حصارٌ وفِراش
كان الأطفال يجلسون في قاعة الولائم الخافتة الإضاءة، في نهاية إحدى الطاولات الخشبية العارية الطويلة. لم يكن ثَمَّةَ بصيصُ أملٍ الآن؛ فقد أحضرت مارثا الغداء، الذي لم يكن مرئيًّا ولا محسوسًا كذلك؛ لأنهم بعدما تحسَّسوا الطاولة بأيديهم، أيقنُوا أنه لم يكن هناك أيُّ شيءٍ سوى الطاولة.
فجأةً شعر سيريل بشيءٍ في جيبه.
صرخ قائلًا: «صحيح، أوه! انظروا هنا! إنه بسكويت.»
إنه مكسورٌ ومفتتٌ إلى حدٍّ ما بالتأكيد، ولكنه لا يزال بسكويتًا. ثلاث قطعٍ كاملة، وحفنة سخية من الفُتات والكسرات.
أوضح قائلًا وهو يقسمها بإنصافٍ شديد إلى أربعة أكوام: «لقد حصلت عليه هذا الصباح — من الطاهية — وقد نسيتُ تمامًا.»
التُهمت القطع جميعها في صمتٍ وشعورٍ غامرٍ بالسعادة، على الرغم من مذاقها الغريب بعض الشيء؛ لأنها كانت في جيب سيريل طيلة الصباح بجانب بكرة من الخيط السميك، وبعض أقماع التنوب الأخضر، وأنبوبة صمغ.
قال روبرت: «نعم، ولكن انظر يا سنجاب، أنت ماهر جدًّا في إيضاح الأشياء الخافية وغيرها. قل لنا كيف يكون البسكويت هنا، بينما اختفى جميع الخبز واللحوم والأشياء؟»
قال سيريل بعدما صمت لبرهة: «لا أعرف، إلا أن يكون ذلك بسبب وجودها المسبق معنا؛ فلم يتغيَّر شيء يخصنا. كل شيء في جيبي على ما يرام.»
قال روبرت: «إذن لو كان معنا لحم ضأن لوجدناه معنا في الحقيقة. أوه، ألا ليتنا تمنَّينا أن نجده!»
«لكن لا يمكننا إيجاده. أعتقد أنه ليس ملكنا إلى أن نضعه في أفواهنا.»
قالت جين وهي تفكر في البسكويت: «أو في جيوبنا.»
قال سيريل: «من الذي قد يضع لحم الضأن في جيبه، أيتها الفتاة الساذجة؟ لكنني أعرف — على أي حال — أنني سأحاول!»
انحنى على الطاولة وأنزل وجهه إلى ارتفاع نحو بوصة من سطح الطاولة، وأخذ يفتح فمه ويغلقه كما لو كان يقضم الهواء.
قال روبرت وهو في حالة كآبةٍ شديدة: «لا طائل من ذلك، كفاك عبثًا!»
وقف سيريل وعلى وجهه ابتسامة النصر، ممسكًا في فمه بقطعة من الخبز. كان ذلك حقيقيًّا جدًّا؛ فقد رأى الجميع ذلك. صحيح أن باقي الرغيف اختفى مباشرةً بعد أن قضمه، لكنه لم ينزعج؛ لأنه كان يعلم أن الخبز في يده على الرغم من أنه لا يستطيع رؤيته أو الشعور به. أخذ قضمة أخرى من الهواء بين أصابعه، فتحولت إلى خبز عندما قضمها. وفي اللحظة التالية، كان بقيَّتُهم يحذون حذوه، أخذوا يفتحون ويُغلقون أفواههم على ارتفاع بوصة أو نحو ذلك من الطاولة المكشوفة. التقط روبرت شريحةً من لحم الضأن و… لكنني أعتقد أنني سأُنزل الستار على بقيَّة هذا المشهد المؤلم. يكفي أن نقول إنهم تناولوا جميعًا كفايتهم من لحم الضأن، وإنه عندما جاءَت مارثا لتغيير الأطباق، قالت إنها لم تَرَ مثل هذه الفوضى مطلقًا في حياتها.
