الرحلة الثانية يونيه ١٩٣٠
(١) إلى أتينا
في أقل من أربع وعشرين ساعة بدت أرض جزيرة «سكارباتيا» على اليمين، وكريت على اليسار في شبح فاتر، وبعد ست ساعات اضطرب البحر وزاد عصف الريح، وترنحت السفينة، وبدا مرض البحر على سيماء بعض الركبان، فانسلوا إلى مخادعهم. ولم نعجب لذلك مذ بدت جزائر بحر الأرخبيل وهي تنتثر من أيماننا وشمائلنا كأنها رُبًى جبلية، تقام القرى على حجورها، وغالبها مجدب عارٍ عن النبت، ودخلنا ميناء بيروس ثغر أتينا، وكانت جزيرة سلامس التاريخية تُرى إلى اليسار. جبت أرجاء بيروس فبدا قذرًا منفرًا ليس به من شيء جدير بالزيارة، وأقلني الترام إلى:
(٢) أتينا
عاصمة بلاد الإغريق، وكنا نرى قبالتنا ربوة بيضاء عالية كأنها الهرم يسترعي النظر؛ إذ تمتد على مدرجاته مباني المدينة تتوجها الأكروبول التي تسلقناها، فبدت عليها المعابد الإغريقية القديمة، وكانت مقر الملوك الأقدمين ثم أضحت خاصة بالآلهة. وغالب الآثار قد مسته يد البلى إلا القليل، ولعل أجملها الباريثنون، وهو معبد العذراء أتينا، آلهة الحكمة، وبه ٩٨ عامودًا من الرخام الأبيض في النحت الإغريقي المجزع، ومن حولها معابد أخرى أقل شأنًا منها.
وفي عودتي من رحلتي في سبتمبر، سلكت سبيلي إلى أتينا بطريق أكسبريس الشرق الذي اخترق يوجوسلافيا، وبعد مغادرة بلدة نيش القذرة بقليل دخلنا الحدود الإغريقية — وقد فتشنا البوليس اليوجوسلافي ونحن في القطار نحو الست مرات داخل حدود بلادهم؛ مما يدل على عدم اطمئنانهم لرعاياهم — وقد بدا الفرق الشاسع في النظافة والنظام، وجمال الخلق والخلقة بين هذه البلاد وبلاد وسط أوروبا وشمالها.
وكنا كلما تقدمنا نحو أتينا زاد البؤس والجفاء في الطباع، وبدا على الخلق الهزال والجوع والملابس الرثة المرقعة، وكثر الشحاذون وأبناء الشوارع بشكل مزرٍ. والبلاد تكاد تكون صحراوية؛ فالربى لا يكسوها إلا العشب الخشن، وتبدو بعض المجاري المائية الصغيرة التي يكاد ينضب ماؤها حتى وصل القطار سلونيك، ثانية مدن اليونان، فمكثت بها يومًا ظنًّا مني أنها على شيء، فإذا بها بلدة قذرة قديمة مهدمة متربة، أهلها في غاية القذارة، على أن القوم جادون في إصلاح بعض شوارعها، مثل: شارع فنزيلوس، وأياصوفيا، وشارع البحر. وميناؤها صغير تقام عليه المقاهي ودور الملاهي، وجزء من المدينة فوق الرُّبى المدرجة، ومنظره يبدو جميلًا على بُعد؛ فإن دانيته بدا أكثر قذارة وأشد بؤسًا.
على أني هنا فقط بدأت أتذوق الطعام الشهي الشرقي بعد ثلاثة شهور؛ حيث قُدمت إليَّ أطباق الخضار ولحم الضأن اللذيذ. والفاكهة كثيرة الوجود، جيدة النوع بثمن بخس؛ إذ المعيشة رخيصة بالنسبة للأجنبي، وإن كان يراها الوطني غالية؛ لأن متوسط دخل العامل المُجِد في اليوم اثنا عشر قرشًا. وهذا القدر لا يسد عوزه. وحدث أن قام العمال بمظاهرة هناك ضد الحكومة احتجاجًا على بطالتهم، وكانوا يصيحون والبؤس يتجلى في مظهرهم مُذْ كان غالبهم حفاة خَلِقي السرابيل.
يركب بعضهم عربات النقل القذرة «الكارو»، ويحملون المكانس والنبابيت. وبالمدينة بعض بقايا الأسوار والقلاع القديمة التي يرجع عهدها إلى الإسكندر الأكبر. قمنا صوب أتينا بعد أن عبرنا نهر الوردار بقنطرة عظيمة الامتداد، على أن ماءه كان آسنًا؛ إذ إنه لا يكون طاميًا إلا إبان الشتاء.
ولما أن انعطفت الطريق جنوبًا بدا البحر إلى يسارنا وجبال أولمبيا المقدسة على بُعد إلى يميننا، ثم قاربناها تدريجيًّا، فكانت صفحة شاهقة معقدة عاتية عريت عن النبت إلا القصير المتناثر، وأعلى ذراها ٢٨٠٠ متر، وقد اخترقنا منها جملة أنفاق أدت بنا إلى أرض تساليا، وهي خليط من الربى والسهول أعقبتها جبال ترموبيل التي بدت أشد قسوة وأصلب صخرًا من أولمبيا، وبها من الممرات والعقد والأنفاق ما لا يحصى.
وكنا نسير تحتها وهي تعلو في صفحة رأسية رائعة، وبين آونة وأخرى كانت تتخللها المجاري المختنقة السريعة. ولقد أثار هذا المكان في النفس ذكريات تاريخية تالدة لأمة كانت كل شيء فأخنى عليها الدهر، ولم يخلف بها إلا الفقر المدقع والبؤس المبيد.
وكان القطار يقف في محاط صغيرة جدًّا وموحشة، وكنا نرى بائعي اللحم والجبن والخبز وقد افترشوا الأرض، والذباب والنحل يكاد يكسو المبيعات بغشاء أسود تعافه الأعين. وأخيرًا أقبلنا على أتينا خلال طرق قذرة وأطلال بالية متربة إذا ما رآها السائح سئم المقام، وآثر الارتحال؛ فالطرق أسوأ إعلان عن البلاد. وعامة القوم على قذارتهم يتكلمون الفرنسية، ويظهر أنها اللغة السائدة في جميع الأنحاء بين بودابست وأتينا.
أما طريق أكسبريس الشرق بين هاتين البلدتين فجاف مجدب فقير بمناظره الطبيعية، وحره في الصيف قائظ محرق؛ ولذلك ليس بعجيب أن يكون جمهور المسافرين فيه قليلًا. ركبت البحر ولم تترك أتينا في مخيلتي من العظمة التي خلتها بها إلا قبسًا ضئيلًا لم تثره آثارها، بل مظهر فقر الأهلين أولئكم الذين لا يكاد المرء يعتقد أنهم فرع عن ذاك الأصل التالد العريق.
(٣) إلى القسطنطينية
أقلعت الباخرة من الميناء وسط الربى الجزرية، وظلت هذه تبدو في جميع الآفاق في حمرة قرنفلية لا يشوبها إلا بقع سوداء من عشب وشجر منثور، ونقط بيضاء تنبي عن منازل القوم، ثم دخلنا مأزقًا اشتد فيه الموج بين جزيرتي أندروس إلى اليمين وبخروبنت إلى اليسار، وظل الماء يضطرب طوال الليل، وما كانت الساعة الخامسة صباحًا حتى كنا بين ربوتين هما مدخل الدردنيل، عليهما أطلال حصون قديمة ومنارات مشرفة أذكرتني بما كان لهذا الموقع المنيع من الجبروت إبان الحرب الكبرى.
وبعد انقضاء ساعة بين تلك الربى ظهرت على الجانبين أبنية منسقة نظيفة بينها مآذن لمساجد عدة، وقد أقيم على شطوط كل حصن جبار، وتسمى هذه البقعة المختنقة «شَنَل قلعة» يقطنها عدد كبير من الأتراك. وهنا جاء زورق مصلحة الصحة التركية للتفتيش الصحي، ثم بدأ بعدها منعطف شديد إلى اليمين سلكته السفينة بين تلك الربى اللانهائية التي تكسو أعاليها الأعشاب أو الأشجار، وبخاصة على الجانب الأوروبي. وفي المنخفضات يستنبت القوم القمح والشعير على المطر.
أما الشجر فغالبه من الزيتون القاتم، وكان اتساع الدردنيل يختلف انفراجًا وانقباضًا، ولبثنا نسير فيه ست ساعات كاملات بدا بعدها على بُعدٍ منا بحر مرمرة، وقد أخذت تنفرج سواحله وتنأى عنا بحيث لا تكاد تُرى إلا في طفيف ضئيل، ثم ظهرت أطراف البسفور الجنوبية على بُعدٍ في شكل إهليلجي يرى مغلقًا، ولا يستبين المرء له منفذًا.
وعلى جوانب القوس أقيمت المساكن ذوات السقف الحمراء مدرجة على جوانب المرتفعات، وأخذنا نتبين مآذن المساجد الفخمة وقبابها، وكلما قاربنا المكان زادت تفاصيله في جمال رائع، إلى يميننا جانب إسكدار الأسيوي، وإلى يسارنا إسطنبول، وبجانبها القرن الذهبي الذي تعبره قنطرة جالاتا، وتصل بين حي بيرا الأوروبي الحديث شمالًا، وإسطنبول القديم جنوبًا.
وتلك البلاد التي تُكوِّن في مجموعها القسطنطينية مُقامة على سبعة تلال تُكوِّن مثلثًا، وهي في الواقع قطعة من آسيا فصلتها عوامل الرفع التي أحدثت شقًّا هو البسفور، وقصارى طوله تسعة عشر ميلًا، وعرضه ميلان، ويسير في اتجاه من شمال الشمال الشرقي إلى جنوب الجنوب الغربي، عمقه بين ٣٠–١٢٠ مترًا، وبه تيار دافق من البحر الأسود غالبًا بسرعة عقدتين ونصف في الساعة، إلا حيث يختنق جدًّا ويُحدِث دوامات مروعة، ويعزى إلى الرياح الشمالية الشرقية السائدة.
ثم عبرت قنطرة جلاتا إلى إسطنبول الحي الشرقي البحت بأزقته المختنقة وحوانيته التي تحكي جهة «خان الخليلي والخيمية» عندنا. وأجمل ما زرنا بها مساجدها الفاخرة المتعددة التي تشمخ بقبابها ومآذنها العديدة، وفي مقدمتها: «مسجد أياصوفيا»، وهندسته تدل على أنه كان كنيسة؛ لأنك ترى الصلبان بادية في بعض نقوشه وفتحاته، بل وفي مجموع شكله من الداخل، ذاك الذي يعجز القلم عن وصف إبداعه الفني وزخرفه الجذاب في القبة الفخمة، والأعمدة الشاهقة، والفناء الرحب.
وأينما طوحت ببصرك ألفيت المخطوطات القرآنية صيغت بالذهب، وتعلق أطر مستديرة كبرى في الأركان تحمل الأسماء الكريمة المقدسة. ومن محتوياته القيمة مجموعة من عمد خضر نقلت من معبد ديانا في أفيوس، وأخرى حمراء جيء بها من معبد الشمس في بعلبك، وهناك سجادة تنسب للنبي ﷺ، ومهد المسيح وحوضه نقل من بيت لحم، وعامود يرشح منه الماء الذي يُبرِئ المرضى، وفي أبهائه الخارجية عدة أسبلة عربية أنيقة.
وقد أقامه جستنيان سنة ٥٣٢م ليكون كنيسة، ثم حوله الأتراك مسجدًا بعد ذلك بنحو تسعمائة سنة، وأمامه ميدان فسيح يزينه من الجانب الآخر: «مسجد السلطان أحمد» بمآذنه الست الدقيقة، وقبته الكبرى التي ترتكز على أربعة أعمدة تفوق في ضخامتها عمد الكرنك، وتحتها أربع قباب نصفية تحت كل ثلاث صغيرة. والنقوش هناك رائعة، وغالبها بالقيشاني الأزرق الجميل؛ ولذلك يسمى بالجامع الأزرق أحيانًا. ويتقدم المسجد مسلتان إحداهما مصرية.
هذا وتقام كثير من مباني المدينة بالخشب؛ ولذلك كثيرًا ما تشب النيران فيها فتحدث أضرارًا جسيمة، وقد حدَا بهم هذا إلى إقامة برج شاهق على ربوة كان يقف فيه الحراس لتعرُّف مواضع النيران عند شبوبها. أما الأتراك فيبدو عليهم النشاط جميعًا، وتفيض نفوسهم بالحماسة الوطنية، فالكل يتعصبون لقوميتهم إلى درجة الجنون: لبسوا القبعات جميعًا، وأسفر نساؤهم بحيث لا يفرقهم المرء عن سائر الأوروبيين، والمحال التجارية تكتب عنواناتها بالتركية في حروفها اللاتينية الجديدة، ولا يسمح لأحد أن يكتبها بغير لغة البلاد.
مظهر للقومية جميل لا نراه في مصر مع الأسف الشديد، والغازي مصطفى كمال يجوب الطرق في سيارة عادية من غير حراس، وكان كلما تعرَّفه القوم على بعد هاجوا وصاحوا قائلين: «الغازي الغازي.» مهللين مبتهجين، وهو محبوب منهم إلى حد التقديس، على أن القوم يعوزهم المال على ما يظهر من الحالة الرثة لكثير من أبنائهم، فهم لا يزالون يعانون من ألم ما عقبته الحرب من سيئات.
قامت الباخرة تشق عباب القرن الذهبي، وإلى يميننا مدخل مرمرة، وأمامنا مدخل البسفور، فكانت الطبيعة تتجلى في جمال فتان من رُبًى ووهاد تُكسى بأشجار الفاكهة والزيتون في خضرة قاتمة، وفلات أقيمت على درج المنحدرات بسُقُفها الحمراء المنحدرة، ومآذن المساجد تناطح السحاب. وكان البسفور آونة ينقبض ويختنق، وآنًا ينفرج وينبسط في تعرج خفيف، وعند كل اختناق أقيمت القلاع، وقد بدا عليها القدم والتهدم. ولبثنا في تلك الجنة الخلابة عشرين ميلًا وبيوت الآستانة تمتد على الجانبين الأوروبي والآسيوي، وألفتَ نظرَنا القصر الشاهاني المشرف على الماء في الجانب الأوروبي، ومعسكر قيل: إنه أكبر معسكرات الدنيا في الجانب الآسيوي. والحق يقال: إن هذا المنظر لا يعدله منظر في العالم أجمع، فهو يفوق سويسرا وجبالها جمالًا وروعة.
دخلنا البحر الأسود وأخذت الأراضي تنفسح حتى اختفت وراء الآفاق، وكنت أتوقع اضطراب الماء في هذا البحر، وقد عرفنا أنه مقر الأنواء والعواصف الشتوية التي تُلقي عليه من سحبها القاتمة الكثيفة غبرة أكسبته اسمه، ولكن ظروفنا كانت موفقة، وظل البحر هادئًا جميلًا، ولو أن ماءه لم يبلغ من الصفاء ما يبلغه ماء البحر الأبيض، وظل سمك الدلفين طويلًا يناطح مقدم السفينة كأنه يقف في سبيلها، وأخيرًا بدت أرض:
(٤) رومانيا
وألقت الباخرة مراسيها على مدرجات ثغر قستنزا الساعة الثالثة صباحًا. ومدخل الثغر وَطِيءٌ قليل النظافة نرتقي خلفه ربوة تقام عليها المدينة، ولا بأس بتنسيقها. واسترعى نظري بها بعض المساجد؛ إذ إن المدينة وما يليها جنوبًا جزء من «دبروجة» الإسلامية التي كانت تحت حكم الترك، ولذلك لا يزال يلبس غالب سكانها الطرابيش.
قمنا إلى بوخارست وسط سهول مبسوطة تمتد إلى الأفق يكسوها النبت وبخاصة القمح والذرة، وكان القوم يحصدون القمح وقتئذ «٢٥ يونيه» بمحاريث غالبها آلي حديث تجرها الخيول، وغريب أن تروى الأرض بالأمطار فحسب، وليس هناك من قنوات تصلها بالدانوب وفروعه رغم قربه منها، والبيوت والقرى مبعثرة وسط تلك الحقول وجميعها تطلى باللون الأبيض وتسقف بالآجر الأحمر، وكان الجو جميلًا أميل إلى الدفء ويعمل النساء بكثرة في الحقول مع الرجال ويكثر توظيفهن في خط السكة الحديدية وعندما قارب الدانوب في بلدة «سرنافودة» اجتاز قنطرة هائلة في ثلاث قطع بينها بعض الجسور ومجموع طولها عشرة أميال لأنها تقام حول شعاب الطونة الكثيرة ومناقعه العديدة هناك والنهر وطيء هادئ متسع ويكاد يساوي النيل عرضًا، وكانت ترى مآذن المساجد بكثرة في القسم الأول من البلاد، وفي منتصف الساعة الثانية عشرة دخلنا …
(٤-١) بوخارست
عاصمة البلاد، وتسمى باريس الصغيرة لأن أحياءها الجديدة تشبه باريس، جوها متطرف قائظ في الصيف، جليدي في الشتاء؛ ولذلك تنزع العربات عجلاتها شتاء تأهبًا للزحف على الجليد. ولقد استعمر تلك البلاد تراجان إمبراطور الروم في القرن الثاني الميلادي؛ ولذلك لا يزال القوم يتكلمون لهجة رومانية رغم مضي سبعة عشر قرنًا، وهي منفصلة عن روما. وقد غالبت جميع الغزوات الأخرى وحافظت على لغتها، على أن الأتراك لم يخضعوا البلاد تمامًا، بل أقاموا عليها ولاة من قبلهم كانوا ينتخبون من رعاياهم من الإغريق.
وقد كان هؤلاء القوم أشبه برؤساء الإقطاع مذ تملكوا غالب الأراضي، على أن الفلاح بدأ يمتلك الأرض، وبدأت فوارق الطبقات تخف عن ذي قبل، ونسبة المزارعين ٨٠٪، ورغم ذلك فإن سكان المدن ينظرون إليهم نظرة احتقار. وقانون البلاد مقتبس من القانون الفرنسي، ومعظم الشئون المالية في يد طائفة من الإسرائيليين يبلغ عددهم ٤٤٠٠٠، والأجراء من المزارعين يمقتون الأغنياء؛ لأنهم لا يمهرون إلا كراء زهيدًا.
