الحَمَلُ المحبوب
في صبيحة اليوم التالي لليوم الذي كان الأطفال قد حازوا فيه ثروةً لا حدَّ لها، وكانوا عاجزين عن شراء أي شيءٍ مفيد أو ممتع بحق، باستثناء زوجَين من القفازات القطنية، واثنتَي عشرة كعكة صغيرة، وحقيبةٍ من جلد التمساح المُقلد، وركوبهم في عربة يجرُّها حصان، ها هم يستيقظون دون شيء من السعادة الغامرة التي شعروا بها في اليوم السابق عندما تذكَّروا كم كانوا محظوظين بعثورهم على عفريت الرمال؛ وبحصولهم على وعدٍ منه بتحقيق أمنيةٍ جديدة لهم كل يوم. وقد تحقَّق لهم حتى الآن أمنيتان، الجمال والثروة، لكن كلتا الأُمنيتَين لم تجعلهم سعداء في الحقيقة. بيْد أن حدوث الأشياء الغريبة — حتى وإن لم تكن أشياء مبهجة تمامًا — لأمرٌ أكثر إمتاعًا من مرور الأوقات رتيبةً، لا يحدث فيها شيء يُذكر سوى تناوُل الوجبات، وهي ليست دائمًا بالغة المتعة، لا سيَّما في الأيام التي يُقدَّم لهم فيها لحم الضأن البارد أو اللحم المفروم.
لم تكن هناك أي فرصة للتحدث في شيء قبل الإفطار؛ لأن الجميع كانوا قد أفرطوا في النوم، وتطلَّب الأمر منهم مجاهدة أنفسهم بقوةٍ وحزمٍ من أجل ارتداء ملابسهم ليأتوا متأخرين بعشر دقائق على تناول الإفطار. خلال هذه الوجبة، بذل الأطفال جهدًا للتعامُل مع مسألة عفريت الرمال بإنصاف، لكن من الصعب للغاية مناقشة أيِّ شيءٍ باستفاضةٍ في الوقت ذاته الذي تحاول فيه بإخلاصٍ تلبية رغبات أخيك الصغير وهو يتناول إفطاره. كان الرضيع شديد النشاط في ذلك الصباح؛ فلم يقتصر الأمر على أنه سقط عبر حاجز كرسيه العالي، فعلق رأسه واحمرَّ وجهه وكاد يختنق، لكنه كذلك استولى على ملعقةٍ كبيرةٍ في حركةٍ مباغتة، وضرب بها سيريل بشدة على رأسه، ثم بكى لأن الملعقة أُخذت منه، ثم وضع قبضته السمينة في وجبته من الخبز والحليب، وطالب بنطقه الطفولي ﺑ «المُرَبَّى» التي كان يُسمح بها فقط مع الشاي. وغنَّى، ووضع قدمَيه على الطاولة، وصاح «هيا امشِ!» ودار الحوار بينهم كالتالي:
«اسمعوا … بخصوص عفريت الرمال … حاذروا! سيريق اللبن.»
نُقِل اللبن إلى مسافةٍ آمنة من الرضيع.
«نعم … بخصوص ذلك العفريت … لا، يا حَمَلنا العزيز، أعطِ بانثيا الملعقة.»
ثم حاول سيريل التحدث قائلًا: «لا شيء مما حصلنا عليه بدا … كاد هذه المرة يسكب المسطردة!»
«أتساءل عما إذا كان يجدر بنا تمني … مرحى! لقد فعلتَها الآن يا صغيري!» وفي طرفة عين سقط على الأرض الحوضُ الصغير الذي كان قد وُضع فيه سمك الشَّبُّوط الذهبي وأخذ يتدحرج على جنبه بعد أن وضع الرضيع فيه يده فانسكب في حِجرِه الماء والسمك اللذان كانا في الحوض كما طال ما انسكب حجورَ الأولاد الآخرين.
كان الجميع يشعرون بالضيق حتى الأسماك الذهبية، في الوقت الذي ظلَّ فيه الحَمَل الصغير هادئًا. وعندما نُظِّفت «البركة» التي كانت على الأرض، وانتُشلت الأسماك الذهبية المتقافزة ووُضعت مرةً أخرى في الماء، حملَت مارثا الرضيع بعيدًا لتُغيِّر له ملابسه بالكامل، وكان على معظم الآخرين تغيير ملابسهم بالكامل أيضًا. وعُلِّقت مرايل الأطفال والسترات التي كانت قد غُمرَت بالمياه وبالأسماك الذهبية لتجف، ثم اتضح أن جين عليها إما أن ترتدي الفستان الذي مزَّقَته في اليوم السابق وإما أن تظل طوال اليوم مرتديةً أفضل تنوراتها التحتية. كانت التنورة بيضاء وناعمة ومزخرفة، ومُزيَّنة بالدانتيلا، وفي غاية الجمال والروعة، كانت تبدو كَزي خروج تمامًا، إن لم تكن أجمل من ذلك. إلا إنها لم تكن زيَّ خروج، وكانت مارثا هي صاحبة القرار في هذا الشأن؛ فلم تكن تسمح لجين بارتداء أفضل ملابسها المُخصَّصة للخروج، ورفضَت أن تستمع للحظة إلى اقتراح روبرت القائل بأن جين يجب أن ترتدي أفضل تنوراتها التحتية وأن تُطلق عليه فستانًا.
قالت مارثا: «هذا ليس جديرًا بالاحترام، وعندما يقول الناس ذلك، فلا يهم ما يقولونه، فليقولوا ما يشاءون. ستكتشفون هذا بأنفسكم في يوم من الأيام.»
لذلك لم يكن هناك بديل سوى أن تُصلح جين فستان الخروج الخاص بها. كان الفستان قد تمزَّق جراء سقوطها في الحفرة في اليوم السابق في الطريق السريع في روتشستر، حيث مرت عربة رش الماء فملأت الطريق بالماء. وسقطَت في إحدى الحفر التي غمرتها المياه فخُدشت ركبتها، أما جواربها فما حدث لها كان أكبر من مجرد خدش، وقطع فستانها بالحَجر نفسه الذي احتك بالركبة والجورب. بطبيعة الحال، لم يكن الآخرون بالدناءة التي تجعلهم يتخلَّون عن رفيقٍ في محنة؛ لذلك جلسوا جميعًا على قطعة أرض معشوشبة مستديرة حول الساعة الشمسية، في انتظار جين وهي ترتق ثوبها بفارغ الصبر. كان الحَمَل الصغير لا يزال في أيدي مارثا بعد تغيير ملابسه؛ لذلك كان هناك مجال لتبادُل أطراف الحديث.
