُعهم للنزول من العربة، لكن لم يبدُ أن أحدًا يبالي، إلا أن الأم وعلى نحوٍ يدعو إلى الاستغراب لم تكن على عجلةٍ من أمرها، بل إنها حتى وهي تنزل بتمهُّلٍ وبخطواتٍ هادئةٍ دون أن تقفز، بدَت أنها تحبِّذ معاينة نقل الصناديق من العربة إلى المنزل، وأن تدفع أجرة السائق، بدلًا من الانضمام إلى المجموعة المستمتعة بالجمال المنطلقة لتجوبَ أرجاء الحديقة والبستان والبرِّية الوعْرة، الكثيرة الأشواك والنباتات الكثيفة غير المشذَّبة، الممتدة وراء البوابة المكسورة والنافورة الجافَّة التي بجانب المنزل، ولكن الأطفال كانوا أكثر حكمة، هذه المرة، ولم يكن المنزل جميلًا في الحقيقة، بل كان منزلًا عاديًّا جدًّا، وكانت الأم ترى أنه لن يكون مريحًا على الأرجح، وتضايقَت جدًّا لخلوِّه من رفوفٍ تُذكر، وخلوِّه من أي خزانة. لقد اعتاد الأب أن يقول إن الأعمال الحديدية على السطح والواجهة تُعدُّ بمثابة كابوس لأي مهندسٍ معماري يراها، لكن المنزل كان في عمق الريف، ولم يكن هناك أي منزلٍ آخر في الأفق، وكان الأطفال قد مكثوا في لندن زُهاء عامَين، دون أن يذهبوا إلى البحر على الإطلاق حتى وإنْ ليومٍ واحدٍ في نزهة بالقطار، وهكذا بدا لهم المنزل الأبيض كقصرٍ خرافيٍّ في جنةٍ دنيوية؛ وذلك لأن لندن أشبهُ ما تكون بسجن للأطفال، لا سيَّما لو كان أهلهم ليسوا أثرياء.
بالطبع هناك متاجر ومسارح، وعروض «ماسكِلين وكوك» السحرية، وأشياءُ أخرى، ولكن إن كنت تنحدر من أسرة فقيرة فلن يمكنك الذهاب إلى المسارح، ولن يمكنك شراء الاحتياجات من المتاجر؛ ولا يوجد في لندن أيٌّ من تلك الألعاب اللطيفة التي قد يلعب بها الأطفال دون الإضرار بها أو بأنفسهم، مثل الأشجار والرمال والغابات والمياه، وفي لندن يبدو كلُّ شيءٍ في هيئةٍ خاطئة؛ فكلُّ الخطوط مستقيمة وكل الشوارع مستوية، بدلًا من أن تكون متنوعة الأشكال والهيئات، كحال الأشياء الموجودة في الريف؛ فجميع الأشجار مختلفة الأطوال والأشكال، كما تعلمون، وأنا على ثقة من أن شخصًا مملًّا ربما قد أخبركم أن أنصال الأعشاب غير متماثلة تمامًا، بعكس الشوارع التي لا ينمو فيها العشب؛ حيث كل شيء فيها يشبه بعضه بعضًا؛ هذا هو السبب في أن الكثير من الأطفال الذين يعيشون في المدن أشقياءُ للغاية ولا أحد يعرف علتهم، ولا حتى آباؤهم ولا أمهاتهم يعرفون ذلك، ولا خالاتهم، ولا عماتهم، ولا أعمامهم، ولا مدرسوهم، ولا مربياتهم، ولا ممرضاتهم؛ لكنني أعرف، وها أنتم الآن صرتم تعرفون السبب، كما أن الأطفال في الريف مشاغبون أحيانًا أيضًا، لكن ذلك يرجع لأسبابٍ مختلفة تمامًا.
استكشف الأطفال الحدائق والمرافق الخارجية للمنزل جيدًا قبل أن يُنادى عليهم كي يدخلوا ويُنظِّفوا أنفسهم قبل تناوُل الشاي. لقد أصبحوا على يقين بأنهم سيكونون سعداء في المنزل الأبيض، وقد كان هذا ما يظنُّونه منذ اللحظة الأولى، ولكن عندما وجدوا الجزء الخلفي من المنزل مغطًّى بزهور الياسمين البيضاء، وتنبعث منه رائحةٌ تشبه رائحة أغلى زجاجة عطر على الإطلاق تُهدَى في عيد ميلاد؛ ورأَوا المَرْج البالغ الخضرة والنعومة، والذي يختلف تمامًا عن العشب البني الموجود في حدائق بلدة كامدن؛ ووجدوا الإسطبل ذا الدور العلوي والذي لا يزال فيه بعض القش القديم، صدَق ظنهم وباتوا على يقين من سعادتهم؛ وتلاشَت أي شكوكٍ لديهم في أنهم سيسعدون، وذلك عندما عثر روبرت على الأرجوحة المكسورة وسقط منها وأُصيبَ جراء ذلك بتورُّم في رأسه بحجم البيضة، وعندما عَلقَت إصبع سيريل في باب القفص الذي كان مُعدًّا على ما يبدو للاحتفاظ بالأرانب داخله، تورَّمت إصبعه.
أفضل جزءٍ في ذلك كله هو أنه لا تُوجد أيُّ قواعد تفرض عدم الذهاب إلى أماكن بعينها وعدم فعل أشياء بعينها؛ ففي لندن، كل شيء تقريبًا موسومٌ بوجوب عدم اللمس وحتى إن كان هذا غير مُعلَن، فهو بالدرجة نفسها من السوء؛ لأنكم تعرفون أن التحذير قائم، وإن لم تكونوا تعرفون، فسرعان ما سيخبرونكم.
كان المنزل الأبيض مطلًّا على حافةِ تل، ومن خلفه غابة، وعلى جانبيه المحجر الطباشيري من جهة وحفرة الحصى من جهةٍ أخرى، وفي أسفل التل كان هناك سهلٌ مستوٍ، فيه مبانٍ بيضاء ذات أشكالٍ غريبة اعتاد الناس أن يحرقوا فيها الجير، وبه مصنع جعةٍ أحمرُ كبير بالإضافة إلى منازلَ أخرى؛ وعندما كان الدخان يتصاعد من المداخن العالية وكانت الشمس تميل إلى الغروب، بدا الوادي وكأنه ممتلئٌ بالضباب الذهبي، وتلمع فيه الأحجار الكلسية وأفران الجير فيما يبدو لك وكأنه مدينةٌ ساحرة خرجت من قصص ألف ليلة وليلة.
