الحب أعمى
كان عارف مرحًا بطبعه، لا تفارق الابتسامة ثَغْرَه، ولا تفوته فرصة مسرة إلا ألقى بنفسه بين أحضانها. كذلك عرفه أصحابُه قبل زواجه، وكذلك عرفوه منذ تزوج. وكان جيرانه أكثر اغتباطًا بمرحه؛ فقد كان إذا دخل عليهم بيتهم ملأه حبورًا وبهجة، فكانوا يقضون الساعات معه يضحكون ملء أشداقهم، فإذا آن له أن يتركهم تعلقوا به يستبقونه، إبقاءً على متاعهم بالمسرة التي يفيضها وجوده على كل من حوله!
وكثيرًا ما كان يبقى في مجالسه هذه إلى منتصف الليل وما بعده، فإذا غادرها قام الحاضرون جميعًا يودعونه إلى باب المنزل، ثم لا تغيب الابتسامة عن ثغورهم حتى يغيب هو عن أنظارهم!
لكنه انقلب منذ أسابيع شخصًا غير الذي ألِفُوا، عَلَته سحابة من الكآبة، فلم يعد ثغرُه يعرف الابتسام، ولم تعد ضحكته تجلجل في المجالس فتعدي سامعيها فلا يملك أحدهم أن يمسك نفسه فلا يضحك. وفي أثناء هذه الأسابيع انقطع عن زيارة جيرانه حتى حسبوه أول الأمر مريضًا، فلما سألوا عنه وقيل لهم إن به همًّا يشجيه، أشفقوا لما أصابه، وتمنوا لو استطاعوا تسلية همه!
وفيما هم جلوس يومًا، وعندهم صديقتهم «طيبة» إذ دخل عارف عليهم ساهِمًا، تكاد الكآبة تقتله. فلما جلس إليهم سألوه عما به في رفق وتلطف. وكأنما كان الشاب يريد أن ينفض ما في نفسه، لعله يتخفف منه، فأخذ يقص عليهم قصته، وفيما هو يروي وقائع هذه القصة، كانت «طيبة» تلقي إليه بكل سمعها، بل بكل وجودها، وكان وجهها الباشُّ تغادره بشاشته شيئًا فشيئًا. فلما أتم عارف قصته انفجرت باكية، وكأنما طعنها حديثُه بخنجر في قلبها!
أشفق الحاضرون لبكائها، وأشفق عارف معهم، وأخذ يعتذر لطيبة أن أثارت قصته أساها إلى هذا الحد.
قالت طيبة: «لا تعجب يا سيدي، فقصتك قصتي، وما أشبه ما أصابك بما أصابني. وأنا لست مرحة بطبعي كما كنتَ أنتَ مَرِحًا، لذلك أثارتْ قصتُكَ شجوني، وجسمتْ أمامي فجيعتي، فلم أملك دموعي، فاعذرني يا سيدي، ولْيعذرني أصحابنا جميعًا!»
والواقع أن قصة عارف كانت تثير العجب بقدر ما تثير الشجن. وروايته لها كانت أشد فعلًا في نفوس سامعيها، وأعمق أثرًا عندهم مما لو قَصَّها إنسان سواه.
قال عارف: كان عمي يزوج ابنته، منذ سبعة عشر عامًا، وقد أقام أهل العروس أكثر من شهر، يحيون لهذه المناسبة ليالي تفريح وأنس، لم تكن إحداها تفوتني، وكانت تشترك في إحياء هذه الليالي فتاة عرفها أصدقاؤنا من بعد بأنها زوجتي. وكانت هذه الفتاة بارعة الجمال، رشيقة القد، حلوة النظرات، تُتقن الرقص كأحسن ما تتقنه راقصة صناع محترفة، وقد جذبتني نظراتها إليها، كما جذبني هذا الجسم اللدن، الذي يميس حين رقصها، في خفة حركة ودقة نظام، حتى يكاد يذهب باللب. وكنت إذ ذاك طالبًا بالجامعة، وكان أهلي يعلقون على نجاحي وحصولي على درجاتها أعظم الأماني. وكنت أقدر هذا، وأطمع في إرضائهم، فكنت شديد الإكباب على دارستي، حريصًا على اتصال نجاحي، فلما عرفت هذه الفتاة، وكانت تحضر مع أمها، بدأت أشعر بأن في الحياة شيئًا غير الدراسة، وغير الجامعة، وغير الدرجات العلمية، شيئًا يمس القلب، بل يعبث به. وشجعني ذلك على الاتصال بالفتاة، ثم على رفع الكلفة معها، كما شجعني عليه ما كان أهلي يَذْكُرونه عن أصلها وأنها من منبت وضيع. لذلك كنت ألقاها كل مساء قبيل حضورها إلى حفلة عمي، ثم كنت أحرص على أن أصحبها وأمها إلى منزلهما المتواضع إذا انتهت الحفلة بعد منتصف الليل.