حاول كلٌّ من أنثيا وروبرت إخفاء ما يفكران فيه بعمق، وهو أن عفريت الرمال ليس جديرًا بالثقة، لكن سيريل قال:
«تحدثوا، قولوا ما تَودُّون قوله فأنا أكره الإيماء، وقول «لا أدري» وما شابه من الأساليب الملتوية.»
عند ذلك قال روبرت وقد أدركَته الحميَّة: «بل أسلوبك أنت الملتوي، أنا وأنثيا لم نتعرض للبلل مثلكما؛ لذا كنا أسرع منكما في تبديل ملابسنا، وهذا ما أعطانا الوقت لنفكِّر أكثر في الأمر، وإذا سألَتْني.»
قالت جين وهي تقطع خيطًا بأسنانها وهو ما كانت دومًا تُنهى عن فعله: «أنا لم أسألك شيئًا.»
قال روبرت: «أنا لا يهمني من يسأل أو من لا يسأل، ولكني أنا وأنثيا نعتقد أن عفريت الرمال شريرٌ متوحش، فإذا كان بإمكانه أن يُحقِّق لنا أمنياتنا، فأنا أظن أنه يمكنه أن يُحقِّق لنفسه ما يتمنَّى، وأشعر تقريبًا أنه يتمنَّى في كل مرةٍ ألَّا ننتفع بأمنياتنا. دعونا نترك الوحش المُجهَد وشأنه، ولنذهب معًا للاستمتاع بلعبة الحصون، في المحجر الطباشيري.»
(تذكر أن المنزل ذا الموقع السعيد حيث كان يقضي هؤلاء الأطفال عطلتهم يقع بين المحجر الطباشيري وحفرة الحصى.)
لكن سيريل وجين كانا أكثر تحليًا بالأمل، على وجه العموم.
قال سيريل: «لا أعتقد أن عفريت الرمال يفعل ذلك عن قصد؛ فبرغم كل شيء، كان من السخف أن نتمنى ثراءً غير محدود. خمسون جنيهًا مقسَّمة على فئاتٍ كلٌّ منها بقيمة شلنَين ربما كانت ستصبح أكثر عقلانية. وأمنية أن نصبح في غاية الجمال كانت ببساطة أمنيةً غبية. لا أريد أن أكون معارضًا، لكنها كانت كذلك. يجب أن نحاول أن نفكر في أمنيةٍ مفيدة حقًّا، ونتمناها.»
ألقت جين ما في يدها وقالت:
«أظن ذلك أنا أيضًا؛ فمن الحماقة أن نحصل على فرصةٍ مثل هذه ثم لا نستغلها. لم أسمع أن أحدًا آخر حظي بمثل تلك الفرصة إلا في الكتب؛ لا بد أن هناك عددًا كبيرًا من الأمنيات التي يمكننا تمنيها ولا تتحول إلى أشياءَ سيئة في النهاية، كما تحوَّلت الأمنيتان اللتان تحققتا لنا، فلنعمل جهدنا في التفكير، ولنتمنَّ شيئًا جميلًا، حتى نحظى بيومٍ ممتع، أو بما تبقَّى منه.»
وعندما انتهت مهمة ترتيق الفستان، تأخَّر ذهابهم إلى الحفرة بسبب إصرار مارثا على غسل الجميع لأيديهم وهو ما لم يكن له معنى؛ لأن ما من أحدٍ منهم كان يفعل أي شيء على الإطلاق، باستثناء جين، وكيف لأيديهم أن تتسخ بينما لا يفعلون بها شيئًا؟ هذا سؤال صعب، ولا يمكنني الإجابة عنه نظريًّا. أما في الواقع العملي، فيمكنني بسهولة أن أثبت لك أو تثبت لي ما هو الشيء المرجح أن يحدث.
أثناء المحادثة التي أنصتت فيها الآذان الستة (كان هناك أربعة أطفال، وعلى هذا فالجمع صحيح كما سبق توضيحه)، فقد تقرر أن خمسين جنيهًا مقسَّمة على فئاتٍ كلُّ فئة منها بقيمة شلنَين كانت الأمنية الصائبة التي ينبغي عليهم طلبها. كما أن الأطفال المحظوظين، الذين يمكنهم الحصول على أي شيء في العالم بأَسْره من خلال أمنياتهم فحسب، انطلقوا مسرعين إلى حفرة الحصى لإخبار عفريت الرمال بأمنياتهم، لكنَّ مارثا أمسكت بهم على البوابة، وأصرَّت على أن يصطحبوا الرضيع معهم.
قالت مارثا: «ألا تريدون أن تأخذوه معكم حقًّا؟! ومن لا يُحب مرافقة هذا الرضيع الجميل؟! وأنتم تعلمون أنكم وعدتم أمكم باصطحابه معكم إلى الخارج كلما كان الجو صحوًا.»
قال روبرت واجمًا: «نعلم أننا وعدناها، لكنني أتمنى لو أن الحَمَل لم يكن بهذا الحجم وبهذه السن، كان سيكون اصطحابه أفضل كثيرًا.»
قالت مارثا: «أما عن مشكلة السن فهو سيكبَر مع مرور الوقت. وفيما يتعلق بصغر حجمه، فأنا لا أعتقد أنك ستحمله مرةً أخرى، مهما كان كبيرًا. كما أنه يستطيع المشي قليلًا، بفضل قدمَيه العزيزتَين السمينتَين! إنه ينتعش بالهواء العليل، أليس كذلك يا عزيزي؟!» ثُم قبَّلتِ الصغير ووَضعَته بين ذراعَي أنثيا، وعادت لتصنع مرايلَ جديدة للأطفال على ماكينة الخياطة. لقد كانت ذات أداءٍ سريع على هذه الآلة.
ضحك الحَمَل الصغير مبتهجًا وقال بلهجةٍ طفولية: «سيري يا بانثيا!» وركب على ظهر روبرت وهو يصيح مسرورًا، كما حاول أن يطعم جين حجارةً، وبوجهٍ عام كان لطيفًا للدرجة التي لم يكن يندم أحدٌ منهم على اصطحابه معهم.
بل إن جين المتحمِّسة اقترحَت أنه ينبغي عليهم تكريس أُمنيات أسبوعٍ كامل لتأمين مستقبل الرضيع، من خلال تمني تحقيق أُمنياتٍ كتلك الأُمنيات التي تُحققها الجنيات الطيبة للأمراء الصغار في القصص الخيالية، ولكن أنثيا ذكَّرتها بنباهة بأن الأُمنيات التي حققها عفريت الرمال لا تدوم بعد غروب الشمس، ولا يمكنهم ضمان أي منفعة تعود على الطفل في سنواته القادمة؛ فأقرَّت جين أنه من الأفضل أن تتمنى الحصول على خمسين جنيهًا من فئة الشلنَين، وأن تشتري للحَمَل حصانًا هزَّازًا بثلاثة جنيهات ونصف، مثل تلك الموجودة في قائمة متاجر «آرمي آند نيفي» بجزء من المال.