والآن وقد فرغتُ من وصف المكان، أشعر أنه باستطاعتي المضي قدمًا في تأليف قصةٍ أكثر تشويقًا حول كل الأشياء المعتادة التي فعلها الأطفال — كتلك الأشياء المعتادة التي تفعلونها أنتم أنفسكم — ولن تجدوا بدًّا من تصديق كل كلمة منها؛ ولو قلتُ إن الأطفال مزعجون، كما تكونون في بعض الأحيان، ربما ستكتب عماتكم في هامش القصة بقلم رصاصٍ تصديقًا على كلامي: «ذلك يحدث بالفعل!» أو «ما أشبه هذا بالحقيقة!» وسترَوْن ذلك وسيصيبكم الانزعاج على الأرجح؛ لذلك سأكتفي فقط بأن أخبركم بالأشياء المذهلة التي حدثت بالفعل، وقد تتركون الكتاب بأمانٍ تمامًا؛ لأنه من غير المحتمل أن تكتب عماتكم أو أعمامكم: «ذلك يحدث بالفعل!» على هامش القصة؛ فالكبار يجدون صعوبةً بالغةً في تصديق الأشياء العجيبة بالفعل، ما لم يكن هناك ما يُسمُّونه دليلًا على حدوثها، لكن الأطفال سوف يُصدِّقون أي شيء تقريبًا، والكبار يعرفون هذا؛ لذا يخبرونكم أن الأرض مستديرة كالبرتقالة، بينما ترَوْن بأم أعينكم أنها مُسطَّحة ووعرة، ولذا يقولون لكم أيضًا إن الأرض تدور حول الشمس، بينما يمكنكم أن ترَوْا بأنفسكم في أي يوم أنها تشرق في الصباح وتخلد إلى النوم ليلًا كما ينبغي لها، بينما لا تبرح الأرض مكانها مثل فأرٍ ساكن في مكانه، لكنني أستطيع القول إنكم تُصدِّقون كل ما قلته حول الأرض والشمس، وإذا كنتم تصدِّقون ذلك فستجدون أنه من السهل عليكم أيضًا أن تصدِّقوا أنه قبل مضيِّ أسبوعٍ على قدوم أنثيا وسيريل والآخرين إلى القرية كانوا قد عثروا على عفريت. لقد أطلقوا عليه هذا الاسم لأنه عرَّف نفسه بذلك على الأقل؛ وبالطبع كان هو أعلم بنفسه، لكنه لم يكن مثل أي عفريت رأيتموه أو سمعتم به أو قرأتم عنه على الإطلاق.
لقد وجدوه في حُفْرة الحصى، كان قد توجَّب على الأب أن يسافر بعيدًا في رحلة عمل مفاجئة، كما ذهبَت الأم لرعاية الجدة، التي لم تكن على ما يُرام، ذهب الاثنان متعجِّلين، وعندما غادرا، بدا المنزل هادئًا وفارغًا، يتجوَّل فيه الأطفال من غرفةٍ إلى أخرى يتأمَّلون في أجزاء الورق والخيوط على الأرضيات التي خلَّفتْها الحقائب والعبوات، والتي لم تكن قد نُظِّفت بعد، وتمنَّوا لو أن لديهم شيئًا يُمكنهم القيام به، وكان سيريل هو من قال:
«أقول لكم، دعونا نأخذ المجاريف ونذهب لنحفر في حفرة الحصى، يمكننا أن نتظاهر بأننا على شاطئ البحر.»
قالت أنثيا: «قال لي أبي إنها كانت بحرًا ذات يوم، وإن هناك أصدافًا عمرها آلاف السنين.»
وهكذا ذهبوا، بالطبع كانوا قد سبق أن وصلوا إلى حافة حفرة الحصى ونظروا إليها، لكنهم لم يذهبوا إليها خشية أن ينهاهم الأب عن اللعب هناك، ونفس الأمر بالنسبة إلى المحجر الطباشيري، لم تكن حفرة الحصى خطرةً حقًّا إذا كنت لا تحاول النزول إليها من الحواف، بل عليك السير بحذرٍ وبطريقةٍ آمنةٍ على الطريق، كما لو كنت عربةً يجرها حصان.
حمل كلُّ واحد من الأطفال جاروفَه الصغير، وتناوبوا على حَمْل الحَمَل الصغير (أخيهم الأصغر) أطلقوا عليه لقب الحَمَل الصغير؛ لأن أول ما تلفَّظ به كان صوت الحَمَل «مَاء»، كما أطلقوا على أنثيا لقب «بانثر» (النَّمِرة) وهو ما يبدو سخيفًا عند قراءته، ولكن عند نطقه يصبح قريبًا من نطق اسمها الحقيقي.
كانت حفرة الحصى كبيرةً جدًّا وواسعة، وتنمو الأعشاب والأزهار البرية الجافة ذات اللون الأرجواني والأصفر حول حوافها العليا، كانت تشبه حوضًا عملاقًا لغسل الأيدي، كما كان هناك تلالٌ من الحصى، وتجاويفُ على جانبَيِ الحفرة التي أُخرج منها الحصى، وفي أعالي الجانبين الشديدَي الانحدار تُوجَد فجواتٌ صغيرةٌ هي المداخل الأمامية الصغيرة لأعشاش طيور سُنُونو الرمل الصغيرة.
لقد شيَّد الأطفالُ قلعةً — بالطبع — ولكنَّ بناءَ القلاعِ يخلو من المتعة إلى حدٍّ ما عندما تكون فاقدًا الأمل في أن موجات المد والجزر ستأتي في أي وقتٍ لملء الخندق وغمر جسره المتحرك، لتأتي النهاية السعيدة بأن يبتلَّ الجميع حتى الخصر على الأقل.
أراد سيريل حفْرَ كهفٍ ليلعبوا فيه لعبة الاختباء كالمهرِّبين، لكن البقية اعتقدوا أنه قد يدفنهم أحياء؛ لذا فقد انتهى الأمر بأن تتضافر كل المجاريف لحفر حفرة من القلعة إلى أستراليا. يعتقد هؤلاء الأطفال كما ترى أن الأرض كروية، وأن الفتيان والفتيات الصغار الأستراليين على الجانب الآخر يمشون بطريقةٍ معكوسة، كما يمشي الذباب على السقف، أرجلهم للأعلى ورءوسهم مُعلَّقة في الهواء.
