قلعةٌ بلا غَداء
تحتَّم منع الأولاد من الخروج عقابًا لهم على مصائب البارحة. بطبيعة الحال، اعتقدَت مارثا أن ما فعلوه كان سوء سلوك — وليس سوء حظ — لذا يجب ألَّا تلوموها؛ فقد رأت أنها كانت تؤدِّي واجبها فحسب. تعلمون أن الكبار يقولون في كثيرٍ من الأحيان إنهم لا يُحبون عقابكم، وإنهم يفعلون ذلك فقط من أجل مصلحتكم، وإنه يؤلمهم عقابكم مثلما يؤلمكم، وهذه هي الحقيقة في كثير من الأحيان.
كرِهت مارثا بالتأكيد الاضطرار إلى معاقبة الأطفال بقدْر ما كرهوا هم أن يُعاقَبوا. لسببٍ واحد، ألا وهو أنها عرفت قدْر الضجيج الذي سيمتلئ به المنزل طَوال اليوم، كما كان لديها أسبابها الأخرى.
قالت للطاهية: «أعترف أنه من المؤسف — على ما أعتقد — أن يُحبسوا في المنزل في هذا اليوم الجميل؛ لكنهم على قدْر كبير من التهوُّر، وسيُقحِمون رءوسهم في المتاعب يومًا ما، إن لم أشدد وطأتي عليهم. اصنعي لهم كعكة ليتناولوها مع الشاي لاحقًا يا عزيزتي. وسنأخذ الطفل معنا بعد أن نفرغ من إنجاز بعض الأعمال، حتى يتمكنوا من الاستمتاع بوقتهم في الخارج من دونه، والآن يا إليزا، تعالَي ورتبي أسرَّتهم، فقد اقتربتِ الساعة من العاشرة، ولم يُصطَد أي أرنب.»
اعتاد الناس في بلدة كينت أن يقولوا ذلك كناية عن أن «الأعمال لم تُنجز».
وهكذا احتُجز الأولاد كلهم، إلا روبرت، كما أسلفت، فقد سُمح له بالخروج لمدة نصف ساعة ليأتي بشيء يريدونه جميعًا. وهو ما كان بالطبع أمنية اليوم. لم يكن لدَيه أي صعوبة في العثور على عفريت الرمال؛ لأن هذا اليوم كان شديد الحرارة لدرجة أنه وجده بالفعل — ولأول مرة — من تلقاء نفسه خارج الرمال، رآه جالسًا فيما يشبه بركةً من الرمال الناعمة، ويتمطَّى فيه، ويُهذِّب شواربه، ويجول بعينَيه الحلزونيتَين هنا وهناك.
عندما رأى روبرت بعينه اليسرى هتف قائلًا: «ها! لقد كنت أبحث عنك. أين الباقون؟ أرجو ألَّا يكونوا قد حطَّموا أنفسهم بسبب تلك الأجنحة؟»
قال روبرت: «لا، لكن الأجنحة أوقعَتْنا في مشاكل، تمامًا كما تفعل بنا كل الأمنيات الأخرى؛ لذا حُبس الآخرون داخل المنزل، وسُمح لي بالخروج لمدة نصف ساعة فقط، لأبلغك بالأمنية؛ لذلك اسمح لي أن أتمنَّى بأسرعِ ما يمكن.»
قال عفريت الرمال وهو يتكوَّر في الرمال: «قل أمنيتك.» لكن روبرت لم يستطع أن يتمنَّى، فقد نسي كلَّ الأشياء التي كان يُفكِّر بها، ولم يتمكن من استحضار شيءٍ إلا أشياء بسيطة تخصه، كالحلوى، وألبوم للطوابع الأجنبية، ومطواة ذات ثلاث شفرات معلقة في ميدالية، وفتَّاحة زجاجات. جلس هناك ليفكِّر بطريقةٍ أفضل، وكل ما فكر فيه كانت أشياء لم يكن الآخرون ليكترثوا بشأنها، ككرة قدم أو زوجَين من أوقية السيقان، أو إحراز الفوز على صديقه سيمبكينز عندما يعود إلى المدرسة.
قال عفريت الرمال في النهاية: «حسنًا، من الأفضل أن تُعجِّل بطلب أمنيتك؛ فالوقت يمضي.»
