الجنيهاتُ الذهبية
استيقظَت أنثيا في الصباح من حُلمٍ أقربَ ما يكون إلى الحقيقة، حيث كانت تمشي في حديقة الحيوان في يومٍ ماطر بلا مظلة مطر. بدت الحيوانات حزينة للغاية بسبب المطر، وكانت جميعها تزمجر غاضبة. وعندما استيقظت، استمرَّت زمجرة الحيوانات وهطول المطر كما كانا في الحلم. كان صوت الزمجرة في الحقيقة هو صوت التنفُّس الشاق المنتظم لشقيقتها جين، التي كانت تعاني من نزلةِ بردٍ خفيفة وكانت لا تزال نائمة. أما المطر فكان يتساقط في قطراتٍ متباعدةٍ على وجه أنثيا من الطرف المبلَّل لمنشفة الاستحمام التي كان شقيقها روبرت يضغط عليها بلطفٍ لتُسقِط قطراتِ الماء لإيقاظها، كما تبيَّن لها ذلك الآن.
قالت بغضب: «ألقِها!» فألقاها إذ لم يكن بالأخ القاسي، على الرغم من أنه مبدع جدًّا في مقالب ثني أغطية الأَسرَّة فيظن النائم أنها قصيرة، وفي الشراك الخادعة، والأساليب المبتكرة لإيقاظ أفراد أسرته من النوم، بالإضافة إلى مآثره الصغيرة الأخرى التي تُضفِي سعادةً على المنزل.
قالت أنثيا: «رأيتُ حُلمًا غريبًا!»
قالت جين، التي استيقظت فجأة ودون سابق إنذار: «وأنا أيضًا، حلمتُ أننا وجدنا عفريت رمالٍ في حفرة الحصى، وقال إن اسمه «سامياد»، وقد يحقق لنا رغبةً جديدة كل يوم، و…»
قال روبرت: «ولكن هذا ما حلمتُ به أنا أيضًا، كنت على وشك إخباركم — وقد حقَّق لنا الرغبة الأولى في الحال. ولقد حلمتُ أنكما كنتما بالغباء الكافي لتطلبا أن نصبح جميعًا في غاية الجمال، فتحولنا إلى ذلك، وكان الأمر في منتهى السوء.»
قالت أنثيا، وهي جالسة على السرير: «لكن هل يمكن لأناسٍ مختلفين أن يحلموا بالشيء نفسه؟ لأنني حلمتُ بكل ذلك وكذلك حلمتُ بحديقة الحيوان والمطر؛ والرضيع لم يعرفنا في حُلمي، ومنعنا الخدم من دخول المنزل لأن وهج جمالنا غيَّر أشكالنا تمامًا، و…»
انطلق صوت الأخ الأكبر ليتردد في أرجاء الممر قائلًا:
«هيا يا روبرت، سوف تتأخر عن الإفطار مرةً أخرى ما لم يكن قصدك أن تتجنَّب الاستحمام كما فعلتَ يوم الثلاثاء.»
ردَّ روبرت عليه قائلًا: «أقول لك إنني لم أتهرَّب، لقد استحممتُ بالفعل بعد أن تناولتُ طعام الإفطار في حجرة الملابس الخاصة بأبي؛ لأن حجرتنا كانت قد أُفرغت.»
ظهر سيريل في المدخل وهو يرتدي بعض ملابسه.
قالت أنثيا: «انظر هنا، لقد حلمنا بهذا الحلم الغريب. لقد حلمنا جميعًا أننا وجدنا عفريت رمال.»
خفَت صوتها أمام نظرة سيريل المُتهكِّمة والذي قال: «هل تقولون حلم؟ أيُّها الصغار البلهاء، إنها حقيقة، أنا أؤكد لكم أن كل هذا حدث؛ لهذا السبب أنا حريصٌ على الخروج مبكرًا. سنذهب إلى هناك مباشرةً بعد الإفطار، لكي نحقِّق أمنيةً أخرى، لكننا يجب أولًا أن نفكِّر جيدًا، ونحدِّد قبل أن نذهب ما نريده بالفعل، وعلى كل واحدٍ منا ألَّا يطلبَ أيَّ شيء ما لم يحصل على موافقة الباقين أولًا، فلنحذر أن يطلب أحدنا أن يُمنح هذا الطفل جمالًا فريدًا هو الآخر. هذا كافٍ، ينبغي أن نكون واعين.»
ارتدى الثلاثة الآخرون ملابسهم فاغرين أفواههم من الدهشة؛ فلو كان كل هذا الحلم حول عفريت الرمال حقيقيًّا، لبدت كل هذه الملابس الحقيقية كأنها حلم، كما اعتقدتِ الفتاتان. شعرت جين أن سيريل كان على حق، لكن أنثيا لم تكن متأكدة، إلى أن رأوا مارثا وأسمعتْهم تذكيراتٍ كاملةً وواضحةً حول سلوكهم المشاغب في اليوم السابق. عند ذلك صدَّقت أنثيا ما حدث؛ لأنه — كما قالت: «لا يحلم الخدم أبدًا بأي شيء سوى بالأشياء الموجودة في كتاب الأحلام، كالثعابين والمحار والذهاب إلى حفل زفاف — وهم يُفسِّرون ذلك بجنازة، والثعابين يفسرونها بصديقةٍ كاذبة، والمحار بالأطفال.»
قال سيريل: «بما أنكِ ذكرتِ الأطفال، أين الحَمَل الصغير إذن؟» قالت جين: «ستأخذه مارثا إلى روتشستر لرؤية أبناء عمومتها. قالت والدتي إن بإمكانها أن تأخذه معها، وهي تُلبِسه ملابسه الآن مع أفضل معطف وقبعة. أريد خبزًا وزبدةً، من فضلك.»
قال روبرت في نبرة تعجُّب: «يبدو أنها تحب أخذه معها أيضًا.»
قال سيريل: «تحب الخادمات اصطحاب الأطفال معهن عند زيارة أقاربهن، لقد لاحظتُ ذلك، كما لاحظتُ حرصهن على أن يُلبسنهم أفضل الملابس.»