أخذ الأطفال يحفرون ويحفرون ويحفرون، حتى صارَت أيديهم بلونِ الرمل واحمرَّت من سخونته، وغدَت وجوههم رطبةً ولامعة، وأكل الحَمَل الصغير من الرمل، وبكى بشدةٍ عندما وجد أنه لم يكن — كما كان يظن — سُكَّرًا بُنيًّا. لقد أصبح الآن متعبًا، فاستسلم للنعاس على نتوءٍ وثير من الرمال الدافئة وسط القلعة غير المكتملة البناء. سمح هذا لإخوته وأخواته بالعمل الجاد، وسرعان ما أصبح الثقْب الذي كان سيوصل إلى أستراليا عميقًا لدرجة أن جين، التي كانوا يُكنونها باسم «بوسي»، توسَّلت إلى بقيتهم أن يتوقفوا عن الحفر.
قالت: «لنفترض أن قاع الحفرة قد أفضى إلى الجانب الآخر فجأةً وسقطتم وسط الأستراليين الصغار، فسيدخل كل الرمل في أعينهم.»
أجابها روبرت: «أجلْ، وسيكرهوننا، ويقذفوننا بالحجارة، ولن يسمحوا لنا برؤية حيوانات الكنغر، ولا الأبوسوم، ولا نبات الصمغ الأزرق، ولا طائر الإيمو، ولا أي شيء.»
كان سيريل وأنثيا يعلمان أن أستراليا لم تكن قريبة بتلك الدرجة، لكنهما اتفقا على التوقُّف عن استخدام المجاريف والاستمرار في الحفر بأيديهما، كان هذا سهلًا للغاية؛ لأن الرمل الموجود في قاع الحفرة كان ناعمًا جدًّا ورقيقًا وجافًّا، مثل رمل البحر، وكانت ثَمَّةَ أصدافٌ صغيرةٌ بداخله.
قالت جين: «تخيَّلوا أن البحر بكل ما يحتويه كان هنا ذات يوم، مع الأسماك وأَنْقَلِيس البحر والشعاب المرجانية وحوريات البحر.»
قال سيريل: «وصواري السفن وحطام الكنز الإسباني. أتمنى أن نتمكَّن من العثور على دوبلون ذهبية (عملة إسبانية أثرية)، أو شيء من هذا القبيل.»
قال روبرت: «وكيف انجرف البحر بعيدًا؟»
قال شقيقه: «ليس في دلو، يا أبله، يقول أبي إن الأرض أصبحَت ساخنة للغاية من باطنها، مثلما يحدث لك في السرير تحت الغطاء أحيانًا؛ لذا فقد حدبت الأرض أكتافها تمامًا، فانزلق البحر مثل البطانيات التي نسقطها عن أكتافنا فتنكشف، وتحوَّل إلى أراضٍ جافة. دعونا نذهب لنبحث عن أصداف، أعتقد أن الكهف الصغير يبدو مكانًا جيدًا لنجدها فيه، وأرى شيئًا ما بارزًا هناك يبدو كمرساة لسفينةٍ محطمة، كما أن الجو حارٌّ للغاية في الحفرة الأسترالية.»
وافق الآخرون، لكن أنثيا تابعَت الحفر، كانت دائمًا تحبُّ أن تُنهيَ الأشياء ما دامت قد بدأتْها، كما شعرت أنه سيكون من العار تركُ هذه الحفرة دون الوصول إلى أستراليا.
كان الكهف مخيبًا للآمال؛ لأنه لم تكن به أصداف، واتضح أن مرساة السفينة المحطَّمة ليست سوى نهايةٍ مكسورة لمقبض مِعْول. واتفق الذين ذهبوا إلى الكهف على أن الرمال تجعلك أكثر عطشًا عندما لا تكون على شاطئ البحر؛ لذا فقد اقترح أحدهم العودة إلى المنزل لتناول عصير الليمون، وذلك عندما صرخَت أنثيا فجأة:
«سيريل! تعالَ إلى هنا! أوه، تعالَ بسرعة! إنه حي! سوف يفلت! بسرعة!»
عادوا كلهم مسرعين!
قال روبرت: «إنه فأر، بلا شك. يقول أبي إن الفئران تنتشر في الأماكن القديمة — وهذا المكان لا بد أن يكون قديمًا جدًّا — لو صحَّ أن البحر كان هنا منذ آلاف السنين.»
قالت جين وهي ترتجف: «ربما يكون ثعبانًا!»
قال سيريل وهو يقفز داخل الحفرة: «دعونا نكتشف؛ فأنا لا أخشى الثعابين، بل أحبها، ولو اتضح أنه ثعبانٌ فسأروِّضه ليكون حيواني الأليف، وسيتبعني في كل مكان أذهب إليه، وسأدعه ينام ملتفًّا حول رقبتي ليلًا.»
رفض روبرت بصرامة لأنه كان يتشارك مع سيريل الغرفة قائلًا: «لا، لن تفعل ذلك، ولكن سأسمح لك إن كان فأرًا.»
قالت أنثيا: «لا تكن أبله، لا يمكن أن يكون فأرًا، إنه أكبر بكثير من ذلك، وليس ثعبانًا أيضًا؛ فهو لديه قدمان، لقد رأيتهما، ولديه فراء، لا، لا تستخدموا المجاريف، ستجرحونه، بل احفروا بأيديكم.»
قال سيريل وهو ينتزع المجرفة: «وأتركه هو يجرحني بدلًا من ذلك! هذا هو المفترض أليس كذلك؟»
قالت أنثيا: «لا تفعل! أظنه سنجابًا، لا تفعل! ربما يبدو الأمر سخيفًا، لكنه قال شيئًا. إنني صادقة فيما أقول، لقد قال شيئًا ما.»
«ماذا قال؟»
«لقد قال: دعوني وشأني.»
لكن سيريل اعتقد بكل بساطة أن أخته لا بد أن تكون قد أُصيبت بالجنون، وأخذ هو وروبرت يحفران بالمجاريف بينما جلسَت أنثيا على حافة الحفرة، وظلَّت تقفز من الإثارة والقلق. لقد حفروا بحرص، والآن يمكن للجميع أن يرَوْا أن هناك شيئًا ما يتحرَّك في قاع الحفرة الأسترالية.
ثم صرخَت أنثيا: «أنا لست خائفة. دعوني أحفر.» وهوَتْ على ركبتَيها وأخذَتْ تحفر بأظافرها مثلما يفعل الكلب عندما يتذكر فجأةً المكان الذي دَفن فيه عَظْمَتَه.