قال روبرت: «أعلم ذلك، لكنني لا أستطيع أن أفكِّر فيما أتمناه. أتمنى أن تحقِّق رغبات الآخرين دون الحاجة إلى مجيئهم إلى هنا لطلب ذلك. أوه، لا، انتظر!»
لكن كان قد فات الأوان؛ إذ كان عفريت الرمال قد نفخ نفسه ليصل إلى نحو ثلاثة أضعاف حجمه الأصلي، ثم انطوى مثل فقاعة وُخزت، ومع تنهُّدٍ عميق، اتكأ إلى الوراء على حافة بركته الرملية، وكاد أن يُصاب بالإغماء جراء الجهد الذي بذله.
قال بصوتٍ واهنٍ: «تحقَّقَت، لقد كان الأمر صعبًا للغاية، لكنني فعلته. اركض إلى المنزل، وإلا فإنهم سيتمنَّوْن بالتأكيد أمنيةً حمقاء قبل أن تصل إلى هناك.»
أحسَّ روبرت أنهم من المؤكَّد سيفعلون ذلك، وبينما كان يركض إلى المنزل، استغرق في التفكير بشأن نوعيةِ الأمنيات التي ربما يجدهم قد تمنَّوْها في غيابه. فربما يتمنَّوْن الحصول على الأرانب، أو الفئران البيضاء، أو الشوكولاتة، أو الطقس الجميل يوم غد، أو حتى — وهذا على الأرجح ما كانوا سيتمنونه — ربما قال أحدهم: «أتمنَّى من الله أن يعجل روبرت بالرجوع.» حسنًا، لقد كان يُسرِع، وهكذا ستكون رغبتهم قد تحقَّقَت، وستضيع أمنية اليوم. ثم حاول أن يفكر فيما يمكن أن يتمنَّوه؛ شيء سيكون مسليًا لهم في المنزل. كان ذلك هو أصعب ما فكر به من البداية؛ فالقليل جدًّا من الأمور تكون مسليةً بداخل المنزل عندما تكون الشمس مشرقة في الخارج وقد مُنعتَ من الخروج، رغم أنك كنتَ ترغب في ذلك بشدة. كان روبرت يركض بأسرعِ ما يمكنه، لكن عندما انعطف عند الزاوية التي كان من المفترض أن تجعله في موقعٍ يرى منه الأشغال الحديدية التي يزدان بها الجزءُ العلوي من المنزل — والتي تُعد كابوسًا لأي مهندسٍ معماري — فتح عينَيه عن آخرهما بحيث اضطُر إلى التباطؤ في المشي لأنه لا يستطيع أحد أن يجريَ بعينَين مفتوحتَين عن آخرهما. ثم توقف فجأة؛ لأنه لم يكن هناك منزل يمكن رؤيته. وقد اختفى سياج الحديقة الأمامية أيضًا، وتغيَّر المكان بالكامل. فرك روبرت عينَيه ونظر مرةً أخرى. كان الآخرون قد تمنَّوا، ولم يكن هناك شكٌّ في ذلك. لا بد أنهم تمنَّوا العيش في قلعة؛ لأنها كانت هناك بالفعل. قلعة سوداء مهيبة وشاهقة وبالغة الاتساع، ولها أسوارٌ ذات فتحات ونوافذ قوسية، وثمانية أبراج كبيرة؛ وفي مكان الحديقة والبستان، كان ثَمَّةَ أشياءُ بيضاء منتشرة مثل الفطر. مشى روبرت ببطء، ومع اقترابه، اتَّضح له أن هذه كانت خيامًا، وكان هناك رجال يرتدون دروعًا يتجوَّلون بين الخيام، كانت هناك حشودٌ هائلة منهم.
قال روبرت بانفعالٍ شديد: «يا للهول! ها هم قد تمنوا الحصول على قلعة، وهي محاصرة! إنها أمنيةٌ مخادعة تمامًا مثل عفريت الرمال! كم تمنيتُ لو أننا لم نرَ قط ذلك المخلوق البغيض!»