وقد اتفقوا على أنه بمجرد الحصول على المال الذي تمنَّوْه، سيطلبون من السيد كريسبن توصيلهم إلى روتشستر مرةً أخرى، وسيأخذون مارثا معهم، إذا لم يتمكنوا من الخروج بدونها، وسيكتبون قائمة بالأشياء التي يريدونها بالفعل قبل أن يطلبوها. مفعمين بالآمال العريضة وبالعزيمة الكبيرة، ذهبوا عبر الطريق الآمن البطيء إلى حفرة الحصى، ولمَّا دخلوا بين تلال الحصى، طرأت عليهم فكرةٌ مفاجئة، ولو كانوا قصة في كتاب لكانت وجوههم المتوردة تحولت إلى شاحبة، ولكن لكونهم أطفالًا حقيقيين، فقد جعلَتهم يتوقفون وينظرون بعضهم إلى بعض بتعابيرَ فارغةٍ وبلهاءَ إلى حدٍّ ما؛ فقد تذكروا الآن أنهم، أمسِ، عندما طلبوا من عفريت الرمال الحصول على ثروةٍ لا حدود لها، وكانت الحفرة على وشك الامتلاء بملايين الجنيهات الذهبية اللامعة أن عفريت الرمال طلب منهم المسارعة بالخروج من المحجر خوفًا عليهم من أن يُدفنوا أحياء تحت الكنز العظيم الثقيل. وقد فعلوا. وقد حدث أنهم لم يكن لديهم وقتٌ لتمييز مكان عفريت الرمال، بكومة من الأحجار، كما صنعوا من قبلُ. كانت هذه الفكرة هي التي وَضعَت مثل هذه التعبيرات البلهاء على وجوههم.
قالت جين المتفائلة: «لا عليكم، سنعثر عليه سريعًا.»
ولكن هذا وإن كان سهلًا في قوله كان صعبًا في تنفيذه؛ فقد بحثوا وبحثوا، ورغم عثورهم على مجاريفهم الشاطئية، فإنهم لم يعثروا على عفريت الرمال في أي مكان.
واضطُروا أخيرًا إلى الجلوس والراحة — ليس مطلقًا لأنهم كانوا مرهَقين أو محبَطين، ولكن لأن الحَمَل الصغير أصرَّ على أن يضعوه على الأرض، ولا يمكنك أن تبحث بدقة عن أي شيءٍ مفقود في الرمال بينما لديك — في الوقت نفسه — طفلٌ كثير الحركة يحتاج إلى متابعة. اجعل شخصًا ما يرمي بأفضل سكاكينك في الرمال في المرة القادمة التي تذهب فيها إلى شاطئ البحر، ثم اصطحب أخاك الرضيع معك عندما تذهب للبحث عنها، وسوف ترى أنني على صواب.
كان الحَمَل الصغير — كما قالت مارثا — يستفيد من الهواء الريفي العليل، فكان يلعب بنشاط كحشرة نطَّاط الرمل. أما إخوته الذين يكبَرونه سنًّا يتوقون إلى الحديث عن الأُمنيات الجديدة التي قد تتحقق عندما (أو إذا) وجدوا عفريت الرمال مرةً أخرى. لكن الحَمَل الصغير يرغب في إمتاع نفسه.
لذا تحيَّن فرصته وألقى حفنة من الرمل في وجه أنثيا، ثم دسَّ رأسه في الرمل فجأة ولوح بساقَيه السمينتَين في الهواء. بعد ذلك — بالطبع — دخلَت الرمال في عينَيه، كما دخلت في عينَي أنثيا، وظل يصرخ.
كان روبرت الكثير التفكير قد أحضر زجاجةً واحدة من جِعَة الزنجبيل، استعدادًا للعطش الذي لم يُخيِّب ظنه. كان لا بد من نزع سدادة الزجاجة بسرعة — لأنها كانت الشيء الرطب الوحيد الذي في متناول أيديهم — وكان من الضروري غسل الرمال من عينَي الحَمَل الصغير بأي طريقة. وبطبيعة الحال فقد أصابه الزنجبيل بألمٍ شديد في عينيه، وصرخ أكثر مما كان يفعل. ووسط آلامه وركلاته، انقلبَت الزجاجة فانسكبَت جعة الزنجبيل الجميلة في الرمال وفُقدت إلى الأبد.
عندئذٍ نسي روبرت — الذي عادةً ما يكون أخًا صبورًا — نفسه ليقول:
«سيوَد أي شخص لو أخذه، حقًّا! ولكن أحدًا لم يفعل؛ لم ترغب مارثا في أخذه في الحقيقة، ولو كانت ترغب لاحتفظَت به معها بكل سرور. إنه مصدر إزعاجٍ مجسَّد في كائن صغير الحجم، هذا ما هو عليه. إنه لأمرٌ سيئ للغاية. كنت أتمنى أن الجميع يريدونه بحق من كل قلوبهم؛ فربما كنا سننعم بشيء من السكينة وراحة البال في حياتنا.»
توقَّف الحَمَل الصغير عن صراخه الآن؛ لأن جين قد تذكَّرت فجأة أن هناك طريقةً آمنة واحدة فقط لإخراج الأشياء من عيون الأطفال الصغار، وهو عن طريق اللسان الرطب الناعم. إنه أمرٌ سهل للغاية إذا كنت تحب الطفل بالقدر الواجب عليك.
ثم ساد القليل من الصمت. كان روبرت يشعر بالاستياء من نفسه لأنه غضب لهذه الدرجة، كذلك استاء الباقون منه. غالبًا ما تلاحظ هذا النوع من الصمت عندما يقول شخصٌ ما شيئًا كان ينبغي عليه ألَّا يقوله؛ فيُمسك الجميع ألسنتهم في انتظار اعتذاره عما قاله.
انكسر حاجز الصمت بتنهيدة؛ صوت زفير خرج فجأة، فالتفتَت رءوس الأطفال كما لو أن كل أنفٍ من أنوفهم مربوطٌ بخيط، وأن شخصًا سحب جميع الخيوط مرةً واحدة.
هنالك رأى الجميع عفريت الرمال جالسًا بالقرب منهم، وعلى وجهه المكسو بالشعر ابتسامة.
قال: «صباح الخير، لقد حقَّقتُ لك ما تمنيت، وصار الجميع يرغبون بشدة الآن في اصطحاب الرضيع.»
قال روبرت عابسًا لأنه علم أنه كان يتصرف بوضاعة: «لا يهم، لا يهم من يرغب فيه؛ لأنه لا يوجد أحدٌ هنا على أية حال.»
قال عفريت الرمال: «الجحود من الرذائل البغيضة.»
