الدين والوطن
كانت رقيقة غاية الرقة، ذكية غاية الذكاء، أكثر اعتزازًا بذكائها منها بجمال يلفت النظر. ورثت من أمها الشركسية بياضًا وصفاء لبشرتها، ومن أبيها الصريح في مصريته جاذبية قوية في نظراتها باسمة الثغر، معتدلة القوام، لولا ذكاؤها النفاذ، الذي يسمو بها فوق كل اعتبار سواه، لكان لها أن تتيه ما شاءت بجمالها.
وقد تفوقت «سمية» على زميلاتها في الجامعة، تفوقًا أدى إلى اختيارها حين حصلت على درجتها الجامعية، لتتم علومها بباريس. وذهبت إلى العاصمة الفرنسية، والتحقت بالسوربون لتحصل على الدكتوراه. وقد أتاح لها ذكاؤها أن تتابع في معاهد الدراسات العليا العديدة، التي يفخر بها حي باريس اللاتيني، محاضرات مختلفة في الفن والأدب، جعلت من ثقافتها العامة عالمًا فسيحًا، وصقلت منطقها وتفكيرها، فإذا تحدثت سَعدَ المستمعون إليها بأعذب متاع وأدسمه.
وكانت الجمعية الإسلامية في باريس تجتمع مساء الجمعة من كل أسبوع، في بهو من أبهاء الجمعية العامة للطلاب، وكان يحضر هذه الاجتماعات شبان مسلمون من كل الجنسيات. كان يحضرها أبناء البلاد العربية، ويحضرها التركي والإيراني والروسي والهندي والصيني وغيرهم من شبان العالم الإسلامي، المنتشرين في أرجاء الأرض المختلفة. ولم يكن يحضر هذه الاجتماعات من الفتيات إلا قليلات، كن يترددن عليها أحيانًا وينقطعن عنها أحيانًا، خلا «سمية» فقد كانت حريصة على أن تشهد الاجتماعات كلها، وكانت — على خلاف زميلاتها — لا تأبى أن تشترك في مناقشات الجمعية، مؤمنة بأن هؤلاء الشبان الذين يحضرون جلساتها سيكون لهم في نهضة العالم الإسلامي عما قليل أبلغ الأثر.
وكان من هؤلاء الشبان متحمسون بالفعل للعالم الإسلامي ونهضته أشد التحمس، فكانوا يثيرون في مناقشاتهم أحداثه، ويعلقون على هذه الأحداث، ويتخذون في بعض الأحيان قرارات يبلغونها لدولة أو أكثر من دولة، أو يحتفظون بها لأنفسهم، ويعتبرونها عهدًا مقطوعًا على كل واحد منهم أن يحققه في المستقبل.
كان «سليم سولوكوف» من أكثر أعضاء الجمعية الإسلامية تبريزًا بين إخوانه، وكان شابًّا روسيًّا، من «جورجيا»، وسيم الطلعة، أسود الشعر، نحيفًا، قوي الصوت في اتزان، رضي الخلق محببًا بذلك إلى كل إخوانه، وقد اختاره زملاؤه رئيسًا للجمعية، فاعتذر لهم شاكرًا حسن ثقتهم؛ لأن مشاغله في دراساته تحول دون قيامه بأعباء الرياسة على الوجه الذي يطمئن له ضميره. وقد كان إذا تكلم عن الإسلام والمسلمين سما بتفكيره فوق المألوف من كلام سائر الأعضاء، فأصغى الكل له في إعجاب وإكبار، وأفضى بعضهم إلى بعض بأن هذا الشاب النابه سيكون له في المستقبل شأن عظيم.
وكانت «سمية» من أشد المعجبين بسليم، وكان هو شديد الإعجاب بها، وأدى تبادلهما الإعجاب إلى تقاربهما، ثم إلى صداقتهما، وكانا كثيرًا ما يتحدثان عن العالم الإسلامي، الناهض في ذلك الحين إلى الحرية وإلى الكرامة، لينسى ما فرضه السلطان الأجنبي عليه من مذلة قرونًا عدة، فكانت آراؤهما تلتقي عند آمال يسعد بها هذا العالم، ويطمئن لها الدين القيم.