كان ثَمَّةَ شخصٌ يُلوِّح بشيء شاحب اللون في النافذة الصغيرة فوق البوابة العظيمة، عَبْر الخندق الذي هو موجود الآن في مكان الحديقة التي كانت بالمكان نفسه منذ نصف ساعة فقط. اعتقد روبرت أن هذا الشيء كان أحد مناديل سيريل. لم تكن بيضاء أبدًا منذ ذلك اليوم الذي أراق فيه زجاجة «مخلوط سائل التحميض وتثبيت الألوان» في الدرج حيث كانت المناديل، فلوَّحَ روبرت، وشعر على الفور أنه كان قرارًا طائشًا؛ فلقد لاحظتِ القوة المحاصرة إشارته، وأتى رجلان يرتدي كلٌّ منهما خوذةً معدنية نحوه. كانت أحذيتهما بنيةً طويلة تُغطِّي سيقانهما الطويلة، جاءا إليه بخطواتٍ واسعة لدرجة أن روبرت تذكر قصر ساقَيه فلم يهرب. علم أن ذلك لا فائدة منه، وخشي أنه إن فعل هذا، فقد يُثير غضب العدو؛ لذا وقف صامدًا، وبدا الرجلان مسرورَين من فعله.
قال أحدهما: «يا إلهي ما أشجعَ هذا الغلامَ الفارس!»
شعَر روبرت بالسعادة لوصفه إياه بذلك، وبطريقةٍ ما جعله هذا يشعر بأنه شجاع حقًّا. وغضَّ طرفه عن كلمة «الغلام». كانت هذه هي الطريقة التي يخاطب بها الناس في الروايات التاريخية الصغارَ، وكان من الواضح أن الفظاظة لم تكن مقصودة. كان يأمل فقط أن يتمكن من فهمِ ما قالوه له؛ فهو لم يكن دائمًا ذا قدرةٍ عالية على فهم المحادثات في الروايات التاريخية للصغار.
قال الآخر: «إن ملابسه غريبة، يبدو أنه أحد الخونة الأغراب.»
«انطق أيُّها الغِرُّ، ما الذي أتى بك إلى هنا؟»
علم روبرت أنه يقصد أن يقول: «والآن أيُّها الشاب، ماذا تفعل هنا؟» لذا ردَّ قائلًا:
«من فضلك، أريد العودة إلى المنزل.»
قال الرجل ذو الحذاء الأطول: «فلتذهب إذن! فلا شيء يُعيقك، ولا شيء يجعلنا نتبعك.» وأضاف بنبرةٍ حذرة: «يا زوكس، يخالجني شعور أنه يحمل أخبارًا للمحاصرين.»
قال الرجل ذو الخوذة الأكبر: «أين تسكن أيُّها المحتال الصغير؟»
قال روبرت: «هناك!»
قال الرجل ذو الحذاء الطويل: «ها، أهذا قولك؟ تعال من هنا يا غلام. هذه مسألةٌ ينبغي عرضها على قائدنا.»
وسحبا روبرت من أُذنه رغمًا عنه إلى القائد روبرت على الفور.
كان القائد أكثر المخلوقات المجيدة التي شاهدها روبرت على الإطلاق. كان يبدو كالصور التي كثيرًا ما أعجب بها في الروايات التاريخية. كان يرتدي درعًا، وخوذة، ولديه حصان، وعلى الخوذة شعار، وريش، ومعه تُرس، ورمح، وسيف. أنا على يقين من أن دروعه وأسلحته كانت جميعًا تعود إلى فتراتٍ مختلفة تمامًا. كان الدرع من القرن الثالث عشر، بينما كان السيف من النمط المستخدم في حرب الاستقلال الإسبانية. كان درعه من عهد تشارلز الأول، والخوذة تعود إلى حقبة الحملة الصليبية الثانية. كان الشعار الذي يحمله الدرع فخمًا للغاية وقد نُقشت عليه ثلاثة أسودٍ حمراء تركض على أرضٍ زرقاء. وكانت الخيام من الطراز الحديث، كان من المفترض أن يتسبَّب ظهور المعسكر والجيش والقائد في صدمةٍ هائلة للبعض. لكن روبرت كان غبيًّا بإعجابه ذاك، وبدا له أن الأمر كله صحيحٌ تمامًا؛ لأنه لم يكن يعرف شيئًا عن شعارات النبالة أو علم الآثار أكثر مما يعرفه الرسامون الموهوبون الذين عادةً ما رسموا صور الروايات التاريخية. لقد كان المشهد «أشبه ما يكون بصورة.» لقد أُعجب بكل ذلك لدرجة أنه شعر بأنه أكثر شجاعة من أي وقتٍ مضى.