وكانت الفتاة تصبُّ في قلبي من نظراتها، ومن ابتساماتها، ومن حديثها، ما يزيدني إعجابًا بها، وبحركات جسمها حين ترقص، وبرشاقتها في مشيتها، حتى لقد كنت أتصور هذه الحركات وهذه المشية أنغامًا كأنغام الموسيقى، أو أكثر حلاوة وحياة من أنغام الموسيقى، لذلك وقع حبها في قلبي، فأنستني كل ما سواها، وخيل إليَّ من نظراتها ومن حديثها يومئذ، أن لي مكانًا في قلبها كالمكان الذي لها في قلبي.
وكيف أشك في ذلك، وهي تبدي لي من صادق الحب ما أشعر به في أعماق وجودي، وما يهتز له كل عصب من أعصاب فؤادي؟!
ولم يزعزع هذا الإيمان بحبها في نفسي ما كنت ألاحظه عليها أحيانًا من التلطف مع قريب لي، كان حريصًا على حضور هذه الليالي في بيت عمي، مثل حرصي على حضورها، بل لم أُصدق ما روته لي أختي من أنها سمعتْها تقول لقريبي هذا: لو كان عندك من المال ما عنده لأصفيتك ودي دونه، فأنت أحب إليَّ منه، لكنك لا تستطيع الإنفاق كما يُنفق، فلا تزعجني بإلحاحك، ولا فائدة لي منك!
صدق هذا الكلام، وحسبت أن أختي تذكره بإيعاز من والدتها، بعد أن لاحظت انصرافي عن دروسي، ولاحظتْ تأخري في العودة إلى المنزل إلى ما بعد منتصف الليل في كثير من الأحيان.
واطمأنت الفتاة إلى هيامي بها، فجعلتْ تسكب من عواطفها في قلبي ما يزيد حبي لها ضرامًا، لكنني لاحظت بعد حين، أنها بدأت تتحفظ معي حين انفرادنا، فإذا حاولت أن أقبلها، أبت وقالت: أنت تعلم أن أهلك لن يقبلوا أن نتزوج، فأنتم تنظرون إلينا على أننا من طبقة دون طبقتكم، ولا تتصورون أن الحب يزيل الفوارق بين الطبقات، إنني أحبك، بل أعبدك، وأعتقد أنك تبادلني مثل هذه العاطفة، وأنت لا ترضى لمن تحبها أن تفقد شرفها، والقبلة مقدمة للزواج أو للضياع. فهَبْني قبلتك وقبلتني فماذا يكون بعد ذلك؟ إنني فتاة شريفة، وأنا لا أحيي حفلات للرقص كما قد تتوهم، ولولا مودتنا مع بيت عمك، ولُطفهم ورقتهم معنا، ما رأيتني قط أرقص. فلْنَقف بحبنا عند نهاية هذه الحفلات، وأرجو الله لك ما يرجوه لك أهلُك من التوفيق والنجاح!
زادني تحفظها هيامًا بها، وألهب عواطفي نحوها، فأخذت أسأل نفسي: «ولِمَ لا أتزوجها؟» لقد أبدع الله في تكوينها، فوهبها بذلك هبةً لا تقل قدرًا عن المال وعن الجاه، وحَباها من الرشاقة والرقة وخفة الروح ما يرفعها إلى أكرم الطبقات. إنها قطعة فنية، لا تُقَوَّم بمال، ولا تدانيها في الاعتبار هبة يهبها الله للناس. إن النظرة إليها تدفع صاحب المال ليُلقي بماله تحت قدميها، وصاحب الجاه ليضع جاهه تحت تصرفها. فلِمَ لا أتزوجها وهي تحبني وأنا أحبها، هذا الحب الذي سما بنا كلينا فوق المال والجاه، وفوق كل اعتبار؟!
