كفارة الحب
كانت تناهز الخامسة والثلاثين، صبوح الوجه، حلوة الابتسامة، ذكية النظرة، أدنى إلى القِصَر، غير بادنة وغير نحيفة. وكانت شفتاها المقدتين تزيدان ذكاء نظرتها وحيًا بالكثير من المعاني. وكان أصدقاؤها لا يعرفون من أمرها إلا القليل الذي ينقله إليهم صديقنا وقريبها حمزة … لكنهم كانوا يعنون بأنبائها لما تناقلت الألسن وتناهبت الأسماع من حديثها في الشهور الأخيرة. فالقاهرة مدينة شديدة التسامح مع عبث الهوى، شديدة الإغضاء عمن يسلمون عِنانهم لدوافع تياره، لكنها شديدة الدهشة لصادق الحب، تُرهف الآذان إذا حدَّث أحد في حي من أحيائها عن غرام صادق وعاطفة تستعذب الصحبة وتستهين بالموت. لذلك أثارت قصة زهيرة دهشة القاهريين وطلعتهم، وزاد ما في نفوس ظرفائهم من شك أصيل في صدق عاطفة الحب أو في استطاعة امرأة أن ترى في الحب خطيئة تستأهل التكفير عنها.
وكان صديقنا وقريبها حمزة يخطو إلى الأربعين بقلب مطمئن ونفس باسمة للحياة سخرًا من الحياة. وكان مع ذلك شديد العناية بشئون يعتبرها كثيرون من أصحابه تافهة ويراها هو جليلة الخطر ما دامت لا تعنيه وحده، بل تعني آخرين معه. من ذلك أنه كان شديد الدقة في مواعيده حتى لَكُنَّا نضبط ساعاتنا ساعةَ يدق الجرس ويدخل هو علينا، ولكنا نتهمه بأنه إذا ألفى نفسه تقدم عن موعده دقيقة أو دقيقتين وَقَفَ بالباب مُمسِكًا ساعته بيده حتى تكون الثانية المضبوطة التي يدق الجرس فيها. وكنا يومئذ ننتظره في الساعة الخامسة تمامًا، وقبيل هذا الموعد ببرهة دق الجرس، فأمسكنا ساعاتنا بأيدينا وتلاقت نظراتنا تتهم الساعات جميعًا بتقديم بضع ثوانٍ عن الموعد الدقيق، لكن الداخل لم يكن حمزة، وانقضت بعد الخامسة دقائق وانقضى ربع الساعة وانقضى نصف الساعة ولم يجئ. هنالك بدأ يساورنا القلق عليه وجعل كلٌّ منا يلقي ما يجول بظنه أنه سبب تأخره، قال أحدنا: لا بد أصابه مرض مفاجئ، وقال آخر: بل تَعلَّق بأذياله في اللحظة الأخيرة صديق لحوح، وقال ثالث: ما أكثر ما يصيب الناس من حركة المرور في هذه الأيام. وبدأ كلٌّ يقصُّ ما حمله على ظنته. وفيما نحن كذلك دق الجرس ودخل حمزة فحيَّا وجلس مُطرِقًا، وخلع طربوشه ووضعه إلى جانبه، ثم طلب فنجالًا من القهوة، وسألَنَا عما كنا نتحدث فيه. فلما ذكرنا له ما كان من مخاوفنا بسبب تأخيره، بدت على وجهه أماراتُ تردُّدٍ حاوَلَ بعدها أن يَعدِل بالحديث إلى غير هذا الموضوع. لكن أحدنا ألحَّ به يسأله عن علة تأخره. ورأينا نحن على قسمات حمزة ما دلَّنا على أن في الأمر سرًّا لا يأبى هو أن يبوح به، ولنا في الاستماع إليه لذة أي لذة. فشاركنا صاحبنا في إلحاحه، وبدرت من أحدنا هذه الكلمة: لعل شيئًا يتصل بزهيرة كان سبب تأخركَ. فاندفع حمزة قائلًا: نعم. نعم بسبب زهيرة تأخرتُ، لقد قضيت عندها هذا النهار منذ صباحه، ولقد رأيتها اليوم غيرها في سابق أيامها. لقد كانت دائمًا ساكنة سكون أبي الهول برغم ما تعرف من تناول الناس حديثها، بل لقد كانت تبتسم إشفاقًا على هؤلاء الذين يتهمونها بأخسِّ التهم، ازدراء إياهم وعبثًا بحُمقهم وجهلهم الحياة وإسراعهم إلى القضاء في أدق شئونها، شئون العواطف. أما اليوم فكانت ساكنة سكون أبي الهول، كانت ساكنة سكون القبر. فلما اطمأن مقامي عندها وبدأتُ أبادلها الحديث، قالت إنها فكرت طويلًا فيما يقول الناس عنها، وخشيت أن يعلق بذهني منه شيء أقسو به في الحكم عليها، وأنها تريد لذلك أن تقص عليَّ قصتها. وفي قصصها قضيت الوقت كله، وما أدري أكانت قصتها اعترافًا أو وصية أم دفاعًا، لكنها ختمت قصتها بقولها: أما تراني وقد قصصت عليك حديثي، كفارة الحب.