قال القائد المجيد بعد أن قال له الرجلان ذوا القبعات على الطراز الكرومْوِلياني كلماتٍ حماسية بصوتٍ خفيض: «تعال هنا يا غلام.» وخلع خوذته؛ لأنه لم يستطع رؤيته بوضوح وهي على رأسه. كان وجهه لطيفًا، وشعره أشقر طويلًا. قال: «لا تخف؛ فلن يصيبك أذًى.»
سعِد روبرت بذلك. وتساءل عن ماهية «الأذى» وما إذا كان أسوأ من شاي نبات السَّنا الذي كان عليه أن يتناوله في بعض الأحيان.
قال القائد بلطف: «احكِ قصتك بلا خوف، من أين أتيتَ؟ وما هي وجهتُك؟»
قال روبرت: «وجهتي … ماذا؟»
«ما الذي تصبو لتحقيقه؟ ما هي مهمتك، التي تجعلك تتجوَّل هنا وحدك بين هؤلاء الرجال المسلحين؟ يا لك من ولدٍ مسكين، لا بد أن فؤاد والدتك ينفطر عليك الآن.»
قال روبرت: «لا أعتقد ذلك، إنها لا تعلم أنني خارج المنزل.»
مسح القائد دمعةً رجولية ذرفَتها عينه، تمامًا كما يفعل القادة في الروايات التاريخية، وقال:
«لا تخشَ قول الحقيقة يا بني. ينبغي ألا تخاف من ولفريك دي تالبوت.»
كان لدى روبرت شعورٌ جامح بأن هذا القائد المجيد للجيش المحاصر — كونه جزءًا من الأمنية — سيكون قادرًا على أن يفهم — أفضل من مارثا، أو الغجر، أو الشرطي في روتشستر، أو قس الأمس — القصة الحقيقية عن الأمنيات وعفريت الرمال. تكمن الصعوبة الوحيدة في أنه كان يعلم أنه لا يمكنه أن يتذكر ما يكفي من الكلمات القديمة، وأشياء من هذا القبيل، لجعل حديثه يبدو مثل حديثِ صبي في روايةٍ تاريخية. ومع ذلك، بدأ حديثه بجرأةٍ كافية، مع جملةٍ مقتبسة من رالف دي كورسي، أو الصبي المحارب الصليبي. قال:
«شكرًا للطفك، سيدي الفارس المنصف. الحقيقة هي مثلما سأحكيها الآن؛ وآمُل ألَّا تكون في عجلة من أمرك، لأن القصة إلى حدٍّ ما طويلة. إن أبي وأمي مسافران، وعندما كنا نلعب في الحفرة الرملية وجدنا أحد سامياد.»
قال الفارس: «ماذا؟ السامياد؟»
«نعم بالضبط — نوعٌ من العفاريت، أو ساحرٌ ما — نعم، هو كذلك، ساحر؛ وقال إننا يمكن أن نتمنى كل يوم أمنية، فتمنينا أولًا أن نُوهَب الجمال.»
تمتَّم أحد الرجال المسلَّحين وهو ينظر إلى روبرت قائلًا: «يبدو أن أمنيتك لم تتحقق كما ينبغي.» لكن روبرت استمر كما لو أنه لم يسمع شيئًا، على الرغم من تأكُّده من أن ما قاله كان وقحًا للغاية بالفعل.
«ثم كانت أمنيتنا التالية المال، لكننا لم نستطع إنفاقه. وبالأمس كنا نتمنى الأجنحة، وحصلنا عليها، ونعمنا بوقتٍ رائع في البداية.»
قال السيد ولفريك دي تالبوت: «كلامك غريب وغير واضح، أعد كلامك مرةً أخرى، نعمتم بماذا؟»
«بوقت رائع، أقصد وقتًا ممتعًا، لا بل قد استمتعنا لأقصى درجة ممكنة، هذا ما أقصده؛ إلا أننا بعد ذلك علقنا في مأزق عويص.»
«ماذا تعني كلمة مأزق؟ معركة، ربما؟»
«لا … ليس معركة … إنه … مكانٌ ضيق.»
قال القائد في تعاطفٍ مهذبٍ: «في زنزانة؟ يا لأطرافك المقيدة المسكينة.»