فلما خلوت إليها الغداة، قبيل ذهابها إلى الحفلة في بيت عمي، قلت لها: اسمعي، إنني لم يبق لي بتَحَفُّظك طاقة، وقد فكرتُ في كلامك معي أمس، فصممتُ على أن نتزوج، فأنت منذ الآن خطيبتي، وإن شئت فأنت منذ الآن زوجتي. ولن أخبر أهلي بشيء من ذلك حتى يصبح أمرًا واقعًا. وتحقيق هذا الأمر بيدك أنت ورَهْنُ مشيئتك. فأنا منذ الساعة ملكك، تتصرفين بي كما تشائين. هذا كلام شرف، أقوله لك عهدًا مقطوعًا أمام الله … فما تقولين؟
لم أقل هذا الكلام بلساني وكفى، بل كان كل وجودي يعبر عنه أدق تعبير وأعمقه. كانت عيناي تنطقان به، وكان قلبي يخفق لكل لفظ منه، وكان وجهي ينم عن كل معانيه، ولاحظتِ الفتاة ذلك فألقت بنفسها بين ذارعي، وقالت: الآن … أنا لك، فتصرفْ أنت كما تشاء، على أن يكون زواجنا، بعد أن تتزوج ابنةُ عمك!
من تلك الساعة، لم يبق للزمن وجود أمامي، بل لم يبق في الوجود كله إلا فتاتي البارعة المعبودة. لم تكن عيني ترى سواها، ولم تكن أذني تسمع غير حديثها، ولم يكن في الجو المحيط بي شيء إلا هي، كان هذا الجو مُعطرًا بريحها وروحها وريحانها. وضممت الفتاة تلك اللحظة إلى قلبي، وقبلت جبينها وصدغها وثغرها، وشعرت بها أصبحت بضعة مني، وأن وجودها غاب في وجودي، وأننا كما يقولون: روح في جسدين. فلما أفقت من هذا الحلم السعيد الجميل، نظرت في ساعتي، فإذا هي قد تأخرت عن الموعد الذي ألِفَ الناس في بيت عمي أن يَرَوْها تدخل عليهم فيه. لذا أسرعت بها إلى هناك، ولم أدخل البيت معها اتقاء المظنة. وبعد برهة دخلت، فألفيت القوم بدءوا ليلتهم، وبدءوا مرحهم، وألفيتها انسحبت من بينهم تستعد للرقص وتظاهرتُ بالسؤال عنها، وعن سبب تأخرها، فقيل لي: إنها سترقص بعد هنيهة!
ورقصتْ، فإذا هي شخص آخر غير الذي رأيناه في كل ما سبق من ليالينا … لم تكن ترقص لنا، بل كانت ترقص لنفسها، كانت كل حركة من حركات جسمها، اللدن اللين، الذي يطاوعها إلى كل ما تريد، يجاوب ما تنطق به نظراتها من عواطف بالغة غاية السمو، ولم يكن في هذه الحركات أي معنى من معاني رغبة الحس، بل انتقلت بصاحبتها وبنا إلى عالم علوي، تتناجى الأرواح في أثيره، وترفع الأجسام معها إلى سماواته. لذلك سكن المرح الصاخب، الذي ألفناه في ليالينا السابقة، وبدت على وجوه الحاضرين جميعًا، أحلام الهناء المطمئن، التي كانت الفتاة تشعر بها في أعماق نفسها، وتعبر عنها في بليغ حركاتها. أما أنا فذهبت من سعادتي في تيهاء مبهمة، وشعرت وكأنني ما أزال ممسكًا بالفتاة بين يديَّ، أضمها إلى قلبي، وأشعر بالحب يربطنا في وثاق متين.
وانتهت السهرة وصَحِبتها وأمها إلى بيتهما المتواضع! ثم عدت أدراجي أفكر في هذا الزواج الذي سنعقده عما قريب، والذي حسبته الكفيل بسعادة أيامي ما حييت.