أسرعت جين بقولها: «لسنا ناكرين للجميل، لكننا لم نقصد أن نتمنى هذه الأُمنية حقًّا، لقد قالها روبرت هكذا دون قصد، ألا يمكنك استعادتها، ومنحنا أُمنيةً جديدة؟»
قال عفريت الرمال بحزم: «لا، لا أستطيع التغيير أو التبديل؛ فهذا ليس بيعًا أو شراءً. يجب أن تكونوا حذرين فيما يتعلق بالأُمنيات؛ فقد كان هناك ولدٌ صغير ذات مرة، كان قد تمنى بليسيوسوروس بدلًا من إكتيوسوروس؛ لأنه كان كسولًا جدًّا لدرجة أنه لم يكلف نفسه عناء تذكر الأسماء السهلة للأشياء اليومية، فتضايق والده منه جدًّا، وأمره بالذهاب إلى الفراش قبل وقت الشاي، ولم يسمح له بالخروج للتنزه على متن القارب الصغير الرائع مع الأطفال الآخرين في اليوم التالي — وهي رحلةٌ سنوية كانت تُنظِّمها المدرسة — وجاءني في صباح يوم الرحلة وألقى بنفسه بالقرب مني، وجعل يركل بقدمَيه الأرض قائلًا إنه يتمنى أن يموت. وبالطبع حدث ما تمناه.»
قال الأطفال في صوتٍ واحد: «يا للفظاعة!»
قال عفريت الرمال: «فقط حتى غروب الشمس، بالطبع. ومع ذلك فقد كان الأمر كافيًا بالنسبة إلى والده ووالدته. وقد تلقَّى عقابه عندما استيقظ؛ أستطيع أن أقول لك. ولم يتحول إلى حجارة — نسيت السبب — ولكن لا بد من وجود سببٍ ما. إنهم لا يعلمون أن الموت ما هو إلا نومٌ في حقيقته، ولا بد للنائم من أن يستيقظ في مكانٍ أو آخر، إما في المكان الذي نامَ فيه وإما في مكانٍ أفضل. يمكنكم التأكُّد أنه قد نال جزاءه؛ لأنه أصاب والدَيه بالذعر. كيف لي أن أعرف هذا؟ لأنه لم يُسمح له بتذوق الميجاثيريم لمدة شهر بعد ذلك. لا شيء سوى المحار وحلزونات البحر، والأصناف الشائعة من هذا القبيل.»
صُعق الأولاد لسماعهم هذه القصة المريعة. ونظروا إلى عفريت الرمال في فزع. وفجأة أدرك الحَمَل أن هناك شيئًا بنيًّا ومكسوًّا بالفراء كان بجانبه.
قال الحَمَل وقد ضمَّ قبضته: «بوف، بوف، بوفي.»
قالت أنثيا بينما تراجع عفريت الرمال إلى الوراء: «إنه ليس هِرَّة.»
قال عفريت الرمال: «يا لشاربي الأيسر! لا تدعوه يلمسني، إنه مبتلٌّ.»
وانتصب فراؤه من الفزع وكان هنالك بالفعل كمية كبيرة من الزنجبيل مسكوبة على سترة الحَمَل الزرقاء.
حفر عفريت الرمال بيدَيه ورجلَيه واختفى في الحال وسط دوَّامة من الرمال.
علَّم الأطفال البقعة التي اختفى فيها عفريت الرمال بحلقةٍ من الأحجار.
قال روبرت: «يمكننا نحن أيضًا العودة إلى المنزل، سأقول إني آسف؛ على الرغم من عدم وقوع ضررٍ على أية حال، والآن صرنا نعرف أين نجد هذا الشيء الرملي غدًّا.»
كان بقية الأولاد نبلاء، فلم يُوبِّخ أحدهم روبرت مطلقًا، حمل سيريل الحَمَل، والذي عاد إلى هدوئه مرةً أخرى، وانطلقوا عائدين عبْر طريق العربات الآمن.
يتصل طريق العربات المؤديَّ إلى حفرة الحصى بالطريق الرئيسي على نحوٍ مباشر تقريبًا.
توقفَت المجموعة عند البوابة لنقل الحَمَل من ظهر سيريل إلى ظهر روبرت، وفي اللحظة التي توقفوا فيها لاحت لهم عربةٌ أنيقة مفتوحة السقف، يقودها سائق ويجلس بجانبه على صندوق القيادة خادم، وبداخل العربة تركب سيدة — كانت شديدة الفخامة في الحقيقة — ترتدي فستانًا من الدانتيلا البيضاء مُزيَّنًا بأشرطةٍ حمراء وتمسك في يدها مظلةً خفيفةً ذات لونَين أحمر وأبيض، وتحتضن كلبًا كثيف الشعر، في عنقه ربطةٌ حمراء، نظرت إلى الأطفال، وخصوصًا الطفل الصغير، وابتسمت إليه. لقد اعتاد الأطفال على هذا؛ فقد كان الحَمَل كما قالت الخادمات: «طفل يأَسِر الألباب.» لذا فقد لوَّحوا بأيديهم إلى السيدة بلطف وتوقعوا أن تستأنف مسيرها، ولكنها لم تفعل؛ فبدلًا من ذلك أمرت السائق بالتوقُّف، وأشارت إلى سيريل وعندما صعد إليها في العربة قالت:
«يا له من صغيرٍ محبَّب ساحرٍ غالٍ! أوه، ينبغي عليَّ — وكم أحب — أن أتبنَّاه! هل تعتقد أن أمَّه ستمانع؟»
قالت أنثيا بحزم: «ستمانع بكل قوةٍ في الواقع.»
«أوه، ولكنني سأربيه في غَنَاء وترف، كما تعلمين، فأنا السيدة تشيتيندين. لا بد أن تكوني قد رأيتِ صورتي في الصحف المصوَّرة، إنهم يدعونني بذات الحسن، أتعلمين؟ لكن كل هذا بلا قيمة. على كل حال …»
ثم فتحَت باب العربة وترجَّلَت منها. كانت ترتدي حذاءً أحمر عالي الكعبين مُرصَّعًا بالفضة كأروعِ ما يكون، قالت: «دعني أحمله لدقيقة.» ثم أخذت الحَمَل وحملتْه بطريقةٍ غير ملائمة، كما لو أنها لم تعتَد على حمل الأطفال.
ثم فجأة قفزت داخل العربة وهي تحمل الحَمَل بين ذراعيها، وأغلقتِ الباب بعنف وقالت للسائق: «انطلق!»
صاح الحَمَل، فنبح الكلب الأبيض الصغير، وتردَّد السائق. فصرخَت فيه السيدة قائلة: «انطلق، أقول لك!» وقد فعل السائق ما أمرتْه به؛ لأنه — كما قال لاحقًا — لم يكن في وضعٍ يسمح له بالاعتراض على أمرها.