كانت الحلوى، لحسن الحظ، شطيرةً مستطيلة محشوة بالمربي، وعند ردِّهم على أسئلة مارثا، قال الأطفال جميعهم في اتفاق تام إنهم لا يريدون عليها دبس السكر — لا مربَّى ولا سكر — بل قالوا: «نريدها فقط دون إضافات، من فضلك.» قالت مارثا: «حسنًا، لم يحدث من قبلُ أن … إني أتساءل عما ستفعلونه بعد ذلك؟» ثم انصرفت.
تلا ذلك مشهدٌ آخر لن أسهب في الحديث عنه؛ لأنه ما من أحدٍ يبدو لطيفًا مثل الكلب وهو يلتقط شرائح الحلوى المحشوة بالمربَّى من فوق الطاولة في فمه. أعظم ما في الأمر هو أنهم قد تناولوا الغداء؛ شعر الجميع الآن بشجاعة أكبر من أجل التأهُّب للهجوم الذي كان من المفترض أن يشنُّوه قبل غروب الشمس. أصرَّ روبرت — بصفته القائد — على الصعود على قمة أحد الأبراج للاستطلاع؛ لذا صعدوا جميعًا. صار بإمكانهم الآن أن يروا جميع أركان القلعة، كما استطاعوا أيضًا أن يرَوْا ما بعد الخندق، من كل جانب حيث كانت خيام الجيش المحاصِر منصوبة. ثم سرت رجفة في أوصال الصغار الذين لم يشعروا بارتياحٍ لمَّا رأوا أن جميع الرجال كانوا مشغولين للغاية بتنظيف أو شحذ أسلحتهم، وشدِّ أقواسهم، وتلميع دروعهم. ثم جاءت مجموعةٌ كبيرة على طول الطريق، وقد جرَّت الخيول جذع شجرةٍ كبيرة؛ فامتقع وجه سيريل وشحب للغاية، لأنه كان يعلم أن هذا كان مدقًّا حربيًّا لدكِّ الحصون.
قال: «يا له من شيءٍ جيد أن لدينا خندقًا، ومن الجيد أيضًا أن الجسر مرفوع؛ لأنني لم أكن لأعرف قَط كيف يُرفع.»
«بالطبع سيكون مرفوعًا في قلعةٍ محاصرة.»
قال روبرت: «ألا تعتقد أنه كان ينبغي أن يُوجد بها جنود؟»
قال سيريل بحزن: «أنت تعلم أنك لا تستطيع معرفة كمْ من الوقت مرَّ على القلعة تحت الحصار، فربما يكون معظم المدافعين الشجعان قد قُتلوا في وقتٍ مبكر جدًّا من الحصار ونفد الطعام والمؤن، والآن لا يُوجد سوى عددٍ قليل من الناجين البواسل؛ وهم نحن، وسندافع عنها حتى الموت.»
سألت أنثيا: «كيف ستبدءون؟ أقصد الدفاع حتى الموت.»
«يجب أن نكون مسلحين بأسلحةٍ ثقيلة، ثم نطلق النار عليهم عندما يتقدَّمون للهجوم.»
قالت أنثيا: «لقد اعتادوا صبَّ الرصاص المغلي على المحاصِرين إذا اقتربوا أكثر من اللازم، أراني أبي الثقوب المخصَّصة لصبِّه في قلعة بوديام. وهناك ثقوب مثلها في برج البوابة هنا.»
قالت جين: «أعتقد أنني سعيدة لأنها مجرد لعبة؛ إنها مجرد لعبة، أليست كذلك؟»
لكن لم يُجِبْها أحد.