وهذا الحيف دعا الحكومة إلى تعديل نظام الملكية بعد الحرب، فأخذت من الملكيات الكبيرة حتى التابعة للملك منها، ووزعتها قطعًا على صغار الفلاحين بعد تعويض أصحابها، وملابس القوم بسيطة في جمال وحسن ذوق يبدو في كثرة التطريز، وزهاء الألوان، وكل نسائهم مهرة في أشغال الإبرة التي تعد أحسنها في الدنيا، وفنهم خليط من البيزنطي والسلافي. والغذاء القومي لديهم من الذرة ويسمى «مامالجا»، وهو يحكي «العصيدة» عندنا. وأحب الشراب الجعة التي تستعمل لدرجة الإدمان.
وأعظم شوارع المدينة «كاليا فكتوريا» أو شارع النصر، تذكارًا لانتصارهم على الأتراك في بلفنا سنة ١٨٧٧، وبه القصر الملكي المتواضع، وبه عدة مبانٍ فاخرة. وكنائس المدينة عديدة تناهز المائتين، غالبها على المذهب الإغريقي، وهندستها قريبة للعربية. واسم كارول شائع في كل المحال الهامة، خصوصًا متنزه كارول، وهو فسيح بديع التنسيق، به كثير من الرُّبى، وتتوسطه بحيرة شاسعة، وفي نهايته يقوم متحف للأسلحة القديمة.
وبالمتنزه مسجد كان القوم يصلون به الجمعة عند زيارتنا، وكان به نحو ثلاثين شخصًا يلبسون الطرابيش، وقد خطب الخطيب وصلَّى بالعربية، وعلمنا أن عدد المسلمين هناك ربع المليون، وبالمدينة كثير من المتنزهات الأخرى. بها المقاهي التي تسمع فيها الموسيقى الشجية التي تقرب أنغامها من الأنغام الشرقية، والقسم الحديث من المدينة منسق الأبنية، متسع الطرق، كثير الفلات.
وأهله متأنقون يؤمون المقاهي بكثرة، وقد زرت هناك متحفًا للفن الجميل به مجموعة للتصوير لا بأس بها. أما الأحياء القديمة فتعوزها النظافة، ترصف طرقها بالحجر الأسود الصغير. وصادف أن كان القوم يعقدون محفلًا شبيهًا بالموالد عندنا، وكانت طبقة العامة تبدو هناك في سذاجة وجهل وقذارة، يبيعون الشربات في أحواض زجاجية مكشوفة يعف عليها الذباب، كذلك اللب والسوداني والفشار الذي كان أظهر ما يتسلى به الفقراء، فخُيل إليَّ أني في حي تحت الربع تمامًا.
هذا وقد لاقت رومانيا أحسن الجزاء في الحرب الكبرى، فأصبح سكانها سبعة عشر مليونًا بعد سبعة، أما أهل بوخارست فنحو ٣٥٠ ألفًا.
غادرت المدينة قاصدًا قرية جورجو في جنوبها، وتقع على الدانوب، وهناك حللت الباخرة أورانوس، من سفن الدانوب، قاصدًا القيام برحلة نهرية إلى بودابست، وكان تيار النهر هادئًا وماؤه وطيئًا كدرًا تشوبه حمرة، وكنا نرى بلاد بلغاريا على الجانب الآخر. وكانت السفن تقف بين آن وآخر على بلاد بلغاريا لنزول المسافرين، وكانت المناظر الطبيعية غنية جدًّا بأشجارها الكثيرة، وأرضها المدرجة في تقسيمات زراعية منسقة تدل على مهارتهم الفائقة في زراعة المنحدرات التي قد تميل جوانبها ٤٥°.
وكانت تبدو القرى مقامة على جانب النهر بأكواخها الصغيرة، وكان الشاطئ البلغاري أكثر تموجًا وجمالًا، مما يشعر بأن النهر سلك السفح الشمالي لجبال البلقان، فكانت المرتفعات تحف بالنهر من هذا الجانب، وكنا بين حين وآخر نلاقي البواخر تمخر عباب الماء في كثرة عجيبة، وترسو في محاط أعدت لذلك، وتصل إليها من البر الطرق الحديدية، مما يثبت مبلغ استفادة القوم من الدانوب في النقل، وكم كان أسفي شديدًا عندما ذكرت النيل المبارك الذي يفوق الدانوب طولًا وعرضًا، لكن وسائل النقل فيه لا تتمشى مع نهضتنا الاقتصادية!
ومن غريب ما يكون أن العلاقة بين شعوب رومانيا وبلغاريا المتجاورة متوترة، فقد كنت أعتقد أن الانتقال من شاطئ إلى آخر سهل ممكن، لكني علمت أن القوم يمنعون ذلك، ويفرضون ضرائب فادحة لمعاكسة ذلك، رغم اشتراك مصالحهما في النهر. ومن مدن بلغاريا التي زرتها مدينة:
(٤-٢) لوم
وهي أشبه بمركز صغير من مصر، طرقها قذرة متربة، وأهلها تبدو عليهم سيماء الفاقة والتشرد، وبيوتها متناثرة بين الربى والوهاد، بها بعض المساجد المهملة، وقد قيل لنا: إن المسلمين هناك يرتادونها بسهولة.
والقوم متأخرون جدًّا، أكبر مواردهم الورد ذو الروائح التي يشتمها المرء على بعد أميال، ومنه يستخرجون زيت الورد الذي أصبح العنصر الرئيسي لغالب الأعطار العالمية، وهو يساوي وزنه ذهبًا، ويقطفه الفتيات من أغنى جهاته، وهي حدائق كازانلك بالروملي الشرقي وممر شبكا على سفوح جبال البلقان، بفضل التربة الرملية والجو المشمس، ولا بد من تقطيره يوم قطافه، وقد قدر للأوقية الواحدة من العطر ستون ألف زهرة.
(٤-٣) الباب الحديدي
بعد أن بدت سواحل يوجوسلافيا بقليل دخل النهر في عقدة من الجبال الغنية بنبتها وشجرها، وأخذ النهر يتلوى ويختنق، وتياره يشتد، وقد أقام القوم جسرًا من حجر أصم وسط منعطف النهر، وحطموا جزءه الواقع بين الجسر وساحل يوجوسلافيا، وأخلوه من جنادله، فأضحى صالحًا للملاحة، وفي اتساع قناة السويس تقريبًا. أما الجانب الآخر فظل بجنادله ودواماته ومنحدراته، وبعد نهاية الجسر بقليل ظهرت جزيرة مستطيلة وسط المجرى تكسوها الغابات، وتقام فيها البيوت الصغيرة، واسمها «جزيرة أكادالي»، وبها مسجد بمئذنة دقيقة.
وتلك كانت في قبضة الأتراك، واليوم تحت لواء رومانيا، ولا يزال أهلها مسلمين، وبعدها بقليل رست الباخرة على أرشوفا، آخر مدن رومانيا على النهر، وكانت قبل الحرب تحت حكم النمسا، ولا شك أن هذا المكان ساحر في جماله، وتنوع مناظره، وتعقيد جباله ولفائفه، ومناعة موقعه. مكان أثار في النفس شجونًا كثيرة، وذكريات خالدة، بدأ النهر يدخل في ثنيات بين الربى الشاهقة سريعة الانحدار يكسوه النبتُ المنزرعُ إذا سهل المنحدر نوعًا، والبريُّ فوق المزالق السريعة.
وبين آونة وأخرى كانت تبدو في النهر مجاميع الجنادل في جهات تجتنبها السفن بعلامات أقيمت لها وسط الماء، وفي بعضها كانت دوامات النهر قاسية عاتية، وصخور الجوانب تسير في طبقات ملتوية التواء شديدًا تهوي تحت اليم، ثم تبدو ثانية على الجانب الآخر؛ مما يُشعر بأن هبوطًا عظيمًا حدث في سلسلة جبال ترنسلفانيا هنا، فسلك النهر طريقه وسطها، ولا يزال يدأب على الجرف من جوانبه بنشاط غريب، يدل على ذلك أثر طريق قديم عبَّده «تراجان» الروماني على حافة الماء، ولم يبق منه اليوم إلا جدار نقش عليه اسم ذاك العاهل، وقيل: إن الدانوب كان يصب في بحيرة أو بحر داخلي حوضه اليوم سهل المجر، وذلك قبل أن يهوي جانب الكربات، ويمكنه من السير إلى البحر الأسود.
أما مناظر ذاك الخانق فساحرة تأخذ بالألباب، فهي تمت إلى مناظر سويسرا بشبه قريب إن لم تفقها، ولا يعدلها جمالًا غير منظر البسفور وما يحوطه من جلال، وقد لبثت السفينة تسير في ثنياته ثماني ساعات، وبعدها انفرج النهر وتباعدت الجبال سراعًا. وهنا أخرنا ساعاتنا ساعة كاملة لنسير مع زمن أوروبا المتوسط الذي يتأخر عن ساعة مصر؛ لأنه يقع غربها بنحو ١٥° طولية، هذا عند نهاية حدود بلغاريا.
على أن الجانب الآخر من النهر، وهو روماني ظل على زمنه الشرقي حتى اجتزنا حدود رومانيا؛ ذلك لأن رومانيا تمتد على طول النهر أكثر من امتداد بلغاريا. هذا ومواسم الزراعة في تلك البلاد جميعها الربيع؛ حيث ينزل أكثر المطر، وتزرع الغلات، خصوصًا القمح والذرة، وبعد الحصاد تترك الأرض للسنة القابلة، ثم يعيدون زراعة غلة أخرى، وهناك نوع من القمح يزرع في الخريف.
فإذا ما هلَّ الشتاء نزل الثلج وكسا الأرض إلى علو قد يبلغ المتر، فيحمي النبات من البرد القارس الذي ينزل بالحرارة عشرات تحت الصفر، وإذا كان الربيع ذابت الثلوج فارتوى النبات ونما عاجلًا. وكنا نرى بواخر عديدة ليوجوسلافيا. وتلك البلاد على نفور وعداء مع جارتها بلغاريا أيضًا، وهي تحرم على أبنائها السفر في غير بواخرها لتساعد شركاتها الملاحية.
(٥) يوجوسلافيا
أقبلنا على بلغراد عاصمة يوجوسلافيا التي تمتد طويلًا على النهر، وعندها يصل نهر الساف أباه الطونة. والمدينة يعوزها الشيء الكثير من النظافة والتنسيق، فغالب ميادينها قذر مترب، وأهلها كذلك قذرون فقراء، وأجمل جهاتها الجزء المقام على النهر، واسم المدينة أجمل منها؛ إذ يسميها القوم بيوجراد، ومعناها القلعة البيضاء. ولقد تخلفت فيها عند عودتي فلم يرقني بها شيء، وأخذت القطار إلى نيش التي وصلتها في ست ساعات، فبدت حقيرة منفرة في كل شيء.
هذا وبلاد يوجوسلافيا تضخمت بعد الحرب جدًّا، وناهز سكانها اثني عشر مليونًا بعد أن كانت قاصرة على حدود الصرب التي لا يزيد أهلها على خمسة ملايين. والصرب تعرف بجنة الفقير؛ لأنه يمون فيها نفسه بكل لوازمه بغير حاجة إلى النقود إلا بقدر ما يدفع الضرائب. والقوم يعيشون جماعات قد تبلغ الواحدة المائة عدًّا، يخضعون لزعيم واحد يضع لهم نظام المعيشة، ويتدخل في كل تفاصيلها.
وقد ضُمَّ لأملاكهم «الجبل الأسود» الذي كان مستقلًّا من قبل، ويعرف أهله بالقوام الشامخ والسحن التي تشبه قدماء الرومان تمامًا، وتكاد تقتصر صادرات البلاد جميعها على الفاكهة بأنواعها والأخشاب.
غادرنا بيوجراد وكانت سهول المجر تبدو إلى يميننا في انبساط إلى الأفق، لذلك أصبح المنظر موحدًا مملًّا، وأخيرًا تعددت الجزائر والغدران وبدت الأشجار ومقاطع الخشب، وكانت ترص على الضفاف هدارات مائية تحكي العوامات تتوسطها عجلة ذات أجنحة يديرها التيار فتطحن الغلال. وفي الساعة الثانية مساء، استهلت بودابست عاصمة بلاد المجر بمداخنها العديدة وقصورها الشامخة وامتدادها العظيم على جانبي النهر. إلى اليمين «بست» المدينة الجديدة المنبسطة، وإلى اليسار «بودا» القديمة ذات التلال العديدة، ويخترق النهر هنا نحو سبع من القناطر الجذابة.
(٦) المجر
بلاد تشبه في نظامها الاجتماعي بلاد القرون الوسطى؛ فقد كانت إلى سنة ١٨٤٨ تحت حكم الأشراف أصحاب الأرض الذين يسخرون العامة في فلحها وفي خدمتهم نظير إعفائهم من الضرائب، ونحو أربعة أخماسهم يعملون في الحقول، وهم في الصناعة أقل نشاطًا واستعدادًا من جيرانهم النمساويين، وغالب تجارتهم وأموالهم في أيدي طائفة من الإسرائيليين يناهزون الخمسة في المائة من المجموع، وهم مبغضون من طبقة الشعب، لكنهم أكثر الطبقات علمًا، فغالب الأطباء والمحامين والمهندسين من بينهم.
(٦-١) بودابست
ما شعرت بالاستمتاع الكامل لما كنت أرى من تنسيق، وخفة روح، وحسن ذوق، ولين معاملة قدر ما أحسسته هنا، فهي بحق تسمى «ملكة الدانوب». ويسترعي النظر فيها بوجه خاص كثرة ميادينها ذات المتنزهات والتماثيل، وكذلك تعدد قناطرها ذات المنظر الجذاب فوق الدانوب، وبخاصة قنطرة إليصابات، قلبها النابض شارع أندرسي أوت، وفيه تبلغ حركة المرور حدًّا مخيفًا.
ونظام البوليس على رءوس شوارعها الهامة دقيق للغاية، فهو لا يسمح لأحد أن يسير أسفل إطار الطريق، ولا يعبر الشارع إلا في مكان معين، وعلى رءوس الطرق يحاط الإطار بسياج من سلاسل محكمة القفل، وسير العربات إلى اليسار والمارة إلى اليمين.
وفي قبالة قنطرة إليصابات ربوة بودا الشاهقة، صعدناها بطرق متلوية بين الشجر والنبت، ويقوم في أعلاها تمثال سان جيرار، وقلعة كبيرة هي أقدم بناء في المدينة، وإلى جوارها كنيسة التتويج التي توج فيها فرنسوا جوزيف، في هندسة قوطية مظلمة الداخل يتخللها قبس ضئيل من النور ينفذ من زجاج نوافذها النحيلة بألوانه المتعددة، وأمامها ردهة يقوم فيها بعض تماثيل القديسين، ويحف بها سور تقوم أركانه في شكل الطوابي، وتنزل منها المدرجات إلى متنزه جميل يقوم به تمثال لهنياد المجري الذي طرد الأتراك وهو يرتدي لباس الفروسية بدروعه، ويقف وبيده حسامه وقد وطئ بقدميه علمينِ للأتراك، وكان الأتراك عند فتحهم المدينة قد حوَّلوها إلى مسجد.
ومن أبنية بودا الجديرة بالزيارة: القصر الملكي الكبير الذي يشرف على النهر، دخلته فتجلت فيه عظمة الملك حقًّا في امتداد أبهائه، والإسراف في زخرفه، وحجراته ٨٦٠. وقد بدأ المجر تشييده يوم أن حلوا تلك البلاد من آسيا، لكن الأتراك دمروه تمامًا، ومكثوا يحكمون البلاد ١٤٥ سنة، ثم طردوا، ومن العجب أنهم لم يتركوا بالبلاد أثرًا لا في البناء ولا في الدين؛ مما يدل على سوء إدارتهم، خصوصًا وأن القوم كانوا وثنيين ولم يعتنقوا المسيحية إلا قريبًا.
وقد جدد القصر بشكله الحالي عهد مرياتريزا، ومن الصور الزيتية الكبيرة التي تزين بعض الجدران صورة ليوجين سافوي، وقد هزم الأتراك وكبلهم، وأخرى لفرنسوا جوزيف، إمبراطور النمسا، وهو يتوج ملكًا على المجر. وهذا تذكار لبدء العهد البرلماني، ثم صورة أخرى لفرنسوا في رداء «الهوسار»، والكلمة مجرية معناها «العشرون» أخذت من أن الجندي الذي يقع ترتيبه في صف المجاهدين العشرين كان يعفى من القتال ليؤلف فرقة الحرس الملكي.
ومن آيات فن التصوير لوحة بها منظر طبيعي لطريق يقف وسطه فارس يمتطي جوادًا، فإذا نظرت إلى الصورة من اليمين امتد الطريق إلى اليسار، وكان الفارس متجهًا كذلك، والعكس إذا نظرته من اليسار، ويواجه القصر من الجانب الآخر للنهر: البرلمان، ولعله أفخم مباني المدينة من الخارج، يشرف بأبراجه وأسنانه الباسقة المتعددة وقبابه الخضراء الجذابة، ومن الداخل يبدو بنقوشه وزخرفه الفائق، فهو في مجموعه أبدع إتقانًا من برلمان لندن.
ولا يزيد عدد أعضاء المجلس الأدنى عن أعضاء المجلس الأعلى كثيرًا؛ مما يشعر أن للأشراف أثرًا كبيرًا في البلاد، ويمثل به رجال الدين من الكاثوليك والبروتستانت واليهود. والميادين حوله منسقة تنسيقًا عظيمًا، فسيحة الرحاب جدًّا. وهناك أقيم نصب تذكاري احتجاجًا على معاهدة الصلح، وبه أشخاص يمثلون هيئات المجر، وهم غضاب نافرون في مظهر مخيف احتجاجًا على حرمانهم من كثير من أرضهم، وكذلك احتجاجًا على نفي مليكهم شارل الرابع وعائلته إلى جزائر «مديرا».