قالت جين وهي حالمة تتناول مُربَّى المرملاد: «أعتقد أنهن يتظاهرن بأن الأطفال أولادهن، وأنهن لسْنَ بخادماتٍ على الإطلاق، بل متزوجات بأدواقٍ نبلاء من أعلى المستويات، وأنهن يقُلْنَ إن الأطفال أدواق ودوقاتٌ صغار، أتوقع أن هذا ما ستقوله مارثا لابن عمها. وسوف تستمتع بذلك أيُّما استمتاع.»
قال روبرت: «إنها لن تستمتع كثيرًا وهي تحمل دوقنا الصغير إلى روتشستر. لو كانت تفكر مثلي، لما فعلَت.»
قال سيريل متفقًا مع روبرت: «تخيَّل المشي إلى روتشستر وأنت تحمل الحَمَل الصغير على ظهرك! يا إلهي!»
قالت جين: «بل ستذهب بالعربة، فلنكن في وداعهما. هذه ستكون لفتةً طيبة ومهذبةً منا وفي الوقت ذاته سنتأكد من أننا تخلَّصنا منهما لسائر اليوم.»
وفعلوا ذلك.
ارتدَتْ مارثا فستانها الخاص بيوم الأحد، والذي يحمل درجتَين من اللون الأرجواني. كان الفستان ضيقًا للغاية عند منطقة الصدر للدرجة التي جعلتها تتقوس بدرجةٍ ما. كما ارتدت قبعةً زرقاء مزدانة بأزهارٍ قرنفلية اللون وشريطٍ أبيض. وضعَت حول ياقتها طوقًا من الدانتيل الأصفر بتقوُّسٍ أخضر. وكان الحَمَل الصغير بالفعل يرتدي أفضل معطف وقُبعة حريرية بلون القشدة. لقد كانت صحبةً متأنقة حقًّا تلك التي أقلتها العربةُ عند تقاطُع الطرق. وحين اختفت العربة بقُبتها البيضاء وعجلاتها الحمراء ببطء في دوامة من الغبار الطباشيري.
قال سيريل: «والآن هيا بنا إلى عفريت الرمال!» فانطلقوا من فورهم.
اتفقوا في طريقهم على الأُمنية التي يريدون أن يطلبوا تحقيقها. على الرغم من أنهم كانوا في عجلةٍ كبيرة من أمرهم، فإنهم لم يحاولوا النزول من جانبَي حفرة الحصى، بل ذهبوا عبر الطريق السفلي الآمن، كما لو كانوا عربات تجرها أحصنة. لقد صنعوا — في المرة السابقة — حلقةً من الحجارة حول المكان الذي اختفى فيه عفريت الرمال؛ لذلك وجدوا المكان هذه المرة بسهولة. كانت الشمس متقدةً وساطعة، وكانت السماء زرقاءَ صافية بدون غيوم. وكانت الرمال ساخنة جدًّا بحيث يصعُب لمسها.
قال روبرت بينما كان الأولاد يُخرِجون جواريفهم من كومة الرمل التي أخفَوْها بها ويبدءون في الحفر: «أوه — أعتقد أنه كان مجرد حلم، رغم كل شيء.»
قال سيريل: «يا لك من صبيٍّ عاقل تخبرنا بأن كلا الاحتمالَين واردان بالدرجة نفسها!»
رد روبرت بسرعة قائلًا: «أعتقد أنه من الأفضل أن تُبقي فمك المهذب مغلقًا.»
قالت جين ضاحكة: «أرى أننا نحن الفتيات من سيتحدث إلى العفريت؛ فأنتم أيُّها الأولاد سريعو الغضب.»
قال روبرت، الذي أصبح الآن غاضبًا حقًّا: «أرى ألا تُقحمن أنفسكن في الأمر.»
قالت أنثيا بسرعة: «لن نفعل يا عزيزي روبرت، لا تغضب — لن نقول كلمة واحدة، ستكون أنت الشخص الذي سيتكلم مع عفريت الرمال ويخبره بما قررناه. ستتكلَّم أفضل بكثيرٍ مما كنا سنفعل.»
قال روبرت وقد سكن غضبه: «أعتقد أنه ينبغي عليكِ أن تتركي تمثيل دور المتواضعة، انتبهوا، احفروا بأيديكم الآن!»
وهكذا فعلوا، حتى كشفوا عفريت الرمال بجسمه البني المشعر الذي يشبه جسم العنكبوت، وبذراعَيه ورجلَيه الطويلتَين وبأُذنَيه الأشبه بأُذنَي الوطواط وبعينَيه الأقرب إلى عينَي الحلزون. عند ذلك تنفس كلٌّ منهم الصُّعَداء إذ أيقنوا أن ما حدث بالأمس لم يكن حُلمًا.
نهض عفريت الرمال وانتفض ليتخلَّص من الرمل العالق بفِرائه.
قالت أنثيا بلطف: «كيف حال شاربك الأيسر هذا الصباح؟»
قال مجيبًا: «ما من شيء لأفخر به، لقد عانى من ليلةٍ مؤرقة إلى حدٍّ ما، ولكن شكرًا لسؤالك.»
قال روبرت: «أودُّ أن أسألك، هل تشعر برغبتك في تحقيق الأمنيات اليوم؟ فنحن نرغب بشدة في أمنيةٍ إضافية بجانب الأمنية المعتادة.» ثم أردف مطمئنًا له: «والأمنية الإضافية أمنيةٌ بسيطة.»
قال: «هممم! يُخال لي أني سمعتكم تتحدثون فيما بينكم وأنكم اختلفتم، أعتقد حقًّا أنني قد حلمتُ بكم جميعًا؛ فلديَّ أحلامٌ غريبة في بعض الأحيان.»
سارعت جين بسؤاله هربًا من التطرق إلى موضوع الخلاف: «صحيح؟ كم أتمنى لو تخبرنا عما تحلم به، لا بد أنها أحلام في غاية الروعة والتشويق.»
قال عفريت الرمال متثائبًا: «هل هذه أمنية اليوم؟»
تمتم سيريل بشيءٍ أقرب إلى «هذا ما يُنتظَر منكن يا بنات حواء»، في حين ظلَّ الباقون صامتين؛ فلو قالوا «نعم»، فوداعًا للأمنيات الأخرى التي قرروا طلبها. ولو قالوا «لا»، فسيكون ذلك في غاية الوقاحة. لقد شبَّوا جميعًا على الأخلاق الحميدة، وفي الوقت ذاته، هم متطلعون إلى اكتساب المزيد من المعرفة وشتان بين هذا وذاك. تنفَّسوا الصعداء جميعهم عندما قال عفريت الرمال:
«لو فعلتُ، فلن أمتلك القوة التي تمكنني من تحقيق أمنيةٍ أخرى لكم؛ فلا رباطة جأش، ولا تفكير سليم، ولا أسلوب راقٍ، ولا أي شيء من هذا القبيل.»