نظر الأطفال الأربعة بعضهم إلى بعض، واندفعوا معًا يجرون خلف العربة وظلوا يتبعونها. سارت العربة عبر الطريق الترابي كالوميض سرعةً وخفة وتسارعَت أرجل إخوة الحَمَل وراءها للحاق بها.
صرخ الحَمَل بصوتٍ أعلى وأعلى، ولكن ما لبث أن تغيَّرت صيحاته ببطء إلى قرقرات الفُواق، ثم ساد الصمت فعلموا أنه استسلم للنوم.
استمرَّت العربة في سيرها، وصارَت الأقدام الثماني التي تلمع خلال الغبار خشنةً ومتعبةً قبل أن تتوقف العربة عند نُزُلٍ خشبي ذي حديقةٍ أنيقة. جثم الأطفال خلف العربة وخرجَت السيدة. نظرت إلى الطفل بتردُّدٍ وهو مستلقٍ على مقعد العربة.
قالت: «يا حبيبي، لن أزعجك.» وذهبت إلى النُّزُل للتحدث إلى المرأة هناك حول حضَّانة بيض دجاج الأوربنجتون التي لم تكن تعمل بصورةٍ جيدة.
وثبَ السائق والخادم من فوق كُرسيَّيْهما ومالا على الحَمَل النائم.
قال السائق: «يا له من صبي! تمنيتُ لو أنه لي.»
قال الخادم بغلظة: «لن يستحسنك كثيرًا؛ إنه على درجةٍ فائقة من الوسامة.»
تظاهر السائق بعدم سماعه، وقال:
«إنني أتساءل بحقٍّ الآن لماذا فعلتُ ذلك؟ إنها تُبغض الأطفال، وليس لديها أطفالٌ، كما لا يمكنها رعاية أشخاصٍ آخرين.»
تبادل الأطفال، الذين كان يربضون في الغبار الأبيض تحت العربة، نظراتٍ غير مريحة.
أكمل السائق كلامه بحزم: «أتدري ماذا سأفعل؟ سأُخفي الغلام الصغير بين الشجيرات وأُخبرها أن إخوته أخذوه! ثم سأعود لآخذه بعد ذلك.»
قال الخادم: «لا، لن تفعل ذلك، لقد أُولعتُ بهذا الطفل كما لم أفعل قط بطفلٍ آخر، فإذا كان هناك من سيأخذه، فهو أنا؛ هذا كل ما هنالك!»
ردَّ السائق: «وفِّر ثرثرتك! أنت لا تريد أطفالًا، وحتى لو فعلت، فإن الأطفال كلهم متشابهون في نظرك، ولكنني رجلٌ متزوج ولدي خبرة بالسلالات الجيدة من الأطفال، وأستطيع أن أميِّز أي رضيع من السلالات الفاخرة عندما أراه، وسأحصل عليه، لا تُجهد نفسك بعناء التفكير في هذا الأمر.»
قال الخادم متهكمًا: «كان يجدر بي التفكير في ذلك؛ فقد كان لديك ما يكفي من الأولاد، لديك ألفريد، وألبرت، ولويز، وفيكتور ستانلي، وهيلينا بيتريس وأيضًا …»
سدَّد السائقُ ضربةً إلى الخادم في الذقَن — فضربه الخادم في صدره — وفي اللحظة التالية كانا يتقاتلان في أرجاء المكان، داخل العربة وخارجها، في الأعلى وفي الأسفل، وفي كل مكانٍ وفي كل ناحية، وقفز الكلب الصغير على صندوق العربة وبدأ ينبح مثل المجنون.
كان سيريل، الذي لا يزال رابضًا في الغبار، يتهادى على أرجلٍ منحنية بجانب العربة بعيدًا عن ساحة المعركة. وفتح باب العربة — كان الرجلان مشغولَين للغاية بشجارهما فلم يلاحظا أي شيء — هنالك حمل الحَمَل بين ذراعَيه دون أن يشعر به أحد. سار بالرضيع عشرات الأقدام على طول الطريق المؤدي إلى ممشًى يفضي إلى غابةٍ تبعه إليها الآخرون، وهناك بين أشجار البندق وأشجار البلوط الصغيرة والكستناء الحلو، المُغطى بنبات السرخس ذي الشذى الفواح القوي، اختبئوا جميعًا حتى غطى صوت السيدة ذات الرداء الأحمر والأبيض على أصوات الرجلَيْن الغاضبَيْن، وبعد بحثٍ متلهفٍ طويل، انطلقَت العربة أخيرًا مبتعدة.
قال سيريل وهو يأخذ نفسًا عميقًا عندما تلاشى صوت عجلات العربة: «يا إلهي! كلُّ الناس يريدونه الآن دون أدنى شك! لقد خدعنا عفريت الرمال مرةً أخرى! يا له من حيوانٍ مخادع! دعونا نوصل الطفل إلى منزلنا الآمن، بحق السماء!
وهكذا خرجوا، ووجدوا على الجهة اليمنى طريقًا أبيض خاليًا، وكذلك كان الحال على الجهة اليسرى، فاستجمعوا شجاعتهم، وشقوا طريقهم، وحملت أنثيا الحَمَل النائم.
اقتفى المغامرون آثار أقدامهم كالكلاب، ثم قابلوا صبيًّا يحمل حزمةً من الحطب، فألقاها عن ظهره على جانب الطريق، وطلب منهم أن ينظر إلى الطفل، ثم ما لبث أن عرض أن يحمله، لكن أنثيا لم تكن لتُلدغ من ذات الجحر مرتَين، فرفضت، وتابعوا جميعهم المسير. غير أن الصبي تبعهم، ولم يتمكن سيريل وروبرت من إبعاده حتى هدَّاده أكثر من مرة باستخدام العنف معه، ثم تبعتهم بعد ذلك فتاةٌ صغيرة ترتدي فستانًا ذا مربعاتٍ زرقاء وبيضاء لمسافة ربع ميل في الحقيقة وهي تبكي طلبًا لهذا «الطفل الرائع»، وفي النهاية لم يتمكَّنوا من التخلُّص منها إلا بتهديدها بربطها إلى شجرة في الغابة بما في جيوبهم من مناديل، قال لها سيريل بصرامة: «لتأتِ بعد ذلك الدِّببة لتأكلك حالما يحلُّ الظلام.» عند ذلك مضت وهي تبكي، ثم بدا من الحكمة لإخوة الطفل وأخواته في الوقت الراهن أن يختبئوا في الشجيرات بجانب الطريق كلما رأوا أحدًا قادمًا؛ وهكذا تمكنوا من منع الحمل من إثارة المحبة غير المريحة لدى بائع الحليب، وكسَّار الحجارة، والرجل الذي كان يقود العربة التي تحمل في الجزء الخلفي منها برميل دهنٍ مخصصٍ لصنع الشموع. وبينما كانوا قد أوشكوا على الوصول إلى المنزل إذ حدث الأسوأ من ذلك كله؛ فبينما هم يجتازون منعطفًا في الطريق، فوجئوا بعربتَين وخَيْمة ومجموعة من الغجر أقاموا مُخيَّمهم على جانب الطريق، كان معلقًا في جانب العربتَين كراسي من الخوص، وأَسرَّة أطفال، وحاملات زهور، وَفُرُشٌ من الريش، وكان هنالك الكثير من الأطفال ذوي الملابس الرثة المنهمكين في صنع فطائر من التراب على الطريق، ورجلان مستلقيان على الحشائش يدخنان، وثلاث نساء يغسلن ثياب أُسرهن في إناءٍ قديم لسقي الزرع مكسور أعلاه.