لا بد لي من مال أواجه به هذه الحياة الجديدة التي أنا مُقبِل عليها، ولا أريد أن يعرف أبواي شيئًا من أمرها؛ لذا تحايلت على هذين الأبوين الكريمين، وعلى الآخرين من أهلي، فجمعت من المال كل ما استطعت جمعَه، ولم يزد مع ذلك على مائة جنيه، تعدل قيمتها اليوم أربعمائة أو خمسمائة.
ولم ألبث حين تم زفاف ابنة عمي أن قلت لفتاتي: الآن حق لنا أن نصنع ما صنعوا وأن نتزوج.
ودعت الفتاة الأقربين من أهلها ودعونا المأذون وعقدنا زواجنا وأصبحت زوجًا ممتعًا سعيدًا!
وبعد شهر علمت أن زوجي حامل، وفي أثناء هذا الشهر، لاحظ أهلي كثرة سهري، وتأخري عن كل مواعيدي، ولاحظ والدي انصرافي عن الدارسة، وجاءت إليَّ والدتي ذات صباح، وأخذت تحدثني في رفق وحنان، وتذكُر لي ما لاحظه والدي على سلوكي، وتعيد على مسمعي أنشودتهم القديمة، ورجاءهم في حصولي على درجة جامعية، أسافر بها إلى أوروبا لأحصل على درجة أعلى. وذكرتْ أن والدي مستعد للإنفاق عليَّ هناك عن سعة … إلى آخر ما هناك من أمانيَّ صورتها، وحسبت أنها تستطيع بها أن تتغلب على ما ظنته طيشًا شبابيًّا، فلما أتمتْ حديثها، قلتُ: ولكني لا أستطيع السفر إلى أوروبا، ولا أستطيع إتمام دراستي!
فوجئتِ الأم المسكينة بهذا الجواب، فقالت في فزع: «ولماذا؟!»
قلت: «لأنني تزوجت، ولأن زوجي حامل!»
وقصصتُ عليها كل قصتي … وأيقنتْ والدتي من لهجة حديثي أن الأمر جد كل الجد، وأني أحب زوجتي حبًّا دونه العبادة، وأني مقدر كل الاحتمالات ومنها أن يخرجني والدي من بيته، وأنني مستعد لأنْ أعمل فأكسب حياتي وحياة أسرتي الصغيرة الجديدة!
وعدتُ إلى زوجتي، فحدثتها بما دار بيني وبين والدتي، فابتسمت وقالت: ما أظن الأمر يبلغ بوالدك إلى حد إخراجك من بيته، فقد لاحظتُ في أثناء حفلات ابنة عمك أنه يميل إليَّ كل الميل، ويعطف عليَّ أشد العطف ويُعنى بأمري أشد العناية، فإذا صادف أن تَحدَّث إليك في هذا الموضوع فقُلْ له إنني أكدتُ لك أنه لن يغضب من زواجنا!
ولم يخرجني أبي من بيته، ولم يمنع زوجتي من التردد عليه، ولم ينقطع عن التردد علينا، لكنه أبى أن تقيم معه في بيته، ورتب لنا مبلغًا شهريًّا نعيش منه عيشًا متواضعًا.
وصرفتني عبادة زوجتي عن كل شيء سواها، صرفتني عن أصدقائي، وعن أهلي، فلم يبق أمام ناظري غير هذه المرأة التي صَوَّرها بارِئُها تصويرًا فنيًّا يرضي ذوق كل مَثَّال، بل يرضي خياله، ورأيت أن المبلغ الذي فرضه والدي لا يكفل الحياة التي أطمع فيها، فرُحْتُ أبحث عن عمل، ووُفِّقْتُ في بحثي، وبذلت في هذا العمل جهدي وانقطعت بذلك عن الجامعة غير آسف عليها.
ورزقنا ابنة، ثم رزقنا بعد عامين ابنة أخرى، وقد ضاعف مولِدُ الطفلتين تعلقي بأمهما، فلم تنل عاطفة الأبوة من عبادتي إياها، وكيف تنال منها وصاحبتها قد سكنت قلبي فلم تترك فيه مكانًا لغيرها؟
وكم تمنيت لو أنها أنجبت أطفالًا آخرين، يزيدونني غرامًا بها وسعادة بهم. لكنني رأيتها تخالفني عن هذا الرأي كلما حدثتها فيه، وتذكر ما عانت في الحمل والوضع والرضاعة، من مشقة تريد أن تستريح منها في إجازة طويلة. وانقضى على مولد الطفلة الثانية سنوات ثلاث بدأت زوجتي تشعر بعدها بشيء من الاستقلال، وبدأت تحس بالحاجة إلى المتاع بالحياة، متاعًا ذاتيًّا، لا تشغله الأمومة، وإن لم يصرفها ذلك عن العناية بالمنزل وبنفسها.