ومرض «سليم» فانقطعت «سمية» لتمريضه. تركت محاضراتها في السوربون، وفي المعاهد الأخرى التي كانت تتردد عليها، وجعلت تقضي نهارها إلى جانبه، فإذا أظلم الليل، تركته إلى عناية صاحبة «البنسيون» الذي يقيم به، بعد أن توصيها في لهجة كلها الحنان والإشفاق، أن ترعاه إلى حين عودتها في الصباح. فلما أبلَّ الشاب من مرضه، كانت عنايتها به قد وثَّقت ما بينهما من مودة، ونقلت هذه المودة خطوات إلى ناحية العاطفة الإنسانية السامية … عاطفة الحب!
وإنهما ليسيران يومًا في حديقة «اللوكسمبورج» إذ قال لها: اسمعي يا سمية. إنني أشعر بعد عنايتك بي أثناء مرضي أنني مدين لك بحياتي، فهل ترين ما يمنع من أن أجعل هذه الحياة في خدمتك إلى نهايتها، وذلك بأن نتزوج؟
وألقت الفتاة ببصرها إلى الأرض ولم تُجب، فأردف: أرجو أن تفكري في الأمر، وسأعود إلى الحديث معك عنه.
كان ذلك في آخر السنة الأولى، من سني الحرب العالمية الثانية، وكانت باريس قد أصبحت في سلطان الألمان، فكانت المراسلة بين مصر وفرنسا المحتلة منقطعة أو تكاد. فلم يكن يسيرًا أن تراسل «سمية» أهلها لتستشيرهم فيما يعرضه «سليم» عليها. وأبى عليها ذكاؤها وكبرياؤها أن تخاطب أحدًا من زملائها أو زميلاتها المصريين في أمر يعنيها ولا يعني غيرها. فقضت ليلها تفكر في عبارة سليم، الوجيزة، ثم ذكرت أول ما ذكرت، عهدًا قطعته لأمها عشية سفرها من مصر: ألَّا تتزوج من أجنبي.
أوَتَستطيع وقد قطعت هذا العهد على نفسها أن تقبل خطبة سليم إياها؟ إنها تحبه كما يحبها، وتشعر بأنها ستنعم في هذا الزواج بسعادة لا ترجوها في زواج غيره … لكنها حريصة على الوفاء بعهد قطعته لأعز الناس عليها وأحبهم إليها … لأمها. فهل من سبيل إلى التحلل من هذا العهد؟ ألَا لو أنها وجدت الوسيلة لذلك لَمَا ترددت في الزواج من سليم!
وإنها لحيرى أمام هذا العهد المقدس؛ إذ سمعت صوت نفسها يناديها: لكن سليمًا ليس أجنبيًّا، إنه مسلم وأنا مسلمة، والدين يربط بيننا بوثاق لا يقل عن وثاق الوطن قوة. بل الدين هو وطننا الأكبر، وطننا الأقدس، وهو الرابطة السامية فوق كل رابطة. أليس يُجيز الشرع أن أتزوج مسلمًا، أيًّا كان البلد الذي يعيش فيه، ويحرم عليَّ أن أتزوج غير مسلم من أبناء الوطن الذي ترتسم حوله حدود أرض! فإذا أنا تزوجت سليمًا فلن أكون قد نقضتُ العهد الذي قطعته لأمي أو نكثت به، ولذلك لن تغضب هي يوم تعلم بهذا الزواج!
وتردد صوت نفسها في أعماق وجودها واستجابت له روحها، لكن ذكاءها المتوقد حرص على أن يقيم لهذا الصوت منطقًا عقليًّا، حتى لا تُتهم بأن تيار العاطفة جرفها، فالتمست في نداء نفسها وسيلة تحلها من عهدها!
ولم يعيَ ذكاؤها عن الاستجابة إلى نداء عاطفتها، فأرسى منطق هذا النداء على قواعد اطمأن لها وجدانها.
لقد كانت تشعر، إذ كانت بمصر، أنها أقرب إلى أهل دينها منها إلى غيرهم من أبناء وطنها، إلا ما ندر. وقد زارت الشام سنة مع أبيها، فشعرت نحو أهله المسلمين بالمودة والقربى؛ لأن دينهم دينها ولغتهم لغتها.