قال روبرت موضحًا: «لم تكن زنزانة، لقد واجهنا فقط مصائب لم نكن نستحقها، ونحن اليوم معاقَبون بعدم السماح لنا بالخروج. وهذا هو المكان الذي أعيش فيه وأشار إلى القلعة. إخوتي الآخرون هناك، ولا يُسمح لهم بالخروج. كل ذلك كان خطأ السامياد؛ أعني خطأ الساحر. ليتنا لم نرَهُ قط.»
«هل هو ساحرٌ قوي؟»
«أجل، قويٌّ ونشيط للغاية!»
قال القائد الشجاع: «وهل تظن أن نفثات الساحر الذي أغضبته هي التي منحت القوة للجيش المحاصر؟ حريٌّ بك أن تعلم أن ولفريك دي تالبوت لا يحتاج إلى مساعدة ساحر لقيادة أتباعه إلى النصر.»
قال روبرت: «لا، أنا متأكد أنك لا تحتاج إلى ذلك، بالطبع لا، ولم تكن لتفعل. لكن، على الرغم من أن الخطأ خطؤه ولو جزئيًّا، لكننا نستحق اللوم أكثر. فلم تكن لتستطيع أن تفعل شيئًا لولانا نحن.»
سأل السير ولفريك ضاحكًا: «كيف ذلك أيُّها الولد الجريء؟ كلامك غامض ويفتقر إلى التهذيب. أريد حلًّا منك لهذا اللغز!»
قال روبرت يائسًا: «بالطبع أنت لا تعرف ذلك، لكنك لست حقيقيًّا على الإطلاق. أنت هنا فقط لأن الآخرين كانوا أغبياء بما فيه الكفاية حتمَّا ليتمنوا أن يكون لديهم قلعة، وعندما تغرب الشمس ستختفي تمامًا، وسيصبح كل شيء على ما يُرام.»
تبادل القائد والرجال المسلحون النظرات، كانت نظرات شفقة في البداية، وبعد ذلك صارت أشدَّ قسوة، عندئذٍ قال الرجل ذو الحذاء الأطول: «احذر يا سيدي النبيل؛ هذا القنفذ الصغير يتظاهر بالجنون ليهرب من أيدينا. ألا نُقيِّده؟»
قال روبرت بغضب: «أنا لست أكثر جنونًا منك أنت، وربما لستُ مجنونًا بذاك القدر؛ كل ما هنالك أنني كنت أحمق لدرجة أن أظن أنك ستفهم شيئًا. دعني أذهب، فلم أُوذِكَ بشيء.»
«إلى أين؟ ما هي وجهتك؟» سأله الفارس الذي يبدو أنه صدَّق كل قصة الساحر حتى وصل الأمر إلى الجزء الذي ذُكر فيه.
قال روبرت مشيرًا إلى القلعة: «إلى المنزل بالطبع.»
«لتوصل لهم أنباءً عن النجدة؟ لا.»
قال روبرت وقد واتَتْه فكرةٌ مفاجئة: «حسنًا إذن، اسمحوا لي أن أذهب إلى مكانٍ آخر.» بحث عقله بلهفة بين ذكرياته الخاصة بالروايات التاريخية.
قال بروية: «السير ولفريك دي تالبوت، يجب أن يفكر في عواقب الفعل المشين الذي سيجلبه عليه تحفظُّه على فتًى صغير لم يؤذِه بأي طريقة ويرغب في الانصراف بهدوء؛ أقصد الرحيل دون عنف.»
أجاب السير ولفريك: «أهذا يُقال لي أنا؟ يا لك من محتال!» ولكن يبدو أن التماسه قد حقق مراده المنشود. فأردف قائلًا في اهتمام: «ومع ذلك، فقد قلتَ الصدق، اذهب حيثُما تشاء؛ فالسير ولفريك دي تالبوت لا يحارب الأطفال، وسيوصلك جاكين إلى وجهتك.» قال روبرت بحماس: «حسنًا، سيستمتع جاكين، على ما أعتقد، تعال يا جاكين، تحيةً لك يا سير ولفريك.»
قدَّم له التحية على الطريقة العسكرية الحديثة، وانطلق راكضًا إلى الحفرة الرملية، ويجاريه جاكين في حذائه الطويل بسهولة.
وهناك أخذ يحفر حتى وجد عفريت الرمال، فأيقظه وأخرجه.