وشعرت أنا بأن ذلك من حقها، وأن امرأة جميلة جمالها، لا يجوز أن تحبس حياتها على أن تحمل وتلد وترضع، لذلك لم أر بأسًا بأن تدعو بعض أصدقائها لزيارتها بالمنزل، ما دام حضورهم يدخل المسرة إلى نفسها، ولم أر بأسًا بأن تخرج معي ومع واحد أو أكثر من هؤلاء الأصدقاء إلى مقهى من المقاهي، فإذا أغدقت على صديق من وقتها ولطفها وعطفها ما شاءت أن تغدقه لم يثر ذلك غيرتي؛ لأن عبادتي إياها كانت تجعلني أتمنى متاعها ورضاها. ولم يزعجني أن يكون بين هؤلاء الأصدقاء الذين يتمتعون بعطفها من ينتمون إلى الطبقة التي كانت تنتمي إليها يوم عرفتُها. فقد كنت أنظر إلى كل ما تصنعه بعين الرضا؛ لأنها هي التي تصنعه، ولأنه يرضيها، ويبعث الهناء والغبطة إلى نفسها. ولست أبالغ حين أقول: إنني كنت أرى منها ما لا يطيق رجل أن يراه من زوجه، وكنت أرى ذلك في المنزل وخارج المنزل، فلا يُغيِّر ذلك من حبي لها، وعبادتي إياها؛ لأنها كانت كل حياتي، ولأنني كنت أشعر في أعماق نفسي بأن الحياة تكون جحيمًا إذا لم تكن هي راضية عني، أما وسعادتي متعلقة برضاها فيجب أن أكون سعيدًا بكل ما ترضى هي عنه.
ورأيتها يومًا تطرز صديرية أعجبني لون صوفها، فجلست إلى جانبها وقلت لها في حنان: كم أنا شاكر لعنايتك، منتظر بفارغ الصبر، أن ألبس هذه الصديرية من صنع يديك الجميلتين …
عند ذلك تململت في ضجر، وقالت: إنما أتسلى بتطريزها، وهي على كل حال ليست لك، وأرجو ألا تنسى أننا متزوجان الآن منذ خمس عشرة سنة، وأنت تتعبني بمبالغتك في إظهار محبتك لي. وقد كبرتْ بنتانا، وليس من حسن التربية أن تريا منك ما لا تمتنع عن إظهاره أمامهما. ولم أعد أنا أطيق هذا الحب الجارف، الذي تحاول به أن تقنعني بأنك ما تزال اليوم كما كنت من قبل أن نتزوج.
قالت هذا الكلام وقد تخلصت بعنف من ذراعي، ومن قبلاتي!
لم تزعجني هذه الحركة من زوجتي، ولم تُغير رأيي فيما كان يلمح به بعض أصحابي عن علاقتها بأصدقائها. فقد اعتقدت أنها حركة عصبية طارئة، لا تلبث أن تزول، وبقيتُ لذلك على عبادتها، التي أملاها ما سمته هي … الحب الجارف!
لم أر بعد هذا اليوم تلك الصديرية التي كانت تطرزها، وخُيل إليَّ أنها أهملتها، وأنها تلتمس التسلية في شيء آخر.
وبعد أسابيع عدت إلى البيت فلم أجدها، فخرجتُ أضرب في الطرقات مما حولنا، في انتظار عودتها. وإنني لأَمُرُّ بدكان جزار قريب منا، إذ رأيتُها داخلة، ورأيت الجزار يرتدي الصديرية التي كانت تطرزها، فدخلت أسألها: ما الذي جاء بها إلى هناك؟ فأجابت: جئت أشتري لحمًا اشتهته نفسي!
قلت: «ولكن الخادم تشتري لنا كل صباح ما نحتاج إليه!»