ودين سليم دينها، وهو يتكلم الفرنسية كما تتكلمها، فلهما لغة مشتركة ودين واحد. ولا ريب أن سليمًا يشعر نحو المسلمين الروس بما تشعر هي به نحو المسلمين المصريين، ويشعر نحو المسلمين غير الروس بمثل ما شعرت به نحو أهل الشام، فله إذن وطن أكبر، كما أن لها وطنًا أكبر. وهذا الوطن مشترك بينهما، فليس أيهما إذن أجنبيًّا عن صاحبه، ولن تكون بقبولها الزواج منه قد نكثت بعهدها أو أخلَّت به!
جعلت سمية تقلب هذه الحجج في دخيلة نفسها طول ليلها، فجفاها النوم إلى مطلع الفجر. وفي الظهيرة التقى بها سليم في المطعم الذي يتناولان الغداء فيه، فنظر إليها بعين فيها الاستفهام، كأنما يريد أن يعرف رأيها فيما عرضه عليها. وأمسكت هي عن الجواب، فصرف الحديث إلى موضوع آخر.
وتحدث إليها صبح الغد بالتليفون، ليلتقيا في حديقة اللوكسمورج. فلما تقابلَا وبادلته التحية، لم يمهلها أن قال لها: لقد قضيتُ الليلتين الماضيتين لا أذوق طعم النوم في انتظار جوابك، فهل أطمع في أن أسمعه اليوم؟
وأجابته: «لقد كان شأني مع النوم شأنك … والآن أنت وما تريد. ولنَدْعُ الله أن يسعدنا بهذا الزواج!»
وتزوجا. وبعد سنتين أنجبَا غلامًا، ولم يمنع ذلك سمية من متابعة دراستها والحصول على الدكتوراه التي التحقت بالسوربون لتحصل عليها. ووضعت الحرب بعد ذلك أوزارها، واستعادت فرنسا حريتها، وعادت المراسلات بين مصر وباريس، وكتبت سمية إلى أمها تزف إليها البشرى بنجاحها، وتخبرها كذلك بزواجها، وبالغلام الذي رزقها الله ثمرة لهذا الزواج.
وكررت سمية في خطابها مرات عدة أن زوجها مسلم من آباء وأجداد مسلمين، وأن الإسلام وطن للمؤمنين به جميعًا، وأن ذلك هو الذي أقنعها بالزواج منه، بعد الذي رأته من كمال صفاته، واستيقنته من كريم حسبه!
مع ذلك رِيعَ أبواها لنبأ زواجها، فلم يُنبئَا به أحدًا، وبلغ من رَوْعِ أمها أن قَدَّرَتْ أنها فقدت سمية إلى الأبد، ولولا مخافتها أن يفتضح الأمر — وهي حريصة على إخفائه — لَلَبِسَتِ السواد على هذه البنت، كما لبسته على أختٍ لها ماتت من قبل ودفنت في صحراء القاهرة!
وكتبت الأم إلى سمية كتابًا قاسيًا، ذَكَّرَتْها فيه بالعهد الذي نكثته، وبالعار الذي جلبته على أهلها، وذكرت لها أنها لم تعد ابنتها، وأنها لا تريد قط أن تراها، وأن قلبها، قلب الأم، ساخط عليها وعلى فعلتها النكراء.
ولم تُخف سمية عن زوجها غضب أمها، فقال سليم: «فلنذهب إلى روسيا، وستجدين في بلادي وبين أهلي ما يُهَوِّن عليك غضب أهلك.»
قالت: «أوَتَراك تريد أن نترك ما نستمتع به من حرية في باريس، لنعيش في جو الإرهاب الشيوعي، لا يعرف الإنسان فيه ما مصيره إذا أبدى رأيًا لا يعجب الحاكمين! كلا يا صديقي! إن شئت أنت فاذهب إلى أهلك، ودعني هنا مع ولدي، فإني أوثر الحرية ولا أرضى بها بديلًا! وكيف تحسب أهلك يستطيعون أن يهونوا علي غضب أهلي، وهم لا يعرفون لغتي، وأنا لا أعرف لغتهم، ولا أخالني قادرة في هذا السن على أن أتعلمها؟!»