صرخت وهي ينازعها الضحك والبكاء قائلة: «يا للدهشة! لقد أحسستُ بفراء، لقد شعرتُ بذلك، بالفعل!» وفجأة صدر صوتٌ أجش من الرمال جعلهم يقفزون جميعًا للخلف، بالسرعة نفسها التي قفزت بها قلوبهم كذلك.
قال الصوت: «دعوني وشأني.» سمع الجميع الصوت الآن، ونظر بعضهم إلى بعض ليرَوْا إن كانوا كلهم سمعوه كذلك.
قال روبرت بشجاعة: «لكننا نريد أن نراك.»
قالت أنثيا متشجعة أيضًا: «أتمنى أن تخرج.»
قال الصوت: «حسنًا إن كانت هذه هي أمنيتكم.» ثم تحرَّك الرمل وتحدَّب وانقشع ليظهر من تحته شيءٌ بني اللون بدينٌ ذو فراء يتمايل خارجًا من الحفرة ويتساقط عنه الرمل، ثم جلس هناك يتثاءب ويُدلِّك عينَيه بيدَيه.
قال وهو يتمطى: «أعتقد أنني استغرقتُ في النوم.»
تحلَّق الأطفال حول الحفرة، وهم ينظرون إلى المخلوق الذي اكتشفوه. لقد كان جديرًا بالمشاهدة؛ فعيناه كانتا مرفوعتَين على قرنَين مثلما الحال مع الحلزون، وكان يمكنه تحريكهما للداخل والخارج كالتلسكوب، فيما أشبهت أذناه أذنَي الوطواط. وبدا جسمه كجسم العنكبوت مكسوًّا بفراءٍ كثيف ناعم. كما غطى الفراء رجلَيه وذراعَيه. كانت يداه وقدماه أشبه بيدَي وقدمَي قردٍ.
قالت جين: «ماذا يكون هذا بحق الله؟! هل سنأخذه معنا إلى المنزل؟»
نظر المخلوق إليها بعينَيه المرفوعتَين على قرنَين طويلَين قائلًا: «هل دائمًا ما تتكلم بهذا الهراء، أم إن تلك القمامة التي على رأسها هي سبب بلاهتها؟»
كان يتكلم وهو ينظر إلى قُبعة جين بازدراء.
قالت أنثيا بلطف: «هي لم تقصد أن تكون سخيفة، ولا أحدٌ منا يقصد ذلك، مهما كان ظنك! لا تخف فنحن لا نريد أن نؤذيك.»
قال: «تؤذونني! أنا أخاف؟! هل أنتِ جادة؟ لماذا تتحدثين وكأني نكرة؟» وانتصب شعر فرائه كما لو كان قطًّا يستعد للمشاجرة.
قالت أنثيا بطيبة: «حسنًا، ربما لو عرفنا من أنت بالتفصيل لتمكنَّا من الحديث معك بطريقةٍ لا تدفعك إلى الغضب؛ فكل شيء قلناه يبدو أنه يفعل ذلك، فمنْ أنت؟ ولا تغضب من سؤالي! لأننا لا ندري بصدق.»
قال: «ألا تدرون؟ حسنًا أنا أعلم أن العالَم قد تغيَّر، لكن أتحاولين بحقٍّ أن تخبريني أنكِ بصدقٍ لا تعرفين «السامياد» عندما ترَيْن أحدَهم؟»
«السامياد، هذا الاسم يبدو لي إغريقيًّا.»
قال المخلوق بحدة: «وهكذا يبدو للجميع، حسنًا بالإنجليزية الواضحة يعني عفريت الرمال، ألا تعرفون عفريت الرمال إذا رأيتموه؟»
بدا عليه الحزن والألم لدرجة أن جين سارعَت إلى القول: «بالطبع أنا أراك على هذا النحو الآن. إنه أمرٌ عادي تمامًا الآن أن يدرك المرء أنه ينظر إليك.»
قال بغضب وهو يتوغل في الرمل مرةً أخرى: «أنتم تنظرون إليَّ وتتجاذبون معي أطرافَ الحديث منذ فترة، ومع ذلك لم تعرفوني.»
صرخ روبرت: «لا تذهب مرةً أخرى، تحدَّث إلينا أكثر، لم أعرف أنك عفريت رمال، لكنني علمت فورًا عندما رأيت أنك أروع شيءٍ وقعتْ عينِي عليه في حياتي.»
بدا عفريت الرمال أقل تضايقًا بعد ذلك.
وقال: «لا أقول إني أمانع التحدُّث إليكم، ما دمتم مهذَّبين كما ينبغي، لكنني لن أحدِّثكم بالطريقة نفسها، فإذا تحدَّثتم معي بلياقة، ربما أجبتُكم، وربما لا، والآن فلتقولوا شيئًا.»
بالطبع لم يكن لدى أيٍّ منهم شيءٌ ليقوله، لكن روبرت أخيرًا فكَّر وسأله على الفور قائلًا: «كم لبثتَ في هذا المكان؟»
رد عفريت الرمال قائلًا: «ياه! منذ دهور، عدة آلاف من السنين.»
«أخبِرنا عنها، هيا افعل.»
«كلها مذكورة في الكتب.»
قالت جين: «لكنك غير مذكور بها، أوه، أخبرنا بكل ما تستطيع عن نفسك! فنحن لا نعرف أي شيء عنك، وأنت لطيفٌ للغاية.»
مسَّد عفريت الرمال شاربَيه الطويلَين اللذَين يشبهان شوارب الفئران وتبسَّم ثغره من بينهما.
قال الأطفال في صوتٍ واحد: «أرجوك أخبرنا.»
إنه لأمرٌ رائع أن تعتادوا على الأشياء سريعًا، حتى على أكثرها إثارة للدهشة؛ فقبل خمس دقائق، لم يكن ما يعلمه الأطفال عن أن هناك ما يُدعى عفريت الرمال في العالم يفوق ما تعرفونه، والآن صاروا يتحدَّثون إليه وكأنهم يعرفونه طوال حياتهم.
غطَّى عينَيه وقال: «يا له من يومٍ مشمس، تمامًا كما في الأيام الخوالي، من أين تحصلون على حيوان الميجاثيريم الآن؟»
قال الأولاد معًا: «ماذا؟» من الصعب دائمًا تذكُّر أن كلمة «ماذا» ليست مهذبة، لا سيما في لحظات المفاجأة والانفعال.