قال سيريل بتلهُّف بينما نظر الجميع إلى بعضهم بعضًا شاعرين بالندم وآملين ألَّا يتمسك عفريت الرمال بحديثه عن رباطة الجأش، بل يمنحهم دفعةً قوية ثم يكون قد أدَّى ما عليه: «لا نريدك أن تُحمِّل نفسك عناء هذه الأمور على الإطلاق؛ فيمكننا تدبُّرها جيدًا بأنفسنا.»
قال عفريت الرمال وقد مدَّ القرنَين اللذين يحملان عينَيه فجأة حتى كاد أحدهما يفقأ عينَي الفتى روبرت المستديرتَين: «حسنًا، لنبدأ بالأمنية الصغيرة أولًا.»
قال روبرت: «لا نريد أن تلاحظ الخادمات الأمنيات التي تُحقِّقها لنا.»
قالت أنثيا هامسة: «التي تتفضل بتحقيقها لنا.»
قال روبرت: «أعني التي تتفضل بتحقيقها لنا.»
نفخ عفريت الرمال جسمه قليلًا، ثم أطلق أنفاسه وقال:
«لقد فعلتُ لكم ذلك، كان سهلًا. الناس لا يلاحظون الأشياء بذلك القدر على أية حال، ما أمنيتكم التالية؟»
قال روبرت بتمهلٍ: «نريد أن نصير على درجةٍ من الغنى تفوق ما يحلم به أي شخصٍ آخر.»
قالت جين: «جشع.»
قال عفريت الرمال على غير المتوقع: «فليكن ذلك إذن.» ثم تمتم لنفسه قائلًا: «لكن هذا لن يُفيدَك كثيرًا، المال مجرد نعمةٍ واحدة من نعمٍ كثيرة.» وبعدها قال: «اسمعوا، لا يمكنني أن أتجاوز الأحلام، كما تعلمون. أخبروني إذن كم المبلغ الذي تريدونه، وهل تريدونه ذهبًا أم أوراقًا نقدية؟»
«ذهبًا أرجوك، ونريد منه الملايين.»
قال عفريت الرمال بعفوية: «هل سيكون ملء حفرة الحصى كافيًا؟»
«أجل!»
«إذن فاخرجوا قبل أن أبدأ، وإلا فستُدفنون أحياءً فيها.»
أطال ذراعَيه النحيفتَين بشدة، ولوَّح بهما على نحوٍ مخيف، لدرجة أن الأطفال ركضوا بقوةٍ قدْر استطاعتهم نحو الطريق الذي اعتادَت أن تأتيَ منه العربات إلى حفرة الحصى. كانت أنثيا وحدها لديها ما يكفي من التعقُّل لإلقاء صيحةٍ خجولة وهي تجري قائلة: «صباحك جميل، وآمل أن تكون شواربك أفضل حالًا في الغد.»
وبينما يسيرون في الطريق، التفتوا ونظروا من خلفهم، واضطُروا إلى أن يُغمِضوا أعينهم وأن يفتحوها رويدًا رويدًا؛ لأن المشهد كان مبهرًا للغاية بحيث لا تستطيع عيونهم تحمُّله. كان الأمر أشبه بمحاولة إلقاء نظرة على الشمس وقت الظهر في أحد أيام منتصف الصيف. لقد كانت الحفرة الرملية ممتلئةً بالكامل، حتى الحافة، بقطعٍ ذهبية متلألئة جديدة، وكانت جميع الأبواب الأمامية الصغيرة لعشش طائر سنونو الرمال مغطاةً تمامًا بها. وحيثما انحدر طريق العربات ملتويًا إلى حفرة الحصى، كان الذهب موضوعًا في أكوامٍ مثل حجارةٍ قابعة على جانبَي الطريق، كما كان هناك جرفٌ كبير من الذهب اللامع ينحدر للأسفل حتى يصير مسطحًا ومستويًا بين الجوانب المرتفعة من حفرة الحصى. وكانت كل الأكوام اللامعة من الذهب المسكوك. وعلى جوانبِ وحوافِّ هذه العملات التي لا تُعد ولا تُحصى، تُشرِق شمس النهار وتلمع وتتوهج وتشِعُّ حتى بدا المحجر وكأنه فُوَّهة فُرن الصهر، أو أحد القصور التي يُخال لك أحيانًا أنها في السماء وقت غروب الشمس.
ظل الأولاد واقفين هناك فاغرين أفواههم ولم ينبسوا ببنتِ شَفَة.
أخيرًا، توقَّف روبرت والتقط إحدى القطع النقدية الكثيرة من حافة الكومة بجانب طريق العربات، وأخذ ينظر إليها. تأملها من كلا الوجهَين. ثم قال بصوتٍ منخفض، يختلف تمامًا عن صوته الحقيقي: «إنها ليست جنيهًا ذهبيًّا إنجليزيًّا.»
قال سيريل: «إنه ذهبٌ على أي حال.» وصاروا يتحدَّثون جميعًا في وقتٍ واحد. لقد حثَوْا جميعًا الكنز الذهبي بملء أيديهم، وجعلوه يتساقط من خلال أصابعهم مثل الماء، وكان صوت الرنين الذي تصدره العملات عند سقوطها كالموسيقى الرائعة. في البداية نسُوا تمامًا التفكير في إنفاق المال؛ فاللعب به كان ممتعًا حقًّا؛ فقد جلسَت جين بين أكوامٍ من الذهب وبدأ روبرت في دفنها، كما تدفن والدك في الرمال عندما تكون على شاطئ البحر وقد استغرق في نومه على الشاطئ واضعًا صحيفته على وجهه. لكن جين لم يكد يُدفن نصف جسدها حتى صرخَت قائلة: «أوه، توقَّف، إنها ثقيلة للغاية! هذا مؤلم!»
قال روبرت: «هُراء!» ثم استأنف دفنها.