والحق أن سليمًا لم يكن يؤمن بالشيوعية، وكان يرى فيها الكثير مما يخالف الإسلام دينًا ونظامًا. وهو لم ينس أن ابن عمٍّ له حوكم منذ بضع سنوات وحكم عليه بالنفي، لغير شيء إلا اتهامه بأنه لا يتلاءم مع العهد. لكن مرتب سمية المدرسي كان قد قُطع لأول ما انتهت الحرب وعَرفت الحكومة أنها تزوجت من غير مصري. وهي لم تكن تطمع في معونةٍ من أهلها، وقد أغضبهم تصرفها، ولم يكن ما يتناوله سليم من أهله، يكفيهم للعيش في باريس، عيشًا معقولًا. وليس من السهل أن يجد هو، أو تجد هي، عملًا كريمًا في فرنسا، برغم درجاتها العلمية العليا؛ لأن أبناء فرنسا كانوا بحاجة — بعد السنوات الخمس التي احتل الألمان وطنهم في أثنائها — إلى كل عمل فيها، وكل وظيفة من وظائف الشركات أو الأعمال الحرة، التي بدأت نشاطها أو عادت إليه. فكيف السبيل مع ذلك كله إلى البقاء في باريس، ومواجهة هذه الظروف جميعًا؟
تحدث سليم مع زوجه في هذا الوضع، وذكر لها أنها بين أن يذهبا إلى روسيا، أو أن يعيشا في باريس عيش الشظف. فإذا ذهبا إلى روسيا، فيسيرٌ أن يجد عملًا يرزقهما. ولعلها متى تعلمت الروسية أن تجد عملًا كذلك بعد أن أصبحت روسية الجنسية بحكم زواجها. صحيح أن العيش في روسيا لا يجعلهما أنعم بالًا من الفرنسيين في فرنسا بسبب ما أدت إليه الحرب من حرمان. لكنهما، وهما من الأجانب في فرنسا، سيلقيان فيها عنتًا أشد العنت ومشقةً أية مشقة!
واستمهلته سمية إلى الغد لتفكر في الأمر، فلما أصبحت خرجت لبعض شأنها. وفي المساء قصت عليه أنها بحثت فوُفِّقَتْ إلى عمل على الآلة الكاتبة، متواضع الأجر، ولكنه يعينهما على تحمُّل أعباء المعيشة. عند ذلك رأى أن لا مناص له من أن يبحث كذلك عن عمل يضم أجره إلى ما يتناوله من أهله. ولعل مجموع ما يصل إليهما، ينجيهما من الضيق، وإن لم يسمح لهما بأية رفاهية. وحسبهما عزاء أن أهل باريس جميعًا يعانون الحرمان في تلك الأيام التي أعقبت الحرب، فلن يكون مظهرهما أسوأ من مظهر الفرنسيين أنفسهم.
واهتدى سليم، كما اهتدت سمية، إلى عمل. فاستطاعا أن يعيشا في شظف، وتحيط بهما مع ذلك سعادة الطمأنينة إلى الحرية.
•••
كانا يذهبان في الصباح إلى عملهما بعد أن تستودع الأم طفلها مؤسسة ترعاه مع أمثاله. فإذا كان المساء، وعادَا من عملهما، وعادت هي بالطفل معها، وجاءَا بطعام عشائهما، آوى الجميع إلى غرفتهم حتى ينام الغلام، ثم خرج الزوجان يقضيان وقتًا ناعمًا سعيدًا يستمعان إلى الموسيقى في أحد المقاهي، أو في ملهى من الملاهي التي تعزف الموسيقى فيها أبدع الألحان لأكبر أساتذة الفن. أو يذهبان إلى المسرح في أعلى التياترو، أو يسيران في شوارع باريس الكبرى، ينعمان بمناظر المعروضات في واجهاتها. فإذا انتصف الليل أو كاد، ارْتَدَّا إلى غرفتهما سعيدين بأن يريا فيها الطفل مستغرقًا في نوم هادئ. ثم يأويان إلى فراشهما ينعمان فيه بسكينة النوم.