استأنف عفريت الرمال حديثه قائلًا: «هل ديناصور البتيروداكتيلوس الطائر موجود بكثرة هذه الأيام؟»
لم يستطع الأطفال الإجابة.
قال عفريت الرمال باستعجال: «ماذا لديكم للفطور؟ ومن يعطيكم إياه؟»
«بيض ولحم خنزير مقدَّد، وخبز وحليب، وعصيدة وأشياءُ أخرى، وأمُّنا هي من تعطينا إياه، ما هو الميجا … ما اسمه؟ والبتيرو … بماذا تدعوه؟ وهل يتناولها أحد على الإفطار؟»
«لماذا؟ كان الجميع تقريبًا لديهم بتيروداكتيلوس على الإفطار في زمني! البتيروداكتيلوس كانت طيورًا تشبه التماسيح — أظن أنها كانت طيبة المذاق حين تُشوى. حسنًا، كانت بذلك الشكل: بالطبع كانت هناك أعدادٌ كبيرة من عفاريت الرمال في ذلك الوقت، وكنتم في الصباح الباكر تخرجون وتبحثون عنهم، وإذا عثرتم على أحدهم كان يحقق لكم أمنية. واعتاد الناس إرسال أولادهم الصغار إلى شاطئ البحر في الصباح الباكر قبل الإفطار للحصول على أمنيات اليوم، وفي كثير من الأحيان سيُطلب من الصبي الأكبر في العائلة أن تكون رغبته الحصول على بتيروداكتيلوس جاهز للطهي. كان كبيرًا مثل الفيل؛ ولذلك كان يحتوي على قدْرٍ كبير من اللحم. وإذا أرادوا السمك فسيتمنَّوْن إكتيوسوروس — كان طوله يتراوح ما بين عشرين قدمًا وأربعين قدمًا؛ لذا كان هناك الكثير منه. وبالنسبة إلى الدواجن كان هناك بليسيوسوروس. كانت ثَمَّةَ اختياراتٌ كثيرة؛ ومن ثمَّ كان بمقدور الأطفال تمنِّي أشياءَ متنوعة، ولكن عندما كان الناس يقيمون حفلات العشاء، كان هناك دائمًا الميجاثيريم والإكتيوسوروس، حيث كانت زعانف الأخير شهية المذاق كما كان يُصنع من ذيله الحَسَاء.»
قالت أنثيا التي كان مقدرًا لها أن تكون مدبرةَ منزلٍ جيدة يومًا ما: «لا بد أنه كانت هناك أكوام وأكوام من اللحوم المتبقية بعد تلك الحفلات.»
قال عفريت الرمال: «لا لا، هذا ما كان ليحدث؛ لأنه بالطبع عند غروب الشمس، يتحوَّل ما تبقى إلى حجارة، ويمكنكم العثور على عظام الميجاثيريم الحجرية وتلك الأشياء باقية في كل مكانٍ من حولنا حتى الآن، كما قيل لي.»
قال سيريل: «من الذي أخبرك بذلك؟» لكن عفريت الرمال غضب وأخذ يحفر في الأرض بسرعة بيدَيه المكسُوَّة بالفِراء.
صرخوا جميعًا: «لا تذهب، أخبرنا بالمزيد عن الزمان الذي كان يُتناوَل فيه الميجاثيريم كوجبة إفطار! هل كان العالَم مثلما هو عليه الآن؟»
هنا توقف عفريت الرمال عن الحفر.
قال: «لا على الإطلاق، لقد كان المكان الذي عشتُ فيه كله رمال، وكان الفحم ينمو على الأشجار، وكانت الحلزونات كبيرة مثل أكواب الشاي — تجدونها الآن قد تحوَّلت إلى حجارة. كنا نحن عفاريت الرمال نعيش على شاطئ البحر، وكان الأطفال يأتون بمجاريفهم ودلائهم الحجرية ويصنعون القلاع لنا لكي نعيش فيها، ومع أن ذلك كان منذ آلاف السنين، فإنني أسمع أن الأطفال لا يزالون يبنون القلاع على الرمال، فمن الصعب أن يتخلص المرء من عاداته.»
قال روبرت: «ولماذا لم تعد تسكن على شاطئ البحر؟»
قال عفريت الرمال: «إنها قصةٌ حزينة؛ حدث ذلك لأنهم كانوا يبنون خنادق للقلاع، وكان البحر الشرير البارد يتسرَّب إلينا ماؤه، وبالطبع بمجرد أن يصبح عفريت الرمال مبللًا، فقد يصاب بنزلة برد، وغالبًا ما يموت، وهكذا أخذت أعدادنا تتناقص. وكلما وجدتم عفريت رمال وكانت لديكم أمنية، كنتم ترغبون في الحصول على الميجاثيريم، وتناول الطعام بالكمية التي ترغبون فيها؛ لأن الأمر قد يستغرق أسابيع قبل أن تُحقق لكم أمنيةٌ أخرى.»
قال روبرت متسائلًا: «وهل أُصبتَ بالبلل؟»
ارتعد عفريت الرمال قائلًا: «مرةً واحدة فقط ابتلَّت نهاية الشعرة الثانية عشرة من شاربي الأيسر من أعلى. أشعر أن المكان ما زال رطبًا. حدث ذلك مرةً واحدة فقط، لكنها كانت كافيةً لي. ابتعدتُ وبمجرَّد أن جفَّفَت الشمس شعري العزيز المسكين. هرعتُ بعيدًا إلى الجزء الخلفي من الشاطئ، وحفرتُ لنفسي منزلًا عميقًا في الرمال الجافة الدافئة، ومكثتُ فيها منذ ذلك الحين. ثم غيَّر البحر مكانه في النهاية. والآن لن أخبركم بشيءٍ آخر.»
قال الأطفال: «سؤالٌ أخير من فضلك، هل ما زال في إمكانك تحقيق الأمنيات الآن؟»
«بالطبع، ألم أحقِّق لكم أمنيتكم منذ دقائق، عندما قلتم نتمنَّى أن تخرج، وقد خرجت.»
«أرجوك، ألا يمكننا طلب أمنيةٍ أخرى؟»
«نعم، لكن أسرعوا في طلبها، فلقد سئمتُ منكم.»