وكان قد فر بعد دخول البلشفيك، ثم حاول العودة مرتين، لكنه أرغم على الانسحاب بتهديد من يوجوسلافيا وشيكوسلفاكيا. وقد مات شارل ولا يزال ابنه «أتو» منفيًّا في الجزيرة، ويطالب الشعب بعودته ملكًا. وقد رفضوا الجمهورية وعينوا نائبًا عن الملك إلى أن يتمكنوا من فك عقال هذا. وقد لبثت البلاد تحت حكم البلشفيك ١٢٤ يومًا بزعامة إسرائيلي اسمه كوهين، على أن مجلس الأمة اجتمع في هيئة واحدة ورفض الاعتراف بالبلشفية، وأباح الاشتراكية فحسب.
ومن المتنزهات الرائعة جزيرة مرجريت إلى شمال المدينة، وهي مجموعة حدائق منسقة تقام بها الأنزال الفاخرة، والحمامات البديعة، والبرك المعدة للرياضة، يؤمها القوم عند الأصيل طلبًا للراحة والهواء البليل، وتصلها ببودابست قنطرة بثلاث شعاب، ومن متاحفها القيمة المتحف الفني، وتعرض به آيات التصوير القديم والحديث التي تثبت أن المجر ليست أقل عناية بالفن من كبريات دول أوروبا.
أما المتحف الزراعي فحدِّث عن عظمته، فهو حقًّا معدوم النظير في العالم كله، معروضاته غنية وقيمة للغاية، ترى به خرائط زراعية لمناطق الزراعة وللغلات نفسها مفصلة، كذلك أنواع الأسمدة المختلفة والعناصر المعدنية التي تتألف منها تربة بلادهم. وأهم الأقسام قسم الغلات نفسها تعرض في نماذج وافية في سنابلها وكيزانها وأغصانها. وتبدو الجذور نامية في سوائل داخل أسطوانات غليظة من زجاج. ومدهش أن ترى طول جذور بعضها فوق المتر، وسمك مجموع الجذيرات قدم، وبخاصة القمح والأرز، وجذور الكروم تمتد نحو أربعة أمتار.
كذلك ترى نماذج لطرق الحرث والري وللآلات نفسها، ووسائل تبخير الشجر، ثم ترى بعض الغلات معروضة في أحجام تسترعي النظر، فقرن الفول طوله شبر ونصف، والقرع العسلي قطره ذراع، والكمثرى في حجم الشمام، والتفاح في حجم البطيخ، والجوز في حجم كرة التنس، كذلك ترى آفات جميع النباتات في مختلف أطوارها، ونماذج كاملة للقرى والزرابي والمزارع والمعامل، وبعضها يشغل بهوًا بأكمله. وفي الطابق الأعلى تعرض كافة حيوانات البلاد محنطة، وأظهرها الخيول التي خُصص لها بهو كامل، ثم البقر والخراف والدجاج التي تبلغ الواحدة حجم الديك الرومي، والأوز والحمام والدجاج الرومي والأرانب، ثم دود القز وتربيته، وجمع الحرير وإعداده.
وقد علمت أن جلالة الملك قد زار هذا المتحف، وسُرَّ به كثيرًا، ويعتزم إقامة مثله في مصر، وقد عرضت حكومتنا أن ينتدب مديره لإدارة متحفنا عند إكماله مقابل مرتب قدره ١٥٠٠ جنيه في العام، وهو الآن نزيل مصر. والحق أنه أجدر بنا أن نقيم متحفًا كهذا يخدم الزراعة ولا تزال أكبر مواردنا. ويطبع القوم مجلدات زراعية قيمة بمختلف اللغات، ويوزع غالبها مجانًا. وقد قابلت وكيل المتحف وحدثته بشأن مصر وشئونها الزراعية طويلًا، وقدم إليَّ مجلدًا بالإنجليزية لمختلف غلات الدنيا.
وقد لاحظت أنهم يكثرون من طبع الخرائط لبلادهم بحدودها الطبيعية الكاملة، ويعرضونها في كل مكان، مظهرين للعالم مقدار الحيف الذي حل بهم في معاهدة الصلح، ويزعمون أن شعوبهم تشمل ٢١ مليونًا من الأنفس ولم يُعط لهم في المعاهدة إلا ثمانية، وتلك الأجزاء ضمت لرومانيا وشيكوسلفاكيا والنمسا وإيطاليا ويوجوسلافيا، وهم ينشرون الدعاية ضد هذا التقسيم تحت عنوان مأساة هنجاريا.
(٧) النمسا
البلاد الجديرة بالعطف: غادرت بودابست منتصف التاسعة صباحًا قاصدًا فيينا حاضرة، النمسا، تلك البلاد التي تتمثل في أهلها الجاذبية ورقة الحاشية إلى كفاية في الأعمال، فهم دائمًا باشون رغم جهدهم اليوم في الحصول على الرزق، عكس ما تراه في الألماني الذي يبدو لأول وهلة مقطب الوجه؛ فالنمساوي قلما يغضب لشيء، وهو مثقف مذ كان التعليم يقصر عليه دون زملائه من الجنس السلافي؛ ذلك لأن النمسا كانت تحتقر أتباعها من غير الجنس الجرماني، وهذا سبب تمرد تلك الأجناس عليها وانسلاخهم منها بعد الحرب الكبرى.
وصلت فيينا منتصف الساعة الثانية مساءً، فبدت من المدائن الفاخرة بمبانيها الضخمة وطرقها الفسيحة ومتنزهاتها الجذابة، وبخاصة على طريق «الرنج» الذي يطوقها، ويحصر داخله فيينا القديمة، وهو أفسح طرق الدنيا تحفه أشجار وارفة مزدوجة، ومن أفخر مبانيه:
(٧-١) البرلمان
ومدخله ذو شعبتين تؤديان إلى البهو الأوسط، وعلى جانبيه سلَّمان يؤديان إلى الطابق الأول، وفيه ردهة فخمة على النمط الإغريقي أعدت لفسحة الأعضاء، ثم دار المجلس الأدنى، وبه ٥١٢ مقعدًا لأعضاء الولايات التي كانت خاضعة للنمسا قبل الحرب، وقد نزل العدد اليوم إلى ١٦٥؛ لذلك أصبحت هذه الغرفة لا تتناسب مع عددهم القليل، فأعدوا لهم غرفة أصغر منها، وتركت هذه بأثاثها القديم، وفي الجانب الآخر: المجلس الأعلى، وقد نزل عدد أعضائه من ٢٤٢ إلى ٥٠، وهناك صالة للجنة المالية تزين جدرانها صور زيتية لفرنسوا جوزيف ووزرائه، ثم جميع أعضاء البرلمان. والبناء فخم يُكسى داخله بالرخام الذي جيء به من غاليسيا وتزينه النقوش الفاخرة.
زرنا بعد ذلك متحف الآثار والفنون، ومن آثاره القيمة: القسم المصري والإغريقي والروماني، وحجرات كل قسم تقوم في هندسة البلاد نفسها، وفي الدور الأعلى معرض التصوير، ومررت على دار الاستشارة بأبراجه الباسقة، وبجانبه الجامعة التي دخلتها وطفت بأرجائها، وكانت حركة الطلبة من الجنسين ناشطة، وبخاصة في المكتبة الفسيحة التي كانت تغص بالطلاب وهم منكبون على درسهم، ومنظرها الخارجي يمثل عظمة العلم وخلوده.
ثم قصدت متحف التاريخ الطبيعي، وبه مجموعة غنية جدًّا؛ ففي قسم الجيولوجيا قطع لا حصر لها من بلورات يزيد طول الواحدة على المتر، وبخاصة الكوارتز والجبس، وكتل من ذهب خالص في طول ذراع غالبها من أستراليا وآرال، وأخرى من معادن غفل والداليات والصاعدات «ستلكتيت وستلجميت»، وكتل من ملح يزن بعضها ٢٢٤٠ كيلوجرام، والبعض ١٦٨٠ في مكعبات أو مسلات، وحصى غليظ شق وسطه فبدا منقوشًا في تجزيع طبيعي مدهش. وأنواع الرخام الغفل والمصقول من مناجم غاليسيا بألوانه العجيبة، وخشب متحجر قد يبلغ طول الشجرة ثلاثة أمتار، وحفريات لأوراق الشجر مطبوع على الصخر أو على الفحم بأشكال عدة، وقطع من ورق الشجر المتحجر ينفذ منها الضوء فتظهر تفاصيلها جلية، ويرى الذباب وهو مطبوع عليها.
وبه قسم للحيوانات البائدة التي قد يشغل الواحد منها الفناء بأكمله، ثم آلات العصر الحجري والحديدي، وهياكل الإنسان في مختلف العصور، وجماجمه من مختلف القارات والأزمان، وبناء المتحف فخم للغاية، ويعلق بندول فوكولت في قبة البناء لإثبات دورة الأرض حول محورها أمام الزائرين.
(٧-٢) قصر شوينبرن
مسكن مريا تريزا الأنيق، تمتد من حوله المتنزهات، وقد شذب شجرها في شكل بوابات وأقواس، وفي الأرض بدائع الزهور، ولفائف الطرق تمتد في كل جانب من القصر إلى قصارى مسارح النظر، والنافورات والبحيرات تترامى أمام القصر. دخلناه فبدا فاخرًا به مجموعة من مخطوطات مريا تريزا بتوقيعها، وكرسي العرش، وحجرة الطعام وقد مد السماط بكامل أدواته.
وتزين جوانب الحجرات الصور الزيتية التي تمثل الحروب والحفلات، كذلك تُعرض به مجموعة من جواهرها وأسلحتها ونياشينها وبعض الأعلام التي كسبتها في الحروب. أما الأثاث ففخم للغاية، وعلى أشكال منوعة، أجملها حجرة النوم وسماط للشاي بأوانيه من الذهب الخالص، كذلك بيانوها ذو الطبقتين، وبجانبه مجموعة من النوتات الموسيقية لموزار وغيره.
أما الحجرات نفسها فيأخذ نقشها بالأبصار، فمن خشب مطعم بالذهب الخالص في إسراف شديد، وقماش يغطي الجدران وقد وُشِّي بالألوان الخلابة، فهو حقًّا قصر لائق بعظمة الملوك الخالدين، رغم أن الملك شارل، آخر ملوك النمسا، قد وقَّع صك اعتزاله الملك في إحدى تلك الحجرات الفاخرة التي بلغت نفقاتها أربعين ألف جنيه.
يعجب المرء إذ يرى كل تلك العظمة في بلد يضم أكثر من ثلث سكان مملكة كان مُلكها يمتد إلى الآفاق، فكيف يمكن لماليتهم الصغيرة الآن أن تسد تلك النفقات، وتقيم تلك المظاهر. حقًّا إن موقف النمسا ليبعث الشجون ويثير العطف على ذاك الشعب الرقيق الذي أضحى مُثْقَلًا بالديون الأهلية والأجنبية، حتى إن الحكومة تلجأ إلى فرض الضرائب الباهظة على الدخل تلك التي قد تبلغ خمسين في المائة، وبخاصة على الأغنياء أمثال رتشلد، خصوصًا بعد أن انحط إنتاجها الصناعي الكبير، واندفع المتعلمون إلى طلب الوظائف الحكومية التي أخذت تضج من كثرتهم — تشبه مصر في ذلك.
والمدينة آخذة في الاحتضار، إلا إذا قام ائتلاف بين صغار الدول من حولها واعتبروها مركزًا لهم، وإلا أضحت أثرًا بعد عين، وحل بها ما حل بطيبة ونينوى وبابل؛ ولذلك ليس بعجيب أن يؤيد فكرة انضمامهم لألمانيا عدد كبير منهم.
ويحيط بالمدينة مجموعة من الضواحي التي يستهوي جمالها الزائرين من بينها:
(٧-٣) كوبنزل Cobenzl
التي تعلو فيينا بنحو ١٢٠٠ قدم، وتقع إلى جنوبها، والطريق إليها كثير الرُّبَى تكسوها الكروم التي زادت شهرة الإقليم في النبيذ، ولياته من الأعاجيب، وكنا كلما علونا كشفنا مناظر فيينا ومن حولنا الربى تكسوها الغابات، وفي نهاية الطريق نُزُلٌ فاخر أعد للمقام الهانئ والمتاع الكامل.
(٧-٤) سمرنج
ولعله أجمل ضواحيها الجديرة بالزيارة. ظل القطار يسير بنا ثلاث ساعات ونصف وهو يجوز مناظر ريفية هادئة التغضن، ومررنا في الطريق على بادن وعلى راكس؛ حيث بدأت الجبال، ودخل القطار في أنفاق لا عد لها، وهي في مجموعها تُكوِّن نفق سمرنج الذي يصل النمسا بإيطاليا عن طريق فيرونا، وكانت تُرى القرى في بطون الأودية من دوننا، وتنتثر بيوتها الصغيرة على جوانب المنحدرات.
ركبنا تلك العربة المعلقة، وقد وسعت عشرين نفسًا، وأخذت تصعد بنا وكانت تنضمر المدينة من تحتنا تدريجًا وتكشف مدن الأودية الأخرى، حتى وصلنا القمة بعد نصف ساعة وكأننا طائرون في الهواء. ولا أستطيع أن أصف مشاهد الطبيعة التي تجلت أمامنا من تلك القمم، فالغابات إلى مد البصر، والصخر لا يخلو في مكان من النبت، وغدران المياه تنزل إلى بطون الأودية في خرير جذاب، والسحب تبدو وتجلو، وخلالها تستبين الشمس تارة في قوة، وأخرى في فتور، وقد طال تجوالي في تلك الربى، ولولا ضيق الوقت لرغبت عن النزول.
(٧-٥) بادن
ومن ضواحي فيينا التي لا يصح إغفالها بادن، التي وصلناها بترام كهربائي وعربة أمنيبوس، فألفيناها جنة تزينها حماماتها العديدة، وهي تَغُصُّ بحدائقها ومقاهيها وأنزالها، ومن حولها التلال العالية يكسوها الشجر، وعلى جوانبها شقت الطرق المختنقة تصفُّ بها المقاعد والمناضد يجلس عليها من أراد، وهي شبيهة بإكس لبان، تلائم الحياة الهادئة التي لا تقبل انتقالًا إلا بين ثنيات التلال بجوارها، وعلى مقربة منها زرنا «لكسمبرج»، وهي متنزه كأنه الغابة كثيرة القنوات والبحيرات، وبها قصر على نظام قلاع القرون الوسطى أقيم وسط جزيرة — وقد دخلته — وهو يحوي جانبًا من الآثار القديمة والصور الزيتية، وبه بعض الأبهاء والحجرات فاخرة النقش.
ويدهشني من أولئكم القوم عنايتهم بأماكن النزهة لهم ولأبنائهم، من إقامة الفنادق، وتعبيد الطرق، وتيسير سبل الاتصال، وتوفير أسباب الراحة حتى فوق تلك الجبال النائية. وقد بلغ بهم غرامهم بالطبيعة أنهم لا ينفكون يرتحلون كلما أتاح لهم وقتهم ذلك، والكل يرتدون ملابس الرحلات في شيء كبير من التقشف، ويحملون وراء ظهورهم جعبًا كبيرة، وفي أيديهم العصي، وهم يتسابقون في الصعود والركض رجالًا ونساء وأطفالًا، شيوخًا وشبانًا.
ويخيل إليَّ أن هذا نظام شبيه بالكشافة العسكرية أو بنظام الفاشيست الإيطالي، والإقبال عليه شائع بين الجميع. هذا والاختلاف إلى المتنزهات التي تملأ الميادين كلها مقدس لديهم حتى وقت الظهيرة، حين ترى الأطفال مع مربياتهم وأمهاتهم يمرحون في تلك الحدائق وقد زود بعضها بالحمامات — أعدت للصغار — ويغلب أن توجد مقصورة في الحديقة لأجهزة الاختبارات الجوية، وترى الكل حتى الصبية والرعاع يرقبونها ويتفهمون منها حالة الجو المنتظرة.
(٧-٦) سالزبرج
وصلتها في أول سبتمبر في عودتي من ميونخ، وكانت مناظر الطريق سهولًا، ثم ما لبثت أن أخذت الربى تبدو وتتزايد حتى دخلنا المدينة بعد ساعتين ونصف، وهي في وهدة بين القمم التي تكسوها الغابات، وتسيل على جوانبها الغدران. وأول ما زرنا بها: مناجم الملح الشهيرة في إحدى ضواحيها الداخلة في الحدود الألمانية، وتبعد عنها بساعة ونصف في الترام. وهنا ألبسنا الحراس أردية خاصة تشبه أردية السجون عندنا.
وركبنا جرارة كهربائية مستطيلة أوغلت بنا في سراديب لا حصر لها كأنها السربيوم في سقارة ذات شعاب متعددة، وفي طوابق مختلفة، صعدنا بعضها بالدرج، وهبطنا البعض بالانزلاق الذي يبلغ أحيانًا خمسة وعشرين مترًا، وكنا بين آن وآخر نرى تجاويف شاسعة في الصخر عند أمكنة استخراج المعدن، وفي كل تجويف يعرض القوم نماذج من الملح مختلف اللون في شكل مصابيح زجاجها من الملح.
ومن التجاويف ما يملؤه الماء في بحيرات أكبرها خمسون مترًا. جُبنا أطرافها في زوارق، والكل يضاء بالثريات الكهربائية، وكانت درجة الحرارة داخل المنجم منخفضة إلى حد يشبه الجليد، وعلو بعض نواحي المناجم يناهز ثلاثة آلاف المتر. والحق أن الإنسان ليدهش لمجهود هؤلاء الجبابرة من الألمان؛ لعظيم المشقة التي لاقوها في إنجاز عمل خطير الشأن كهذا. وقد لبثت داخل المنجم نحو ساعة.
وأجمل ما راقني كثيرًا موطن موزار الموسيقي الشهير، فله هناك بيتان: أحدهما ولد به، والثاني كان يقطنه، وفي أحدهما تقيم الحكومة متحفًا باسمه تعرض به مخلفاته، وله ميدان يقوم فيه تمثاله، وقنطرة تتوج باسمه، فهو خير من أنجبته المدينة.