وكانت هذه الغرفة هي وطنهما الصغير المحبب. كانت سمية تغمض عينيها فترى فيها مصر كلها؛ لأنها كانت تجمع حولها كل ما في الحياة من حب وإعزاز كحبها سليمًا وحب سليم إياها؟! وهل إعزازٌ كإعزازها هذا الطفل البريء الجميل؟ هو — لها — بسمة الحياة، وهو الذي يهون عليها كل مشقة. وإذا كانت أمها قد غضبت منها، فتَنَكَّرَتْ مصر لها، فلن يجعلها ذلك أقل لهذا الوطن الكريم إعزازًا أو محبة. ولن يؤنسها ذلك من أن ترضى عنها أمها، يوم تؤمن بأنها لم تَجْنِ ذنبًا، ولم تنكث عهدًا، حين آمنت بأن الدين هو الوطن الأكبر، وأن الأرض التي ولدت فيها هي الوطن الأصغر!
وكانت سمية تنتهز صبح يوم الأحد من كل أسبوع لتكتب إلى أبويها قبل أن تخرج مع زوجها وابنها لقضاء النهار في نزهة خارج المدينة. ولم تكن تنتظر من أبويها ردًّا على كتبها، ولكنها كانت ترجو أن تلين هذه الكتب قلبيهما فيصفحا آخر الأمر عنها.
والعجيب أن أباها كانت تنازعه نفسه إلى هذا الصفح، وأن أمها هي التي كانت تأبى أن تقرأ كُتب ابنتها، أو أن تُجاري زوجها فيما كانت تسميه تساهله وضعفه. ولو أن الأم قرأت كتب سمية، أو سمعت إلى ما فيها، لتأثرت بها كما تأثر الأب، ولانت كما لان، لكن إباءها كان يشوبه عناد عنيف، يبعثه إلى نفسها خوفها من أن تضعف هي الأخرى أو أن تلين!
وإنها لتجلس ذات صباح في غرفتها، إذ دخل عليها زوجها، ودفع إليها صورة فوتوغرافية، نظرت فيها فإذا هي صورة طفل، كل نظراته البراءة والذكاء، وفيه منها شَبَه، حتى لكأنها هي التي ولدته. ونظرت طويلًا إلى الصورة وأدركت أن الطفل هو ابن سمية، فترقرقت في عينيها دمعة لم تستطع حبسها، ثم قالت: وما ذنبُ هذا الطفل البريء الجميل؟ إنني أشعر له في أعماق قلبي بمحبة تعدل غضبي من أمه. ألا ليتني أراه!
وسكت زوجها برهة ثم قال: «وليتني أنا كذلك أراه.» ولم يزد على ذلك، ولم يخاطبها في الموضوع طول ذلك النهار.
فلما أمسيا، قالت له: «ألا تريني خطاب سمية الذي أرفقت به صورة طفلها؟»
وأعطاها زوجها الخطاب، وقد اطمأن إلى أن أمومتها بدأت تتغلب على كبريائها. فلما كان بعد ذلك بأيام، قالت له: ما رأيك في أن نذهب إلى باريس نقضي بها أيامًا، نرى فيها حفيدنا، ونغير هذا الجو المحيط بنا؟
وأجابها: «وما رأيك أنت في أن نبعث إليهم بتذاكر السفر ليحضروا إلينا؟ ولعلنا نستطيع أن نستبقيهم بمصر، فيظل الطفل في أحضان عطفك وحنانك؟»
ولم تجد الأم ما تعترض به هذه الفكرة، فأرسل الأب إلى ابنته يقول لها إنه وضع تحت تصرفها وتصرف زوجها تذكرتي سفر من باريس إلى مصر، وإنه ترك لهما تحديد الموعد الذي يحضران فيه.
وعرضت سمية ما كتبه أبوها على سليم، واتفقا على أن يطلب كلٌّ منهما إجازة من عمله، ليذهبا مع طفلهما إلى مصر. وكان كل منهما قد اطمأن إلى ثقة أرباب العمل فيه، ثقة أتاحت لهما أن ينالَا إجازة شهر بمرتب.