ثم إنها اعتذرت قائلة إنها تشعر بصداع، وطلبت إلى خادمتها أن تجيئها بكوب ماء صبت فيه مسحوقًا أبيض من ورقة أخرجتها من حقيبتها، ثم أشارت إليَّ أنها بحاجة إلى الاستراحة، فاستأذنتُها وجئت إلى مودعكم. ولئن كنتم قد لاحظتم عليَّ شيئًا من اضطراب النفس، فهو من أثر هذه القصة التي روتْ والتي جعلتني أشعر حقًّا بأنها كفارة لذنوب لا تقع عليها أثقل تبعاتها.
قال أحدنا: هات الوصية.
وقال الآخر: هات الدفاع.
وقال ثالث في صوت محزون: ارْوِ ياصاح حديث كفارة الحب.
اعتدل حمزة في مقعده وإن بقي مُلقيًا بنظره إلى الأرض في إطراقة المهموم، وأمسك جبينه بيده كأنما يحاول أن يستحضر الألفاظ التي سمعها، ثم قال: أخشى أن تخونني الذاكرة، فأقع فيما يقع فيه غيري من الناس من سوء تصوير العواطف وما تجري به الأقدار في شأنها، فأُسِيء إلى زهيرة حين أريد أن أقف من الأمر عند رواية حديثها. على أني سأحاول جهدي رجاء أن لا أضيِّع شيئًا من ألفاظها حين جلست في مقعدها الطويل جلسة المطمئن، وقالت في سكينة الحازم الذي اعتزم أمره: تذكر يا صاح زواجي بعد وفاة أمي ونوالي إجازاتي المدرسية. كنت قد بلغت الثالثة والعشرين، وقد رفضتُ أكثر من خاطِبٍ وأمللت بهذا الرفض المتكرر أبي. ثم انقضى عام بتمامه وما يذكرني خاطب حتى خُيِّل لأبي أنني قد قضيت بزائف كبريائي على حظي، وأنني سأبقى من بعد عانسًا ما حييت، وكم دفع عمتي لتحدثني في هذا الأمر ولترد إلى رأسي عقلي كما كانت تقول. وبلغ من إلحاحها إجابة لأمره أنني شعرت بنفسي عالة في البيت وعبئًا على كواهل أبي، وفكرت أن أشتغل بالتعليم وأمتهن أيَّ عمل يريح أهلي مني، وأفضيت إلى عمتي بذات نفسي. ولا تَسَلْ عن الثورة التي ثارها أبي وعن اتِّهامه إياي بالعقوق وبمخالفة إرادته وهو لا يريد إلا الخير. وهل خيرٌ عنده لامرأة في غير الزواج وتدبير مملكة المنزل وإنجاب البنين وتربيتهم ليكونوا لنا في الحياة عونًا وبعد الحياة ذِكرًا وللعالم عمرانًا؟! أما هذا الاقتحام لميادين العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم فلم يكن عنده إلا ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق وثورة على أمر الله وما خلقنا له. وانقضت الأيام وعدلت عما كنت فكرتُ فيه وهدأتْ ثورة أبي ونالني من عطفه ما لم يحرمني منه قطُّ. ثم جاء يخطبني ذلك الذي أصبحتُ من بعدُ له زوجًا، وأبلغتني عمتي النبأ مصحوبًا برغبة أبي في أن يتم الزواج. ماذا عساي أصنع؟ أأرفض فأثير ثائرة جديدة وأصبح البنت العاقة الثائرة على أمر الله الضالة عن طريق الطبيعة والحق؟ أأقْبَل وأنا أعرف أن هذا الرجل قليل البضاعة من العلم وإن يكن ذا سعة من المال، وأعرف أنه يكبرني بعشرين سنة، وهو إلى ذلك ليس بالجميل ولا هو ذا وفرة من الذكاء أو خفة الروح؟ ورأت عمتي ترددي، فامتعضتْ ونبهتني إلى ما في ذلك من إغضاب أبي الذي يريد لي الخير والذي يعرف من شئون الحياة في رأيها ما لا أعرف. ونادى أبي أخته باسمها بصوت ممتلئ قوة وعزيمة، فَفَتَّ ذلك في قواي وأضعف ترددي ولم أجد ما أقول لعمتي إلا أنني أسلمت الأمر إليهم والتَّبِعة في سعادتي وشقائي من بعد عليهم. وقبَّلتني عمتي فَرِحة مُتهللة وخرجت تُهرول مُلبية النداء. أما أنا فانهَمَلتْ من عيني دمعة يأس واستسلام وتوجهت بقلبي لله أشكو إليه غدر القدر.