أحسب أنك كثيرًا ما فكرت فيما كنت ستطلبه إذا مُنحتَ ثلاث رغبات لتحقيقها، مزدريًا رأي الرجل العجوز وزوجته في قصة البودنج الأسود، وأنك شعرتَ بثقتك، أنه إذا مُنحت الفرصة، فسيكون بمقدورك التفكير في ثلاثِ رغبات نافعة على الفور دون تردُّد. كثيرًا ما تحدَّث هؤلاء الأطفال عن هذا الموضوع، لكن الآن وقد أُتيحت لهم الفرصة فجأة، لم يتمكنوا من إعمال أذهانهم.
قال عفريت الرمال بانفعال: «أسرعوا.» لكن ما من أحدٍ استطاع أن يفكر في شيء، فقط أنثيا هي التي استطاعت أن تتذكر رغبةً خاصة بها وبجين والتي لم يخبروا بها الأولاد قبل ذلك؛ لأنها أدركَت أن الأولاد لن يكترثوا بها، لكنها أفضل من ألا يطلبوا أي شيء.
قالت متعجلة: «أتمنى أن نصبح غاية في الجمال!»
نظر الأطفال بعضهم إلى بعض، ولكن رأى كلُّ واحدٍ منهم أن الآخرين لم يتحسَّن مظهرهم عن المعتاد. لقد دفع عفريت الرمال عينَيه إلى الخارج، وبدا وكأنه يحبس أنفاسه ويتضخَّم إلى أن صار ضِعْفَي حجمه السابق. وفجأة أرسل أنفاسه وتنهَّد.
قال بحزنٍ: «يُؤسفني بحقٍّ أنَّني لن أستطيعَ تحقيقَ رغبتك، لا بد أنني أحتاج تدريبًا.»
بدا أن الأولاد أُصيبوا بخيبة أملٍ مريعة!
قالوا: «أوه، حاول مجددًا.»
قال عفريت الرمال: «حسنًا، في الحقيقة كنتُ أحتفظ ببعض القوَّة من أجل تحقيق الرغبات الثلاث، فلو أنَّكم تراضَيْتم فيما بينكم على رغبةٍ واحدة، فيمكنني أن أقول إنني سأعمل جاهدًا على تحقيقِها، هل توافقون على ذلك؟»
قالت جين وأنثيا: «نعم، نعم!» بينما أومأ الولدان موافقَيْن؛ فلم يكونا يعتقدان أن عفريت الرمال بإمكانِه تحقيقُ الأمنيات. يمكنك دومًا أن تجعل الفتيات يصدقْنَ شيئًا ما أسرع من الأولاد.
فتح عفريت الرمال عينَيه عن آخرهما، وانتفخ وانتفخ وانتفخ.
قالت أنثيا: «أرجو ألَّا يؤذيك ذلك.»
قال روبرت قلقًا: «أو يُشقِّق لك جِلدَك.»
شعر الجميع براحةٍ كبيرةٍ عندما أطلق عفريت الرمال أنفاسه وعاد إلى حجمه السابق بعد أن كان منتفخًا حتى كاد أن يملأ الفجوة التي في الرمال!
قال عفريت الرمال: «لا بأس بذلك، سيغدو الأمر غدًّا أيسر.»
سألَته أنثيا: «هل كان مؤلمًا للغاية؟»
«فقط كان مؤلمًا لشاربي المسكين، شكرًا لسؤالِك، أنتِ فتاةٌ طيبة وحسنة الاهتمام بالآخرين، يومًا سعيدًا.»
وفجأةً أخذ يحفر بيدَيه وأرجله بقوة، واختفى في الرمال. عند ذلك نظر الأطفال إلى بعضهم البعض، وفوجئ كلٌّ منهم بكونه وحيدًا مع ثلاثة غرباء تمامًا، كلهم فائقو الجمال.
وقفوا لبعض اللحظات في صمتٍ تام. اعتقد كلٌّ منهم أن إخوانه وأخواته قد فُقدوا، وأن هؤلاء الأطفال الغرباء قد تسلَّلوا خُلْسةً دون أن يلاحظهم أحد أثناء مشاهدتهم مشهدَ انتفاخِ عفريت الرمال. تحدثَت أنثيا أولًا.
وجَّهت كلامها بأدبٍ بالغ لجين — التي لديها الآن عينان زرقاوان وظلة من الشعر الأصهب — قائلة «من فضلك، هل رأيتِ ولدينِ وفتاةً صغارًا في أي مكان؟»
قالت جين: «كنتُ على وشك طرح السؤال ذاته عليكِ.» عند ذلك صرخ سيريل قائلًا:
«يا للهول! إنه أنت! عرفتُكِ من النقرة التي في ثوبك، أنتِ جين! أليس كذلك؟ وأنتِ النَّمِرة، يمكنني رؤية منديلكِ الملطَّخ بالدماء الذي نسيتِ تغييرَه بعد أن جُرحت إبهامك، يا إلهي! لقد تحقَّقت هذه الأمنية رغم كل شيء، أقول لكم: هل صرتُ وسيمًا كما صِرتُن جميلات؟»
قالت أنثيا مؤكِّدة: «إذا كنتَ سيريل، فقد أعجبني أكثر شكلك السابق؛ فأنت تبدو نسخة من أحد شباب الجوقة، بشعرك الذهبي هذا؛ سوف تموت وأنت لا تزال شابًّا، دون ريب. وإذا كان هذا هو روبرت، فهو يبدو كعازف أورجن يدوي إيطالي أسود الشعر.»
قال روبرت في غضب: «أنتما فتاتان تشبهان البنات المرسومات على بطاقات عيد الميلاد — هذا كل ما في الأمر — بطاقات عيد الميلاد السخيفة، وشعر جين يشبه الجزر تمامًا.»
كان هذا اللون، في الواقع، هو اللون الفينيسي الذي استحوذ على إعجاب الكثير من الفنانين.
قالت أنثيا: «لا فائدة من البحث عن عيوب كلٍّ منا، هيا بنا لنأخذ الحَمَل الصغير، ونذهب به إلى المنزل لنتناول الغداء، وسينال مظهرنا الجديد إعجاب الخادمات، وسترَوْن.»
كان الرضيع قد استيقظ لتوِّه عندما وصلوا إليه، وما من أحدٍ منهم إلا وشعَر بالارتياح عندما لم يجدوه في غاية الجمال الذي اكتسبوه بل ظلَّ كما هو على حاله.
وقالت جين: «أظن أن شكله لم يتغير؛ لأنه أصغر من أن يكون لديه رغباتٌ بطبيعة الحال.»