قالت مُغضَبة: «وهل هناك ما يمنعني إذا لم يعجبني ما اشترته الخادم أن أخرج إلى السوق وأن أبتاع ما يعجبني؟»
وخرجتْ على أثر هذه العبارة وقد صبغ الغضب وجناتها فزادها جمالًا، ووقفت أنظر إلى الجزار وإلى الصديرية التي يلبسها، ثم سألته: بكم ابتعت هذه الصديرية!
قال: «إنني لم أبتعها، بل صنعتها لي أختي.»
كان هذا الجزار شابًّا فارهًا، جميل الصورة، مفتول العضل، لا تزيد سنه على الخامسة والعشرين، وقد خيل إليَّ حين رأيت عليه الصديرية أن زوجي هي التي أعطته إياها، ثم راجعتُ نفسي، ولُمْتُها على شبهة لا أستطيع تصديقها. فقد يكون حقًّا أن أخته هي التي صنعتها له، فالصوف من هذا اللون كثير في السوق ولن تتعلق زوجي بشاب جزار، تَكْبره بعشر سنوات أو نحوها. لذلك صرفت الوهم عني، وعدت إلى منزلي، فألفيت زوجي مُتجهِّمة، فأردتُ ملاطفتها كشأني معها، فقالت في حدة: اسمع. أنا لم أعد أطيق الحياة معك، لم أعد أستطيع أن أراك، ولم تعد أعصابي تحتمل نظرتك إليَّ، ولم يعد جسمي يحتمل مسك إياه، وقبلاتك تثير انزعاجي، وقد يكون هذا كله طارئًا يزيله الزمن، وعلاجه عندي أن تطلقني فأشعر بأنني حرة في نفسي، وفي جسدي وفي وجودي … ولعلي بعد زمن، أشعر بأننا نستطيع أن نعيد سابق مودتنا، بل سابق حبنا. فادع المأذون وطلقني، فلا أرى علاجًا لموقفنا غير الطلاق!
طاش صوابي حين سمعت هذه الكلمات: أنا أُطلقها؟! وماذا يبقى لي في الحياة! بل لماذا أبقى أنا في الحياة؟
وعبثًا حاولت صرفها عن هذه الفكرة، فقد تشبثت بها كل التشبث: استعطفتُ، بكيتُ، ألقيتُ بنفسي على قدميها، جثوتُ أمامها، ونظرتُ إليها بعينين ملأهما الدمع، وفيهما كل معاني العبادة. لم يقنعها شيء من ذلك كله، بل كان آخر ما قالته: خير لك ولسمعة بناتنا أن تطلقني … وأن تطلقني الساعة، وإلا هجرتُ بيتك وخرجت هائمة على وجهي!
لم يكن لي بُدٌّ من النزول على إرادتها، فلم أتعود طيلة السنوات التي عشناها معًا أن أعترض هذه الإرادة. وخرجتُ لساعتي، فجئتُ بالمأذون، ورجوته ونحن في الطريق أن يحاول تسكين غضبها، ورَدَّها عن عزمها … وحاول الرجلُ، ولكنه لم ينجح، فطلقتُها طلاقًا بائنًا!
وكنت أطمع في أن نتفاهم في أثناء عدتها، وأن تتراجع. لكنها تركت منزلي، وذهبت إلى أمها وحرَّمت عليَّ أن أزورها.
وقضيت شهورًا ثلاثة في همٍّ ونكد لا همَّ ولا نكد مثلهما، كنت أبكي إذا أصبحت، وأبكي إذا أمسيت. كنت أشعر بأنني فقدتُ كل مُسوغ لحياتي، ولولا ابنتاي لفكرت في الانتحار!
وإنني لفي همي وفي كمدي، إذ بلغني أن مُطَلَّقتي تزوجتْ ذلك الجزار الذي رأيتُه وعليه الصديرية التي طرزتْها يداها. وتتبعت أخبارها، فعلمتُ أن هذا الشاب الجزار يضربها ويهينها، فلا يزيدها ضربُه ولا تزيدها إهانتُه إلا تعلقًا به وعبادة له. ولا يزيدني ما أعلمه من ذلك إلا حسرة وندمًا، وبكاء على حبٍّ وهبتُه كل قلبي، فحطمتْه حبيبتي تحت قدميها بغير شفقة ولا رحمة، من أجل شاب جزار جميل!