وزُفِفْتُ إلى زوجي فلم يك إلا أيام حتى رأيته يبدي لي من صنوف المودة ويغدق عليَّ من نفيس الحُلِي والثياب ما جعلني كلما أَقْبَل عليَّ أبي أُقَبِّل يده قُبلة شكر وأعترف بسابغ جميله. ومضت الأشهر وبدأت الحلي والثياب تكثر، وبدأتُ أَمَلُّ هذا النوع من مظاهر الحب وأطمع من زوجي في شيء آخر. أطمع منه في جمال نفسه يغمرني فيزيد في حياتي، وأطمع منه في أن يبادلني النظرة للوجود وما فيه من حسن واتساق فني، وأطمع منه فيه هو لا في هداياه ولا في ماله. أطمع فيه جديدًا كل يوم، مختلفًا كل يوم جماله عن اليوم الذي قبله، مُبدِعًا في وجوده ووجودي ما يزيد الحياة أمامنا فسحة وانبساطًا ورقة وجمالًا. ولم أقف بمطمعي هذا عند الرجاء، بل حاولت أن أبعث إلى نفسه من وجودي ومن حياتي ومن قلبي ومن عاطفتي ومن هواي ومن عقلي، ما يحركه إلى ما أحب. وكأنما شعر المسكين بما تصبو إليه نفسي، فحاول ولكن هيهات. فما كنا نكاد نبدأ تَبادُل عاطفة حتى ينقلب في لحظة حيوانًا، فإذا أجبته إلى حيوانيته رأيته بعدها هامدًا باردًا منطفئ النظرة لا تلمع عيناه بمعنًى ولا يحس لي وجودًا. وما كنا نكاد نتبادل حديثًا غير حديث مزارعه وأمواله حتى يتثاءب ويعجز عن كتم ملاله. وإذا رآني يومًا أعجب بجمال فني: في صورة أتأمل، أو في كتاب أقرؤه، أو في منظر الطبيعة يوحي إليَّ بجمال الحياة الدائم الجدة؛ وقف مبهوتًا، وشعرتُ أنا به بعيدًا وكأنَّ بيني وبينه عوالم وعوالم. فإذا تَعلَّق الأمر بشخصه أو بأمواله أو بشيء يهواه، لمعتْ حدقتاه، وتحركت في نفسه أثرة قوية لا تعرف حدودًا.
بدأ الضجر من أنانيته وضعة نفسه يدس إلى نفسي سمومه. ولست أدري ما كان يصل بي الضجر إليه لولا ما شعرتُ به من تحرك الأمومة في أحشائي. هنالك ذكرت قول أبي عن واجب المرأة وتناسيتُ ما كنت أطمع فيه من زوجي، وتناسيت زوجي هو الآخر.
وانصرفت إلى أحلامي بهذه الأمومة التي كنت أزداد بها كل يوم شعورًا، وأزداد بسببها نسيانًا لما عداها. وأنجبت حسامًا وجعلت كل همي إلى العناية به. واغتبط زوجي بولده وجعل يغدق عليه بمثل ما كان يغدق عليَّ، فتبتهج نفسي لهذه الملابس الطفلة ولهذه الألاعيب يعبث حسام بها ويحبها حبي أنا إياه. وبدأ الولد يخطو ويتكلم، وبدأت أرجو أن يناله أبوه بالعطف الأبوي الصادق، وأن يفيض عليه من ذلك الحب نورًا يشب الولد في أرجاء ضيائه سعيدًا بالحياة محبًّا إياها حبًّا ذكيًّا قوي الإدراك سريعه؛ ليكون لي من بعدُ الرجل الذي أرجو. لكن خيبة رجائي فيما طمعت فيه لنفسي لم تكن دون خيبة هذا الرجاء فيما طمعت فيه لطفلي. لقد كان أبوه يحبه حبًّا شديدًا، لكنه كان حبًّا حيوانيًّا؛ هو حب الفطرة التي تدفع الدجاجة لتحنو على فراخها وتدافع عنهم. وكان حبًّا أنانيًّا لا شيء من الذكاء فيه. كان يحبه كما يحب عزبته وحصانه وأتومبيله. وليت أنانيته في حب ولده أو فيما يبدي من ميل إليه كانت أنانية مستنيرة تعرف كيف توحي إلى ما تعتقد أنه في ملكها بشيء من معنى الحياة الإنسانية يسمو به إلى ذوق جمال الحياة وإلى السمو في إدراكها، بل كانت على العكس من ذلك أنانية ضيقة الأفق كأنانية الطفل وكأنانية الدجاجة فيها كثير من الحماقة عند الغضب والسخط ومن العطف عند الرضى والانبساط.
دفعت أحوال زوجي هذه إلى نفسي شيئًا من الثورة، لكني ألفيته يهز أكتافه لثورتي يحاول تهدئتها بمثل ما يحاول تهدئة طفله إذا صاح: بثوب لي، أو لعبة لطفلي، أو نزهة خلوية يخرج وإيانا إليها عَلَّها تهدئ أعصابي على حد تعبيره. والأيام والشهور تمضي ولا أجد وسلية أتغلب بها على طبع زوجي. هنالك بدأتْ ثورتي تسكن بالرغم مني، ورأيتني أميل إلى ناحية من الأنانية أنا الأخرى، هي ناحية التسلي عن هذه الثورة بما حولي مما أطلق الناس عليه أنه أسباب الرياضة والمتاع. فأكثرتُ من غشيان دور السينما والمسارح، واستكثرت من الصديقات أبادلهن الزيارات، ونزلت بآمالي ومُثلي العليا إلى مستوى البيئة القاهرية، وصدفتُ عما كنت أصبو إليه من جمال في الحياة لا وجود له فيما حولي، ورضيتُ كذلك بالحاضر دون أن يُغَيِّر ذلك من نظرتي إلى زوجي ومن شعوري بأن كل واحد منا بعيد عن صاحبه كل البعد وإن تسايرنا لنقطع طريق الحياة جنبًا إلى جنب. وما جوار الأجسام إذا تباعدت الأرواح ولم تهتز القلوب بنبأة من تعاطف أو تفاهم.