وجد الأطفال الكثير من الأسلحة الغريبة في القلعة، ولو أنهم كانوا تسلحوا من الأساس، لسرعان ما اتضح أنهم كانوا سيصبحون، كما قال سيريل: «مسلحين بأسلحةٍ ثقيلة.» لأن هذه السيوف والرماح والأقواس والنبال كانت ثقيلة للغاية حتى بالنسبة إلى سيريل ذي القوة الرجولية؛ وبالنسبة إلى الأقواس الطويلة، لم يَتمكَّنْ أيٌّ من الأطفال حتى من ثنيها؛ لذا فقد كانت الخناجر أفضل. لكن جين كانت تأمل ألَّا يقترب المحاصِرون بالدرجة الكافية التي تُحتِّم استخدام الخناجر.
قال سيريل: «لا يهم، يمكننا أن نرميها مثل الرماح، أو نُسقطها على رءوس الجنود. أرى أن هناك الكثير من الحجارة على الجانب الآخر من الفناء. فإذا تمكنَّا من رفع البعض منها، فما علينا إلا أن نُسقطها على رءوسهم إذا حاولوا عبور الخندق.»
وسرعان ما تعالَتْ كومة من الحجارة في الغرفة التي فوق البوابة. ثم تلتْها كومةٌ أخرى، كومة لامعة تبدو خطيرة، من الخناجر والسكاكين.
وبينما كانت أنثيا تمر عَبْر الفِناء بحثًا عن المزيد من الحجارة، خطَرَت لها فكرة مفاجئة ونافعة. ذهبت إلى مارثا وقالت لها: «هل يمكننا الحصول على بسكويت الشاي، سنلعب لعبة القلاع المحاصَرة، ونود أن نوفر البسكويت للحامية. ضعيه لي في جيبي — من فضلك — فيداي متسختان للغاية. وسأطلب من الباقين أن يجلبوا البسكويت الخاص بهم أيضًا.»
كانت هذه فكرةً سديدةً حقًّا؛ فقد أصبح لديهم الآن أربع حفنات سخية من الهواء، تحوَّلت إلى بسكويت عندما ملأت به مارثا جيوبهم، فصارت الحامية مزودةً جيدًا بالمؤن حتى موعد غروب الشمس.
أحضروا بعض الأواني الحديدية المملوءة بالماء البارد ليصبُّوه على المحاصِرين بدلًا من الرصاص الساخن، والذي يبدو أنه لم يكن متوفرًا بالقلعة.
مرت فترةُ ما بعد الظهر بسرعةٍ هائلة. كان الأمر مثيرًا للغاية لكن طوال الوقت لم يشعر أحدٌ منهم — باستثناء روبرت — بأن هذا عملٌ خطير مميت في الحقيقة. أما بالنسبة إلى الآخرين — الذين لم يروا سوى المعسكر والمحاصِرين من مسافةٍ بعيدة — بدا الأمر برمته وكأنه منقسم بين لعبةٍ رائعة، وحلمٍ رائع وآمن تمامًا. ومع ذلك فقد كان يُراود روبرت هذا الشعور بين الفينة والأخرى.
عندما بدا للأطفال أن وقت الشاي قد حان، تناولوا البسكويت بالماء الذي جلبوه من البئر العميقة في الفناء، وارتشفوه. أصرَّ سيريل على الاحتفاظ بثماني قطع من البسكويت؛ تحسبًا لشعور أحدهم بالإغماء من ضغوط المعركة.
وبينما كان سيريل يضع البسكويت الاحتياطي في خزانةٍ حجرية صغيرة من دون باب، أسقط ثلاث قطع من يده بسبب صوتٍ مفاجئ. كانت تلك صرخةً رهيبة بصوتٍ عالٍ صدرت من بوق.
قال روبرت: «أترى أن الأمر حقيقي، ولسوف يهاجموننا؟»
فهُرع الجميع إلى النوافذ الضيقة.
قال روبرت: «أجل، فها هم يخرجون جميعًا من خيامهم ويتحركون مثل النمل. وهناك يرقص جاكين عند التقاء الجسر بالضفة، أتمنى أن يراني وأنا أُخرج لساني في وجهه! نعم!»
كان الآخرون خائفين جدًّا للدرجة التي منعتْهم من التفكير في إخراج ألسنتهم لأي شخص. فنظروا إلى روبرت في إجلال تعلوه دهشة. قالت أنثيا:
«أنت حقًّا شجاع يا روبرت.»