وتشرف على المدينة قلعة قديمة ضخمة على علو ٥٦٠ مترًا تسلقناها بترام كهربائي، فتجلى منظر المدينة تعانقها الربى من حولها، ويجري من تحتها النهر الثعباني، فكان المنظر فذًّا فاتنًا؛ ولذلك لم أعجب لما علمت أن بعض الشعراء قد عدها ثالثة مدن العالم جمالًا، فالمدينة مصطاف غني بمناظره الخلابة وأنزاله الفاخرة.
(٨) شيكوسلفاكيا
مثال التضحية والثبات: غادرت فيينا، عاصمة النمسا، فكنا نسير في مروج وغابات تكسو الأرض المموجة، وما لبثت أن تعددت الربى، واشتدت كثافة الغابات، كلما قاربنا هضبة بوهيميا، وكان جل صادرات القرى من الأخشاب، ولما دخلت حدود شيكوسلفاكيا زاد تعقيد الجبال، وهي تكاد تختنق بالشجر، وبدأ الصخر يتغير؛ إذ تحول من الجير إلى النيس والجرانيت، وأخذ القطار في الهبوط تدريجًا حتى دخلنا براج عاصمة البلاد، بعد أن اجتزنا نفقًا طويلًا.
وكان يومنا كله غائمًا ماطرًا ظل الوابل طوال النهار وشطرًا كبيرًا من الليل، فكأني بذلك قطعت أكثر من نصف هضبة بوهيميا، أغنى أقسام تلك البلاد الفتية العتيقة: فتية؛ لأنها حديثة عهد بحياة الاستقلال الجديدة، وعتيقة؛ لأنها غالبت الزمن طويلًا، فلقد أمَّها منذ القدم خلق من البدو كثير أولهم الكلتيون، ثم جاء شعب من الألمان، ولم تنزل أمم السلاف بها إلا في القرن السادس، واختلطوا فكان من الجميع شعب شيكوسلفاكيا، ولقد اندمجوا في الإمبراطورية الرومانية الغربية، وفي ٨٣٠ استقلوا واعتنقوا النصرانية.
ولما أغار المجر على الدانوب انحلت إمبراطورية مورافيا، وانفصل صقالبة الشمال عن صقالبة الغرب، والتشيك عن السلفاك نحو ألف سنة، على أن الروح الشيكوسلفاكية لم تخمد بينهم قط، وقد نهض قوم من التشيك في بوهيميا وكونوا لهم دولة دخلت مع الدولة الرومانية المقدسة في حروب شعواء بين القرن العاشر والرابع عشر، وأخيرًا حصلوا على استقلالهم في القرن الخامس عشر.
ومن أكبر أمراء التشيك الذين ساعدوهم على بناء دولتهم «سانت فاكلاف»، الذي أقيم له حفل هذا العام بمناسبة مرور ألف عام على موته، وقام «جون هوس»، الأستاذ بالجامعة، بمجهود في تثبيت أركان اللغة التشيكية، وصبغ التربية بصبغة قومية، لكنه اختلف مع زعماء الكنيسة فحوكم وقُضي عليه بالحرق سنة ١٤١٥، فألهب ذلك نار الحروب الهوسية، وأقام الثورة ضد الكنيسة، وأخيرًا انتخب فرديناند، الأرشدوق النمساوي من أسرة هبسبرج، ملكًا على بوهيميا.
وبهذا انتفى استقلال بوهيميا بذاتها، وحلت فيينا محل براج في الحضارة، وحاول فرديناند إصلاح ما بين الشعب وروما لكنه فشل، وزاد في كراهية الشعب له تقييده نظام الملكية، فألقى الشعب ممثلي الحكومة في براج من النوافذ، لكن ثورتهم أخمدت في قسوة بعد واقعة الجبل الأبيض سنة ١٦٢٠، واضطهد التشيك وبخس حقهم، واستمر التدهور على أيدي النمساويين، ومنعت دراسة اللغة التشكية من المدارس والكنائس.
وقد ساعد أشراف التشيك الأعداء النمساويين على الشعب حتى تم استعباده سنة ١٧٢١، عهد شارل السادس، وفي حكم ابنته مريا تريزا أصبحت فيينا كل شيء، ومحيت دولة التشيك من الوجود، على أن عقلاء الشعب ما فتئوا يوقظونه، خصوصًا بعد نشر المذاهب الحرة في فرنسا، لكن قاومهم مترنيخ برجعيته حتى كانت سنة ١٨٤٨، حين منحوا بعض الحريات وبدءوا يطالبون بالاستقلال.
وعلى أثر الملكية الثنائية «النمسا والمجر»، تصرف هؤلاء في رعاياهم من غير الجنس الجرماني كما يشاءون، فقاوم التشيك حتى نالوا بعضًا من استقلال التعليم، فبدأ العلم يزدهر في بلادهم ثانية، وأخيرا قامت الحرب الكبرى فتأهبت التشيك لمناصبة النمسا العداء، وانحاز رجالهم إلى جانب الأعداء، وكانت النمسا قد أعدتهم للدفاع عنها فحاربوا ضدها في الروسيا وإيطاليا وفرنسا.
(٨-١) براج
وقد بدأت المدينة صغيرة فوق ربوة بني حولها سور، وأخذت تمتد. وفي ١٦١٤ انتقل الإمبراطور إلى فيينا وترك براج تحت حكم الولاة الذين اضطهدوا البروتستانت، فبدأت المناوشات الدينية، وألقي ممثلو الإمبراطور من النافذة، وبذلك بدأت جذوة حرب الثلاثين عامًا التي عمت أوروبا الوسطى، خصوصًا بوهيميا.
وعقب هزيمة التشيك في التل الأبيض ١٦٢٠، إحدى وقائع حرب الثلاثين سنة، التي هزم فيها البروتستانت، أخذوا يقاسون مظالم فادحة، وشنق ٢٧ من زعماء الاعتصاب في ميدان المدينة، وظل الاضطهاد حتى كانت ١٦٤٨ حين هاجمهم السويد، لكن الطلبة حموا القلعة بمُهَجهم.
وفي ١٧٥٧ في حرب السنين السبع، أصابت براج نكبة فادحة حين دمرها ملك بروسيا بالمدافع، وفي ١٧٧٣ في حكم ماريا تريزا، ألغي أمر الجزويت، ودُمر كثير من الأديرة والكنائس، وفي ١٨٦٦ قاست أيضًا من حروب بروسيا، وفي بدء الحرب الكبرى أصابتهم أهوال كبيرة. وبفضل تضحيتهم وصبرهم قاوموا المجاعات، وكانت جمعية «مافي» تستنهضهم وتوثقهم بقرب الخلاص، وساعدهم مزريك من الخارج حتى كان يومهم المشهود يوم ٢٨ أكتوبر سنة ١٩١٨ حين خلعوا النير النمسوي وأعلنوا الحكم الجمهوري. وبدأت براج تشعر بمسئولية كبرى وهي دائبة على الإصلاح من جميع نواحيه بهمة تكاد تأتي بالمعجزات؛ كي تصبح عاصمة تليق بدولة ناهضة كبرى.
فبراج تسمى بحق «روما الشمال»؛ لأنها صفحة تاريخية تبدأ حوادثها منذ ٣٥٠٠ سنة، ولعل أجمل ما رأيت فيها: القصر الملكي الذي يحوي بعض البقايا الأثرية من القرن التاسع، وتشمخ حصونه وأبراجه على نظام هندسة القرون الوسطى. وأبدع أبهائه البهو الإسباني، وهو آية في الفخامة والزخرف، واليوم يقطن الرئيس مزريك ثلاث غرف منه فقط، وحراس القصر يلبسون الأزياء المختلفة، فبعضهم على نمط الملابس العسكرية الفرنسية، والبعض الطليانية، وآخرون الروسية؛ ذلك لأن أجناد التشيك انحازوا للأعداء، فكان منهم المحارب في صفوف الجيش الفرنسي والطلياني والروسي. وإلى جانب القصر كنيسة سنت فيتس، وبناؤها قوطي فخم بديع، وفيها يدفن ملوك بوهيميا وأباطرة الدولة الرومانية المقدسة، وبها بعض الذخائر والجواهر المخلفة عنهم.
وفي ميدان المدينة القديم زرنا دار الاستشارة «راتهوس»، وعلى رصيفه المطل على الميدان نرى فوق الأرض صلبانًا بعدد أشراف بوهيميا الذين شنقوا في هذا الموضع عقب هزيمة التل الأبيض «١٦٢٠». وبرج الدار تزينه ساعة فلكية منذ ١٤٩٠، وكلما دقت الساعة انفتحت أبواب في أعلى البرج، وتحرك أشباح يمثلون الرسل الاثني عشر والمسيح. وتلك الساعة ترى منازل الشمس والقمر وأيام الأعياد وما إليها بدقة غريبة، وفي داخل القصر قبر الجندي المجهول، وحوله باقات الزهر وأطر الحرير مقدم من مختلف الملوك، ولمصر باقة حولها الأشرطة الخضراء ممثلة العلم المصري، وفي كنيسة أم المسيح يدفن الفلكي الدانماركي الشهير «تيكو براهة».
وأبهى شوارع المدينة «فاكلافسكي نامستي»، ومنظره من شرفة المتحف الذي يشرف عليه رائع، وأنواره في الليل تبهر النظر. والمتحف يحوي مجموعة قيمة من النبات والحيوان، على أن المجموعة الأثرية به قليلة، أما باقي المدينة فعادي يشقها النهر وهو يتمايل، وتعبره القناطر التي أشهرها قنطرة كارل، ويطل عليه برج قديم كان له شأن في صد المغيرين عن المدينة، وتتوسط النهر عدة جزائر بها المتنزهات، وتصلها القناطر العدة.
وبراج تسمى مدينة الشدائد لما مر بها من عصور عصيبة، ويظهر أن تلك المآسي هي التي كونت أخلاقهم التي ستكون خير معوان لهم على بلوغ أوج التقدم. وهم اليوم ناهضون بصناعاتهم بنشاط عجيب، دائبون على ترويج سلعهم في الخارج، وها نحن نرى ذلك في مصر؛ إذ تنتشر مصنوعاتهم الخشبية: كأدوات الموسيقى، ومنسوجاتهم، وبخاصة الصوف والطرابيش التي تقوم مصانعها في مدينة «برون» — عاصمة مرافيا — والجعة التي تزاحم أجود أنواع الدنيا، ومصانعها في «بلزن» من أمهات مدنهم، وإليها تنسب جعة «بلزنر».
كذلك مصانع الجلود والأحذية، وأكبرها مصنع «باتا» المعروف، ثم صناعات الخزف والزجاج. كل ذلك يسير في سبيل التقدم بخُطى الجبابرة، وذلك بفضل نشاطهم وإخلاصهم لوطنهم، ونجاحهم في رفع نير الأجنبي عن كواهلهم، والحق أن الفرق الشاسع بين حالتهم النفسية والإنتاجية قبل الاستقلال وبعده ليؤيد ما للحرية من أثر سحري في الأخذ بناصر الشعوب.
(٨-٢) كارلسباد
والمدينة تحمل اسم منشئها شارل الرابع «حمام شارل»، وفي أقاصيصهم أن الإمبراطور خرج للصيد يومًا، فتبع كلبٌ له وَعْلًا، فقفز الوعل من قمة ربوة ونزل في الوادي، فسارع الكلب وراءه، لكنه سرعان ما أخذ يعوي عواء مرًّا استرعى نظر سيده، فلما أتاه ألفاه قد احترق بمياه نبع فوار اتخذه شارل حمامًا فيما بعدُ.
وهناك من الينابيع عشرة أقل من هذا أهمية. ومنظر سبرودل مدهش؛ فهو يدفع بالماء إلى علو يناهز عشرة الأمتار في رشاش وانفجارات وغازات. ومياه تلك الينابيع تشفي المرضى بالمعدة والأمعاء والكبد، والتمثيل الغذائي، والمجاري البولية والروماتيزم. وكم يروقك منظر القوم وهم يتزاحمون كلٌّ يمسك بكوبه ويملؤه من الينبوع الذي وصفه له الطبيب. وهم يتناولون الماء جرعة جرعة، ويمشون ذهابًا وجيئة على اختلاف أجناسهم وأعمارهم.
ويبلغ عدد مَن يُمْضِي زمن الاستشفاء بها سبعين ألفًا، ومَن يزورها مرورًا مائتي ألف؛ ولذلك ليس بعجيب أن ترى المتنزهات ودور الملاهي والأنزال ووسائل النعيم منتشرة، وقد عبد القوم طرقًا متلوية خلال الربى طولها نحو ١٢٠ كيلومترًا، فالمناظر من حولها شعرية ساحرة تغري الزائر بطول المقام، ولو لم تكن به حاجة للاستشفاء.
(٩) ألمانيا: بلاد الفخامة والنظام
قمت من براج الساعة الثالثة مساء، فوصلت درسدن السابعة مساء، وكان الجو غائمًا، وكلما تقدم القطار زادت كثافة السحب، وسح المطر، وصار وابلًا، والسماء ترعد وتبرق في شدة غير عادية، وبخاصة عندما قاربنا السفح الجنوبي لجبال «أرزجبرج»، وكنا نعلو تدريجًا، ويزيد تعقيد الجبال وتكثر الأنفاق. ولما أن اجتزنا الجبال أخذت السهول تنفسح، والسحب تنقشع، وظهرت الشمس.
(٩-١) ميسن
التي وصلتها في ساعة، وهناك ركبت ترامًا إلى مصنع الخزف ذائع الصيت الذي ينتج خزف سكسونيا، الذي لا يخلو منه سماط فاخر قط. دخلته واقتادنا أحد رجاله شارحًا، فمررنا في الطابق الأسفل على مجهزي العجينة التي تعد من مادتي: الكولين والفلسبار لعمل الخزف الرخيص، ومادتي الكولين والكوارتز للخزف الثمين. وتلك المواد تستمد من الجبال النارية القديمة المجانبة للمصنع.
وهناك ترى الرجال يديرون دواليب بالأرجل شبيهة بتلك التي تراها في قنا، ويمسك الواحد بالعجينة ويشكلها بيده أو بسكين معه كيفما أراد، وبمهارة فائقة، وبعضهم يضع العجينة في وسط قوالب من الجص، ثم توضع حولها حلقات غلاظ من الفخار السميك الصقيل، وترص في الأفران التي تُحمى إلى درجة ألف مئوية، والأفران يطلى داخلها بدهان براق.
أما النقش والزخرفة ففي الطابق الثاني، وهنا يرى الإنسان عجبًا، فالرجل أو الآنسة تمسك بالطبق أو الكأس وتطبع عليه تحديد الرسم، وتملأ فراغه بريشتها في إتقان يثير الدهشة. ومن الأشكال التي كانت تتم في دقائق ما يعجز المِفَنُّ المبدع أن ينجزها في ساعات. والمواد الملونة من مادة الكوبالت الأزرق، وبعد إتمام ذلك يغمر الإناء في السائل الصقيل كي يصبح ناعم الملمس.
وثم قسم للحفر تشكل فيه التماثيل على اختلافها، والزهور وما إليها بالأيدي في دقة عظيمة بلغت أن كان الرجل ينقش أمامنا رقائق من الجص مخرمة تحكي «الدانتلا». ويزوغ البصر إذا انتقل المرء إلى قسم المعروضات حين ترى نماذج من الآيات التي ينتجها المصنع من تماثيل للحيوانات جميعها، وبعض الأشخاص في مختلف حركاتهم، وآنية ترى كأنها مرصعة تزينها الصور الفنية البديعة؛ مما يشهد للقوم بالفضل العظيم في هذا النوع الذي أكسبهم قصب السبق في ميدان المنافسة. وقد تفقدنا المعرض وحده في ساعة ونصف.
أما المدينة نفسها فصغيرة، لكنها تفوق بندرًا من بنادرنا في ضخامة الأبنية، ونظافة الشوارع، وتنسيق المتنزهات، وعجيب أن تعلق الجرائد اليومية في مركبات الترام كي يتصفحها الركاب.
قمت إلى برلين الساعة الثالثة مساء، فوصلتها الساعة السادسة إلا قليلًا، وكانت المناظر في الطريق كله سهولًا ممتدة تكسوها الخضرة إلا حيث ترى الغلال بيضاء يحصدها القوم، وبخاصة الشوفان، ولا تخلو تلك السهول من الغابات المتناثرة.
(٩-٢) برلين
والقسم القديم أقل فخامة، راقتني به صورة لأولاد فريدريك يعزفون على الموسيقى خلسة؛ لأن أباهم كان يقسو عليهم، ويمنعهم ذلك، وبالقصر سبعمائة حجرة، وأربعة طوابق، وألف نافذة، وفي دوره الأسفل متحف لمخلفات الملوك من هدايا وأثاث. والقصر يطل على نهر سبري الصغير، فرع الألب، الذي تقع عليه برلين، وتعبره القناطر العديدة في مقدمتها قنطرة القصر، وقنطرة فريدريك، وعندها كنيسة الدوم، أفخم كنائس برلين، قبتها الأنيقة تناطح السحاب، وهي ذات نقوش فنية بديعة، بهوها يتسع لخمسة آلاف جالس، وتطل عليها شرفة خصصت للقيصر نفسه يؤدي فيها الصلاة، ولها سلم فخم خاص به وخلفها يقع مدفن القياصرة، وبه تحفظ رفات مائة من آل هوهنزليرن، من بينهم فريدريك الأول.
ثم زرت متحف «القديم والحديث»، وخير ما راقني به القسم المصري، وبه قطع عديدة نفيسة أخص منها تمثالًا من الجرانيت الأسود الصقيل لرمسيس الأكبر، وآخر لسيزستريس الأول وهما جالسان، ونماذج لأنوال للنسج بكامل أدواتها، وبعض الآلات والأسلحة، وأضرحة كاملة، وجثث محنطة بعضها ممدد، والبعض مطبوق الأرجل إلى الصدر من ٣٥٠٠ق.م، وبعضها موضوع في قبره، ومن بينها ضريح مُطعَّم بالأبنوس والعاج غاية في الإبداع والدقة.