وسافرَا إلى مصر، وتلقاهما أبوها على الميناء، إلى منزلهم. فلما رأت أمَّها ألقت بنفسها بين أحضانها والدمع في عينها، وكأنها طفلة في سن ولدها. وبكت الأم كما بكت ابنتها، وعانقتها عناقًا طويلًا. ووقف الطفل ينظر إليهما دَهِشًا. فلما فرغَا من عناقهما ومن قبلاتهما، أخذت الجدة حفيدها إلى صدرها، وأخذت تُقبل جبينه وخديه، ثم تضمه من جديد إلى صدرها.
وقد نسيت غضبها، وغلبت عاطفة الأمومة فيها كل عاطفة سواها، وشعرت بسعادة لا سعادة مثلها للقاء ابنتها وحفيدها.
وأقبل الأب ومعه سليم، فقدمته سمية إلى أمها. وعاش الزوجان وطفلهما في بيت جَدَّيْهِ أكرم عيش وأهنأه. وكان الطفل أوفرهم من المحبة والإعزاز نصيبًا. كانت جدته لا تلبث كلما رأته أن تأخذه إلى صدرها، وأن تُوسِعَه تقبيلًا، وكأنما تكاد أن تأكله! وكان جده يصطحبه إلى حوانيت لُعَبِ الأطفال يبتاع له منها كل ما تشتهيه نفسه.
وكان الأبوان الشابان يريان ذلك كله فيَغتبطان به، ويبدو عليهما — مع ذلك — وكأنما يتساءلان: فيم إذن كان غضبكما؟
ويجيء الأهل والأصدقاء، فيقدم سليم إليهم على أنه العريق بآبائه في الإسلام، وأنه زوج ابنتهما العزيز الحبيب!
وبعد أسبوعين من مقام سمية وزوجها بالقاهرة، فكر الأب في أن يجد لسليم عملًا يسمح ببقائهما بمصر. فأخذ يمر به على أصدقائه أرباب الأعمال، ممن تحتاج أعمالهم إلى كفاية الشباب، وتطمئن إلى لغته الفرنسية، وكان أرباب الأعمال يسمعون ذلك، فينظرون إلى الشاب نظرة فيها مظهر الحذر، ثم يعدون بالنظر في الأمر بعين الرعاية. وكان سليم يضيق بما يرى ويسمع من ذلك، ولا يكاد يطيقه. وزاده ضيقًا به، عدم إلفه جو الحياة في مصر!
وخلا إلى زوجه ذات يوم وقال لها: اسمعي يا سمية. إن إجازتنا قاربت نهايتها، ويخيل إليَّ أن أباك لن يجد لي عملًا بمصر، لتظلي أنت معه ومع أمك بها. وإني لشاكر له عنايته بي، لكنني أشعر بأنني لا طاقة لي بالمقام هنا؛ لأنني أحسب أن ما سأناله من أجر عن عملي، سيُعطى إليَّ وكأنه صدقة إكرامًا لخاطر أبيك. كما أنني سأحس دائمًا بالوحشة التي أحسست أنت بها يوم دعوتك لنذهب إلى روسيا. فإِذا رأيت أنت المقام بين أهلك هنا زمنًا أطول مما قضينا، فلا اعتراض لي. أما أنا فأريد العود إلى باريس، لاستئناف عملي بها، بعد الذي كسبتُ من ثقة أرباب العمل بي، ثقة أطمع معها في مركز خير من مركزي الحاضر. ويوم تهفو نفسك للحضور إلى عُشنا، ألفيتني في انتظارك على لظى الجمر!
ونظرت إليه سمية بعينين مُلِئَتَا عتابًا، وقالت: أوَتَظنني أُوثر عليك أحدًا، أو أُوثر في الدنيا مكانًا لست أنتَ فيه؟ أنت يا سليم أهلي ووطني، وإذا استطعت أنت أن تبتعد عني، فلا طاقة لي بالبعد عنك. أوَحَسبت رخاء العيش هنا يغريني إذا لم تكن أنت في هذا الرخاء شريكي؟ إن كسرة خبز نأكلها معًا في عشنا الصغير بباريس، أحب إليَّ وأشهى عندي من أشهى الأطعمة وأفخر الموائد إذا جلست عليها من غيرك، ولن أناقشك فيما تحدثني الآن فيه. وسأذكر لوالديَّ أننا عائدان لتَسَلُّم عملنا بباريس بانتهاء الإجازة التي سُمح لنا بها!