لم يستغرق الأمر دقيقة حتى تحوَّل شحوب سيريل إلى احمرار. قال: «هراء، لقد كان يتجهز ليكون شجاعًا طوال فترة ما بعد الظهر. ولم أكن أفعل؛ هذا كلُّ ما في الأمر. سأكون أكثر شجاعة منه في لمح البصر.»
قالت جين: «لا يهم يا عزيزي من منكما هو الأشجع، ولكني أعتقد أنك يا سيريل كنت ساذجًا للغاية لتتمنى الحصول على قلعة، ولم أعُد أريد اللعب.»
قال روبرت في عناد: «الأمر ليس كذلك …» ولكن أنثيا قاطعته …
قالت أنثيا محاولة إغراء جين: «بل تودين اللعب، فهي لعبة جميلة للغاية، حقًّا، لأنهم لا يستطيعون الدخول إليها، وحتى إن فعلوا ذلك، فإن الجيوش المتحضِّرةَ دائمًا ما تُحسن معاملة النساء والأطفال.»
سألتْها جين بلهفة: «لكن هل أنتِ متأكدة تمامًا من أنهم متحضِّرون؟ يبدو عليهم أنهم قادمون من زمنٍ بعيد.»
أشارت أنثيا بمرح عبر النافذة الضيقة قائلة: «بالطبع هم كذلك، لماذا؟ انظري إلى الأعلام الصغيرة على رماحهم، ومدى سطوعها، ومدى أناقة القائد! انظري، هذا هو — أليس كذلك يا روبرت؟ — الممتطي صهوة الحصان الرمادي.»
قبلت جين أن تنظر، وكان المشهد جميلًا جدًّا لدرجة لا تجعله منذرًا بالخطر. العشب الأخضر، والخيام البيضاء، ووميض من الرماح المدببة، ولمعان الدروع، والألوان الزاهية في الأوشحة والسترات؛ كان الأمر أشبه بصورةٍ ملونةٍ رائعة. نُفختِ الأبواق، وعندما توقفت الأبواق لالتقاط الأنفاس، كان بإمكان الأطفال سماع صوت قعقعات الدروع وهمهمات المحاربين.
تقدَّم نافخ البوق إلى حافة الخندق، الذي بدا الآن أضيق كثيرًا مما كان عليه في البداية، ونفخ أطول وأعلى نفخة سمعوها. وعندما تبدَّد الضجيج الصارخ، صاح الرجل الذي كان مرافقًا لنافخ البوق وصرخ بصوتٍ عالٍ يمكن أن تسمعه بوضوحٍ الحامية التي بداخل القلعة قائلًا: «أنتم يا من هناك!»
ردَّ روبرت بصياح كصياحه في الحال: «مَن هناك؟!»
«باسم سيدنا الملك، وباسم سيدنا الصالح وزعيمنا الموثوق به السير ولفريك دي تالبوت، ندعو هذه القلعة إلى الاستسلام، وإلا فهذا تهديدٌ لكم بالنار والسيف دون رحمة. هل تستسلمون؟»
صاح روبرت قائلًا: «لا، بالطبع لن نستسلم أبدًا، لن نستسلم أبدًا!»
ردَّ عليه الرجل:
«إذن جنيتم على أنفسكم.»
قال روبرت لإخوته هامسًا في حماس: «اهتفوا، اهتفوا لنريهم أننا لسنا خائفين، ولنقرع بالخناجر لنحدث مزيدًا من الضجيج. واحد اثنان ثلاثة! هجوووم! مرة أخرى، هجوووم! مرة أخيرة، هجوووم!» كانت الهتافات مرتفعةً وضعيفةً إلى حدٍّ ما، لكن قرع الخناجر أضفى عليها القوة والعمق.
انطلقت صيحةٌ أخرى من المعسكر عبر الخندق، ثم شعرت القوة المحاصَرة في القلعة أن الهجوم قد بدأ بالفعل.