قالت أنثيا وهي تركض إلى الأمام وتمد إليه ذراعَيها:
«يجب أن نخصَّه بالذكر في المرة القادمة، تعالَ إلى حضْن نَمِرتك يا عزيزي.»
نظر الرضيع إليها باستغرابٍ شديد، ووضع إصبعه الوردي المغطَّى بالرمل في فمه. لقد كانت أنثيا أخته المفضَّلة.
قالت: «هيا، تعالَ إليَّ!»
قال الرضيع: «اذهبي بعيدًا.»
قالت جين: «تعالَ إليَّ، أنا بوسي.»
قال الرضيع في يأسٍ وقد ارتعدَت شفتاه: «أريد نَمِرتي.»
قال روبرت: «تعالَ إلى هنا أيُّها المحارب، تعالَ لنلعب معًا.»
تمتم الرضيع بكلمات تدل على الغضب وهو يبتعد عنهم جميعًا. عند ذلك علم الأطفال أسوأ ما في الأمر، وهو أن الرضيع لم يعرفهم!
نظروا إلى بعضهم البعض في حالة من اليأس، وكان أمرًا فظيعًا لكل واحدٍ منهم — في تلك الحالة الطارئة الوخيمة — أن ينظر في العيون الجميلة للغرباء المثاليين، بدلًا من العيون الصغيرة المرحة والودودة والمألوفة واللامعة والمبهجة لإخوانه وأخواته.
قال سيريل عندما حاول رفع الحَمَل الصغير فخدشه مثل القط وخار مثل الثور: «يا له من متوحش! علينا أن نكوِّن صداقة معه! فأنا لا أستطيع حَمْله وهو يصرخ بهذه الطريقة. لم أظن يومًا أننا سنحتاج إلى تكوين صداقاتٍ مع رضيعنا! — إنه أمرٌ سخيفٌ للغاية.»
على كل حال؛ فقد كان هذا بالضبط ما يتعيَّن عليهم القيام به. استغرق الأمر أكثرَ من ساعة، وما جعل المهمةَ أصعبَ حقيقةً أن الحَمَل الصغير كان في هذا الوقت جائعًا كالأسد وظامئًا كالصحراء.
وأخيرًا، وافقَ على السماح لهؤلاء الغرباء أن يحملوه إلى المنزل بالتناوب، ولكن عندما كان يرفض أن يتعلق بهؤلاء المعارف الجُدد كان وزنه يصير ثقيلًا ومُنهِكًا لأقصى درجة.
قالت جين وهي تدخل مترنِّحة عبر البوابة الحديدية حيث وقفتِ الخادمة مارثا عند الباب الأمامي مُظلِّلة بيدها على عينَيها وهي تنظر بقلق: «الحمد لله، ها قد عدنا إلى المنزل! هاكِ! خذي الرضيع!»
تلقَّفت مارثا الطفل من يدَيها. وقالت:
«شكرًا على إعادته سالمًا، لكن أين الباقون، ومن أنتم أيُّها الكرام اللطفاء؟»
قال روبرت: «نحن هم بالطبع!»
قالت مارثا بتهكُّم: «ماذا تقصدون بهُمْ؟ وبماذا تُسمَّوْن في بيوتكم؟»
قال سيريل: «أقول لكِ إننا نحن، غير أننا في غاية الجمال، أنا سيريل وهؤلاء هم الباقون. نحن نتضوَّر جوعًا فدعينا ندخل ولا تكوني سخيفةً حمقاء.»
لم تُبدِ مارثا غير الاحتقار لوقاحة سيريل وحاولَت أن تغلق الباب في وجهه.
قالت أنثيا: «أنا أعلم أننا نبدو مختلفِين، لكنني أنثيا، ونحن متعبون للغاية، وقد مرَّ وقتٌ طويلٌ على موعد تناول الغداء.»
قالت: «عودوا لبيوتكم إذن وتناولوا الغداء، أيًّا كانت أسماؤكم، ولو كان الأولاد هم من أرسلوكم لتقوموا بهذه التمثيلية، فيمكنكم إخبارُهم أنني سأنال منهم، وهم يعرفون ما سيكون في انتظارهم.» ثم أغلقَت الباب بقوة. دقَّ سيريل الجرس بعنفٍ، ولكن أحدًا لم يُجبْه، وفي التوِّ أخرجَت الطاهية رأسُها من نافذة حجرة النوم وقالت:
«إذا لم تغربوا بطلعاتكم البهية من هنا فسأستدعي لكم الشرطة.» وأغلقت النافذة بعنف.
قالت أنثيا: «لا فائدة، يا إلهي، لنذهب قبل أن يُزَجَّ بنا إلى السجن!»
قال الأولاد إن ذلك محضُ هُراء، وإن قانون إنجلترا لا يضع أحدًا بالسجن لكونه في غاية الجمال، ومع ذلك فقد تبع بعضهم بعضًا مبتعدين عن المنزل إلى الطريق الضيق.
قالت جين: «أظن أننا سنعود لهيئتنا بعد غروب الشمس.»
قال سيريل بحزن: «لا أعرف، قد لا يكون الأمر كذلك الآن — لقد تغيرت الأمور كثيرًا منذ عصور الميجاثيريم.»
صرخَت أنثيا فجأة قائلةً: «يا إلهي، ربما سنتحول إلى أحجار عند غروب الشمس، مثلما فعلت الميجاثيريم، بحيث لا يتبقى أيٌّ منا في اليوم التالي.»
وبدأَت في البكاء، وكذلك فعلَت جين. حتى الأولاد بدا عليهم الشحوب. ولم يعد أحدٌ لديه الرغبة في أن يقول شيئًا.
كانت ظهيرة هذا اليوم رهيبة. ولم يكن هناك منزلٌ قريب يمكن للأطفال أن يتسوَّلوا منه قطعةً من الخبز أو حتى كوبًا من الماء. كانوا خائفين من الذهاب إلى القرية؛ لأنهم رأوا مارثا ذاهبة إليها ومعها سلة، وكان هناك شرطيٌّ محلي. صحيحٌ أنهم كانوا في غاية الجمال، لكن لا ينفع الجمال بشيء عندما تكون جائعًا مثل حيوان مفترس وظمآنَ مثل الإسفنج.