أتم عارف قصته، فبكت «طيبة» وأمعنت في البكاء، فلما سألها ما يُبكيها؟ قالت: إن قصتك مثل قصتي يا سيدي … لقد تزوجتُ، وأحببت زوجي حب العبادة … أحببته هذا الحب الذي قصصتَ علينا الآن نبأهُ، أحببته واحتملت في سبيل حبي له كل شيء … كنت أراه مع صديقاتي فلا يزعجني ذلك، إذ كنت موقنةً بأنه عائد إليَّ لا محالة. وكان لا يستحي من أن يجيء ببعض صديقاته معه إلى منزلنا، فأَدَعُه لهم وأخرج، حتى لا يشعر أبناؤنا الثلاثة بأنني أطيق ذلك وأسكت عليه. وكان من هاتيك المُستهترات بنات بلد بارعات الجمال، لا أدري إن كن قد بلغن من هذه البراعة ما بلغتْ زوجتك أم لا … وكنتُ أعاتب زوجي أحيانًا، فيهينني ويضربني، فأحتمل منه ذلك، لأنني أحبه وأعبده، ولم يَكْفِه ضعفي أمامه ومحبتي له، بل تزوج إحدى هاتيك النسوة من بنات البلد. عند ذلك نفد صبري. ولقد كنت مستعدة لأنْ أطاوله، لعل رشاده يعاوده، لكن هذه المرأة اللعوب التي تزوجها خشيتْ هذه المطاولة، وخشيتْ أن تنتهي عبادتي لزوجي بالتغلُّب عليها، فالتمستْ عنده كل أوجه الحيلة ومنها المغاضبة، ثم الاسترضاء، حتى نزل على إرادتها، فطلقني. ومبالغة في النكاية بي، أخذتْ وثيقة الطلاق، وجاءت بنفسها ودفعتها إليَّ، ثم انصرفت وعلى فمها ابتسامة الظافر. وتركتني كما تركتْكَ زوجتك، وقد تقلَّص كل أمل لي في الحياة، لولا حرصي على مصير أولادي، وخشيتي أن يحطم هذا الجاحد الخئون مستقبلهم!
كان الحاضرون عند جيران عارف يصغون إلى قصته وإلى قصة «طيبة»، وكلهم الدهشة والعجب، فلما فرغت طيبة من حديثها، قالت سيدة من الحاضرات: أما وأنتما ضحيتان لحوادث متشابهة كل التشابه، فلماذا لا تتزوجان؟
وقال الحاضرون جميعًا: «نِعْمَ الاقتراح، وكلنا نؤيده.»
أمسكت «طيبة» بطبيعة الحال فلم تقل شيئًا ولم تعترض، واستمهل عارف أصحاب الاقتراح، ليشاور في هذا الأمر أهله.
قالت «طيبة»: «أما أنا فلست في حاجة إلى مشاورة، فإذا خاطبتني في الموضوع يومًا، فكرت فيه بنفسي.»
وإنما أراد عارف أن يشاور قلبه، فهو لا يزال مقيمًا على حب مطلقته رغم ما صنعته، لكنه أشفق على طيبة إشفاقه على نفسه.
ثم إنه أفضى بالقصة كلها إلى أخته وإلى زوجها فقال له هذا الزوج: أنا أؤيد الذين اقترحوا أن تتزوج من هذه السيدة، وسيربط بينكما ما أصابكما، ويكفل لكما حياة سعيدة مطمئنة!
فلما انصرف عارف، سألت أخته زوجها عما دفعه لإبداء هذا الرأي، فذكر له أنه يخشى أن يطلق الجزار مطلقة أخيها، فيعود عارف إليها، يعبدها من جديد، بعد أن خانته ولوثت سمعته.
وبحث عارف هذه النصيحة، وانتهى إلى قبولها، ثم إنه خطب «طيبة» إلى نفسها فلم تتردد في قبول خطبته، وتزوجَا.
وجمعت المأساة التي حطمت قلب كل منهما بينهما، وأخذت تضمد جراح هذين القلبين الكسيرين، وتأسو كلومهما، فلما رزقهما الله أول أطفالهما مرت ابتسامة هذا الطفل وبراءته على ما بقي من هذه الكلوم، فاندملت.
وهما الآن يعيشان متمتعين بخير ما يتمتع به الأزواج السعداء!