وامتلأت عينا سليم بالدمع، فقبلها وقال لها: شكرًا لك ألف شكر يا عزيزتي! لقد رددتِ الآن إليَّ روحي، وقد أوشكتْ أن تبلغَ التراقي. وقد جمع الله قلبينا فلن يُفرق بيننا شيءٌ في الحياة!
وعاد الزوجان وطفلهما إلى باريس، واستأنفا عملهما بها. وبعد أشهر دعا ربُّ العمل سليمًا، وقال له: إن لشركتنا بالأرجنتين أعمالًا واسعة، وقد رأيت أن أجزيك عن أمانتك وكفايتك، بنقلك إلى هناك ومضاعفة مرتبك، وأنا أعلم أن زوجتك تعمل في مؤسسة على مقربة منا، وطبيعي أن تصحبك، وستتقاضى هناك من شركتنا ضعف مرتبها كذلك. وللشركة مدرسة يتعلم فيها أبناء موظفيها، فإن راقك ما أعرضه الآن عليك، فأبلغني موافقتك وموافقة زوجك غدًا، لأنفذه من أول الشهر!
وحدَّث سليم سمية فيما عرضه مدير الشركة عليه، وهو يخشى عدم ارتياحها له، لما يعرف من شدة حبها لباريس. وأدهشه أنها لم تتردد، بل قالت له: نعم. هيا بنا إلى أمريكا الجنوبية، إن بها أبوابًا واسعة للثراء، وليس يعنيني ذلك من أجلنا، بل من أجل ولدنا، ضمانًا لمستقبله!
وسافر ثلاثتهم أول الشهر، وبعد أن أقاموا بالأرجنتين عامًا وبعض العام، تعرفت سمية إلى لبناني عرض عليها الاشتراك معه في عمل يُدِرُّ أرباحًا ضخمة، مع بقائهما بالشركة التي يعملان فيها. وقَبِلَ مدير الشركة أن تظل سمية في عملها وأن ينقطع سليم لمزاولة العمل الجديد.
وكذلك استطاعا في أعوام معدودة أن يصبحا من أصحاب الثروة والإيراد الضخم!
وكبر ولدهما، فعهدَا إليه في عملهما الخاص بوظيفة يجني منها ربحًا لنفسه.
وإن سمية لتعود من عملها ذات مساء، إذ ألفت في بيتها بَرْقية تُنبئها بأن أباها مريض اشتدت به العلة، وأنه يريد أن يراها، فطارت إلى مصر وبقيت إلى جانبه حتى قضى نحبه، ثم عادت إلى زوجها وولدها واستأنفت نشاطها في عملها، وكانت بلغت به مقامًا محمودًا.
وتعاقبت السنون، ومرضت سمية يومًا مرضًا طال بها، وأشفق منه زوجها على حياتها. وفيما هو جالس ذات مساء إلى جانبها يواسيها قالت له: إن لي يا سليم مشيئة أخيرة، أحسبك لا تأباها عليَّ، إنني أشعر بدنو الأجل، وقد هفت نفسي إلى ثرى الوطن أستقر فيه إلى جانب أبي وأمي، فإذا اختارني ربي فانقلني إلى هناك، أرقد في صحراء القاهرة رقدة الأبد!
واغرورقت عين سليم بالدمع وقال لها: بل سيشفيك الله يا حبيبتي، وسأجعل الطب كله في خدمة حياتك العزيزة!
وشفى الله سمية، وعاد سليم معها إلى باريس يقضيان بها أيام نقاهتها ويستعيدان فيها أحلى ذكرياتهما، تاركين ولدهما بالأرجنتين يشرف على ثروتهما.
وأعادت باريس العافية كاملة إلى سمية، وإنهما ليسيران يومًا على مقربة من مقابر «بير لاشيز» إذ قال سليم لزوجته: ما رأيك في أن أشتري بين هذه المقابر قبرًا فسيحًا يضم رفاتنا بعد عمرٍ طويل؟
فباريس وطن حبنا ومستقره.
وألقت سمية ببصرها إلى الأرض، وبعد تفكير طويل قالت: إن الأرض لله يورثها من يشاء. وأنت يا سليم وطني وروحي، فاصنع ما بدا لك!