في ذلك الحين سكن في أحد المنازل المجاورة لنا قاضٍ كان بالأرياف، ونقل منها إلى القاهرة. ولم يمض على مجاورته إيانا زمن طويل حتى ربط التعارف بينه وبين زوجي، وحتى دعاه زوجي لتناول القهوة عندنا. وأتيح لي غير مرة أن أستمع إلى حديثه وأن أراه، يا له من حديث كانت تفيض نبراته بالحرارة وكانت تموج عباراته بصور الحياة. كان يقص على زوجي كثيرًا مما وقف عليه في مختلف بلاد الريف، فكان يفيض عطفًا على أهله وتغنيًا بجماله وإشفاقًا على بؤس بَنِيه وأملًا في أن ترتفع بهم الأقدار إلى حظ من الإدراك لما حولهم من حسن نادر ومن بهاء وروعة. كنتُ أسائل نفسي: لِمَ لا يشتغل صاحب هذا الصوت الساحر والبيان العذب بالمحاماة؟ ولِمَ لا يكون خطيبًا ولِمَ لا يقول الشعر؟ وتكررتْ زياراته وتوَثَّقتِ الصداقة بينه وبين زوجي، فأذِنَ لي بمقابلته: أية رجولة تفيض عنه؟! رجولة فيها طموح وفيها فيض دائم التجدد، رجولة إنسانية مضيئة تدرك من أسرار الحياة ما لا يدركه إلا الإنسان المهذَّب، تدرك جمال الوجود وما فيه من فن تستخلصه الأجيال الإنسانية وتصوره فتزيد الحياة جمالًا، بل تخلق الجمال فيها خلقًا. وتحدَّث إلى زوجي عن الموسيقى، فإذا هو يفهم من دقائقها حظًّا غير قليل، وجاء معه ببعض كتب في الأدب اطلعتُ عليها فتحركتْ نفسي الأولى التي خَبَتْ وخمدتْ تحت سجف الأنانية الجامدة الباردة التي أَعْداني بها زوجي. هنالك تفتَّحتْ أمامي في الحياة فُرجة من أمل: لو استطعتُ أن أصل بولدي ليكون على مثال هذا القاضي، لكانت لي به في الحياة سعادة تنقذني مما صبوتُ إليه من الإمعان في التَّسلِّي بأسباب الرياضة والمتاع التافهة السخيفة التي تُحيط بنا في القاهرة وتردني إلى حسن المتاع بأسمى ما في الحياة من صور الحياة.
وأفضيتُ يومًا بذات نفسي إلى زوجي، لعله يشاركني في رجائي ويعاونني على تحقيقه. لكنه لم يلبث أن سمع ما أقول حتى حَمْلَق بي وحتى امتقع لونُه. ثم عدل عن الموضوع إلى حديث آخر انصرف بعد كلمات قليلة منه: ماذا؟ أيُّ شيء دار بخاطره. ولم أحتج إلى كبير عناء لأفهم، ولم يكتم هو ما في نفسه طويلًا، فقد رأيت زيارات جارنا بدأ يتباعد ما بينها، ورأيت زوجي يعمل على زيادة تباعدها بعدم ردها. وسألته يومًا وقد انقضت على آخر هذه الزيارات أيام كثيرة أنْ يردَّ إلى القاضي كتابًا كان قد تركه كي أقرأه، فلم يتمالك زوجي أن انفجر قائلًا: وهل يعنيك كثيرًا أن يصله هذا الكتاب سريعًا؟ أم تريدين بذلك أن أرد له زياراته كي أفتح له بذلك باب زيارته إيانا؟
وصَمَتُّ، وامتقع لوني حين لفظتْ شفتَا زوجي هذه الكلمات بصوت مُتهدِّج. ولم تك إلا برهة حتى انصرف مخافة أن يفيض عنه ما هو شر منها. وخلوتُ إلى نفسي أفكر: أي وحي مضيء هبط على زوجي. نعم أنا أحب هذا الرجل، أحب جارنا القاضي؛ فهو قريب مني بمقدار بُعد زوجي عني. ولكن أي شيء في هذا وأنا زوج وَفِيَّة كما تريد الزوجية أن أكون؟ ماذا على زوجي إذا أحب قلبي رجلًا غيره ما دام جسمي في مِلكه وما دمت أسايره في الحياة جنبًا إلى جنب، وإنْ تَنافر قلبي وقلبه وبَعُدَ ما بين فؤادي وفؤاده؟ ماذا يغضبه أو يثير أنانيته لِتَعبث الغيرة به كل هذا العبث؟ نعم. أنا أحب هذا القاضي وكنت أتمنى أن أكون زوجًا له، لا لهذا الرجل الأجنبي عني، وإن خلط عقد الزواج بين جسمه وجسمي، وإن كان بيننا هذا الولد الذي أحب من أعماق قلبي ويحبه هو من أعماق أنانيته.
وارتسمت صورة جارنا أمامي فثار جسمي كله. ومرتِ الأيام والبُعد يزداد بيني وبين زوجي، وإن لم تتغير معاملتي إياه ولا معاملته إياي. وخرجت يومًا لأشتري من أحد الحوانيت بعض حاجتي، فإذا جارنا هو الآخر بالحانوت يشتري بعض حاجته. وما وقعتْ عيني عليه حتى اهتز كل جسمي وخِلْتُني سأقع من طولي، لكني تمالكتُ نفسي وأهديته التحية، فتقدم إليَّ ومد يده وسلَّم عليَّ. ولما آن أن أخرج عرض عليَّ عربته تُوصلني إلى حيث أشاء، فترددتُ برهة ثم رأيتني بالرغم مني أدعوه ليصحبني … إلى أين! لا أدري. ولكن الأنانية التي أنماها زوجي عندي أرختِ العنان لعاطفتي فجَعَلَتْها تغلب وفائي من غير أن يزعجني لذلك ألمٌ أو يلذعني وَخْزُ الضمير. ومن يومئذٍ ترعرع بنعمة الحب الصادق وجودي، وتضاعف ضياء الحياة أمام نظري، وصرتُ أَسْلَسَ قيادًا لزوجي، وشعرت في نفسي بشيء من الإشفاق عليه لم أكن أشعر به من قبل.