وتوسل إليه أن يحقِّق له أمنيةً أخرى.
غمغم قائلًا: «لقد حققتُ أمنيتَين بالفعل، وكانت إحداهما أصعب من أي أمنيةٍ سبق لي تحقيقها.»
قال روبرت «أوه، افعل، افعل، افعل، افعل، افعل!» بينما نظر جاكين فاغرًا فاه لفزعه من الوحش الغريب الذي تحدث، وحدَّق بعينَيه الحلزونيتَين فيه.
ردَّ عفريت الرمال بحدةٍ في نعاس قاطبًا جبينه: «حسنًا، ما هذا؟»
قال روبرت: «أتمنى لو كنتُ مع الباقين.» عندئذٍ بدأ عفريت الرمال في التضخم. لم يفكر روبرت قطُّ في تمنِّي القلعة والحصار. كان يعلم بالطبع أنها كانت مجرد أمنية، لكن السيوف والخناجر والحراب والرماح بدت حقيقيةً لدرجة أنه لم يكن يستطيع سوى تمني زوالها. أُغشي على روبرت في الحال وعندما فتح عينَيه كان إخوته قد احتشدوا من حوله.
قالوا: «لم نشعر بقدومك إطلاقًا، كيف تأتَّى لك أن تتمنى أن تتحقق أمنياتنا؟!»
«لقد فهمنا بالطبع أنك كنت مسئولًا عما يحدث.»
«لكن كان يجب أن تخبرنا. لنفترض أننا تمنينا شيئًا سخيفًا.»
قال روبرت بغضب شديد: «سخيف؟ أريد أن أعرف هل هناك شيءٌ أكثر سخافة مما تمنيتموه بالفعل؟ لقد أوشكتم أن تُوقِعوني في الأسر؛ أؤكِّد لكم.»
ثم روى لهم قصته، فأقرَّ الباقون له أن التجربة كانت بالتأكيد قاسيةً عليه، لكنهم امتدحوا شجاعته وذكاءه بالقدْر الذي جعل حالته المزاجية أفضل بكثير، وشعر بأنه أكثر شجاعة من أي وقت مضى، ووافقوا على أن يكون قائد القوة المحاصَرة في القلعة.
قالت أنثيا بأريحية: «لم نفعل أي شيء بعدُ، لقد انتظرناك. سنُطلق عليهم من خلال هذه الفتحات الصغيرة الأقواس والسهام التي أعطاك إياها عمك، وستكون لك الرمية الأُولى.»
قال روبرت بحذر: «لا أعتقد أنني سأفعل ذلك؛ فأنتم لا تعرفون ما هم عليه بالفعل؛ فلديهم أقواس وسهامٌ حقيقية — بأطوالٍ فظيعة — وكذلك لديهم سيوف ورماح وخناجر، وكل أنواع الأدوات الحادَّة؛ كل ذلك حقيقي، حقيقي جدًّا. إنها ليست مجرد صورة أو رؤية أو أي شيء. يمكنها أن تؤذينا، أو تقتلنا حتى، بلا شك. ما زلت أشعر بالألم في أذني. انظروا هنا، هل استكشفتم القلعة؟ لأنني أعتقد أنه من الأفضل تركهم وشأنهم طالما تركونا وشأننا. سمعتُ ذلك الرجل الذي يُدعى جاكين يقول إنهم لن يشنوا هجومهم سوى قُبيل غروب الشمس مباشرة. يمكننا أن نستعد لذلك الهجوم. هل هناك أي جنود في القلعة للدفاع عنها؟»
قال سيريل: «لا نعرف؛ فكما ترى، ما إن تمنيت أنْ لو كنا في قلعةٍ محاصرة، حتى بدا أن كل شيء ينقلب رأسًا على عقب، وعندما استقر الأمر نظرنا مباشرة من النافذة ورأينا المخيم والأشياء الأخرى ورأيناك؛ وبالطبع ظللنا ننظر إلى كل شيء. أليست هذه الغرفة جميلة؟ إنها تبدو كما لو أنها حقيقية!»