وهناك رأس نفرتيتي — منذ سنة ١٣٧٠ق.م — المتنازع عليها بوجهها الدقيق، ورقبتها النحيلة، وعيونها السحرية. وقد عمل منها عدة نماذج من الجص، وخبرنا الحارس أنها على وشك أن ترسل لمصر، والمتحف غاصٌّ بقطع قيمة لا حصر لها.
وبه قسم إغريقي من «أتيكا»، وخير ما به أوانٍ فخارية حمراء صقيلة، وعليها نقوش بديعة، وإن كان بعضها خارجًا عن حد اللياقة والأدب.
ومن معارض الفن الشهيرة: المعرض الأهلي، وبه مجموعة لصور فنية من مختلف العصور، ثم متحف «القيصر فريدريك»، وفي دوره الأعلى تحف فنية كثيرة لكبار المصورين، وأجملهم في نظري روبنز، وفي دوره الأسفل مجموعة تماثيل وأوانٍ وقطع من خزف، وبه قسم قبطي مصري يحوي مجموعة أنسجة قيمة، ومحرابًا قبطيًّا من دمشق، وتماثيل وواجهات من خرط الخشب عليها المسيح والقديسون.
وثم قسم إسلامي بالقيشاني، والآيات القرآنية، وطنافس ومحاريب كاملة، وأبواب وجدران من خرط الخشب بكامل نقوشها، ثم أنسجة جميلة من عهد هارون الرشيد، وعليها الخط الكوفي الجميل، وأخرى لخلفاء غيره، وأقمشة موشاة بالذهب مزركشة بمختلف الألوان. هذا وأبنية المتاحف تبهر النظر في فخامتها وعظيم امتدادها.
والحق أن أول أثر لبرلين ينطبع في نفس الزائر دالًّا على عظمتها وثراء أهلها: ضخامة مبانيها، وسعة شوارعها وامتدادها الرائع في استقامة واحدة، وفوق ذلك نظافتها التامة، فلمجرد جولة يثبت أنها عظيمة. أهلها أهل نشاط وعمل ونظام ودقة ونظافة: بلغ من دقتهم أن أسماء الشوارع تكتب على لوحات مستطيلة، تقام على عُمد في زوايا الطرق وعليها أرقام البيوت التي في هذا القسم من الشارع، وسهم يدل على الاتجاه، وعند مواقف سيارات الأمنيبوس تعلق خرائط لخطوط سيرها تبدو واضحة في النهار، وتضاء من داخلها ليلًا. أضف إلى ذلك البوليس المهيب المثقف الذي يخاطبك بأكثر من لغة واحدة، ويجيبك في رفق وتؤدة، ويهديك إلى طِلْبتك كائنة ما كانت.
وهذا كله ملاحظ في سائر البلاد الألمانية؛ ولذلك فإني أعد ألمانيا خير بلاد أوروبا جميعًا في الدقة والنظافة والنظام والمظهر العظيم، وقد جمعت بين الكد وراء العمل والإسراف في اللهو مما لم يتوافر في بلاد أخرى.
ويؤدي المتنزه الثاني إلى ميدان الملوك الفخم يشرف عليه البرلمان في بنائه الأنيق الفاخر، الذي نقش عليه ما معناه «إلى الشعب الألماني»، وأمامه تمثال لبسمارك، أكبر دهاة ساستهم، ويواجهه وسط الميدان عامود النصر يصعده الإنسان بمائتين وخمسين سلمًا، فيمر بشرفة شاسعة نقشت جدرانها بالفسيفساء البديع، وتتوج العامود سيدة بأجنحة وصولجان، وتاج مرفوع من زهر، وحول جدرانه السفلى نقوش نحاسية لوقائع تاريخية، وأقيم تذكارًا للنصر في حرب السبعين؛ ولذلك نقش عليه ما معناه «من الوطن الشكور إلى الجيش المنتصر هنا».
وتبدو برلين من ذروته في عظمة وجلال، وقد أصر الحلفاء، خصوصًا فرنسا، على هدمه في معاهدة فرساي، لكن الألمان رفضوا ذلك في إباء. وحول الميدان تماثيل لجميع القياصرة بجانبهم كبار الساسة، أمثال مولتكة، ومنه يصل المرء إلى بوابة «برندنبرج» على نمط إغريقي ضخم تتوجها عربة تجرها أربعة جياد عرضها ٦٨ ياردة، وعلوها ٢٢، أقيمت سنة ١٧٨٩ لتحكي بوابة باريس، وأمامها ميدان بالرخام الناصع، والنافورات الجميلة، والتماثيل الدقيقة، وامتداده يؤدي إلى شارع إنتردن لندن الشهير، ويقطعه في وسطه ثاني طريق في الأهمية «فريدريك شتراس»، وتمتد قصوره الفاخرة إلى قصارى مسارح النظر في استقامة رائعة إلى الأفق حيث يخيل إليك أنه لا نهائي.
وفي تلك المنطقة تقع أضخم مباني برلين من قصور ملكية، ومتاحف ومعارض فنية، والأوبرا التي تسع ١٩٠٠ شخصٍ، وهي ذات نقش رائع، وفي إسراف كبير، وكذلك دار الجامعة، وأمامها أبدع تماثيل المدينة لفريدريك الأكبر.
حديقة الحيوان
مترامية الأطراف بها مجاميع كبيرة من مختلف الحيوان، وأحسن ما راقني بها الحظائر التي أقيمت في هندسة متباينة تحكي هندسة البلاد التي يقطنها الحيوان الذي فيها، فمثلًا أقيم بيت النعام وفصائله على نمط مصري قديم، والظباء والإبل على نمط عربي صميم، والفيلة على نمط هندي يحكي «الباجودا»، والطيور طويلة الأرجل على نمط ياباني وهكذا، وبالحديقة من المقاهي وجواسق الموسيقى الشيء الكثير، على أن حديقة القاهرة تفوقها تنسيقًا واتساعًا، فحديقتنا إذن أجمل حدائق الدنيا جميعًا.
وبجانب الحديقة حظيرة بها ألف تمساح في مختلف الأحجام والأعمار، وبجانبها بعض السلاحف الكبيرة، وكان بعض السيدات يمتطينها، وتمشي بهن مسافات طويلة.
ومن المتاحف القيمة متحف الشعوب، ويحوي مجموعة نادرة المثال من مخلفات سكان آسيا، بين تماثيل وحوائط وأسلحة وأنسجة في الطابق الأسفل، تعلوه معروضات أمريكا الوسطى والشمالية والجنوبية، ومن بينها مخلفات مدنية الأزاتقة والأنكا، وفي الطابق الثالث مجموعة قيمة من أفريقيا — الشمال والوسط والغرب والجنوب كل على حدة — ثم أوشيانيا. وأعجبتني كثيرًا مخلفات ميكرونيزيا، وبخاصة نظام المساكن وهندستها ونظافتها، وكذلك دقة الأنسجة من الألياف النباتية، وجدائل الخوص في تأنق عجيب، وهو الوحيد من نوعه في العالم، ويقوم في بناء فخم للغاية.
ومن الأشياء الجديرة بالزيارة برج برلين على نمط برج إيفل، لكنه أصغر قليلًا، أقيم من الحديد، وله سلم ومصعد كهربائي يعلو إلى ١٢٠ مترًا، فيرى منظر المدينة وضواحيها في تخطيط هندسي جذاب كأنه خريطة يدوية، ويرى الناس كالدويبات، وهو يتوسط متنزهًا ومقهًى عظيم الامتداد يؤمه خلق كثير لسماع الموسيقى الشجية. والحي كله حديث طرقه فسيحة مبعثرة المباني نادرة السكان.
مسجد برلين
في ناحية من شارع فخم اسمه «هوهنزلرن» يتوسطه متنزه جميل على طول امتداده، والمسجد في هندسة مغولية كأنه تاج محل مكون من قبة كبيرة حولها القبات الصغيرة، وأمامها مئذنتان دقيقتان جدًّا، وبجواره منزل صغير جميل للإمام عبد الله، وتعلق عليه لوحة لنشر الإعلانات والمنشورات الدينية بإمضاء الإمام، وتتوجها البسملة باللغة العربية، والباقي بالألمانية، أقامته جمعية نشر الإسلام الهندية باكتتابات ٩٠٪ منها من الهنود، خصوصًا أهل بنجاب.
وقد بدئ البناء سنة ١٩٢٤، لكن اضطراب سعر المارك أوقف العمل، وتم سنة ١٩٢٧، وهو منقوش من الداخل نقوشًا لا بأس بها، ولا يزال تنقصه الفرش، وبلغت أكلافه أربعة آلاف جنيه، والإمام شاب هندي نحيف أسمر وسيم ذو لحية خفيفة سوداء براقة الشعر، يجيد الإنجليزية، ويعرف قليلًا من العربية، وبمجهوده ومجهود سائر أعضاء الجمعية الإسلامية ببرلين — تلك التي يرأسها دكتور في الفلسفة ألماني الأصل — تنشر الكتب والمقالات، وتظهر مجلة شهرية، وتلقي المحاضرات في المسجد. وقد اعتنق الإسلام من أهل برلين نحو الأربعين بينهم دكتوران، ولم تساعدهم الحكومة الألمانية قط، بل كانت تُلزمهم دفع ضريبة على المسجد، ولم يُعفَوا منها إلا السنة الماضية بعد جهد كبير.
(٩-٣) يوم بوتسدام
أدى بي السير إلى متنزه سانسوسي الذائع الصيت، ومعناه «بغير سأم»؛ وأنَّى لي أن أصف ما حوى من آيات التنسيق في الزهور وبدائع الفن في الأنصاب والنافورات، وإتقان الذوق في المقاصير. وليات الطرق تحفها التماثيل وإبداع تشذيب الشجر.
بدت عند المدخل مسلتان صغيرتان يؤدي الطريق داخلهما إلى قصر سانسوسي، الذي يشرف على متنزه أنيق يؤدي إلى نافورة كبيرة تغص بالسمك الأحمر، ثم إلى مدرجات ستة يعلو الواحد منها الآخر بثلاثة وعشرين سلمًا، حولها من عيون الماء وبواسق الشجر وأكمام الزهر ما يعجز عن وصفه البيان.
والقصر من طابق واحد، أجمل حجراته غرفة فولتير، صديق فريدريك الأكبر، الذي دعاه للإقامة عنده، وهي بخرط الخشب في أشكال مختلفة من حيوان ونبات. وبهو الطعام الإهليلجي الذي عقدت به وليمة المائدة المستديرة الشهيرة بدعوة من فريدريك الأكبر، ثم حجرات فريدريك نفسه وسريره الذي مات فيه، وبجانبه ساعته التي كان يملؤها بنفسه، والتي وقفت ساعة وفاته تمامًا، وكانت الثانية والدقيقة العشرين من صباح ١٧ أغسطس سنة ١٧٨٦، وبالقصر مكتبته القيمة التي تحوي مجموعة قيمة من مؤلفات غالبها فرنسية.
وفي الثلث الثاني من الطريق الرئيسي القصر الثاني المسمى «أورانجري»، لكثرة أشجار البرتقال من حوله، وقد بُنيَ على نمط هولندي، وهو أقل فخامة من الأول، وبجانبه ترى أطلال الخزانات التي كانت تسقي المكان كله، والطاحونة الهوائية التاريخية التي كانت لفقير أَبى أن يبيعها لفريدريك، رغم توعده إياه، مخافة أن تشوه من منظر قصوره، لكن الرجل رفض ذلك قائلًا: لن يقع حيف ما دام في برلين قضاة، فأعجب به وتركها له، وبعد هذه بقليل هيكل قديم على شكل قبة البانثيون، ودفنت به رفات القيصرة الأخيرة زوج غليوم في تابوت من الرخام.
وقرب آخر الطريق القصر الحديث، وهو مستطيل تتوسطه قبة عظيمة، وتتقدمه حديقة أبدع تنسيقها، تُزيِّنها التماثيل، بناه فريدريك الأكبر سنة ١٧٦٣ لإظهار عظمة بروسيا بعد حرب السنين السبع، وكان يستخدمه لإقامة الحفلات الرسمية، واتخذه غليوم مصطافًا له، وبه ٢٠٠ غرفة، ومسرح للتمثيل يتسع فناؤه لخمسمائة نفس، وأهم حجراته ردهة المرمر بديعة النقش، والمدخل الذي ترصف جدرانه جميعها بالأصداف الثمينة في أشكال مدهشة، وحجرة الموسيقى — وقد حفرت آلات الطرب على جدرانها بالذهب، وكان فردريك ولوعًا «بالفلوت».
وكذلك الحجرات التي كانت خاصة بغليوم نقشت بالفضة والذهب الخالص. والقصر في نقشه الداخلي يفوق جميع ما شاهدته حتى في فرساي نفسها، ويدفن فريدريك الأكبر وأبوه في كنيسة سانسوسي تظلهما أعلام النصر التي غنموها في حروبهم.
وهو يطل على البسفور، وتبدو إسطنبول بمبانيها وأنوارها ومآذنها، وآخر يمثل كولمبيا تسمع فيه موسيقاها، وترى مراقصها، ورابع إغريقي. وترص وسط تلك الأبهاء مناضد يجلس عليها الزوار ليتناولوا ما لذ لهم من طعام وشراب، يُقدم إليهم في آنية البلاد نفسها، وبأيدي طائفة من الخدم يلبسون أردية البقاع التي يمثلونها.
وعلى أثر عودتي من دانماركه، قمت من كوبنهاجن إلى همبرج — سافرت بقطار ١٠ صباحًا فوصلتها ٩ مساءً — وتعددت وسائل النقل بين قاطرات وسابحات عدة مرات، ومررنا على مدينة لوبك على البلطيق، وتحكي بندرًا من بنادرنا. أما همبرج فبلدة ضخمة المباني، ممتدة الطرق نظيفتها، يدخل البحر إليها بألسن متعددة الشعاب، تعبرها القناطر الجميلة، وأضخم مبانيها دار البلدية «راتهوس» شيدت من الصخر الرملي المزركش في هندسة النهضة الألمانية. وأقدم أحياء المدينة ترجع إلى سنة ٨٠٠ حين بدأها شارلمان، وطرقه مختنقة لكنها نظيفة شأن جميع البلاد الألمانية.
أما الميناء فعظيم الحركة، مشعب الفروع، يصب عنده نهر الألب، وهو الشريان التجاري لألمانيا، وفيما عدا عظمة مبانيها وضوضائها وامتداد طرقها، لا يلذ للمرء المقام بها، خصوصًا وأن المعيشة بها غالية لا تطاق، فمستواها أعلى منه في أية بلدة ألمانية أخرى.
(٩-٤) كولوني
وهي وحدها تبرر زيارة المدينة من أقصى الأرض. يواجهها المرء لمجرد خروجه من المحطة الرئيسية، فتعطي عن المدينة فكرة رائعة. وبالمدينة عدد كبير من الكنائس الفخمة في هندسة الرومانسيك الألمانية البحتة، وهناك عدد كبير من المتاحف أشهرها الجالاري، وغالب طرقها عظيمة الامتداد، غاصَّة بالحركة. وكانت الأحياء القديمة تحاط بسور كالهلال تتخلله بوابات تحكي باب النصر عندنا، ولا تزال لها اليوم بقية.
والرين هناك عظيم الاتساع تعبره القناطر الفخمة، ومن بينها أكبر قنطرة معلقة في أوروبا جميعها، وجزء من النهر كبير أعد بالأهوسة والروافع، فأضحى مرفأ تجاريًّا عظيمًا. والجامعة تشرف على النهر، وينتسب إليها ستة آلاف طالب. وقد طغى الرين على المدينة سنة ١٩٢٦ فأغرق كثيرًا منها. ولعل أجمل جهاتها القديمة سوق الخضر الفسيح، كثير الضوضاء، وعظيم الحركة، وبالمدينة شارع خاص بالبنوك، وآخر برجال القانون.
هذا وإن انحلال الأخلاق الذي أعقب الحرب الكبرى، ولم تنج منه دولة أوروبية، ليبدو جليًّا في ألمانيا، وبخاصة في كولوني. ويظهر أن الحالة زادت سوءًا بسبب الاحتلال الأجنبي إلى السنة الماضية، فالنساء هناك مبتذلات إلى حد مخجل: لا يتورعن أن يمسكن بتلابيب المارة في غير حياء، وعجيب أن تجمع ألمانيا بين النقيضين: عظمة العمل وتدهور الخلق هكذا؛ ولذلك ليس بعجيب أن نرى عقلاء القوم ناقمين على الحالة السياسية الحاضرة، ويرون أن عصر الجمهورية أسوأ حالًا من سالفه؛ إذ سهَّل للناس سبل الفساد، ومهد لتلك الإباحية الممقوتة، فكان الانحلال الخلقي؛ لذلك فهم يتوقون لرجوع الإمبراطورية. أما حالة القوم المالية فشديدة تبدو في كثرة المتسولين والفقراء، وهم يجرون وراء كسب عيشهم في كد ونصب فاق كل حد.
(٩-٥) إلى ميونخ
ثم مررنا بمدينة كوبلنز؛ حيث عبرنا الموزل فرع الرين، والمدينة حصن منيع ومزار جميل يقع عند ملتقى النهرين، وكانت التلال تُكسى بالكروم تقام عيدانًا منفردة قصيرة على عصي، ومن ثَمَّ كانت المنطقة غنية بالنبيذ، وبعدها زادت منعطفات النهر، وكان يُرى بعضها في زاوية قائمة. وفعل القرض والإرساب واضح جلي في الجروف الهائرة وما يقابلها من ضفاف مدرجة، وتتوسطه مجاميع الجزائر، وكان القطار بين حين وآخر يخترق أنفاقًا ومفاوز جبلية.
(٩-٦) ميونخ
ويسميها القوم منشن، عاصمة ضخمة حقًّا تليق بمملكة عظيمة مثل بافاريا، فهي كسائر المدن الألمانية الكبرى ذات مبانٍ شامخة، وطرق ممدودة، كنائسها عديدة، وغالبها للكاثوليك. والقوم هنا متمسكون بالدين حتى إنك لترى في بعض الأزقة تماثيل المسيح وهو مصلوب؛ ولذلك قل تهتُّك النساء بشكل محسوس.