ونُقِلَ جارنا بعد سنة من القاهرة، فأهداني قبيل سفره صورته. ورأى زوجي هذه الصورة يومًا فكاد يثور ثائرُه لولا ما ظهر على وجهي من غضب مفترِس أرانيه مستعدة أن أنشب أظفاري فيه إذا هو حاول أن يمزقها أو يعبث بها أي عبث. وأقسمتُ لأضعها في إطار ولأجعلنَّها في غرفة خلوتي. هنالك بدا له أن يأخذني باللين لعلي أثوب إلى صوابي. وأدى به إلى ذلك أني كنت حينئذٍ في فترة حمل، فكنتُ مضطربة الأعصاب، وكان يخاف على الإجهاض إنْ هو أخذني بالعنف. ومن يومئذٍ طَغَتْ أنانيتي على رقته وعلى ملاطفته إياي وإن بقي جسمي في ملكه بمقدار ما بقي روحي جاهلًا روحه.
وأنجبتُ ثلاثة أبناء غير ابني الأول، وانقضتْ سنون وكبرَ الأولاد وذهبوا إلى المدرسة، وعلاقتي بصاحبي القاضي لم تنقطع، وأنانيتي وأنانية زوجي متجاورانِ يتسايران في طريق الحياة. وفي هذه السنوات كانت أنانية زوجي تثور ما بين حين وحين: شكا أمري يومًا إلى أبي، لكني كنت أخضع أنانيته دائمًا بما يعبد؛ بجسمي أسلس له قياده. أما أبي فلم أزد يومًا حين جاء يعنفني على أنْ قلتُ له: رفضتُ الزواج غير مرة، ثم اخترتَ لي أنت على أنك أخبر مني بالحياة. وهذا الاختيار قد زَجَّ بي فيما أنا فيه. فعليك حظٌّ من التهمة غير قليل.
… اليوم قابلت صديقي … بك … ناظر المدرسة بمكتبه لأدفع مصاريف الأولاد، وقد أبدى لي إعجابه بنجابة أصغرهم، فترقرقتْ في عيني عبرة بالرغم مني لم أملك معها أن أقول: أنا واثق بأن أكبر الأولاد ابني، أما الآخرون فلست من بنوَّتِهم لي على ثقة … ورأيت في عين … بك نظرة إنكار كأنما يقول: «وما يكرهك على أن تمسك عليك زوجك؟» وسارعتُ أنا فأجبتُ على نظرته بقولي: «ما كان تسريحي زوجي لِيُخفف من بلائي وشِقوتي، ولكنه كان إعلان الفضيحة والعار لها ولأبنائها ولعائلتها. لذلك آثرتُ أن أشقى وحدي على أن أنشر حولي كل هذا الجو من الشقاوة، ثم لا أكون بذلك أقل تعسًا ولا أقل شقاء.»
واستمهلني ليفكر، فأثار ذلك دهشتي. لكني لم أر أن ألح وما يزال في الوقت مُتسَع. ولم يَدُرْ قطُّ بخاطري أنه منتهٍ إلى غير ما دعوته إليه. فما تبادلنا خلال هذه السنين من عواطف وما عرف من صدق وفائي له لا يجعله يختار علي أحدًا. وما تغنَّى به طوال هذه السنين من الإعجاب بي بل من عبادتي، كفيل بأن يزيل من نفسه أيَّ أثر للتردد، ولو كان الدافع للتردد رغبته إطلاقًا عن الزواج. واقتنعتُ أنا بهذه الحجج، فخفف ذلك من الحزن الذي يدسه إلى نفوسنا موتٌ يقع بأعيننا ولو نزل بشخص ضعيفة رابطته بنا. وإني يومًا لأنظر لمستقبلي خيرًا إذ دق التليفون وتحدَّث صاحبي إليَّ يدعوني لأوافيه إلى السكن الذي ألِفْنا كل سنوات حبنا، فأجبتُه على الفور: كيف تدعوني الآن إلى هناك؟ ولِمَ لا تحضر أنت إلى هنا؟
– خير أن نكون بمنجاة من الأعين.
– ومِمَّ تخاف الآن وقد أصبحتَ مالك نفسي إلى أن أدخل في ملكك؟
لكنه ألح وبالغ في الإلحاح، فلم أرَ بُدًّا من إجابته إلى ما طلب. وذهبت فألفيتُه قد نثر ما أُحب من أطايب الزهر في كل أرجاء المكان وهيأه كعادته ليكون قدسًا للحب. فلما جلستُ جاء إليَّ وجثَا على قدمي وبدأ ينشر من شعر الحب ما كان يُسكرني من قبل ساعة. لكني نظرت إليه في دهش وقلت له: أحسب هذا الدور قد انتهى وأحسبنا سنصبح زوجين نتبادل حبًّا من نوع آخر، ولعل سَعْد الطالع هو الذي هيأ لنا فرصة هذا التغيير ليكون حبنا دائمًا جديدًا.
– إن هيامي بهذا الحب في ذلك الوكر يجعلني لا أرضى به بديلًا، فلْنَكُنْ دائمًا كما كنا من قبل.