صرخَت جين: «أقول لك دعني أخرج!» ثم أخرجوها وهي شاحبةٌ وترتجف قليلًا.
قالت: «ليس لديك أيةُ فكرة كيف يبدو الأمر، إنها كالحجارة إذا وُضعَت عليك أو مثل الجنازير.»
قال سيريل: «انتبهوا هنا، إذا كان في هذا الأمر أي منفعةٍ، فلا جدوى من بقائنا مُنبهرِين به على هذا النحو. دعونا نملأ جيوبنا ونذهب ونشتري الأشياء. لا تنسَوا أنها لن تدوم بعد غروب الشمس. تمنيتُ لو كنا طلبنا من عفريت الرمال ألا تتحول الأشياء إلى حجارة. دعوني أخبركم بشيء؛ هناك حصانٌ وعربة في القرية.»
قالت جين: «أتودُّ أن تشتريهما؟»
«لا أيتها البلهاء، سنستأجرهما؛ وعندئذٍ سنذهب إلى روتشستر ونشتري أكوامًا وأكوامًا من الأشياء، انتبهوا إليَّ! فليأخذ كلٌّ منا أقصى ما في استطاعته حمله، ولكنها ليست عملةً إنجليزية؛ فعلى أحد وجهَيها رأس رجل، وعلى الوجه الآخر علامة البستوني، املئوا جيوبكم وتعالَوا بسرعة. يمكنكم أن تثرثروا في الطريق، إن كنتم لا بد فاعلين.»
جلس سيريل وبدأ يحثو الذهب في جيوبه. وقال: «لقد سخرتم مني عندما جعلت أبي يصنع لي تسعة جيوب في سترتي، حسنًا فانظروا إليَّ الآن.»
ونظروا إليه بالفعل. وعندما ملأ سيريل جيوبه التسعة ومنديله والفراغ بينه وبين قميصه من الأمام بالقطع الذهبية كان عليه أن يقف، لكنه تعثر فاضطر أن يجلس مرةً أخرى بسرعة.
قال روبرت: «أفرغ بعض الشحنة يا فتى، وإلا أصابك مكروهٌ بسبب جيوبك التسعة.»
وهكذا اضطُر سيريل إلى أن يمتثل لما قاله روبرت.
ثم انطلقوا سائرين إلى القرية. كانت المسافة أكثر من ميل، وكان الطريق مليئًا بالغبار حقًّا، وبدا أن الشمس تزداد سخونة أكثر فأكثر، والذهب في جيوبهم يصبح أثقل فأثقل.
كانت جين هي من قال: «لا أفهم كيف يمكننا أن ننفق كل هذا. لا بد أن يكون مجموع ما لدينا آلاف الجنيهات. سأترك بعضًا مما لديَّ خلف جذع الشجرة في هذا السياج. وحالما نصل إلى القرية سنشتري بعض البسكويت؛ أعلم أنه لا يزال هناك وقتٌ طويلٌ حتى يحينَ موعد الغداء.» وأخرجَت حفنة أو اثنتَين من العملات الذهبية وأخفَتها في تجويف شجرة الزان الأبيض. قالت جين: «كم هي مستديرة وصفراء. ألا تتمنَّون لو أنها كانت كعكاتِ زنجبيل نتناولها؟»
قال سيريل: «حسنًا إنها ليست كعكات زنجبيل، ونحن لن نأكلها. هيَّا.»
لكنهم تابعوا المسير مُرهَقين وضَجِرين. وقبل أن يصِلوا إلى القرية، كان هنالك أكثر من جذعٍ يخفي في جوفه جزءًا من الكنز. ورغم ذلك فقد وصلوا إلى القرية ومعهم ألفٌ ومائتا جنيهٍ ذهبي في جيوبهم تقريبًا، لكن على الرغم من حيازتهم لهذه الثروة المُخبَّأة في جيوبهم، بدا مظهرهم عاديًّا للغاية، ولم يكن أحدٌ ليعتقد أنهم يمتلكون أكثر من نصف شلن. وأسهمت الحرارة العالية والدخان الأزرق الناتج عن احتراق الأخشاب في صنع سحابةٍ ضبابية داكنة اللون فوق الأسطُح الحمراء للقرية. ارتمَتْ أجسادُهم الأربعة الثقيلة على أول مقعدٍ وصلوا إليه؛ وصادف أن يكون هذا المقعد أمام حانةٍ تُدعى «بلو بور».
قرَّروا أن يذهب سيريل إلى حانة «بلو بور» ويطلب جِعَة الزنجبيل لأنه، كما قالت أنثيا: «ليس محظورًا أن يذهبَ الرجالُ إلى الحانات، وإنما يُحظر ذلك على الأطفال. وسيريل أقربنا إلى أن يكون رجلًا؛ كونه يكبَرنا سنًّا.» لذا فقد ذهب هو، بينما جلس الآخرون في الشمس وانتظروا.
قال روبرت: «يا إلهي! ما أحرَّ القبعات! تُخرج الكلاب ألسنتها عندما ترتفع حرارتها، أتساءل عما إذا كان إخراجُ ألسنتنا مثلها سيُلطِّف من حرارتنا.»
قالت جين: «فلنجرِّب.» وأخرجوا جميعًا ألسنتهم بأقصى ما يستطيعون، حتى تمدَّدَت حلوقهم تمامًا، لكن اتضح أن هذا يجعلهم أكثر عطشًا من ذي قبل، بجانب أن ذلك أزعج كلَّ من مرَّ بهم؛ لذلك أدخلوا ألسنتهم مرة أخرى، وفي الوقت نفسه، عاد سيريل يحمل جِعَة الزنجبيل.
قال: «كان عليَّ أن أدفع ثمنها من الشلنَين والبنسات السبعة الخاصة بي، تلك التي كنتُ سأشتري بها الأرانب، إنهم لم يرغبوا في صرف الذهب. وعندما أخرجتُ من جيبي حفنةً، ضحك الرجل وقال إن تلك العملات صوريةٌ لا تختلف عن أوراق اللعب. بالمناسبة اشتريت أيضًا بعض الكيك الإسفنجي، من وعاءٍ زجاجي عند البائع الواقف أمام البار. وبعض البسكويت الممزوج بالكراوية.»