ومن أجمل مبانيها الراتهوس في هندسة قوطية فاخرة، ودار العدل في هندسة ألمانية ضخمة، والقصر الزجاجي عظيم الامتداد يقام كله من البلور، يشغله اليوم متحف التصوير، ثم القصر الملكي في هندسة «الباروك»، حوله الحدائق وأبهاء الأعمدة، وتنتهي حديقته بقصر أعد للمتحف الحربي، وأمامه في وهدة قبر الجندي المجهول، وحوله مدافن أبناء بافاريا الذين ذهبوا ضحية الحرب الكبرى، ثم دارا المتحفين الفنيين القديم والحديث في هندسة إغريقية تحكي البانثيون. وعلى ربوة أقيم تمثال بافاريا الشهير، وتمثلها سيدة ترفع إكليلًا بيدها اليسرى، وتتكئ على أسد باليمنى. وعلو قاعدة التمثال ٦٥ سلمًا، وجوف السيدة ستون.
ويشق نهر «إيزر» المدينة في ليَّات مستملحة، وتعبره قناطر عدة، ولون مائه ضارب إلى الخضرة تشوبها زرقة كعادة الأنهار التي تستمد ماءها من الثلاجات، ولعل أهم ما في المدينة:
المتحف الألماني Deusche M.
الذي يعد الوحيد من نوعه في الدنيا، وهو وحده خير مبرر لزيارة المدينة، وإليك مثلًا ممَّا به: نماذج بالجص لبراكين العالم، ومن بينها فيزوف، وتغضن القشرة الأرضية، وحفريات لكائنات بائدة، وشهب سماوية، ومن بينها شهاب زنته ٩٠٩ كيلو جرام، ثم نماذج كاملة لجميع أنواع المناجم بآلاتها وعمالها وسراديبها التي قدت في عدة طوابق تحت الأرض آلاف الأمتار.
وترى تماثيل العمال في مختلف حركاتهم وأدوار أعمالهم، وأجملها مناجم الفحم والملح، ثم قسم للآلات التي يديرها الهواء والماء بحجمها الطبيعي، وفي أطوارها المختلفة، ويمكن إدارتها بسهولة، ثم معروضات لجميع وسائل النقل منذ نشأتها من عربات ودراجات وسيارات وسكك حديدية وسفن وطيارات وغواصات منذ اختراعها إلى أحدث طراز منها، والكل يمكن تحريكه، وهالني منظر سفينة كبيرة مقامة في صلب البناء نفسه بآلاتها وفرشها وأدواتها وكافة تفاصيلها، كذلك معدات الثغور والفنارات والمطارات والأسلحة والقناطر، ثم الساعات وتطورها، وكذلك آلات الموسيقى والراديو والأشعة، والأجهزة الهندسية والمترليوجية.
وفي الحديقة الخارجية طواحين وروافع وإشارات السكك الحديدية وأكشاكها وقضبانها وتحاويلها وغير ذلك مما لم أستطع إتمام استعراضه، فالمكان يتطلب درسه وتفقده شهورًا، مكان إذا دخله الزائر آمن بعظمة الأدمغة الألمانية، وجبروت عقولهم، فهو كفيل بأن يرفع رأس تلك الأمة رغم ما منيت به من هزيمة في الحرب الكبرى.
وكان يحيط بالمدينة سور قديم لا تزال ترى بقاياه وبواباته، وبالمدينة جامعة للطلاب كبيرة، ومما تجب زيارته في المدينة دار الجعة، أكبر مواطن البيرة وأقدمها في العالم — والجعة من أكبر صادرات بافاريا — فبناؤها القديم يتألف من أربعة طوابق في أبهاء متسعة، وأقبية سُقُفها مزركشة، وتقام على عمد ضخمة.
دخلت المكان فذهلت لما رأيت من الجماهير الغفيرة من أبناء الشعب البافاري، كل فرد بيده جرة من الصلصال تسع نحو لترين يتناولها من دولاب، ثم يقدمها لحارس الجعة يملؤها له فيحتسيها، ويعيد الكرة مثنى وثلاث ورباع، وترى البعض يحتسيها واقفًا بجانب برميل كبير من الجعة يضع كأسه عليه، ويغلب أن ترى ذلك في الدور الأسفل وغالب من به من العامة.
أما الأدوار العليا فللطبقة الممتازة، وفيها تجد المقاعد والمناضد من خشب ضخم منقوش، والمصابيح تتدلى في شكل دوائر متسعة ومزدوجة الثريات، وضوضاء المكان لا تخبو لحظة واحدة. هنا حقًّا يأخذ المرء فكرة صادقة عن الشعب البافاري، ومبلغ غرامه بالجعة وميله للمرح، وكم كنت مغتبطًا وأنا جالس وسط القوم وأمامي الجرة التي لم أستطع أن آتي على ثلثها! بينا كان بعض الأطفال يتناولها في لمح البصر.
(١٠) هولنده: بلاد السلام
ولا تخلو السهول من الشجر المتناثر، وبعض الجهات رملي التربة كأنه من صحاري مصر، وعجيب أن يحاول القوم الاستفادة منها بزرعها، وكان الصبية يمرون في جميع المحاط حاملين كئوس القهوة مجهزة؛ مما يشعر بحب القوم لها، ويبرر ما نعلم من أن الهولندي أكبر مستهلك للبن في العالم.
(١٠-١) أمستردام
ما أجملها! هي حقًّا تفوق البندقية خفة وروعة، وخير دليل على ذلك أن ما يشقها من قنوات سبعون، وما يعبرها من قناطر أربعمائة، تطوقها سلاسل من المياه في حلقات تبلغ نحو العشر عدًّا، الواحدة خارج الأخرى، وكل أولئك تقطعها قنوات مستعرضة تتجه نحو المركز، فأينما سرت ألفيت البيوت تقوم مقام ضفاف القنوات يرطمها موجها الهادئ.
وقلب تلك القنوات يمثل المدينة القديمة الذي يرجع عهد بنائها إلى القرن العاشر، وخلال الحروب الإسبانية في القرن السادس عشر فر إليها كثير من رجال الفن والتجار والصناع، فزادوا المدينة شهرة، وذاع صيتها بعد تأسيس شركة الهند الهولندية سنة ١٦٠٢.
طرقها مختنقة قد لا يسع بعضها مرور شخصين متجاورين، ولا يكاد يصيبها شعاع من الشمس، وهندسة البيوت متشابهة، فهي من الآجر الملون، واجهاتها مسننة، وفي بعضٍ الحلية البسيطة، والطرق نظيفة، ويغلب ألا يكون لها إطار، وإن كان فواطئ لكي تعلوه العربات عند الضرورة، ومياه القنوات يكاد يلمس باليد من الطرق، والمدينة تعد الميناء الثانية لهولنده بعد روتردام.
وعجيب أن تقام كلها على مجموعة من عمد قد يبلغ الواحد عشرين مترًا غرست في الرمال والأوحال، ومن المدهش أن تبقى بيوتها قائمة دون أن تنهار، وإن ظهر في بعضها ميل مخيف، ويُظن أن الأعمدة قد تحجرت اليوم وزادت صلابتها من أثر الماء والطين.
وأكبر ميادين المدينة ميدان دام، وعليه القصر الملكي الذي يقام على ١٤ ألف من الأعمدة السالفة الذكر، بني سنة ١٦٤٨ عقب انتهاء حرب الثلاثين عامًا على أنقاض الراتهوس، واتخذه لويس نابليون، أخو نابليون الأكبر، قصرًا له عندما نُصِّب ملكًا على هولنده، وفي واجهته مائة نافذة متشابهة تطل على الميدان.
ولقد مررت بدار شركتي الهند الشرقية والغربية الهولندية، وهما من الأبنية القديمة، وبعض البيوت التي كان يميزها القوم بقطعة حجر يحفر عليها رمز كل عائلة، وكانت تقوم مقام أرقام البيوت الآن، ومن بينها بيت نوافذه من زجاج إذا نظرت خلاله إلى داخل الحجرات بدت الألوان بنفسجية، وإذا نظرت منه إلى الخارج بدت الألوان بيضاء، وتلك مهارة كانت للقوم في صنع الزجاج قديمًا.
وثَمَّ حي لليهود الذين يبلغون ٧٣ ألفًا غاصٌّ بالحركة، وفيه بيتُ النابغةِ المِفَنِّ الذائع الصيت «رامبرانت»، الذي أنجبته أمستردام، فأهدى للعالم من آيات فنه دُررًا غاليات لا تزال تزين متاحف أوروبا جميعًا، وفي داخل منزله مجموعة قيمة منها، ولم يبق به من مجموع صوره البالغة نحو خمسمائة وخمسين سوى ثلاثين، وتمتاز صوره بما يبدو فيها من روح قوي، وأضواء ذهبية تبدو لك وكأنها وهج لنيران تضطرم من ورائها.
ولقد أقام القوم له تمثالًا وسط ميدان توج باسمه، ودفنت رفاته في كنيسة الغرب الشهيرة التي يشرف برجها على المدينة كلها، ويقال: إن لجمال المنظر في هذا الحي أثرًا في إظهار عبقريته هو وفيلسوف أمستردام النابه «سبنوزا»، وقد مررنا على داره التي ألصق القوم ببابها «نظارته» التي كان يستخدمها عند القراءة والكتابة.
وهي أقدم معامل قطع الماس في الدنيا، وكذلك أكبرها، ولا يزال يشتغل بها ثمانية آلاف عامل، ولقد كان جو البلاد حارًّا مشمسًا على غير انتظار، وكانت مضايقة القوم بادية على وجوههم المقطبة التي تتصبب عرقًا. وتلك هي الموجة الحرارية التي مرت على غرب أوروبا عندئذ فمات بسببها الكثير، خصوصًا في إنجلترا. أما عندي فكانت تحكي أيام مصر القائظة في الصيف، وكان أفراد الجنس الأسود والصيني يجوبون الطرق بكثرة، وقد وفدوا من مستعمراتهم في جزائر الهند الشرقية للدرس، وكأني كنت أحس أن وجودهم بتلك الكثرة مما يبرر ذاك الجو القائظ الغريب.
قمنا من أمستردام صوب لاهاي بقطار كهربائي يسافر مرة كل نصف ساعة، فمررنا بهارلم وليدن، ثم دخلنا لاهاي بعد ساعة كاملة. أما المناظر فكانت مصرية بحتة بحقولها المبسوطة السندسية، وقنواتها العديدة، وشجرها المتناثر مع استثناء مطاحن الهواء المنتثرة. وفي الحق أن الشعب الهولندي نشيط مجد، كفاه فخرًا أن استنبت أرضه الرملية المقفرة، وغالب البحر وهو لا يزال يرده عنه بحر زويدرزي، وهم يفاخرون أنهم مدوا نصف بلادهم على حساب البحر، وفي أمثالهم المشهورة «إن الله خلق لهم البحر وهم أعدوا له شواطئه.»
ولا يزال يغير البحر عليهم أحيانًا برشحه الكثير، وقد يهدم الجسور التي يقيمونها لصده؛ ففي أخريات القرن الثالث عشر اجتاح ألف قرية كانت على أراضي زويدرزي في يوم واحد، وبعض جسورهم تعلو سطح الماء بأربعين قدمًا، والأراضي التي أصلحت داخلها قد تكون دون مستوى البحر بهذا القدر، فلو كسرت الجسور لغرق من بلادهم ٣٨٪ مرتين في اليوم؛ أي عند علو المد.
وتقام تلك الجسور في البحر من الرمل والأتربة ترصف جوانبها بالعشب والخشب، وقد تدك بالحجر، ثم تجفف الأرض من داخلها بمضخات يديرها الهواء، ثم تزرع كتانًا لتخف أملاحها، ثم يزرع بها البطاطس والبنجر والأعشاب للرعي، وقد تتعدد تلك الجسور بعضها أمام بعض، ومنتجات المرعى أهم ما في البلاد من لحوم وألبان؛ ولذلك شهرت بالجبن الفلمنك الأحمر الذي تعقد له أسواق خاصة نرى بها أكاديس الكرات إلى مد البصر.
وكثيرًا ما يتهكم الناس على هولنده فيسمونها «بقال أوروبا»، وأنت ترى القنوات أينما سرت في بلادهم، وبعضها كبير يصلها بالمحيط، والبعض صغير للنقل الداخلي زهيد الأجر، ولمقاومة فيض الأنهار، خصوصًا وأن الطرق البرية عندهم واهنة لا تحتمل ضغطًا كبيرًا؛ ولذلك قلما تسمع في الشوارع ضوضاء النقل، وجلبة العربات، فالبلاد ساكنة الحركة، والقنوات غاصة بالزوارق «الصنادل» يجر بعضها الناس والخيول، وغالبها الآن بالبنزين، وهي تُتخذ مساكن للكثير منهم، حتى قيل: إن من يقطنون الزوارق مائة ألف، ولعل في بطء سير تلك الوسائل مبررًا لما هو معروف عن الهولندي من البطء في كل شيء: في التفكير، وفي العمل، وفي الكلام، بل وفي جميع تصرفاته؛ فهو يختص كل ساعة من زمنه بعمل، لكنه يسير في إنجازه ببطء ممل.
والهولندي سيئ الظن بالغير، شحيح في معاملاته المالية ومساوماته؛ ولذلك كان أبطأ من غيره في المغامرة في المشروعات الاقتصادية، ويؤخذ عليه شيء من قلة الذوق في الحديث؛ فهو صادق صريح لكن لحدِّ الإيلام، رذيلته الواضحة إدمانه على المسكرات. أما نظافة مسكنه فخيالية، رغم إهماله في نظافة هندامه، حتى إنك لتعاف النظر إلى بعض المارة، فإذا ما دخلت منزل أحدهم هالك بريق جوانبه، ولمعان أثاثه، وشدة التأنق في تنسيقه إلى حد المضايقة.
ويروقك هندام القوم العجيب، فالرجال يلبسون شبه «سروال» فضفاض ينتهي عند العرقوبين، وجَمَّازة «جاكتة» محبوكة على الجسم، ومنديلًا معقودًا حول الرقبة، وتتدلى منه ذؤابة على الصدر كالكشافة، أما النساء فيرتدين على الرأس قلنسوة بيضاء ذات جناحين جانبيين مشرفين، وجلابيب محبوكة طويلة تنتفخ من أسفلها، وتلبس عليها «فوطة» ألوانها زاهية، وأحذية الجميع من خشب تحكي مركوب فلاحي مصر، طرفها مقوس إلى أعلى، ويقال: إنها أطول أحذية في العالم.
وأحب وسائل الرياضة لديهم السباحة وقيادة الزوارق، وكذلك ركوب الدراجات التي أضحت مطيتهم المحبوبة في انتقالاتهم حتى بين القرى، ولقد بلغ عدد الدراجات في أمستردام نصف المليون مع أن مجموع سكانها سبعمائة ألف.
وكان يجتذب أنظارنا في بعض الحقول عنايتهم بفلاحة البساتين، وتربية الزهور التي كانت تبدو أمامنا وهي تكسو الأراضي في صفوف متوازية إلى مد البصر، وفي ألوان جذابة كأنها الطنافس الزاهية؛ وذلك يدل على مبلغ غرامهم باقتناء الزهور.
(١٠-٢) لاهاي
قصر السلام Palace of Peace
وهندسته هولندية بحتة، ويبنى بالآجر، وهو من الداخل فاخر الزخرف، فخم البناء إلى حد كبير، تبرع لبنائه الممول الأمريكي «كانيبي» بمليون ونصف مليون ريال، وقد أهدت إليه غالب الدول ما فيه من أثاث، نذكر على سبيل المثال: المدخل الخارجي بأسواره، وقد أهدته ألمانيا، والمدخل الثاني قدمته بلجيكا، والرخام والمرمر المزركش تقدمة من إيطاليا، والمصابيح الفاخرة من النمسا، وبعض الجرار «فاز» من المجر، وزجاج النوافذ الملون كالمساجد من إنجلترا، والصور الزيتية الكبيرة التي تحلى بها الجدران من فرنسا، والفوارة التي تتوسط فناءه من دانماركة، وتمثال قيم للمسيح من أرجنتينا، وآخر للحرية من بعض مقاطعات الولايات المتحدة، والبساط الكبير الذي يملأ حجرة المؤتمر من تركيا، والحرير الذي تبطن به بعض الجدران من اليابان، والمحابر الفضية النفيسة من إسبانيا، وخشب المقاعد والمناضد الثمين من البرازيل، وجرة بها نقوش صينية من الصين، وأخرى مرصعة بالذهب من الروسيا.
وكنت أتوقع أن أرى هدية مصرنا ذات السخاء والكرم، لكن لسوء الحظ لم تقدم شيئًا يعلن عنا بين تلك الأمم المتحضرة. وفي اعتقادي أن هذا ممكن الآن، وفيه معنى جليل؛ إذ يدل على مشاطرتنا العالم المتمدين في حب السلام والعمل على تأييده. حقًّا إنه لقصر تطمئن النفس فيه، وتحس الهدوء والطمأنينة؛ لأنه في معناه ومبناه فأل السلم وبشيره، وقد نقش القوم على أرض المدخل ما معناه «تظل شمس السلام مشرقة علينا».
ثم زرت قصر الملكة، ويتقدمه تمثال فارس يمثل وليم الصامت، ولا بأس بضخامته من الداخل، وأبدع ما به غرفتان: إحداهما هدية من اليابان، وتظهر بها العبقرية اليابانية في التطريز، ودقة خرط العاج والخشب، والأخرى من الصين، وهي لا تقل عن الأولى رواء وإتقانًا، وتكسو قبته الوسطى صور زيتية رائعة للمصور الفلمنكي المبدع «روبنز»، وكلها ترمي إلى معانٍ تاريخية. وهنا لأول مرة ذكرت الفاتكان وإبداع رفائيل وميكلانج، وأعجبني في أحد الميادين نصب تذكاري لهزيمة نابليون سنة ١٨١٣، وإقامة وليم الأول ملكًا على هولنده.