– ولكن لنخدع من يا صديقي وقد مات زوجي؟
– تزوجي من شئت. لقد فكرت طويلًا فآثرت أن أستمر في هذا الدور.
– هذا الدور! ولِمَ لا تتزوجني أنت؟ أفكنتَ هذه السنين كلها تلعب دورًا، فأنت تخشى إذا تزوجتني أن يلعبه غيرُك على حسابك؟
أطرق إلى الأرض إطراقة تبينت فيها هاتين الكلمتين الصغيرتين البشعتين: ولِمَ لا؟! فصعد الدم إلى رأسي وكررتُ السؤال، فلم يَزِدْ على إطراقته. ثم شعرتُ كأنما حاول أن يمس قدمي أو يخلع حذائي، لا أدري. هنالك انتفضتُ واقفةً وقلتُ له كرة أخرى: وهل يعجبك كثيرًا أن تلعب دور الخائن لأصدقائه في أزواجهم؟!
ووقف هو بدوره وحاول أن يُحملق فيَّ. كلًّا! ليس هذا قاضيًا، بل ليس هذا رجلًا، بل ليس هذا مخلوقًا إنسانيًّا. هذا وغد دنيء أبى على امرأة شريفة أضلتها الأقدار فأحبتْهُ — حين لم تكن تستطيع أكثر مِن أن تحبه — أن تكون زوجه وأن تحمل اسمه. وهذا الفن الذي يعرف، وهذه الموسيقى التي لها يطرب، وهذه الثقافة التي بها يزدان، ليست إلا حبالات لغرض حيواني خسيس، وليست إلا قشورًا تخفي أنانية «أحط صنفًا» من أنانية زوجي الذي خدع.
أمام ثورتي الجامحة بدأ يتوسل إليَّ لأجلس كيما نتفاهم، لكن قلبي كان قد تحطم من ساعة دخلتُ الوكر ورأيت إلامَ يريد أن يستدرجني، وتحطم أضعاف ذلك حين أعلن إليَّ في نذالة أنه لا يرضاني أنا التي استهنتُ بأقدس الواجبات، واستهنت بنظرات الناس وبأحاديثهم وبما كانت تسلقني ألسنتهم في سبيل حبي إياه حبًّا صادقًا، أنا التي وهبته نفسي وذكائي وسعادتي وقلبي ووهبته حياتي لأني أحببتُه! وحدقتُ فيه فإذا بي أراه وكأنه مُسخ خلقًا آخر؛ مسخ قردًا أو خنزيرًا أو ما دون ذلك من أخس الحيوانات وأدناها. وحاول غير مرة أن يتكلم، لكنني في كل مرة كنت أهجم عليه بالأوصاف التي كنت أراها مرتسمة على وجهه، فينكص على عقبيه متراجعًا هزيمًا … وأخيرًا انتهز فترةً كنت لا أتمالك فيها أن أتحدث لشدة انفعالي وقال: ألا ينهض لي عذرًا أن لا أُقْدِم على التزوج من أمٍّ ذات أربعة أبناء؟!
وا ولداه! يا للوغد! أمٌّ ذات أربعة أبناء! لم أتمالك نفسي لدى سماع هاته الكلمة، وصحتُ به في صوت ارتعدَ له: وأنتَ الذي تقولها؟! ألَا تعرف أن لك أكثر من ابن؟ ألم تقرأ تلك الكلمة التي تركَها البائس المسكين زوجي؟ أقسم لو أنك تراميتَ على أقدامي اليوم لأكون لك زوجًا، لَرَفَسْتُكَ كما أرفس أخس الحيوانات. وكيف أرضى أن تكون مثالًا لأبنائي ينسجون نسجك فيكونون مثلك غدرًا وخيانة ونذالة؟!
أجهدتني هذه الثورة فشعرتُ برأسي يدور، وخشيتُ أن يصيبني الإغماء. ومخلوقٌ هذه نفسه قدير في أثناء إغمائي أن يرتكب أخسَّ الجرائم؛ لذلك تمالكتُ نفسي وارتميت إلى مقعد وأشرتُ إليه بيدي قائلة: ابتعد عني ودَعْني وحدي، أنا بحاجة إلى لحظة سكون لا سبيل إليها وأنتَ أمامي، انصَرِفْ فما لي بك حاجة … قلتُ هذه الكلمات في لهجة أمرٍ وحزم لم يستطع معها دون أن يخرج وأن يتركني وإنْ بقي في غرفة قريبة. وقمتُ مجهودة حتى بلغتُ الباب فأوثقت رتاجه، ثم عُدْتُ إلى مقعدي، وما كدتُ أجلس حتى رأيتُني انهملتْ دموعي وانخرطتُ في بكاءٍ خشيتُ أن يسمع النذلُ نشيجي به فيتشفَّى. وانقضتْ برهة أعادت إليَّ شيئًا من هدوئي، فأجلْتُ بصري في جوانب الغرفة حولي، لقد كان كل شيء في هذه الغرف يحدثني حديث الحب وأقدس صُوَرِه في آخر مرة احتوَتْني، فما لها الساعة وكل شيء فيها بغيضٌ كريهٌ يحدثني عن جرائم وجرائم توالت سنين طويلة وأنا بها مُغتبِطة، وعلى النهل من وِرْدِها الأثيم حريصة، وأية جرائم؟! أحط الجرائم وأدناها؟ إهدار طهارة العفة على مذبح الشهوة البهيمية الدنيئة، وخيانة قدس الزوجية في أحضان دَنِسة قذرة. أينا أكبر جريمة؟ هذا الرجل الذي طردت من حضرتي، أم أنا؟ هذا الوغد الذي لا أراني الآن دونه سَفالة وحطة. ألَا إن لهذا الرجل عُذرَه أن لا يتزوجني، وكيف يفعل وقد امتهن كلانا …! حرمة الزواج، وامتَهَنَها لا في زلة لحظة، ولكن في جرائم سنين. كلا … ليس هو أكبر مني جرمًا ولا أكثر مني انحطاطًا.