كان الجو مظلمًا إلى حدٍّ ما في الغرفة التي تعلو البوابة الكبيرة، وحصلت جين على القليل من الشجاعة الآن؛ لأنها تذكَّرت أن غروب الشمس لا يمكن أن يكون بعيد المنال.
قالت أنثيا: «الخندق صغيرٌ للغاية.»
قال روبرت «لكنهم لا يستطيعون الدخول إلى القلعة حتى لو عبروه.» وبينما كان يتحدَّث، سمع وقع أقدامٍ على الدرج الخارجي؛ أقدام ثقيلة وقعقعة حديد. انقطعت أنفاسهم للحظة. صعد صاحب صوت الحديد والقدمَين على درج البرج، ثم انطلق روبرت بهدوء نحو الباب، ونزع حذاءه.
همس قائلًا: «انتظروا هنا.» وتسلل بسرعة وبهدوء خلف صوت الحذاء الطويل وقعقعة الدرع. اختلس النظر إلى الغرفة العليا. كان الرجل هناك، وكان ذاك هو جاكين، يتقاطر منه ماء الخندق، وكان يحرِّك الماكيناتِ التي تأكَّد روبرت من أنها تخص الجسر المتحرك. أغلق روبرت الباب فجأة، وأدار المفتاح الضخم في القفل، تمامًا في الوقت الذي هرع فيه جاكين نحو الباب. ثم نزل روبرت كالبرق إلى الطابق السفلي ودخل إلى برجٍ صغير عند سفح البرج الكبير حيث كانت أكبر نافذة.
صاح في الآخرين وهم يتبعونه «يجب أن ندافعَ عن هذا!» حدث ذلك في الوقت المناسب. فقد سبح رجلٌ آخر، وكانت أصابعه على حافة النافذة. لم يعرف روبرت قط كيف تمكَّن الرجل من الصعود من الماء. لكنه رأى أصابعه المتشبثة، فضربها بأقصى ما يستطيع بقضيبٍ حديدي التقطه من الأرض. سقط الرجل مع صوت اصطدام بالماء في الخندق، وفي اللحظة التالية، كان روبرت خارج الغرفة الصغيرة، وأغلق بابها وسارع بغلق المزلاج الضخم ودعا سيريل إلى مساعدته.
ثم وقفوا عند المدخل المقوس، يلهثون وينظرون بعضهم إلى بعض. وكان فم جين مفتوحًا.
قال روبرت: «ابتهجي يا جين، فلن يستمر ذلك لفترة أطول.»
كان هناك صوت صرير عالٍ، واهتزاز شيء ما ورَّجة عظيمة. وبدا الرصيف الذي كانوا يقفون عليه يهتزُّ بشدَّةٍ. ثم استنتجوا من صوت التحطُّم أن الجسر المتحرِّك قد أُنزل إلى مكانه.
قال روبرت: «إنه الوغد جاكين هو من أنزله، ولا يزال هناك البوابة الحديدية، أكاد أجزم بأن هذه تعمل من أسفل.»
والآن سُمعت أصداء وقع حوافر الخيول وأقدام الجنود المُدجَّجين بالأسلحة، صرخ روبرت: «إلى الأعلى بسرعة، دعونا نُسقط الأشياء عليهم.»
حتى الفتاتان كانتا تشعران بالشجاعة الآن بدرجة ما. تبِعتَا روبرت بسرعة، وتحت توجيهاتِه بدأتا في إسقاط الحجارة عبر النوافذ الضيقة الطويلة. كان هناك ضجيجٌ مشوش بالأسفل، وبعض التأوُّهات.
قالت أنثيا وهي تضع الحجر الذي كانت ستلقيه: «يا للهول! أخشى أن نكون قد آذينا شخصًا ما!»
أمسك روبرت الحجر في غضب.
وقال: «آمل فقط أن نكون قد أصبناهم حقًّا! تمنَّيتُ لو أن معي مياهًا مغلية في غلايات من الرصاص لأصبَّها عليهم. كانوا سيستسلمون بالطبع؟»
ومع اقتراب أصوات الأقدام، ثم توقُّفِها فجأة، سمعوا عند ذلك رطمة كالرعد من المِدَق الحربي. وصارت على إثرها الغرفة الصغيرة شبه مظلمة تمامًا.