وللعاصمة ضاحية على بحر الشمال بينها غابة كبيرة، والضاحية فاخرة المباني فخمة الأنزال، وتعد خير مصايفها، يمتد رصيفها على البحر خمسة كيلومترات في تنسيق رائع، وعلى مدرجاته الرملية تقوم أكشاك السباحة المزركشة المتشابهة. وهنا تبدو كثبان الرمل التي تحف بشواطئ هولنده على بحر الشمال في وضوح، وفي نهاية الرصيف ميناء صغيرة للصيد، ويقطنها نحو ١٢٠٠ سماك، ولهم مدرسة لدرس السمك وما يتعلق به؛ مما يشعر بأهمية مهنة الصيد عندهم. وسمك هولنده جيد النوع بفضل تمليحه في السفن بمجرد صيده. وفي هذا المكان نصب تذكاري للموقع الذي رسا به وليم من إنجلترا.
(١٠-٣) روتردام
وصلتها بقطار كهربائي في نصف ساعة، وتبدو لأول وهلة قاتمة غير جذابة؛ فمبانيها متراصة شاهقة، وليست على نسق واحد، وقليل منها في هندسة هولندية، والحركة التجارية بها كبيرة، ولقد مررت بتمثال «أرزم»، وهو خير من أنجبته المدينة، وطفت بغالب أرجائها، ثم أخذت زورقًا بخاريًّا وجُبْت نواحي مينائها، فبدت عظمة المدينة التجارية في سفنها المتراصة في غير حصر، وضوضائها التي لا تخبو.
وهي تقع على مصب نهر ماس «الميز» المتسع العميق الذي يُكوِّن القسم الأكبر من الميناء، وعنده تكثر ألسنة البحر تتوسطها بعض الجزائر، والماء داخل الميناء مائج مضطرب من تقابل تيار النهر بماء البحر. أما خارجها فهادئ، ومظهرها يدل حقًّا على أنها أكبر المواني التجارية بهولنده اليوم، وأنها كانت قديمًا أكبر مواني غرب أوروبا قاطبة، ويشقها عدد كبير من القنوات كسائر بلاد هولنده، وفي بعض أحيائها ترى صفًّا مستطيلًا من الأبنية توازيه قناة، ثم يتلوه آخر فقناة وهكذا.
(١١) الدانماركة: بلاد الديمقراطية والتعاون
وهنا جرتنا قاطرة برًّا وسارت في سهول مبسوطة كثيرة النبت والمراعي بأنواعها، تجملها بيوت صغيرة تبنى بالآجر الأحمر الجذاب، وسقفها مثلثة سريعة الانحدار، لكنها مشطورة الجوانب، ثم وصلنا الماء ثانية، وحللنا بالقطار سفينة أخرى نحو ساعة، ثم إلى بر آخر، ومنه على كوبنهاجن. وكانت الجزائر تمتد حولنا في جميع الآفاق، وبفضل تعدد تلك الجزائر كانت دراية القوم بركوب البحر كبيرة حتى إن بواخرهم التي تمخر عباب بحارهم أضحت من الأعاجيب، وبلغت تلك العوامات السابحة بين الجزائر بنظام محكم جدًّا من الإتقان فاق نظائرها في بلاد العالم أجمع. وعددها اليوم يناهز أربعة وعشرين، ويبلغ مجموع ما تنقله من الأحمال مليونًا من الأطنان، وكذلك مليونًا من المسافرين في كل عام.
(١١-١) كوبنهاجن
حاضرة الدانماركة التي تغص بما لا يقل عن ثلاثة أرباع المليون من أهل دانماركة البالغ عديدهم ثلاثة ملايين، ولذلك فإنها جمعت كل مظاهر العظمة في البلاد، وما عداها من المدن قرى لا تذكر إلى جانبها، ولها موقع جميل على الساحل الشرقي لجزيرة زيلند — طفت أرجاءها مشيًا — فبانت لي أعظم أرجائها على امتداد طريق رئيسي يشقها في الوسط، تتوسطه ميادين غير جذابة يعوزها التماثل في هندستها.
والناس هنا يلاحَظ في وجوههم بعض الاختلاف عن الألمان والنمساويين، خصوصًا في شدة حمرتهم، وصفاء زرقة عيونهم، وعرض أنوفهم قليلًا، وهم دون سابقيهم جمالًا وجاذبية، على أنهم مرحون نشيطون نظيفون، وتراهم يستخدمون الدراجات مطية لهم صِبية وشبانًا وشيوخًا، نساءً ورجالًا، وخير ما تتجلى نظافتهم في هندامهم الأنيق ومأكلهم.
ولقد عد طهاتهم أنظف طهاة أوروبا وأمهرهم، وإن لم يرقني غذاؤهم كثيرًا، فكلُّه مسلوق، ويكثر لحم الخنزير، والدانماركيون كثيرو الأكل، فهم يفوقون في ذلك حتى أهل إسكندناوة؛ إذ يتناولون بين أربع وست أكلات ثقيلة في اليوم، ولا تخلو أكلة من طعامهم المغذي المحبوب الذي يسمونه «سمور برود»، ومعناه الخبز الملطخ، وهو مزيج من الخبز والزبد والبيض، وقطع الدجاج والسمك ولحم الضأن، وبعض الخضر، كل ذلك يقدم إليك مختلطًا كالسندوتش.
وفي المطاعم يصدر به الأكل، فيشعر المرء بامتلاء عند تناوله قبل أن تقدم له الأطعمة الرئيسية، وترى بائعيه يتجولون في الطرق بعربات يدوية صغيرة يجهزونه لك على الفور، وكم كان يدهشني وأنا أجلس إلى مائدة الطعام في النُّزل منظر القوم يلتهمون الطعام التهامًا، وبسرعة عجيبة، رغم كثرة الكمية التي تُقدم إليهم من البطاطس المسلوقة واللحوم، والطعام القومي السالف، وأنواع من الحلوى تحكي العجين يمزج باللبن والعسل تعافها النفوس!
ومستوى الثقافة عالٍ بينهم، فهم متعلمون جميعًا، وليس للأمية أثر بينهم، وميلهم للتعاون فطري، وليس لمدارسهم برامج مسطورة، بل يترك أمر تخير المادة للأستاذ الذي يدرس ما يراه صالحًا، والامتحانات العامة تكاد تكون معدومة. وهذا يدل على مبلغ نزاهة أساتذتهم، وكبير ثقة القوم فيهم، ولا يشترط في الأستاذ أن يكون حائزًا لإجازة علمية، بل يكفي أن يكون غزير المادة، حسن النظام، كبير الشخصية، جذاب الحديث. ولعل هذا النظام التعليمي الحر الذي بني على أساس عملي، والذي يرغب فيه النشء للعلم الخالص لا للشهادات والإجازات هو سر نجاحهم التام في شئون الزراعة والرعاية، بحيث أصبحوا قادة العالم وهُداته في هذه الناحية.
والتعليم العالي عندهم قسمان: قسم للتاريخ، ويدرس به تاريخ الأمم الشمالية، والتاريخ العام، وتاريخ الأدب والكنيسة والحضارة، وقسم للبحث الطبيعي، ويشمل الفلك والكيمياء والجيولوجيا والبيولوجيا، والنابهون من علمائهم كثيرون في مختلف العلوم، نذكر من بينهم: تيكوبراهة في الفلك، وأوريستد في التلغراف الكهربائي، ونيلز فنستين في الطب، وبولسين في اللاسلكي، وفيلهم أندرسن في اللغات. وهذا يدل على أن نظام التعليم الحر الذي يعيب عليه البعض تطرفه في الإباحة يؤتي ثماره الطيبة بينهم.
وأظهر المدارس هناك الزراعية، تلك التي بلغت شأوًا بعيدًا من التقدم، وكفاهم فخرًا أنهم أخصبوا موات أرضهم المجدبة الفقيرة بمجهودهم العلمي؛ ولذلك يؤمها الخلق من مختلف بلاد العالم لدرس نظامها الزراعي البديع. وثلث مساحة البلاد مجزأ في أربع وأربعين جزيرة، ونصف سكانها مزارعون، وغالبهم متيسرو الحال، بل وأغنياء، والفضل في تقدمها الزراعي يرجع إلى: نظام الملكية الحكيم، وإلى ثقافة القوم، وإلى ميلهم الفطري للتعاون.
ولقد ظل القانون أمدًا لا يبيح شراء الأرض من مالكها إذا كان فلاحًا، وكذلك فهو يحتم على الفلاح الذي يستأجر أرضًا أن تكون الإجارة مدى حياته، وتكاد تثبت قيمة الإجارة أجيالًا عديدة لا تزيد ولا تنقص، وكثيرًا ما تقرض الحكومة صغار الفلاحين المال إذا ما أرادوا شراء أراضٍ جديدة، وكذلك تضطر كبار المُلاك أن يبيعوا شيئًا من أملاكهم، وبذلك أصبح نحو تسعين في المائة من الأراضي ملكًا لصغار المزارعين، ولا تقف ثروة البلاد على غنى أرضها بقدر ما تقف على جودة العمل والفطنة في الإنتاج.
ولقد كانت البلاد غنية بإنتاج القمح، ولما انحط سعره لكثرة إنتاجه في الخارج عمد غالب الفلاحين إلى الاستعاضة عنه بالمراعي التي لا تتطلب من الجهد والأيدي العاملة ما تتطلبه زراعة الحبوب، واستحالت البلاد من مصدر للغلال إلى مستورِد لها بعد إعفائها من ضرائب الوارد. وفطن القوم إلى قيمة الصناعة فأنشئوا المصانع تحت إشراف الهيئات التعاونية لإعداد اللحوم ومنتجاتها، وأصبحت البلاد تصدر من منتجات المرعى والدواجن أضعاف ما كانت تجنيه من صادراتها الغفل من قبل، فهي تصدر من الزبد المشهور بنحو ١٤ مليون جنيه لإنجلترا وحدها.
وقد أصبحت البلاد غاصة بالمتعاونات التي ينتسب إلى عضويتها جميع الفلاحين، وقد يشترك الفرد في أكثر من عشر جمعيات منها؛ يحضر جلساتها، فيزيد هذا في ثقته بنفسه، ودرايته بعمله، وشعوره بالمسئولية، واستعداده للتضحية، وتمتاز المتعاونات الزراعية هناك بأن أموالها ليست مستمدة من الفلاح، بل من المصارف تحت مسئولية أعضائها. وهذا سر نجاحها العظيم، ولعل ثقافة الفلاح كانت خير معين على ذلك النجاح، وأثرها جليل في تحسين الإنتاج وزيادته، ولقد زاد إنتاج البقرة الواحدة مثلًا من ١١٦ رطلًا من الزبد في العام إلى ٢٢٠، ومن ٥١٠ جالونًا من اللبن إلى ٥٥٤، ويناهز عدد البقر الحلوب عندهم المليون.
وأصبحت الزبدة الدانماركية أجودها في الدنيا، وتقدر بأربعين في المائة من مجموع الصادرات، وشجعت المتعاونات إقامة المصانع ومحطات الكهرباء، وهي الآن تمتلك ٢٥٠ محطة كهربائية كبرى لإنارة القرى وطحن الغلال.
والحكومة تكاد تشرف على كل شيء، وتتدخل في جميع الأعمال، فهي أشبه بأوتوقراطية يسوسها قوم مصلحون، والاشتراكية الفردية سائدة في بلادهم.
ومن الأبنية التي تهول السائح لضخامتها وهندستها الهولندية البحتة «الراتهوس»؛ أي دار الاستشارة، وهو يشرف على أكبر ميادين المدينة، وكلف نحو ستة ملايين من الكرونات به ستمائة حجرة وخمسة طوابق، وعلو برجه ١٠٦ أمتار، به ساعة تدق نغمة موسيقية طويلة مرة كل ربع ساعة، ثم عدد الساعات كلما كملت ساعة، ورنينها يكاد يسمعه كل أهل المدينة وأبهاؤه وردهاته في فخامة ورواء.
قصر كرستيا نزبرج
أحد القصور الملكية الرئيسية، وهو أقدم القصور الملكية، لكنه جدد سنة ١٩٠٦ بعد أن احترق مرات عديدة، ولا تزال أنقاض القصر القديم وبقايا جدرانه تحفظ في أسفل المكان ليزورها الناس كأنها متحف. يقيم الملك فيه الحفلات، ويستقبل الزوار والسفراء. والحق أنه فخم لدرجة كبيرة، فآيات الحفر والنقش بالذهب والفضة وأنواع الرخام والمرمر مختلف ألوانه مما يدهش الناظر، وحجرة العرش مبطنة بالبسط والحرائر من نسيج ليون في لون أحمر رهيب، وجناح منه خاص بالبرلمان، وغُرفه في بساطة.
ولقد رأيته مرارًا وهو يرفع قبعته تحية لأقل الناس مقامًا. هذا ولقد أبطلت دانماركة عادة تتويج الملوك منذ عهد جد الملك الحالي؛ لأن الناس رأوا أن حفلات التتويج مُتكلَّفة، فضلًا عن نفقاتها الباهظة، وللناس كامل الحرية أن يتريضوا في حدائق القصر على مسمع من الملك، والقصور كلها يزورها الجميع في مواقيت معينة. كل ذلك يؤيد ما هو معروف من أن أهل دانماركة هم المثل الأعلى للديمقراطية؛ فالرجل منهم يرفع قبعته احترامًا لأحقر الناس حتى للخادم، وقيمة المرء عندهم بعمله فقط، وفوارق الطبقات معدومة، والمميزات والحقوق الموروثة لا أثر لها عندهم.
وقد خلف ذلك أثره في التسامح الديني عندهم، وفي إباحة الطلاق للجميع على أن يكون ذلك في السر لا في العلن؛ ولذلك كثر الأبناء غير الشرعيين بينهم، والقوم لا يعدون ذلك عيبًا، بل أمرًا طبيعيًّا لا عقاب عليه. وفي خلقهم التسامح العام والمسالمة لا يقع بينهم شجار قط، ولا يتعرض أحدهم بالإهانة للغير، وإن حدث ذلك كان عقاب القانون قاسيًا. وتلك لا شك من آثار البيئة الزراعية، ويتحدث الكثير منهم في نزع السلاح، وتسريح الجيوش، والاستغناء عن الأساطيل، ولا يرون فائدة في بقائها، ويعتقدون أن الوقت قد حان لإنفاذ تلك الرغبة.
ومستوى المعيشة هنا مرتفع لدرجة كبيرة، وقد قابلت أحد الإسرائيليين المصريين هناك، حادثني طويلًا وأفهمني أن المقادير طوحت به أن يشتغل بالشئون التجارية في كوبنهاجن، وهو يشكو مر الشكوى من الغلاء الفاحش؛ لأنه ينفق دخله البالغ أربعين جنيهًا في الشهر، وهو يشعر أنه في ضيق مالي. ويبدو الغلو في أثمان الملابس، فمتوسط ثمن البذلة الواحدة تسعة جنيهات، والحذاء مائة وثمانون قرشًا، ولعل دانماركة أغلى البلاد التي زرتها جميعًا، وتكاد تشبهها في هذا الغلاء بلاد السويد والنرويج، ثم هولنده وألمانيا على عكس دول وسط أوروبا وجنوبها، فتكاليف الحياة فيها أقل بنسبة واضحة.
(١١-٢) إسكندناوة: موطن الغابات والطبيعة الساحرة
لعل أصفى ما يكون الجنس النوردي في تلك البلاد، وهم شعبة من القوط اتخذوا القرصنة عملًا لهم، وركبوا البحر ونزلوا جزائره وأجوانه، ثم استوطنوا بلاد إسكندناوة النائية فلم يمتزجوا بغيرهم كما حدث مع أقربائهم من الإنجليز والألمان والهولنديين والدانماركيين، وهم لا يزالون يمتازون بالشعر الأصفر والعيون الزرق والقوام الشامخ، وهم الذين وصلوا جرنيلد وأمريكا قبل عهد كولب بخمسة قرون، وكانوا معروفين بشدة البأس والوحشية التي استحالت اليوم إلى حب للمخاطرة، ومغالبة لقوى الطبيعة من جبال وثلوج وغابات وسيول.
وكفاهم فخرًا أن أنجبوا أمثال أمندصن ونانسن من كبار الكاشفين. وأهل السويد أغنى من جيرانهم سكان النرويج؛ ولذلك كانوا أميل إلى الأرستقراطية، وبدت فوارق الطبقات بينهم واضحة على عكس النرويجيين المعروفين بحبهم للديمقراطية واحترام النفس، حتى إن الخادم والحوذي ليخاطبك وكأنه من أندادك، ويقطن أطراف إسكندناوة أمم اللابلنديين والفنلنديين. وهم من أصل مغولي طاردهم النورديون إلى الشمال لما أن حلوا تلك البلاد، وهم لا يزالون يحافظون على كثير من مميزاتهم الجنسية؛ كاستدارة الرأس، ونتوء عظام الخد، وانتفاخ العيون وانحرافها، وتفرطح سحنهم.
وهم يحلون بلادًا فقيرة لا عمل لهم فيها إلا صيد السمك وإعداد الفراء، ورعاية قطعان الرنة، على أن الجزء الواقع في السويد غني برواسب الحديد، حتى إنك لترى على مقربة من مدينة جلفارا «شمال السويد» جبالًا من الحديد الخالص في مجموعها، وكذلك في كيرونا، ويصدر منه قدر كبير بفضل الخط الحديدي الذي أنشئ خصيصًا لهذا بين رأس خليج بوثنيا وثغر نارفك شمال غرب النرويج.
والعمل يستمر هناك حتى في ظلام الشتاء على أضواء الكهرباء المتوهجة، وعدد اللاب دون ثمانية آلاف، والفن نحو ثلاثين ألفًا.
قمت من كوبنهاجن قاصدًا ستكهلم، وبعد عبور أحد مضايق البحر البلطي نزلت مالمو من أعمال السويد، وهي مدينة صغيرة لا بأس بتنسيقها، وتعد من الثغور التجارية، ثم أخذت القطار الذي سار بنا في سهول فسيحة لا يزال يُحصَد بها الشوفان والشيلم، وبعض القمح والكتان الذي يكاد ينسجه الجميع بأنوال يدوية في المنازل. أما الغابات فحدِّث عنها، فهي تكاد تملأ كل البقاع وهادًا ونجادًا، وفي كثافة جعلتني أفهم حقًّا أن تلك البلاد منابت الغابات وموارد الأخشاب؛ فالمنازل كلها من الخشب تقام في هندسة أنيقة، وتطلى باللون الأحمر، ومقاطع الخشب ومناشره تملأ الآفاق، وقاطرات السكة الحديدية تمر تباعًا وهي تحمل وسقها من منتجات تلك الغابات.