كان الكيك الإسفنجي طريًّا وجافًّا كما كان البسكويت جافًّا أيضًا، إلا إنه كان طريًّا، وهو ما يجب ألا يكون عليه البسكويت. لكن جعة الزنجبيل عوَّضت كل شيء.
قالت أنثيا: «حان دوري الآن لمحاولة شراء شيء بالمال؛ فأنا الثانية بينكم سنًّا. أين أجدُ العربة الصغيرة التي يجرُّها الحصان؟»
كان المكان المقصود هو حانة «شيكرز»، فذهبَت أنثيا عبر الطريق الخلفي إلى الفناء؛ لأنهم كانوا يعلمون جميعًا أنه ينبغي على الفتيات الصغيرات ألا يذهبْن إلى الحانات. وعندما خرجَت منه، كانت — كما قالت بنفسها — «سعيدة ولكن ليست فخورة.»
قالت أنثيا: «سيكون جاهزًا في التوِّ — كما قال — ويجب أن يحصل على جنيهٍ ذهبي — أو أيًّا كان — ليذهب بنا إلى روتشستر ويعود، إضافة إلى الانتظار هناك حتى نشتري كلَّ ما نريده. أعتقد أنني تدبَّرتُ الأمر جيدًا جدًّا.»
قال سيريل في تجهُّم: «أعتقد أنكِ تظنين نفسك ذكية جدًّا، كيفَ فعلتِ ذلك؟»
ردَّت أنثيا قائلة: «حسنًا، لم أكن ذكيةً بالقدْر الذي يجعلني أُخرِج من جيبي حفنة من الذهب ليظهر كأنه بلا قيمة، كل ما في الأمر أنني وجدت فتًى يصنع شيئًا ما بساق حصانٍ مستخدمًا إسفنجة ودلو، فأخرجت جنيهًا ذهبيًّا وقلت له: «هيه، أتعلم ما هذا؟» فقال: «لا.» ثم نادى على والده، فجاء الرجل العجوز فقال إنه جنيهٌ ذهبي قديم، ثم سألني إن كان هذا الجنيه ملكًا لي وما إذا كان يمكنني التصرف فيه كما أشاء؟ فأجبته: نعم، ثم سألته عن العربة، وقلت له يمكنه الحصول على الجنيه الذهبي لو نَقلَنا إلى روتشستر، قال إن اسمه إس كريسبن، وقال لي: «أوه، حسنًا».»
كان شعورًا جديدًا أن تنطلق في عربةٍ أنيقةٍ يجرُّها حصان على طول الطرق الريفية الخلَّابة. لقد كان إحساسًا لطيفًا جدًّا (وهذا ليس هو الحال دائمًا مع الأحاسيس الجديدة)، بصرف النظر عن الخطط الجميلة لإنفاق النقود التي أعدَّها كل واحد منهم أثناء انطلاقهم — في صمت بالطبع وبينهم وبين أنفسهم — لأنهم شعروا أنه من المستحيل أن يسمحوا للعجوز صاحب النُّزل أن يَسمعَهم يتحدثون عن الثراء الذي كانوا يفكرون به. أنزلهم الرجل العجوز على الجسر بناءً على طلبهم.
سأله سيريل كما لو أنه يبحث عن شيء ليقوله: «إذا كنتَ تريد شراءَ عربة وخيول، فأين ستذهب؟»
قال الرجل العجوز على الفور: «بيلي بيسمارش، عند فندق ساراسين هيد، على الرغم من أنه حاشاني أن أُوصي بأحدٍ عندما يتعلق الأمر بالخيول، كما أنني أمتنع عن قَبول توصيةٍ من أي شخص إذا كنتُ سأشتريها، لكن إذا كان والدكم يفكر في شراء أي نوع منها، فلن يكون هناك رجل أوثق ولا أفضل سمعةً في روتشستر من بيلي.»
قال سيريل: «شكرًا لك، عند فندق ساراسين هيد.»
والآن بدأ الأطفال يشاهدون أحد قوانين الطبيعة وهو ينقلب رأسًا على عقب ويقف على رأسه كالبهلوان. سيخبرك أي شخصٍ راشد أن المال صعب المنال وسهل الإنفاق، ولكن كان المال الذي أعطاهم إياه عفريت الرمال سهل المنال، ولم يكن الإنفاق صعبًا فحسب، بل كان من المستحيل تقريبًا. لقد بدا أن أصحاب المتاجر في روتشستر قد اختُزلوا في شخص تاجر واحد، بسبب النقود الذهبية اللامعة (والتي أطلق أغلبهم عليها النقود الغريبة). في البداية، أرادت أنثيا — التي كانت تعاني من سوء الحظ الذي جعلها تجلس على قبعتها في وقتٍ سابق من اليوم — شراء قبعةٍ أخرى، فاختارت واحدةً جميلة جدًّا، مُزيَّنة بالزهور الوردية وطاووس أزرق الصدر. وُضع عليها في النافذة لافتةٌ مكتوب عليها: «تصميم باريسي، بثلاثة جنيهات.»
قالت أنثيا: «أنا سعيدة أنها مكتوب عليها كلمة جنيهات وليس جنيهات إنجليزية حديثة فهي ليست بحوزتنا.»
ولكن عندما أخذت ثلاثة جنيهاتٍ ذهبية في يدها — والتي أصبحت متسخة بحلول هذا الوقت بسبب عدم ارتدائها القفازات قبل ذهابها إلى حفرة الحصى — نظرت الفتاة الشابة التي كانت ترتدي ثيابًا من الحرير الأسود في المتجر إليها بشدة ثم ذهبَت وهمسَت بشيء إلى سيدةٍ أكبر منها وأقبح، تلك التي ترتدي أيضًا ثيابًا من الحرير الأسود، وبعد ذلك أعادوا إليها المال وقالوا إنها ليست عملةً سارية.
قالت أنثيا: «إنها نقودٌ صحيحة وهي ملكٌ لي.»
قالت السيدة: «يمكنني اعتبار ذلك صحيحًا، لكنها نقودٌ ليست متداولةً الآن، ونحن غير مهتمِّين بأخذها.»
قالت أنثيا وهي تنضم للآخرين الواقفين في الشارع: «أعتقد أنهم يظنُّون أننا سرَقْناها؛ ولو كنا نرتدي القفازات لما ظنُّوا أننا مخادعون، إن السبب في ملء رءوسهم بالشكوك لهي يداي المتسختان.»