كانت تبدو هكذا بالفعل. كانت مربعة الشكل، ذات جدرانٍ حجرية بسمك أربع أقدام، وعوارض كبيرة للسقف. وكان لها بابٌ منخفض في الزاوية يؤدي إلى مجموعةٍ متواصلة من درجات سُلَّم، لأعلى ولأسفل. نزل الأطفال، فوجدوا أنفسهم أمام مدخلٍ مقوَّسٍ ضخم؛ كانت الأبواب الضخمة قد أُغلقت. وكانت هناك نافذة في غرفةٍ صغيرة في الجزء السفلي من برجٍ دائري متصل بدرَج، وكانت تلك النافذة أكبر من النوافذ الأخرى. نظروا من خلالِها فرأَوْا أن الجسر المتحرِّك كان مرفوعًا وبوابة الحصن مغلقة؛ بدا الخندق واسعًا وعميقًا جدًّا. وفي مواجهة الباب الكبير المؤدي إلى الخندق، كان هنالك بابٌ كبير آخر، به بابٌ صغير. مرَّ الأطفالُ من خلاله، فوجدوا أنفسهم في فناءٍ كبير مُعَبَّد، تحيط بهم من جوانب أربع الجدران الرمادية الكبيرة للقلعة.
وبالقرب من وسط الفناء، وقفت مارثا، وهي تُحرِّك يدها اليمنى إلى الخلف وإلى الأمام في الهواء. وكانت الطاهية تنحني للأسفل وتُحرِّك يدَيها أيضًا بطريقةٍ غريبة للغاية. لكن الأكثر غرابة والأكثر إفزاعًا في الوقت ذاته كان الحَمَل، الذي لم يكن يجلس على شيء وذلك على ارتفاع نحو ثلاث أقدام من الأرض، بينما كان يضحك في سعادة.
ركض الأطفال نحوه. وما إن مدت أنثيا يدها لتأخذه، قالت مارثا بغضب: «دعيه وشأنه، دعيه يا آنسة ما دام هو في مزاجٍ جيد.»
قالت أنثيا: «لكن ماذا يفعل؟»
«ماذا يفعل؟ لقد وضعته في مقعده المرتفع، كما نفعل بالذهب الثمين، وهو يراقبني بينما أقوم بكي الملابس. اذهبي، اذهبي؛ فقد بردَت مكواتي مرةً أخرى.»
ذهبت باتجاه الطاهية، وبدت وكأنها تشعل نارًا غير مرئية بموقدٍ غير مرئي، كما بدت الطاهية وكأنها تضع طبقًا غير مرئي في فرنٍ غير مرئي.
«اركضوا بعيدًا؛ فقد تأخرتُ في إنجاز عملي. لن تحصلوا على غدائكم لو أصررتم على تعطيلي بهذه الطريقة. هيا، غادروا، وإلا عاقبتكم بغسل الصحون.»
سألتها جين بقلق: «هل أنت متأكدة أن الحَمَل على ما يُرام؟»
«متأكدة تمامًا، ما لم تقلقوه. اعتقدتُ أنكم تريدون أن تتخلصوا منه اليوم، لكن خذوه، إذا كنتم تريدونه.»
قالوا: «لا، لا.» وسارعوا مبتعدين؛ فأمامهم مهمة الدفاع عن القلعة في الوقت الحاضر، وكان الحمل أكثر أمانًا حتى وهو معلقٌ في الهواء في المطبخ غير المرئي من أن يكون في غرفة حراسة القلعة المحاصرة. مروا بالمدخل الأول الذي أتوا منه، وجلسوا بلا حول ولا قوة على مقعدٍ خشبي يمتد بطول الغرفة.
قالت أنثيا وجين معًا: «يا له من أمرٍ بشع!» وأضافت جين: «أشعر كما لو كنت في مأوًى للمجانين.»
قالت أنثيا: «ماذا يعني هذا؟ إنه أمرٌ مزعج، ولا يروق لي تمامًا. ليتنا تمنينا شيئًا عاديًّا؛ حصانًا هزَّازًا، أو حمارًا، أو شيئًا من هذا القبيل.»
قال روبرت بمرارة: «لا فائدة من التمني الآن.»
وقال سيريل: «كفُّوا عن الكلام، أريد أن أفكر.»
ثم وضع وجهه في يدَيه، بينما نظر الآخرون من حولهم. كانوا في غرفةٍ طويلة ذات سقفٍ مقوَّس. كانت هناك طاولاتٌ خشبية بطول الغرفة، وأخرى بالعرض في آخر الغرفة، على منصةٍ مرتفعة. كانت الغرفة قاتمةً ومظلمة للغاية. وكانت الأرضية مليئةً بأشياءَ جافةٍ تشبه العِصِي، ولم تكن الرائحة جيدة.