وفي طرفة عين، أحاط جميع الغجر، رجالًا ونساءً وأطفالًا، بأنثيا والطفل.
قالت غجرية ذات وجهٍ بني يضرب إلى الحمرة كأشجار الماهوجني ولها شعرٌ رمادي: «اسمحي لي بحَمْله أيتها السيدة الصغيرة، لن أؤذيَ شعرةً منه، يا له من طفلٍ جميل!»
قالت أنثيا: «أنا لا أفضِّل ذلك.»
قالت المرأة الأخرى التي وجهها كلون أحد درجات لون شجر الماهوجني ولها شعرٌ أسود داكن ذو تجاعيدَ ناعمة: «دعيني أنا آخذُه؛ فأنا لديَّ تسعة عشر ولدًا، نعم لديَّ كل هذا العدد من الأولاد.»
قالت أنثيا بشجاعةٍ رغم أن قلبها كان يدق بقوةٍ حتى ظنَّت أنه بلغ حنجرتها: «لا.»
عند ذلك اندفع أحد الرجال للأمام.
وقال وهو يصرخ بلهجته التي يصعب فهمها: «صحِّحوا لي إن لم أكن مصيبًا، أليس هذا ابني المفقود منذ مدةٍ طويلة؟ هل هنالك على أذنه اليسرى وحمةٌ حمراء؟ لا؟ إذن فهو طفلي، الذي سُرق مني وهو في طفولته البريئة، وأنا فاض بي الكيل ولن ألجأ إلى القانون هذه المرة.»
ثم انتزع الطفل من أنثيا، التي احمرَّ وجهها وانفجرت باكية وهي تستشيط غضبًا.
لم يحرِّك الآخرون ساكنًا؛ فما من شيءٍ قد مرَّ بهم قطُّ هو أشدُّ فظاعة من هذا الأمر، بل إن القبض عليهم من قِبل الشرطة في روتشستر لا يُعد شيئًا مقارنةً بهذا؛ تحوَّل لون سيريل إلى الأبيض، وارتجفت يداه قليلًا، لكنه أشار إلى لآخرين بالتزام الصمت، وصمت هو الآخر لدقيقة، كان يُعمِل فيها عقله، ثم قال:
«لا نودُّ الاحتفاظ به إن كان هو ابنك، ولكن كما ترى فهو معتادٌ علينا، وستأخذه إن شئت.»
قالت أنثيا: «لا، لا!» — فنظر إليها سيريل محملقًا.
قالت المرأة وهي تحاول أخذه من بين ذراعَي الرجل: «نريده بالطبع.» فصرخ الحَمَل عاليًا.
أطلقت أنثيا صيحةً عالية قائلة: «يا إلهي، إنه يتألَّم!» فقال سيريل بصوتٍ خفيضٍ فظ آمرًا إياها: «اصمُتي!»
ثم همس لها: «ثقي بي.» وأكمل حديثه «اسمعوني هنا، إنه يسبِّب الكثير من المتاعب للأشخاص الذين لا يعرفهم جيدًا، ومن الأفضل أن نمكث هنا قليلًا حتى يعتادَ عليكم، ثم عندما يحين موعد نومه أعدكم بشرفي أننا سنذهب بعيدًا ونتركه لكم إن أردتم ذلك، وعندها يمكنكم تحديدُ من منكم الذي سيأخذه، بما أنكم جميعًا تريدونه بشدة.»
قال الرجل الذي كان يحمل الطفل وهو يُحاول فك المنديل الأحمر الذي كان مُلتفًّا حول رقبة الحَمَل ويربطه حول حنجرته البنية الضاربة إلى الحُمرة بشدة حتى أضحى يتنفَّس بصعوبة: «هذا عدلٌ بما فيه الكفاية.» تهامس الغجر فيما بينهم، فسنحت لسيريل الفرصة للهمس هو أيضًا فقال: «سنلوذ بالفرار وقت الغروب.»
عند ذلك امتلأتْ نفوس أشقائه بالإثارة والإعجاب من كونه نبيهًا لتذكُّره هذا الأمر.
قالت جين: «أعطِه لنا، انظر سنجلس هنا ونرعاه من أجلكم حتى يعتاد عليكم.»
قال روبرت فجأة: «وماذا بشأن الغداء؟» فرمقه أشقاؤه بنظرة احتقار، قالت له جين هامسة بغضب: «من العجيب أن تقلق على غدائك البغيض بينما أخو … أعني بينما الطفل …» غمز لها روبرت بحذر وأكمل قائلًا:
«هل لديكم مانعٌ إن ذهبتُ إلى المنزل لإحضار غدائنا؟ يمكنني الإتيان به إلى هنا في سلة.»
أحسَّ أشقاؤه كم هم نبلاء، واحتقروه، فلم يكونوا على علمٍ بنيته الخفية هذه، ولكن الغجر سرعان ما أدركوها قائلين: «آه صحيح، ثم عند ذلك تأتون لنا بالشرطة وتزيِّفون كلامكم بأن الطفل لكم وليس لنا!» ثم سألوه قائلين: «هل تريد أن تخدعنا؟»
قالت المرأة الغجرية ذات الشعر الفاتح: «إذا كنتَ جائعًا فيمكنك أن تتناول من بعض طعامنا، خذ يا ليفي هذا الطفل المبارك والذي ستنتثر جميع أزراره من شدة صراخه. أعطه إلى السيدة الصغيرة، ودعنا نرى ما إذا كانوا لا يستطيعون أن يعوِّدوه علينا بدرجةٍ ما أو بأخرى.»
وهكذا أُعيد الحَمَلُ إليهم، ولكن الغجر كانوا قد احتشدوا بالقرب منه فلم يكن هناك فرصةٌ ليكف عن الصراخ، عندئذٍ قال الرجل ذو الوشاح حول عنقه:
«هاك يا فيرو، أشعل النار، وأنتن أيتها الفتيات ترين القِدر، أعطين الفتى ما يأكله.» وهكذا وعلى غير رغبة منهم فقد اضطُر الغجر إلى الانصراف إلى أعمالهم، وبقي الأولاد مع الحَمَل جالسين على العشب.