بعد ذلك، اختاروا متجرًا متواضعًا، واشترت منه الفتاتان قفازاتٍ قطنية، يبلغ سعرها ستة بنسات وثلاثة أرباع البنس، ولكن عندما عرضتا نقودهما، نظرت إليهما المرأة من خلال نظاراتها وقالت إنها لن تقبل هذه النقود؛ لذلك كان يتعين دفع ثمن القفازات من الجنيهين والبنسات السبعة الخاصة بسيريل التي كان يعتزم شراء الأرانب منها، وكذلك شنطة يد جلد التمساح الأخضر المقلدة بتسعة بنسات ونصف التي اشترَوها في الوقت نفسه. لقد حاولوا مع العديد من المتاجر في المنطقة المجاورة، تلك التي يُشترى فيها الألعاب والعطور والمناديل الحريرية والكتب وعُلب الأدوات المكتبية الفاخرة والصور الفوتوغرافية للأشياء ذات الأهمية، لكن لم يهتم أحدٌ بأخذ النقود الذهبية منهم في ذلك اليوم في روتشستر. وبينما كانوا ينتقلون من متجر إلى آخر، كانوا يزدادون اتساخًا، ويصبح شعرهم أكثر شعوثة. كما انزلقت جين وسقطت على جزء من الطريق كانت قد مرت منه عربة رش الماء. كذلك فقد شعروا بالجوع الشديد، لكنهم لم يجدوا أحدًا يُعطيهم ما يأكلونه مقابل نقودهم تلك. وبعد المحاولة مع اثنَين من متاجر بيع الكعك دون جدوى، أصبحوا جائعين للغاية، ربما من رائحة الكعك التي في المتاجر — كما رجَّح سيريل — ما دفعهم — وهم يهمسون — إلى تشكيل خطة هجومية ونفَّذوها في يأس. ساروا نحو محلِّ كعكٍ ثالث — كان اسمه «بيل» — وقبل أن يتدخَّلَ الأشخاص الذين يقفون وراء الطاولة، كان كل طفل قد استولى على ثلاثِ كعكات الواحدة منها تُباع ببنس، وضمَّ الثلاثة معًا بين يديه المتَّسختَين، وأخذ قضمةً كبيرةً من الشطيرة الثلاثية، ثم وقفوا جميعًا على مسافةٍ آمنة وفي أيديهم اثنتا عشرة كعكة بينما تمتلئ أفواههم عن آخرها بالفعل. اتجه بائع الكعك مسرعًا نحوهم.
قال سيريل وهو يحاول أن يتحدَّث بأقصى ما يستطيع من الوضوح ممسكًا بالعملة الذهبية التي جهَّزَها قُبَيل دخولِه المتجر: «هاك، خذ ثمنها من هذه.»
انتزع السيد بيل العملة منه، وعضَّ عليها، ثم وضعها في جيبه.
ثم صاح فيهم قائلًا: «اذهبوا بعيدًا!»
قالت أنثيا التي كانت مغرمة بالتوفير: «ولكن ماذا عن الباقي؟»
قال الرجل: «الباقي؟ أنتم محظوظون أنني سأدعكم تمضون دون أن أستدعيَ لكم الشرطة لتكتشف حقيقة هذه النقود ومن أين أتيتم بها!»
فرغ هؤلاء المليونيرات من تناول الكعكات، وعلى الرغم من أن الكعكات كانت طريةً ولذيذةَ المذاق ولها مفعول السحر في رفع معنويات المجموعة، فإنه حتى أكثر القلوب شجاعة تُرهبُه فكرة المغامرة بالذهاب والتحدُّث إلى السيد بيلي بيسمارش عند فندق ساراسين هيد بخصوص موضوع العربة والحصان؛ فقد تخلى الولدان عن الفكرة، لكن جين كانت دائمًا فتاةً مفعمةً بالأمل، أما أنثيا فكانت بوجهٍ عامٍّ فتاةً عنيدة؛ لذا كانت الغلبة لحماستهما.
كانت المجموعة برمتها في حالة اتساخٍ تام؛ ومن ثم توجَّهوا إلى فندق ساراسين هيد. وبما أن الأسلوب الذي اتبعَتْه أنثيا في فناء شيكرز قد آتى ثماره، فإنهم جرَّبُوه مرةً أخرى هنا. كان السيد بيسمارش في الفِناء عندما افتتح روبرت حديثه بهذه الكلمات:
«أخبروني أنَّ لديك الكثير من الخيول والعربات للبيع.» لقد اتفق الأولاد فيما بينهم على أن يكون روبرت هو المتحدث؛ لأنه في الكتب دائمًا ما يكون الرجال هم الذين يشترون الخيول، وليس السيدات، وكان سيريل قد أخذ دوره في حانة «بلو بور».
قال السيد بيسمارش: «صدقًا أخبروك أيُّها الشاب.» كان رجلًا نحيلًا طويلًا وله عينان زرقاوان جدًّا وفمٌ صغيرٌ وشفتان مزمومتان.
قال روبرت بأدب: «نودُّ شراء بعضها من فضلك.»
«أحسب ذلك.»
«هلَّا أريتَنا بعضها من فضلك لنختار منها؟»
قال السيد بيسمارش متسائلًا: «ابن من أنت؟ وهل أرسلوك لتُبلغني رسالةً ما؟»
قال روبرت: «قلتُ لك إننا نريد شراء بعض الخيول والعربات، وثَمَّةَ مَنْ أخبرنا أنك رجلٌ نزيه وودود، لكنني أتساءل ما إذا كان قد أخطأ.»
قال السيد بيسمارش: «إن ذلك لمن دواعي سروري، هل تحب أن أُخرج الإسطبل كله على شرف سموك لتتخير منه ما تشاء؟ أم هل تحب أن أرسل للأسقف لأرى إن كان لديه حصان أو اثنان يرغب في بيعهما.»
قال روبرت: «من فضلك، إذا لم يكن في ذلك مشكلةٌ كبيرة. سيكون هذا لطفًا منك.»
وضع السيد بيسمارش يديه في جيبَيه وضحك، ولم ترُق لهم الطريقة التي فعل بها ذلك. ثم صاح مناديًا: «وِيلَم!»