انتصب سيريل فجأة وقال:
«انتبهوا! كل شيء على ما يُرام. أعتقد أن الأمر يجري على هذا النحو. كما تعلمون، كنا نتمنى ألَّا يلاحظ الخدم أي فرقٍ عندما تتحقق رغباتنا. ولا يحدث شيء للحَمَل ما لم نذكره في أمنيتنا؛ ولذلك بطبيعة الحال لم يلاحظوا وجود القلعة أو أي شيء، ولكن القلعة في المكان نفسه الذي كان فيه منزلنا والخدم لا بد أن يتصرفوا وكأنهم في المنزل، وإلا كانوا قادرين على ملاحظة ما حدث من تغيير، لكن لا يمكنكم الحصول على قلعة داخل منزلنا، ومن ثمَّ فلا يمكننا رؤية المنزل؛ لأننا نرى القلعة؛ ولا يمكنهم رؤيتها، لأنهم لا يزالون يرون المنزل؛ وهكذا …»
قالت جين: «أوه، لا، أنت تجعل رأسي يسبح في دوامة، وتُصيبني بالدوار. كل هذا لا يهم! فقط، آمل أن نكون قادرين على رؤية غدائنا، هذا كل ما يهمُّني؛ لأننا لن نتحمَّل أن يكون غير مرئي، فلا نستطيع تناوُلَه! أعلم أنه سيكون غير مرئي؛ لأنني حاولت أن أتحسَّس كرسي الحَمَل، فلم أجد شيئًا تحته سوى الهواء. لا يمكننا أن نأكل الهواء، وأشعر كما لو أنني لم أتناول فطورًا قطُّ لسنواتٍ طويلة.»
قالت أنثيا: «لا فائدة من التفكير في الأمر، فلنذهب ونستكشف بأنفسنا؛ فربما قد نجد شيئًا نأكله.»
أشعل ذلك بصيص الأمل في صدورهم جميعًا، ومضَوْا قُدمًا لاستكشاف القلعة. ولكن على الرغم من أنها كانت أكثر القلاع التي يمكنك تخيُّلها مثالية وبهجة وكانت مُؤثَّثة على أكمل وأجمل وجه، فإنهم لم يعثروا على أي طعام أو رجالٍ مسلحين فيها. قالت جين موبخةً: «كنت أتمنَّى لو أننا تمنينا على الأقل أن نصبح محاصرين في قلعة بها حامية ومؤن!»
قالت أنثيا: «لا يمكنكِ التفكير في كل شيء، تعلمين ذلك، وأعتقد أنه يجب أن يكون قد اقترب وقت الغداء الآن.»
لم يكن قد اقترب وقت الغداء، لكنهم توقَّفوا لمشاهدة الحركات الغريبة التي تصدُر عن الخدم في وسط الفناء؛ لأنهم بالطبع لم يكونوا متأكدين من مكان غرفة الطعام في المنزل غير المرئي. الآن هم يشاهدون مارثا وهي تحمل صينيةً غير مرئية عبر الفناء؛ لأن غرفة الطعام المنزلية وقاعة المآدب الخاصة بالقلعة كانتا في المكان نفسه لحسن حظهم، لكن تحسرت قلوبهم عندما أدركوا أن الصينية كانت غير مرئية!
انتظروا في صمتٍ بائسٍ بينما قامت مارثا بما يشبه تقطيع ساقٍ غير مرئية من لحم الضأن وتقديم الخضروات والبطاطس غير المرئية بملعقة لا يستطيع أحد رؤيتها. وعندما غادرت الغرفة، نظر الأطفال إلى المائدة الفارغة، ثم نظر بعضهم إلى بعض.
قال روبرت الذي لم يكن مهتمًّا اهتمامًا شديدًا بعشائه حتى ذلك الحين: «هذا أسوأ من أي شيء حدث لنا.»
قالت أنثيا محاولة أن تُظهر أفضل ما في الأمر كعادتها: «لست أتضور جوعًا.»
ضيَّق سيريل حزامه بتباهٍ، بينما انخرطت جين في البكاء.