همسَت جين قائلة: «سيكون على ما يرام عند غروب الشمس، ولكن، أوه، يا له من أمرٍ فظيع! فلنفترض أنهم سيغضبون بشدةٍ عندما يعودون إلى رشدهم! ربما يضربوننا أو يقيدوننا بالأشجار أو شيء من هذا القبيل.»
قالت أنثيا: «لن يفعلوا ذلك، — لا تبكِ يا حَمَلي، توقَّف عن البكاء، كل شيء على ما يرام، أنثيا هنا معك يا محبوبي! — إنهم ليسوا بأشخاصٍ سيئين؛ فلو كانوا كذلك لما سمحوا لنا بأي غداء.»
قال روبرت: «غداء؟ لن ألمس غداءهم المقزز، سأختنق به إن طعِمته.»
كان هذا رأي الآخرين أيضًا، ولكن تأخَّر الغداء كثيرًا إذ فرغوا من إعداده بين الساعتَين الرابعة والخامسة مساءً، وكان الأولاد مسرورين بذلك للدرجة التي جعلَتْهم يلتهمون كل ما استطاعوا التهامه، كان الغداء عبارة عن أرنبٍ مسلوق مع البصل بالإضافة إلى طائرٍ ما يُشبه الدجاج، ولكنه ذو أرجلٍ أنحف منها وأقوى مذاقًا، أما الحَمَل فقد حصل على خبزٍ منقوع بالماء الساخن ومنثور عليه السكر من أعلاه، ولقد أعجبه ذلك كثيرًا، فسمح للمرأتَين الغجريتَين أن تُطعماه، وهو جالس على حجر أنثيا. تعيَّن على روبرت وسيريل وأنثيا وجين أن يُبقوا أخاهم الرضيع على حالةٍ من الاستمتاع والسعادة، بينما كان الغجر ينظرون إليه بشوقٍ ولهفة، وبحلول الوقت الذي صارت ظلال الأشياء أطول وأشدَّ ظُلمة عبر المروج كان قد تعلَّق حقيقة بالمرأة ذات الشعر الفاتح، كما سمح للأطفال بتقبيل يده، كما قبِل أن يقف للرجلَين وينحني، واضعًا يده على صدره كأنه «أحد النبلاء». كان كل مخيم الغجر مبتهجًا به، ولم يستطع أشقاؤه مقاومة الشعور ببعض الاستمتاع في إظهار مقدار مهاراته الصغيرة أمام هذا الجمهور المتابع بشغف وحماسة، ولكنهم كانوا يتوقون أكثر إلى غروب الشمس.
همس سيريل قائلًا: «عدنا لممارسة هواية انتظار غروب الشمس، كنت أتمنى لو طلبنا منه أمنيةً معقولة، تكون ذات فائدة، بحيث نشعر بالأسى على تركها عند غروب الشمس.»
استطالت الظلال أكثر فأكثر، وفي النهاية لم يبقَ هناك ظلالٌ متفرقة بعدُ، بل امتد ظلٌّ لطيف متألِّق يغطِّي كل شيء؛ حيث غابت الشمس عن الأنظار — خلف التلة — ولكن لم تكن غربت بالفعل بعدُ. المشرِّعون الذين يضعون القواعد التي تُنظم إضاءة مصابيح الدراجات هم الذين يقرِّرون وقت غروب الشمس؛ ويتعيَّن على الشمس أن تغرُب في الموعد المحدد، وإلا فستكون العاقبة وخيمةً بالنسبة إليهم!
ولكن الغجر كان صبرهم قد أوشك على النفاد.
قال الرجل ذو الربطة الحمراء: «والآن أيُّها الصغار، حان الوقت لتستريحوا في بيوتكم، وهذا ما سيحدث، الطفل على ما يُرام الآن وأصبح ودودًا معنا، والآن كل ما عليكم فعله هو أن تتركوه وتمضوا إلى حال سبيلكم.»
تجمَّعت النساء والأولاد حول الحَمَل، وكانت كل أذرعهم مفتوحة له، ويطقطقون بأصابعهم ليغروه بالذهاب إليهم، ووجوههم مبتسمة، ولكن كل ذلك لم يفلح في زعزعة ولاء الحَمَل؛ فقد تشبَّث بكلتا يدَيه ورجلَيه بجين، التي كانت تحمله، وأطلق أسوأ صراخٍ له من أول النهار.
قالت المرأة: «لا فائدة، ناوليني الصغير يا آنسة، سنتمكَّن سريعًا من تهدئته.»
لم تكن الشمس قد غربت بعد.
همس سيريل: «أخبريهم كيف يضعونه في الفراش، قولي أي شيء يمنحنا بعض الوقت، واستعدوا للفرار عندما تتخذ الشمس قرارها الأزلي السخيف بالغروب.»
بدأت أنثيا في الكلام بسرعةٍ كبيرة: «حسنًا، سأناوله لكم خلال دقيقة، ولكن دعوني أخبركم أنه يستحمُّ بماءٍ دافئ كل ليلة، وبحمامٍ بارد كل صباح، ولديه دمية، أرنب من الفخار، تستحم معه في الحمام الدافئ، وتمثال من الخزف الصيني على وسادةٍ حمراء لشخص يتلو صلواته وقت حمام الصباح، ولو تركتم الصابون يدخل في عينَيه فإن الحَمَل …»
توقف الحَمَل عن البكاء قليلًا ليستمع إلى ما تقوله أنثيا.
ضحكت المرأة قائلة: «كما لو أنني لم أحمِّم طفلًا قط، هيا، هاتهِ لنحمله، تعال يا عزيزي، تعال لإميليا.»
قال الحَمَل: «ابتعدي.»
أكملت أنثيا: «حسنًا، ولكن بالنسبة إلى وجباته، فلتعلمي أنه يحصل على تفاحةٍ أو موزةٍ كل صباح، وخبزٍ وحليبٍ على الإفطار، وبيضةٍ واحدةٍ قبل الشاي أحيانًا و…»
قالت المرأة ذات الشعر الأسود الملفوف في حلقات: «لقد ربَّيتُ عشرة أطفال بالإضافة لآخرين، هيا يا آنسة، لقد بلغت نهاية النقاش هنا، ولا يمكنني تحمُّل المزيد، أريد أن أعانقه.»
قال أحد الرجال: «لم نقرِّر بعدُ من الذي سيأخذه يا إستر.»
لكنه لن يكون أنتِ الذي سيأخذه يا إستر؛ فلديكِ سبعة أطفال يتبعونك بالفعل.»