صرخ روبرت قائلًا: «لقد قاومْناهم، ولن نستسلم، وستغرب الشمس خلال دقيقةٍ واحدة. هم جميعًا يثرثرون بالأسفل مرة أخرى. من المؤسف أنه ليس لدينا وقت للحصول على المزيد من الحجارة! هاكم، صبُّوا تلك المياه عليهم. هذا لن يمنع تقدُّمَهم بالطبع، ولكنهم سوف يكرهون ذلك.»
قالت جين: «يا للهول! ألا تعتقد أنه كان من الأفضل لنا لو كنا استسلمنا؟»
قال روبرت «مطلقًا! سنُفاوضهم إذا أردتم، لكننا لن نستسلم أبدًا، سأكون جنديًّا عندما أكبر، أتعلمون إن لم أصبح جنديًّا فلن أذهب إلى الخدمة المدنية، مهما لقيت من معارضة.»
قالت جين متضرعة: «دعنا نُلوِّح بمنديل ونطلب التفاوض، فلا أعتقد أن الشمس ستغرب أبدًا.»
قال روبرت المتعطش للدماء: «صبُّوا عليهم الماء أولًا؛ أولئك الأوغاد!» فأمالَتْ أنثيا الوعاء فوق أقرب ثقب، وسكبت ما فيه. سمعوا صوت الارتطام بالأسفل، ولكن يبدو أن أحدًا لم يشعر بذلك، عندها ضرب المِدق الحربي الباب الكبير مرة أخرى. فتوقفت أنثيا.
قال روبرت وهو مستلقٍ على الأرض وقد ركَّز انتباهه على الثقب: «يا له من غباء، بالطبع تؤدي هذه الثقوب مباشرة إلى المدخل. هذا عندما يكون العدو قد تخطَّى الباب والبوابة، وذهب كل شيء تقريبًا سدًى. هيا، إليَّ بالقدر.» زحف إلى حافة النافذة الثلاثية الحواف في منتصف الجدار، وأخذ القدر من أنثيا، وصبَّ الماء في الخارج خلال فتحة السهم.
وفي الوقت الذي كان يصبُّ فيه الماء، خفتَ ضجيج المِدقِّ الحربي وأصوات أقدام العدو والصيحات المنادية ﺑ «الاستسلام» والتي تهتف قائلة «دي تالبوت إلى الأبد!» فجأة خبا كل ذلك كالشمعة؛ وبدا أن الغرفة المظلمة الصغيرة تدور حول نفسها وتنقلب رأسًا على عقب، وعندما أفاق الأطفال كانوا آمنين وسالمين، في غرفة النوم الأمامية الكبيرة بمنزلهم؛ المنزل ذي السقف الحديدي الممتد إلى السطح الذي يُعد كابوسًا للمعماريين.
تجمَّعوا كلهم عند النافذة ونظروا. لقد اختفى الخندق والخيام والقوة المحاصرة جميعها، وحلَّ محلها حديقة بأغصانها المتشابكة من الزنابق والزهور المخملية وزهور النجمة، والسور الحديدي ذو الرءوس الناتئة والطريق الأبيض الهادئ.
أخذ الجميع نَفَسًا عميقًا.
قال روبرت: «وها هو كل شيء أصبح على ما يُرام، قلت لكم ذلك، ولا زلت أقول، إننا لن نستسلم أليس كذلك؟»
قال سيريل: «ألا تشعرون بالسعادة الآن لأني تمنيتُ القلعة؟»
قالت أنثيا ببطء: «أعتقد ذلك الآن، لكنني لن أتمنى أن أخوض تلك التجربة مرةً أخرى يا سنجابي العزيز!»
قالت جين بشكلٍ غير متوقع: «أوه، كان ذلك ببساطةٍ أمرًا رائعًا! ولم أشعر بِذَرَّة خوف.»