فظهر سائس خيلٍ أحدب عند باب الإسطبل.
«تعالَ وانظر يا ويلم إلى هذا الدوق الصغير هنا، إنه يرغب في شراء كل الجياد والأقفال والمخزون والبراميل، ولا يُوجد في جيبه بنسان يشفعان له، ولكني سأضمنه في ذلك.»
تبعَت عينا ويلم أصابعَ سيده التي كانت تشير للصبي باهتمامٍ يشي بالازدراء، وقال: «هل يرغب في ذلك حقًّا؟»
لكن روبرت بالرغم من أن الفتاتَين كانتا تجذبانه من سترته وتترجَّيانِه المضي معهما، قال وكان في غضبٍ شديد:
«أنا لستُ دوقًا صغيرًا، ولم أتظاهر بذلك قط، وبالنسبة إلى مسألة البنسَين، فماذا تسمي هذا؟» وقبل أن يُسكته الآخرون كان قد أخرج حفنتَين من الجنيهات الذهبية، وأراهما للسيد بيسمارش لينظر إليهما، وقد فعل؛ فقد التقط قطعة بأصبعَيه وعضَّ عليها وتوقعَت جين أن يقول: «إن أفضل حصان في إسطبلي سيكون في خدمتكم.» ولكن الآخرين كانوا أعلم منها. ومع ذلك فقد كان ما قاله بإيجاز صفعةً حتى على وجوه أشد المتشائمين:
«ويلَم، أغلق أبواب الفناء.» فابتسم ويلَم وذهب ليغلق الأبواب.
قال روبرت متعجلًا: «مساء الخير؛ قل ما شئتَ الآن فلن نشتريَ أيًّا من خيولك، وآمل أن يكون هذا درسًا لك.» كان قد رأى بوابةً جانبية صغيرة مفتوحة، وكان يتحرَّك نحوها وهو يتكلَّم، لكن بيلي بيسمارش اعترض طريقه قائلًا:
«ليس بهذه السرعة، أيُّها المنبوذ، اذهب يا ويلَم فاستدعِ الشرطة.»
ذهب وِيلَم، وتجمَّع الأطفال معًا كالخراف المذعورة، وتحدَّث إليهم السيد بيسمارش حتى وصلتِ الشرطة، لقد قال لهم أشياءَ كثيرة، وكان من بين ما قاله:
«يا لكم من عصابةٍ بارعة! تأتون بجنيهاتكم الذهبية لتغووا بها الرجال الشرفاء!»
قال سيريل بجرأة: «إنها نقودنا بالفعل!»
«آه بالطبع نحن لا نعلم كل شيء بهذا الشأن، لا، لا نعرف، بالطبع لا! كما أنكما أقحمتما الفتاتَين في هذا الأمر أيضًا، اسمعا سأترك الفتاتَين تذهبان إذا أتيتما معي بهدوء إلى الشرطة.»
قالت جين ببسالة: «لن نذهب إلى أي مكان، ليس بدون أخوَينا، إنها نقودنا كلنا، ولنا فيها مثلُ ما لهما، أيُّها العجوز الشرير.»
قال الرجل وقد خفَّف من نبرته الحادة وألانَ الكلام وهو ما لم يكن ما يتوقَّعه الأولاد عندما بدأت جين في شتمه: «من أين حصلتم عليها؟»
ألقت جين نظرةً كئيبة إلى بقية الأولاد.
«هل قُطع لسانك؟ كان يعمل بسرعةٍ كافية عندما كنتِ تطلقين به الشتائم! هيا، انطقي! من أين حصلتم على النقود؟»
قالت جين الصادقة: «أتينا به من حفرة الحصى.»
قال الرجل: «أكملي.»
قالت جين: «أقول لك إننا وجدناه هناك، هنالك عفريت، يمتلئ جسده بالفراء، له أذنا وطواط وعينا حلزون، وهو يُحقِّق لك كل يوم أمنية، وكلها تحقَّقَت.»
قال الرجل بصوتٍ خفيض: «إنها ممسوسةٌ في عقلها، العار عليكما أيُّها الفتيانِ أن أقحمتما مثل هذه الفتاة البائسة في سطوِكما الآثم.»
قالت أنثيا: «إنها ليست مجنونة؛ إن ما قالتْه صحيح. هناك عفريت. إذا رأيته مرةً أخرى فسأتمنى لك شيئًا ما؛ أو ذلك ما كنت سأفعله لو لم يكن الانتقام شرًّا — هذه هي الحقيقة!»
قال بيلي بيسمارش: «يا إلهي! وأنت أيضًا مصابةٌ بمسٍّ في عقلك. تُرى من منكم أيضًا؟!»
بعد قليل عاد ويلَم وقد تجهَّم وجهه، وكان بصحبته شرطي يمشي وراءه، وقد تحدَّث إليه السيد بيسمارش طويلًا بصوتٍ غليظٍ جاد.
قال الشرطي أخيرًا: «أستطيع القول إنك على صواب. على أية حال، سأحتجزهم بتهمة الحيازة غير القانونية للنقود، وسننتظر ما يُسفر عنه الاستجواب. وسيتولَّى القاضي النظر في القضية. وعلى الأرجح أن الفتاتَينِ المصابتينِ ستعودان إلى المنزل، وأن الولدَين سيذهبان إلى الإصلاحية. والآن، هيا أيُّها الشابان! لا فائدة من إحداث ضجة. اصطحب أنت الفتاتَين يا سيد بيسمارش، وسأقتاد أنا الفتيَيْن.»
وهكذا اقتيد الأطفال الأربعة عبر شوارع روتشستر وقد أخرسهم الغيظ والفزع، وأعمتْهم دموع الغضب والخزي، لدرجة أنه عندما تقابل روبرت صدفةً مع واحدة من عابري الطريق والتي لم يستطع أن يميِّزها حتى سمع صوتها المعروف جيدًا له يقول: «يا إلهي! ماذا صنعْتَ هذه المرة يا سيد روبرت؟» وقال صوتٌ آخر: «بانثيا، أريد الذهاب إلى بانثيا!»
لقد قابلوا مصادفة مارثا والرضيع.
تصرَّفَت مارثا على نحوٍ يثير الإعجاب؛ فلقد رفضَتْ أن تصدِّق كلمةً واحدة من رواية الشرطي، أو رواية السيد بيسمارش أيضًا، حتى عندما جعلا روبرت يُفرغ جيبيه في أحد الممرات ويُريها جنيهًا ذهبيًّا.