كم أقمتُ كذلك؟! خمس دقائق! عشر! ساعة كاملة! لا أدري، ثم قمت فتقدمتُ إلى الباب ففتحته معتزِمة أن أنحدر مسرعة إلى الخارج … لكني وجدتُه أمامي كأنه ينتظرني، فلما رآني حدق بوجهي وقال: أتبكين؟!
فأشرتُ إليه بيدي وقلت: وداعًا. ثم تركته ونزلت فناديت عربةً حملتني إلى بيتي.
دخلت إلى البيت والشمس مُوشِكة أن تنحدر إلى مغيبها، فإذا أبنائي يلقونني وما يزال في نفس أكبرِهم من الحزن لِفَقْدِ أبيه ما أذهَبَ عنه شيئًا من مرح الطفولة المُتقدِّمة إلى الصبا. ونظرتُ إليهم جميعًا فازددتُ هَمًّا على همِّي. أيهم ابنٌ لمن يعرف الناسُ أنه أبوه؟ وأيهم ابنُ الجريمة التي اشتركتُ مع ذلك الوغد في ارتكابها؟ عَرَتْني هزةٌ تناولتْ كل جسمي من مِفرقي إلى أخمصي، وأحسستُ كأن الحُمى تلبسني، فجلستُ على مقعد وأخبرتُهم أني مُتعبة وأني لذلك غير قادرة على تناول طعام العشاء معهم. وذهبتُ ما تكاد تحملني رجلايَ من فرط الإعياء إلى غرفة زِينتي، ألقيتُ بها ملابسي. والحُمى في أثناء ذلك تزداد وأشعُر بدوار يكاد يُغمى عليَّ معه. وجاءت الخادمُ تعاونني على خلع ملابسي وتسألني ما بي؟ وماذا كان بي. حمى دوار، اضطراب في الأعصاب؟ ربما كان بي هذا كله. وبينما ألبس قميص نومي ارتميتُ على صدر الخادم مغشيًّا عليَّ، ولم أُفق حتى كنت مُمَدَّةً في سريري.
تذكر يا صاح ذلك المرض الذي أصابني وألزمني الفراش أسابيع عدة، والذي كنت ترعاني في أثنائه بزيارتك وجميل عطفك، هو هذا الذي أعقب ما رويتُ لك، وقضيت الأيام الطوال ما يكاد يعرف النوم إلى جفني سبيلًا؛ لأنني كنت كلما أغمضت عيني ارتسمتْ أمام بصيرتي أشباح مزعجة لجرائم مُروعة تقع كلها بين جدران ذلك الوكر الذي قضيتُ فيه لبانات حبي سنوات متعاقبة، والذي أصبح مِن بعد مقابلة الوغد الأخيرة فيه مملوءًا أفاعي وعقارب تنفثُ سمومًا قاتلة. لقد كانت هذه الأفاعي والعقارب تنفث سمومها منذ اليوم الأول الذي عرفتُ فيه هذا الوكر، لكني كنت في ضلال العماية فلم أرها، بل حسبتُها بدائع فنٍّ منثورة في المكان، وحسبتُ فحيحها أناشيدَ الحب ونجوى الغرام. ويدخل الحين بعد الحين أحدُ أبنائي يَرْمُقني في عيونه البريئة الطاهرة بعين العطف، فتَغمدُ نظرتُه في صدري خنجرًا … إذ تجعلني أسأل نفسي: أيُّ الرجلين أبوه؟ وتجعل الطعنة أشدَّ وقعًا إذا رأيتُه ثمرةَ غرام غير مشروع. كانت هذه الآلام النفسية أشد قسوة من كل آلام المرض، وكنتُ أحسبها تنتهي بمعاونة المرض على البلوغ بي إلى خاتمة ما كان أشهاها إلى نفسي: إلى الموت. لكنني أحسستُ بنفسي أتماثل إلى الشفاء، فأيقنتُ أن الله يريد أن أذوق من عذاب الضمير ما أكفِّر به عن ثورتي عليه وخيانتي لأقدس الروابط. ابتهلتُ وأطلتُ الابتهال، دعوتُ الله أن يغفر لامرأةٍ ضعيفة خاطئة كي تقوم على تربية أبنائِها بكل ما وَهَبها اللهُ القادر من ذكاء وحسن رعاية، لكن هؤلاء الأبناء أنفسهم كانوا بعض العذاب الذي أعدَّ اللهُ لي، فرجوتُ أن أنقطع إلى خلوةٍ أُديم فيها العبادة أكفِّر بها عن ذنبي، لكني سمعت من أعماق نفسي صوتًا يناديني: إنَّ ذنبك لا كفارة عنه إلى أن يُفني الألمُ هذا الجسم الذي استعذب حلاوة القبلات الآثمة حين نسيتِ أنتِ أن لله عينًا لا تنام. وفيما أنا في هذا العذاب أقاسي أهواله اتَّصل بي ما يقول الناس عني فابتسمتُ إشفاقًا: أيُّ شيء من كل ما يستطيعون أن يقولوا يوازي برهةً مما أُعاني؟! وأسأل نفسي: أيشعر الوغد بشيء مما أشعر به؟ أم هو فخور بما جنى مُغتبِط بأن يلبس وسامَه ويجلس ليقضي بين الناس زاعمًا أنه يقيم العدل على الأرض وقد كان معي أفحش الظالمين؟ ولكني ما لي وشعوره، إنه رجل … وأنانيته لا تعرف مثل عذابي لأنه لا يرى آثار جريمته تُلاحقه أينما ذهب كما تلاحقني. ثم أنظر إليهم بعطف ومحبة وإعزاز، لا يرى هؤلاء الأبناء الذين لا يقول أحدٌ إنهم أبناؤه، ولكن الناس جميعًا يعرفون أنهم أبنائي.