قال زوج إستر: «أنا لست واثقًا تمامًا من ذلك.»
قال زوج إميليا: «وهل ليس لديَّ الحق في أنا أُبديَ رأيًا أنا أيضًا؟»
قالت الفتاة زيلا: «ولمَ لا يكون أنا من يأخذه؟ فأنا فتاةٌ عزباء وليس هناك من أعتني به، ينبغي أن آخذه أنا.»
«كفِّي عن الكلام!»
«إياك أن تُحدِّثَني بهذه الوقاحة!»
كان الجميع غاضبًا بشدة. وكانت الوجوه الغجرية الداكنة عابسةً ومتحفزة. وفجأة تبدَّل حالهم، كما لو أن بعض الإسفنجات الخفية قد مسحت هذه التعبيرات الغاضبة والقلقة، ولم تترك سوى وجوهٍ خالية من التعابير.
علم الأولاد أن الشمس قد غابت حقًّا، لكنهم كانوا خائفين من التحرك. وكان الغجريون مشوشين للغاية؛ بسبب الإسفنج الخفي الذي غسل كل مشاعر الساعات القليلة الماضية من قلوبهم، لدرجة أنهم لم يستطيعوا النطق بكلمةٍ واحدة.
كادت تنقطع أنفاس الأطفال؛ فقد كانوا يظنُّون أن الغجر عندما يستعيدون قدرتَهم على الكلام، سيغضبون عندما يفكرون في مدى سخافة ما كانوا عليه طوال اليوم.
لقد كانت لحظةً مربكة وحرجة، وفجأة وبجرأةٍ كبيرة حملَت أنثيا الحَمَل إلى الرجل ذي الربطة الحمراء حول عنقه.
وقالت: «ها هو ذا!»
تراجَع الرجل إلى الخلف قائلًا بصوتٍ أجش: «ما كان ينبغي أن أرغب في حرمانك منه يا آنسة.»
قال الرجل الآخر: «كل من يرغب في نصيبي منه، يمكنه أخذه.»
قالت إستر: «على كل حال، لديَّ الكفاية من الأولاد.»
قالت إميليا: «مع إنه طفلٌ صغير لطيف.» وكانت هي الوحيدة التي بدَت حانية تجاه الحَمَل المتذمِّر.
قالت زيلا: «أنا لا أريده، ما لم أكن قد أُصبتُ بضربة شمس.»
قالت أنثيا: «هل يمكننا إذن أن نأخذه ونمضي؟»
قال فيرو بمودةٍ تامة: «حسنًا، أعتقد أنكم يمكنكم ذلك، ولن نتطرق إلى هذا الأمر مرةً أخرى.»
وبسرعةٍ كبيرة بدأ جميع الغجر في الانشغال بنصب خيامهم استعدادًا لحلول الليل. جميعهم انشغل بذلك ما عدا إميليا، التي ذهبت مع الأطفال حتى منحنى الطريق، وهناك قالت:
«اسمحي لي أن أعطيَه قبلةً يا آنسة — لا أدري ما الذي جعلنا نتصرف بتلك السخافة؛ فنحن الغجر لا نسرق الأطفال — برغم كل ما أخبروكم به ليخيفوكم منا عندما تكونون أشقياء؛ فغالبًا يكون لدينا ما يكفي من الأطفال، لكنني فقدتُ كل أولادي.»
وانحنت نحو الحَمَل. ورفع بشكلٍ غير متوقع — وهو ينظر في عينَيها — يده الناعمة الصغيرة وداعب بها وجهها.
تمتم الحَمَل قائلًا: «مسكينة! مسكينة!» وسمح للمرأة الغجرية بتقبيله، والأكثر من ذلك، أنه قبَّلها في خدها البني بدوره قبلةً لطيفةً جدًّا، كما هي الحال مع جميع قبلاته، والتي لا تكون رطبة مثل بعض الأطفال. حرَّكت المرأة الغجرية إصبعها على جبينه، كما لو كانت تكتب شيئًا عليه، وقد فعلَت الشيء نفسه على صدره ويدَيه وقدمَيه؛ ثم قالت:
«أتمنى أن يصبح شجاعًا، وأن يمتلك عقلًا فذًّا يفكِّر به، وقلبًا شغوفًا يحب به، ويدَين قويتَين يعمل بهما، ورجلَين قويتَين يسافر بهما، كما أتمنى أن يعود إلى بيته سالمًا دومًا.» ثم قالت شيئًا بلغةٍ غريبة لم يستطع أحد فهمها، وأضافت فجأة:
«حسنًا، يجب أن أقول إلى اللقاء، وأنا سعيدة لأنني تعرفتُ عليكم.» والتفتَت وعادت إلى منزلها؛ الخيمة التي بجانب الطريق العشبي.
تبعها الأطفال بأبصارهم حتى غابت عن الأنظار. ثم قال روبرت: «يا لسخافتها! حتى غروب الشمس لم يُرجِعها إلى صوابها. كم كان كلامها أبله!»
قال سيريل: «لو سألتني عن رأيي لقلتُ لك كم كان هذا لطيفًا منها!»
قالت أنثيا: «لطيفًا؟ لقد كان هذا جميلًا جدًّا في الحقيقة، أعتقد أنها شخصٌ ودود.»
قالت جين: «إنها لطيفةٌ أكثر من اللازم على نحو يبعث على الخوف.»
ثم عادوا إلى المنزل، وقد تأخَّروا للغاية عن موعد احتساء الشاي وتأخَّروا على نحوٍ لا يُوصف عن موعد تناوُل العشاء. وقد وبَّخَتْهم مارثا — بالطبع — لكن الحَمَل كان آمنًا إذ لم ينل شيئًا من هذا التوبيخ.
وقال روبرت في وقتٍ لاحق: «لقد اتضح أننا كنا نريد الحَمَل بشدة مثل أي شخصٍ آخر.»
«أجل.»
«ولكن هل تغيَّر هذا الشعور بعد أن غَربَت الشمس؟»
قال الآخرون في صوتٍ واحد: «لا، لقد دام هذا الشعور معنا حتى بعد الغروب.»
قال سيريل موضحًا: «لا، لم يحدث ذلك؛ فالأمنية التي تمنيتَها لم تفعل بنا أي شيء؛ فنحن كنا نريده دائمًا من كل قلوبنا في الأصل، لكننا كنا جميعًا وضعاء هذا الصباح؛ خاصة أنت يا روبرت.» تقبَّل روبرت هذا الكلام بهدوءٍ غريب.
وقال: «ظننتُ بالتأكيد أنني لم أكن أريده هذا الصباح، ربما كنت وضيعًا، ولكن بدا كل شيء مختلفًا للغاية عندما اعتقدنا أننا سنفقده.»