قالت: «لا أرى شيئًا على الإطلاق، لقد فقد كلاكما عقله! لا يُوجد أي ذهب هنا؛ فقط أيدي الطفل المسكين، التي تُغطِّيها الأوساخ والطين، لقد صار كالمدخنة الصغيرة. لم أكن أتمنى أن أرى يومًا كهذا!»
لقد ظنَّ الأطفال أن مارثا تتعامَل معهم بنبل، حتى لو كانت شريرةً إلى حدٍّ ما، إلى أن تذكروا كيف وعدهم عفريت الرمال ألا يلاحظ الخدم أبدًا أيًّا من هداياه. وبالتأكيد، لم تتمكن مارثا من رؤية الذهب، وهكذا فقد كانت تتحدث فقط عن الحقيقة التي تراها، وكان ذلك صحيحًا تمامًا، بالطبع، لكنه لم يكن عملًا نبيلًا للغاية.
كان قد حلَّ المساء عندما وصلوا إلى قسم الشرطة. وقصَّ الشرطي روايته على المفتش، الذي جلس في غرفةٍ كبيرةٍ خاليةٍ ليس بها سوى شيء، مثل الحاجز الذي يلعب خلفه الأطفال الصغار في المنزل، لوضع السجناء فيه. تساءل روبرت عما إذا كانت زنزانة أم قفص اتهام.
قال المفتش: «أرني النقود أيُّها الشرطي.»
قال الشرطي: «أفرغوا جيوبكم.»
أدخل سيريل يديه في جيوبه، ووقف لحظة، ثم بدأ يضحك؛ وهو نوعٌ غريب مؤلمٌ من الضحك أشبه بالبكاء. لقد كانت جيوبه فارغة. وكذلك كانت جيوب الآخرين. بالطبع عند غروب الشمس، اختفى كل ذهب عفريت الرمال.
قال المفتش: «أفرغ ما في جيوبك وتوقف عن إحداث هذه الجلَبة.»
أخرج سيريل جيوبه التسعة المزودة في سترته واحدًا تلو الآخر، وكان كل جيب منها فارغًا.
قال المفتش: «حسنًا.»
«لا أدري كيف فعلها أولئك المتسولون! لقد كانوا يمشون أمامي طوال الطريق، لئلا يغيب أحدهم عن ناظري ولكيلا ألفت انتباه الحشود أو أعرقل حركة السير.»
قال المفتش عابسًا: «رائعٌ جدًّا.»
قالت مارثا: «إذا كنتَ قد أنهيتَ إرهابك لهؤلاء الأطفال الأبرياء، فسأستأجر عربةً خاصة وسنذهب إلى منزل أبيهم الفخم، ولسوف تسمع عن هذا مرةً أخرى أيُّها الشاب! لقد أخبرتك أنهم لم يكن معهم أي ذهب، عندما ادعيتَ رؤيته في أيديهم البائسة المسكينة. أليس من العيب ألَّا يستطيع شرطي أن يثق فيما تراه عيناه؟ أما بالنسبة إلى الرجل الآخر، فخير الكلام ما قلَّ ودلَّ. إنه يُطيل المكوث في حانة ساراسين هيد، وهو يعرف أفضل من غيره ما نوع المشروبات التي يتعاطاها.»
قال المفتش: «خذيهم بعيدًا، بحق الله!» وبعدما غادروا مخفر الشرطة، قال للشرطي وللسيد بيسمارش «وماذا بعد!» لكنه قال ذلك بغضبٍ يفوق ما كان يخاطب به مارثا بعشرين مرة.
كانت مارثا على قدْر كلمتها؛ فقد نقلتهم إلى المنزل في عربةٍ كبيرة للغاية؛ لأن العربة التي كانت ستقلُّها قد فاتت، وعلى الرغم من أنها وقفت إلى جانبهم بكل شرف أمام الشرطة، إلا أنها — وبمجرد ما أصبحوا وحدهم — صبَّت جام غضبها عليهم بسبب «تسكُّعهم وحدهم في روتشستر»، ولم يجرؤ أيُّ منهم على ذكر رجل القرية العجوز وعربته وهو الذي كان ينتظرهم في روتشستر. وهكذا، بعد يوم واحد من الثراء الذي لا حدود له، وجد الأطفال أنفسهم يُمضَى بهم إلى الفراش في خزيٍ عميق، وليس بأياديهم من تلك الرحلة شيءٌ إلا أزواج من القفازات القطنية، المتسخة من الداخل بسبب حالة أيديهم التي لبسوا القفازات للتغطية عليها، وحقيبة من جلد التمساح المُقلَّد، واثنتا عشرة كعكة هُضمت منذ زمنٍ بعيد.
أكثر شيء أثار قلقهم هو خوفهم من أن يكون الجنيه الذهبي الذي أعطَوْه للرجل العجوز قد اختفى عند الغروب كبقية الجنيهات الأخرى؛ لذلك ذهبوا إلى القرية في اليوم التالي للاعتذار لعدم مقابلته في روتشستر، وللتأكد من ذلك، فعاملهم ببالغ الود، ووجدوا أن الجنيه الذهبي لم يختفِ، وقد صنع به ثقبًا وعلقه في سلسلة ساعته. أما بالنسبة إلى الجنيه الذي أخذه الخبَّاز، فقد شعر الأطفال بعدم الاهتمام بما إذا كان قد اختفى أم لا، وهو شعورٌ لم يكن نبيلًا، ولكن من ناحيةٍ أخرى كان شعورًا طبيعيًّا. ولكن بعد ذلك، استحوذ هذا الأمر على تفكير أنثيا، فأرسلَت في النهاية سرًّا اثني عشر طابعًا في رسالةٍ بالبريد إلى «السيد بيل، الخبَّاز، في روتشستر.» كتبَت بداخلها: «ثمن الكعك.» آمل أن يكون الجنيه الذهبي قد اختفى؛ لأن صانع فطيرة البسكويت لم يكن في الحقيقة رجلًا جيدًا، بالإضافة إلى أن تلك الكعكات تُباع كلُّ سبعةٍ بستة بنسات في جميع المتاجر المحترمة حقًّا.