قال سيريل مُبتدئًا حديثه قائلًا: «أوه يمكنني أن أقول …» لكن أنثيا قاطعته.
قالت: «انتبهوا، لقد خطر لي هذا الأمر الآن. إن هذا هو أول شيءٍ تمنيناه ولم يتسبَّب في شجارٍ بيننا، ولم يكن هناك أي نزاع ولا خلاف بشأنه، كما أن مَنْ بالأسفل ليسوا بغاضبين منا؛ فنحن آمنون وسالمون، لقد مررْنا بيومٍ شديد الرعب، ليس مرعبًا تمامًا، لكنكم تعرفون ماذا أقصد. ونحن نعرف الآن مدى شجاعة روبرت وبالطبع سيريل وجين. كما أننا لم نتشاجر مع أحد من الكبار.»
وهنا فُتح البابُ فجأةً وبعنفٍ بالغ.
وجاء صوت مارثا: «يجب أن تخجلوا من أنفسكم.» استطاعوا أن يفهموا من صوتها أنها غاضبة جدًّا بالفعل. وأردفت قائلة: «كنت على يقين أنكم لا يمكنكم أن تستمروا طوال اليوم دون ارتكاب حماقات، ألا يمكن لأي شخص أن يستنشق الهواء على عتبة الباب الأمامي إلا ويجدكم تُفرغون إبريق غسل اليدين على رأسه؟! هيا اذهبوا بسرعة إلى أَسِرَّتكم، جميعكم، وحاولوا أن تستيقظوا أطفالًا أفضل في الصباح. الآن، لا تجعلوني أكرِّر ما قلته. إذا وجدت أيًّا منكم لم يَنَم في غضون عشر دقائق، فستعلمون ما أصنع، أفسدتم غطاء رأسي الجديد، وكل شيءٍ آخر!»
خرجت وهي تنتفض غضبًا وسط جوقة من الأسف والاعتذار. كان الأطفال يشعرون بالأسف البالغ، لكن في الحقيقة لم تكن تلك أخطاءهم. فلا يمكنك منع ذلك إذا كنت تسكب الماء على عدوٍّ يحاصرك، ثم تتحوَّل قلعتك فجأة إلى منزلك، وكل شيء يختفي معها باستثناء الماء، الذي صادف أن سقط على الغطاء النظيف الذي يضعه شخصٌ آخر على رأسه.
قال سيريل: «لا أعرف لماذا لم يختفِ الماء، برغم ذلك.»
قالت جين: «ولماذا سيختفي؟ فالمياه موجودة في جميع أنحاء العالم، وأتوقع أن تكون البئر التي كانت في القلعة هي البئر نفسها التي في فنائنا.» وهكذا كان الأمر فعلًا.
قال سيريل: «كنت متأكدًا من أننا لا نستطيع تمضية يوم نتمنَّى فيه أمنية بدون أن نخوض شجارًا، لقد كان الأمر أجمل من أن يُصدقه عقل. هيا يا روبرت أيُّها البطل العسكري. لو انطلقنا إلى الفراش بسرعةٍ فلن تكون غاضبة لهذه الدرجة، ولربما قدَّمت لنا العشاء. أنا جائعٌ للغاية، ليلة سعيدة يا أطفال.»
قالت جين: «تصبحون على خير، وآمل ألا تعود القلعة ليلًا.»
قالت أنثيا بحيوية: «بالطبع لن تعود القلعة، لكن مارثا ستفعل؛ ليس في الليل، ولكن خلال دقيقةٍ واحدة. هيا استديري، لأحل عقدة مئزرك.»
قالت جين حالمة: «ألن يكون الأمر مهينًا للسير ولفريك دي تالبوت، أن يعرف أن نصف الحامية المحاصَرة كانت ترتدي مآزر أطفال؟»
قالت أنثيا: «بينما يرتدي نصفها الآخر سراويل قصيرة. أجل إنه أمرٌ مهين جدًّا. اثبتي مكانك، حتى أستطيع حلَّ العقدة.»