وبرئتُ من سقمي وعادت إليَّ قوتي، فحاولت أن أشغل نفسي لعل ذلك يقوم حجابًا بيني وبين هذا الماضي الذي يجثم على صدري. وبرغم محاولاتي لم أنجح ولم يسكت صوتُ ضميري، وكان ما أتظاهر به أمام الناس من سكينة أردُّ بها عني نظرات الشامتين أشدَّ إلحاحًا في تعذيبي من كل شماتة بي. وما أزال حتى اليوم أفكِّر، وما أزال أضرع إلى الله أن يخفف عني العذاب بعد أن قضيتُ الشهور تِلْوَ الشهور أكفِّر عن خطيئتي، ثم أراها بعد ذلك كله ماثلة أمامي في صورة هذه الأفاعي والعقارب التي تملأ الوكر وتنفث سمومها فيه وتملأ بفحيحها جوه.
سكتتْ زهيرة عن هذا الحديث برهة أمسكتْ على أثرها برأسها ثم قالت: أشعر بصداع. ودقتِ الجرس لخادمها وطلبتْ إليها كوب ماء.
فلما خرجتِ الخادم لتُلبي طلبها نظرتْ إليَّ وقالت: ألَا تراني وذلك شأني، كفارة الحب؟!
ووضعتْ في الماء المسحوق الأبيض الذي أخرجتْه من حقيبتها، ثم اعتذرتْ بحاجتها إلى الراحة، فاستأذَنْتُها وجئتُ إليكم. وهأنذا الآن قد قصصتُ حديثها عليكم.
•••
أصاح الأصدقاء لحديث زهيرة وكلهم آذان، فلما فرغ حمزة من قصصه جعلنا — وكلنا مأخوذ حزين — نتبادل العبارات في غدر القدر وضعف الإنسان وباطل كبريائه. وقضينا في ذلك وقتًا غير قليل قَصَّ بعضُنا في أثنائه قصصًا، وتحدَّث البعض بأحاديث. وإنا لفي سمرنا إذ دَقَّ التليفون وسأل المتكلِّم فيه عن حمزة، وتناول حمزة السماعة وأجاب السائل … ثم سمع له وأساريره تنقبض شيئًا ووجهه يتجهَّم من الهمِّ أضعاف ما رأينا عليه ساعة جاء إلينا. فلما أعاد السماعة إلى مكانها سألناه: ماذا؟ وأيُّ أمر عساه؟ فترقرقتْ في عينه دمعة لم تَبْدُ ولم تنحدر، ثم أجاب: انتهى! ماتت كفارة الحب!
ووجم برهةً سادنا جميعًا في أثنائها صمتٌ مجامَلة، أو صمت وَجَلٍ من الموت وذِكْره … وعاد حمزة إلى ملك نفسه، ثم قال: مسكينة هي البائسة التي قضتْ نَحْبَها بإرادتها كفارةً لذنوب لم تكن عليها أثقل تَبِعَتِها. لقد كان هذا المسحوق الأبيض الذي وضعتْه في الماء سمًّا. وهذه خادمتها تخبرني أنها لم تلبث طويلًا بعد أن غادرتُها لموعدكم هنا حتى بدأتْ تتلوى من فرط الألم وترفض مع ذلك استدعاء طبيب بدعوى أنه مغص سرعان ما يزول! ولما لم يبقَ لها باحتمال الألم طاقة نُودي الطبيب من غير عِلْمها، فلما بصرتْ به داخلًا عليها يسألها عن حالها، قالت له في لهجة المنتصِر: لا فائدة يا سيدي الطبيب، لم يبق بي إلى علاجٍ من حاجة. إنني أرى الخاتمة تدنو، وإذا استغرق ما بقي عليَّ أن أُعاني من ألمٍ سُويعة أو بعضها حتى يتم السم الذي تناولتُ واجبَه، فهجرة الناس جميعًا هي الراحة الكبرى، وهي أكبر انتصار لي عليهم وعلى الحياة.
وأمسك حمزة طربوشة بيده وأردف: والآن أستاذنكم لأداء الواجبات الأخيرة لهذه الضحية التَّعِسة. لقد انتصرتْ حقًّا على الناس وعلى الحياة، لكنها لم تنتصر على أبنائها.
وغادَرَنا مُنصرِفًا إلى واجِبِه المقدس ونحن نرمقه بعيون ذاهلة ملأها حديثُ زهيرة وما أعقبه من موتها همًّا وألمًا.