لقد حاولوا ثلاثَ مراتٍ دون طائلٍ أن يُجبِروا خدم المنزل الأبيض على السماح لهم بالدخول والاستماع إلى حكايتهم. ثم ذهب روبرت بمفرده، على أمل أن يتمكَّن من الصعود إلى إحدى النوافذ الخلفية؛ ومن ثمَّ يفتح الباب أمام الآخرين، لكنَّ جميع النوافذ كانت بعيدة المنال، وأفرغَت مارثا وعاءً من الماء البارد فوقه من نافذة عليا، قائلةً:
«تستحق هذا أيُّها القرد الإيطالي الصغير!»
انتهى بهم الأمر أخيرًا إلى الجلوس في صفٍّ واحد تحت سياج من الشجيرات، وأقدامهم في قناة مياهٍ جافة، في انتظار غروب الشمس، وهم يتساءلون عما إذا كانوا — عندما تغرب الشمس — سيتحولون إلى أحجار، أم سيتحولون من جديد إلى طبيعتهم القديمة ذاتها. لا يزال كلُّ واحدٍ منهم يشعر بالوحدة وأنه بين أشخاصٍ غُرباء، وكل واحدٍ منهم يحاول ألَّا ينظر إلى غيره؛ لأنه على الرُّغمِ مِن أن أصواتهم كانت هي أصواتهم ولم تتغير، إلا أن وجوههم كانت جميلةً ساطعة لدرجة أنها تُزعج بشدَّةٍ من ينظر إليها.
قال روبرت وهو يكسر الصمت البائس الطويل: «لا أعتقد أننا سنتحوَّل إلى أحجار؛ لأن عفريت الرمال قال إنه سيحقق لنا رغبةً أخرى في الغد، ولن يكون بمقدوره فعلُ ذلك إذا صرنا أحجارًا، هل يمكنه ذلك؟»
قال الآخرون: «لا.» لكنهم لم يشعروا بأي قدْرٍ من الارتياح.
كسر سيريل صمتًا آخر أطول وأشد بؤسًا بقوله المفاجئ: «لا أريد أن أُخيفكن يا بنات، لكنني أعتقد أن ما نخشاه قد بدأ معي بالفعلح فقدمي قد تخدَّرت تمامًا. إنني أتحوَّل إلى حجارة، إنني متأكد من ذلك، سأتحول إلى حجارة في غضون دقيقةٍ واحدة.»
قال روبرت بلطف: «لا تهتم، ربما ستكون المتحجِّر الوحيد، وسيكون بقيتنا على ما يرام، وسنرعى تمثالك ونعلِّق عليه أكاليل الزهور.»
لكن عندما اتضح أن قدم سيريل تخدَّرت جرَّاء جلوسه عليها لفترةٍ طويلة، ولما بدأ يشعر بها وبآلامها التي كانت كالمسامير والإبر، غضب الآخرون بشدة.
قالت أنثيا: «أفزعتنا بلا سبب!»
كسَرَت جين الصمت الثالث والأكثر بؤسًا بقولها: «إذا خرجنا من هذا كله بسلام، فسوف نطلب من عفريت الرمال إذا حقق رغبةً ما ألَّا يلاحظ الخدم شيئًا مختلفًا، مهما كانت رغباتنا.»
تذمر الآخرون فقد كانوا بائسين للغاية حتى لاتخاذ قراراتٍ جيدة.
في النهاية كان الجوع والخوف والغضب والإرهاق — أربعة أشياءَ سيئةٍ للغاية — قد امتَزجَت جميعًا فأنتجَت شيئًا لطيفًا، هو النوم. بدأ الأطفال ينامون على التوالي، مُغمِضين عيونهم الجميلة وفاغرين أفواههم الجميلة. كانت أنثيا أوَّل من استيقظ. وكانت الشمس تميل إلى الغروب، وكان الشفق يلوح في الأفق.
قرصَت نفسها بقوة لتطمئن، وعندما وجدَت أنها لا يزال بإمكانها الإحساس بالقرص تأكدَت من عدم تحوُّلها إلى حجارة، ثم عند ذلك قرصَت الآخرين وكانت أجسادهم هم أيضًا غضَّة.
قالت وهي تكاد تبكي من الفرحة: «استيقظوا، كلُّ شيء على ما يرام، نحن لسنا أحجارًا. أوه يا سيريل، ما أَلْطفَك وأنت قبيح! مع النمش القديم وشعرك البني وعينَيك الصغيرتين.» ثم أردفَتْ لكيلا يشعر أحدهم بالغيرة: «كلكم أيضًا كذلك.»
وعندما وصلوا إلى المنزل تعرَّضوا للتوبيخ الشديد من قِبل مارثا، التي أخبرتهم عن الأطفال الغرباء.
قالت عنهم: «ثلَّةٌ من الأولاد حسان المظهر، ولكنهم سيئو الأخلاق.»
قال روبرت الذي علم عن طريق التجربة كم هو مستحيل محاولة شرح الأمور لمارثا: «أعلمُ ذلك.»
«وأين بحق الله كنتم طوال هذا الوقت أيُّها الصغار الأشقياء؟»
«عند أحد منعطفات الطريق.»
«ولماذا لم تعودوا إلى المنزل منذ ساعات؟»
قالت أنثيا: «لم نستطع العودة بسببهم.»
«بسبب من؟»
«الأولاد الذين كانوا في غاية الجمال، لقد احتجزونا هناك حتى غروب الشمس، ولم نستطع العودة حتى انصرفوا، ليس لديك فكرةٌ كم كرهناهم، أوه! اذهبي هيا وآتينا طعام الغداء فنحن نتضور جوعًا.»
قالت مارثا بغضبٍ: «جوعى! كان يجب أن أفكِّر في ذلك؛ فقد كنتم بالخارج طوال اليوم، آمل أن يكون هذا درسًا لكم ألَّا تتسكَّعوا مع أطفالٍ غرباء — كي لا تُصابوا بالحصباء، على الأرجح هذا ما سيحدث! الآن احذروا، إذا رأيتموهم مرةً أخرى، فلا تتحدَّثوا إليهم — لا تُكلِّموهم ولا تنظروا إليهم — لكن تعالَوْا مباشرة وأخبروني. وأنا سأُفسد لهم جمالهم!»
قالت أنثيا: «لو رأيناهم مرةً أخرى فسنُخبرك.»
وقال روبرت بنبرةٍ صادقةٍ وهو مثبِّت عينَيه بتوقٍ على اللحم البقري البارد الذي أتَت به الطاهيةُ على صينية: «وسنحرص كلَّ الحرص ألَّا نراهم مرةً أخرى.»
وهو ما لم يحدث بعد ذلك قَط.