وفي بلاد السويد وحدها ١١٠٠ مصنع كبير لنشر الخشب، أشهرها يقع على سواحل خليج بوثنيا، وذلك بفضل الغابات التي تغطي نصف مساحة السويد، وبفضل الأنهار السريعة ذات المساقط المائية العديدة، وتلك تعوم فيها أرماث الخشب إلى المساقط؛ حيث تستخدم قوة الماء في إدارة الأرحاء والمناشر، وفي توليد الكهرباء، كل ذلك كنت أشاهده طوال الطريق.
ظل القطار ينهب الأرض في سرعة مخيفة ساعات ناهزت الاثني عشر حتى وصل ستكهلم، وكان الإقليم يغص بالمنافع والبحيرات والغدران التي خلفتها ثلوج العصر الثلجي حين اجتاح البلاد جميعها، وعرى تربتها، وخلف بها تلك القيعان. أما طبيعة الأرض فصخرية نارية قديمة، أظهر صخورها الجرانيت الذي يصدر القوم منه مقادير كبيرة لبلاد الدانماركة ذات التربة الرملية.
وكان يكسو حطام تلك الصخور البقاع الوطيئة، فتصبح خصبة زراعية، ولا تخلو بقعة من الخضرة تزينها الزهور الجميلة؛ مما جعل مناظر الطريق رائعة، والبلاد شاسعة مترامية الأطراف نادرة السكان بحيث لا يعدو مجموعهم ستة ملايين؛ ولذلك كانت مساكنهم مبعثرة غير متجاورة ولا مكتظة. هذا وفي الطرق الحديدية وأنفاقها ومناظرها ولياتها ومسالكها وسط تلك الصخور العاتية دليلٌ على مبلغ المجهود الفني، والقدرة الهندسية التي يبذلها القوم في مغالبة الطبيعة؛ ولذلك ليس بعجيب أن تكون أجور السكة الحديدية عندهم غالية. ولقد أخضعوا كثيرًا من الخطوط لقوة الكهرباء، وهم جادون في كهربة ما بقي منها.
(١١-٣) ستكهلم
ولقد صدق من أسماها بندقية الشمال؛ لأنها أذكرتني بالبندقية عندما رأيت بحيرة مالار وشعابها التي تحكي «جراند كنال في فنسيا»، وكذلك حين وقع نظري على أضخم بناء فيها؛ وهو الراتهوس أو دار الاستشارة ببوائكه وهندسته الغريبة، وهو يرمي ظلاله على مياه البحيرة ببرجه الرباعي الشاهق وكأنه قصر الدوج وسان ماركو في البندقية، على أن كثيرًا من جهاتها يُقام على رُبًى شاهقة قد يستعين المرء على ارتقائها بمصاعد كهربائية أشهرها مصعد كترينا؛ ولذلك ترى طرقاتها تعلو وتهبط، ويسير بعضها تحت بعض، وهي في ذلك تخالف فنسيا.
ويواجه القصر الملكي من الشمال أفخم ميدان بالمدينة وأنشطها حركة؛ فحركة المرور به تبهر العقول بكثرة تشعبها وشدة ضوضائها وجلبتها؛ ولذلك عد قلب المدينة النابض، فمنه تتشعب أهم طرقاتها، ويحسن أن يتخذه السائح بداية لرحلاته في المدينة لكيلا يضل طريقه؛ لأن تعدد الجزائر والشعاب المائية في أرجاء المدينة يجعل تعرف الطرق هناك أمرًا متعذرًا، وبخاصة على السائح الحديث العهد بها، وهنا كانت تخونني الخريطة فألجأ إلى البوليس أحيانًا.
وأجمل ما يسترعي النظر بيوت لابلانده، ونظام معيشتهم الساذج، وأدوات منازلهم التي لا تزال على فطرتها الأولى، كذلك ترى أغلب حيوانات المناطق الجليدية كالدب القطبي الأبيض المفترس، وعجل البحر، وقطعان الرنة، والثعالب، والطيور المائية، وكلب البحر، والسمور. والمتحف فوق ذلك متنزه كثير المقاهي والمطاعم، وتحيط به من الخارج دور الملاهي.
وبجانب القصر دار للتمثيل بناها جستاف الثالث، وقد كان روائيًّا وشاعرًا، وكان كلفًا بالتمثيل وبمشاهدة رواياته وهي تمثل على المسرح. وهذه الدار تعد الوحيدة في العالم التي تَحوي أثاثًا ومسرحًا تام العدد والملابس منذ ذاك العهد، وهي لا تزال تصلح للاستعمال.
وكان القوم قد أعدوا معرضًا كبيرًا دعي إليه الخلق من مختلف بقاع الدنيا لمشاهدة منتجات السويد، راقني من معروضاته طائفتان: معروضات الأخشاب من دور، وأثاث تشهد بما بلغته السويد من الشأن الكبير في هذا المضمار، الذي لا يدانيها فيه غيرها من الدول، فقد عرضوا من الأبنية الخشبية ذات الطابق والطابقين بكامل أثاثها في هندسة متباينة، وأحجام مختلفة ما يحار فيه اللب.
الطائفة الثانية وسائل النقل المختلفة من قاطرات وسيارات كبيرة وصغيرة وبواخر وزوارق في أحجام كبيرة، ولا غرابة فللكهرباء المستمدة من قوة الماء هناك فضل كبير على هذا التقدم الصناعي، خصوصًا في الآلات والسيارات وأدوات الكهرباء والتليفون والتلغراف، على أن المعرض في حجمه وتنسيقه أقل بكثير من معرضنا الذي أقمناه سنة ١٩٣١.
وأذكر أنني في بعض متنزهات المعرض تحدثت إلى سويدي بالإنجليزية في شئون مصر، وأتينا على ذكر معرضنا، وما كان أشد دهشته لما علم أن في مصر كثيرًا من أمثالي، وأن معارضها وحضارتها تحكي أوروبا، وصارحني أنه كان يعتقد أننا قوم همل رعاع، وراعه أن كنت أرتدي صديريًّا من الصوف، وصاح قائلًا: «ماذا عسى أن تفعل إذا جئت إلى هنا شتاء؛ فرأيت الماء جامدًا والقوم يسيرون بمزالقهم فوق البحار والبحيرات، وقد غشَّى الثلج المتساقط الطرق كلها إلى علو قد يفوق المتر.»
(١٢) إلى أزلو
قمت إلى عاصمة النرويج، وكان القطار ينهب الأرض بسرعة خيالية بحيث كانت العربات تترنح وكأنها الأراجيح؛ ولذلك لم أعجب لما أبصرت من النافذة بقطار قد انقلب بعرباته فتهشم وانتثرت شظاياه ذات اليمين وذات الشمال في منظر يهز القلوب. ولما أن دخلنا أراضي النرويج زادت كثافة الغابات، وكثرت مسايل الماء ذات المساقط العديدة، وأرماث الخشب السابحة. وقد أقاموا لها الحواجز الخشبية عند المنحنيات كي تمنع كتل الخشب أن تلتصق بالضفاف.
وبعد ساعات إحدى عشر كاملات دخلنا أزلو — عاصمة النرويج التي أسسها الملك هارالد سنة ١٠٤٦ على ضفاف فيورد أزلو الذي يتلوى نحو الجنوب — ومن خلفها ربوة تشرف عليها. ولقد تخير لها هذا المكان لسهولة نقل غلات جنوب شرق النرويج، أخصب بقاعها، على أن النار قد شبت بالمدينة فيما بعد وأبادت شطرًا كبيرًا منها، فأشار الملك كرستيان الرابع أن تقام على الجانب الآخر من الجون، ذاك الذي تحميه قلعة منيعة من الغارات السويدية، ومن ثم سميت كرستيانيا. وفي ١٩٢٥؛ أي بعد ثلاثة قرون، قرر البرلمان إعادة اسمها القديم أزلو، ومعناه المرج أسفل التل، أو مرج الإله، ويربو عدد سكانها اليوم على ربع المليون.
والمدينة صغيرة ولا بأس بمبانيها ونظافتها، قلبها النابض شارع: كارل جوهان، يمتد في استقامة من المحطة إلى السراي الملكية، وعليه تقع أكبر الأبنية والحوانيت، وأظهر ما به دار البرلمان ودار التمثيل التي يتسع بهوها لنحو ١٥٤٥ نفسًا، ثم الجامعة التي ينتسب إليها ٢٥٠٠ طالب، وينتهي الشارع بربوة يشرف عليها القصر الملكي المتواضع يتقدمه تمثال الملك كارل جوهان، أما باقي المدينة فعادي لا يسترعي النظر.
ومن المتاحف التي زرتها المتحف الأهلي، وبه مجموعة لا بأس بها لمخلفات النورديين القدماء وأدوات أقزام الشمال، ومن بينها المجموعة التي أهداها أمندصن، المستكشف العظيم، وقد جمعها من سكان شمال آسيا في رحلته وهو يحاول كشف الطريق الشمالي الشرقي، وهي تتألف من أحجار وأدوات وعُدد وملابس وخيام وعقود نظمت من الأسنان والعظام.
على أن القوم يبالغون جدًّا في أجور الدخول لتلك المتاحف، ويوزعون المعروضات على قلتها في مبانٍ مختلفة، كي تتعدد الأجور رغم غلوها؛ فهي لا تقل عن كرونر؛ أي نحو ستة قروش لكل مرة؛ لذلك فهي أشبه بتجارة واستغلال، ولعل لفقر البلاد دخلًا في ذلك «الاستغلال». أما الجو هنا فحدث عن رداءته، فهو أبدًا غائم مظلم عاصف مطير، برده قارس حتى في أغسطس، ولم أذكر إلا يومًا واحدًا لم تمطر فيه السماء طوال إقامتي في السويد والنرويج، فكأن الطبيعة بقدر ما منحت القوم من مناظرها الخلابة لم تُنجهم من غضبها الذي لا يفتأ ينغص عليهم بعض هنائهم؛ ولذلك ليس بعجيب أن نراهم أقل منا سكان البحر الأبيض مرحًا وضحكًا، فظلام الطبيعة قد خلف أثره في نفوسهم.
(١٣) إلى برجن
قمت بقطار الصباح والسماء تمطرنا وابلًا قاصدًا ثغر برجن في غرب النرويج، والطريق الحديدي هنا يعد من المعجزات الهندسية؛ فهو يمتد مسافة ٤٩٢كم وسط مسالك وعرة، وجبال قديمة عاتية، فيشق صخورها النارية بمئات الأنفاق، ويجوز وديانًا وقيعانًا، ويجانب ثلاجات وغدرانًا، ويعلو إلى ١٤٠٠ متر فوق سطح البحر.
بدأنا السير في إقليم مغضن كثير الخضرة، كثيف الشجر، وأخذ القطار يسير صعدًا إلى جانب التلال، وكلما علا انكشفت لنا مناظر لوديان جذابة ونقائع فضية، وكنا نمر بقرى صغيرة يتخذها القوم مصايف لهم يقيمون فيها أيام عطلتهم، وهم كل يوم يتسلقون الربى من حولها في أردية متشابهة، وعلى ظهورهم الجعب الكبيرة، وفي أيديهم عصي الجبال.
وفي هذا الإقليم تكثر قطعان الرنة التي قد يبلغ الواحد منها الألف يتقدمها دليل من الغزلان كأنه الكشاف، ويغلب أن يسير الجميع في صفوف من ثلاثة أو أربعة، والدليل يجري إلى ناحية مهب الريح لكي يشتم رائحة عدوه من إنسان أو حيوان، ثم يقود القطيع إلى الطريق المأمون، ورغم ندرة النبت هناك وعلو المكان عن حد الثلج بنحو ١٥٠ قدمًا، قد أحصى القوم من فصائل النبت نحوًا من ١٦٧، وغالبها ذوات زهر جميل مختلف ألوانه.
بعد ذلك يأخذ الخط في الهبوط بسرعة عجيبة، ويبدأ ظهور شجر الصنوبر القصير المعقد، ثم يتزايد عدده ويمتد طوله كلما هوينا، ثم يجانبه شجرُ البتولا ذو السيقان الفضية، وتعود مقاطع الأخشاب ثم منابت الشوفان والشيلم إلى أن نصل برجن وسط فيوردها كثير الشعاب، وفي هذا الخط تتجلى قوى الطبيعة في وضوح، ففي التواء الطبقات وتداخلها بعضها في بعض، بل وانقلابها أحيانًا دليل على مبلغ أثر القوة الباطنة في رفع تلك الأنحاء إبان عصر الجليد، وفي خفضها عندما غرقت وديان غرب أوروبا وخلفت البحار الضحلة والفيوردات العديدة.
وإن في كثرة الطبقات الشستية والصخور النارية التي تبدو طوال الطريق دليلًا على قدم تلك الأصقاع، أضف إلى ذلك ما يحسه المسافر وهو يسير صعدًا من نقص في درجة الحرارة، وزيادة في المطر، وما يشاهده من اختلاف في نوع النبات الذي يتدرج من غلات البلاد الباردة إلى الغابات الصنوبرية إلى الأعشاب القصيرة وثلوج التندرا، يبدو كل ذلك على كلا الجانبين، وفي يوم واحد، وتتوسط هذا الإقليم هضبة «هردنجر فدا» التي وصفها السائح إليوت الإنجليزي، وكان أول من عبرها سنة ١٨٣٠ بأنها قفار جبلية لا يمكن اختراقها. وبعد اثنتي عشرة ساعة ونصف بدت برجن تحوطها الربى من جوانب ثلاثة.
(١٤) برجن
أقيمت سنة ١٠٧٠ على لسان من الأرض مختنق نحيل، ثم أخذت في التضخم حتى أضحت أكبر بلاد النرويج، وارتبطت مع دول عدة بعلاقات تجارية وثيقة أصبحت بفضلها أكبر الأسواق الشمالية للأسماك، وظلت أمدًا عاصمة النرويج، وفيها تُوِّج أول ملوك تلك البلاد، وفي خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر أخذت التجارة تتحول إلى أيدي الألمان الذين فتحوا لهم مكتبًا تجاريًّا بها، وزاد نفوذهم حتى احتكروا جميع تجارتها، خصوصًا تحت نظام الاتحاد الهنسي الذي أسس لحماية التجارة من لصوص البحر، وامتد نفوذه حتى شمل البحرين الشمالي والبلطي. وقد تملك الجانب الأيسر كله من الميناء.
ولا تزال مباني هذا الحي بشكلها القديم، وهي أجمل ما يسترعي نظر السائح بهندستها الغريبة، ولبثوا كذلك قرنين كاملين حتى انفصلت النرويج عن دانماركة، واستعاد النرويجيون مركزهم تدريجًا، وفي سنة ١٧٦٣ ابتاعوا آخر دار هنسية ألمانية وأجهزوا عليها، وظلت برجن أول مدن النرويج إلى القرن التاسع عشر حين بزتها أزلو. وقد شبت بها النيران مراتٍ أبادت من بيوتها الخشبية شيئًا كثيرًا، وقد ساعد هذا على تجديد بنائها في نظام هو خير من سالفه، على أنها لا تزال تحتفظ بكثير من بيوتها القديمة، وهي تشبه روما في أنها تحاط بسبعة تلال زادت منظر مرفئها الجميل بهاء وروعة، ويقطنها اليوم ٩٧ ألفًا.
جُبت أرجاء المدينة، وأوغلت خاصة في أحيائها القديمة البحتة، فإذا بها طرقات مختنقة، وأزقة متلوية منحدرة، منازلها من خشب، وأرضها قد رصفت بالحجر الصغير، وتقوم كثير من البيوت فوق الماء الذي قد يوغل فيها بألسن عدة. والمدينة يعوزها كثير من النظافة، أهلها فقراء كما يبدو من ملابسهم الرثة وكثرة أبناء السبيل والعاطلين من أولادهم.
زرت المتحف الهنسي، واسمه أكبر منه، فهو كوخ خشبي من طابقين تعرض به أدوات عتيقة من خشب وكراسات وأقلام لبعض رؤساء التحالف الهنسي، وأمكنة نومهم تحكي صناديق الخشب، يدخلها الواحد ويحكم قفلها، وهي في شكلها الحقير تمثل مساكن التجار في ذاك العصر.
ومن أجمل ما يسترعي نظر السائح سوق السمك الذي يعقد يوميًّا في الصباح، في ميدان فسيح على الميناء، يعرض به مختلف السمك على ألواح بمنظر قذر منفر، والروائح الكريهة تتصاعد، وتسيل الدماء والأوساخ على الأرض بشكل تعافه الأعين، والقوم من حوله يتزاحمون، ولا تخبو ضوضاؤهم، وغالبهم في ثياب خلقة رثة.
ولعل برجن أسوأ بلاد إسكندناوة جوًّا، فسماؤها أبدًا غاضبة تسح جفونها مدرارًا، وهواؤها بارد عنيف، أما أهل المدينة فمقشورو الوجوه، زرق العيون، ضخام الأجسام، يكثر العمالقة بينهم، وتلك المميزات فيهم أظهر منها في زملائهم من أهل السويد، وهم ميالون للمسكرات، يؤيد ذلك كثرة السكارى الذين يجوبون الطرق ليلًا.
ولقد كانت عادة الإدمان منتشرة في إسكندناوة عمومًا بدرجة خطيرة؛ ولذلك لجأت الحكومة إلى تحديد بيع الخمر بواسطة شركات خاصة قليلة العدد، حددت لها نسبة ضئيلة من الأرباح، وما زاد يدخل خزانة الدولة، ومن ثم قلت تجارتها جدًّا، وزهد القوم في بيعها، ونقص عدد المدمنين كثيرًا. ويسترعي النظر هناك كثرة الصبية الذين يتسكعون في الطرق ويجمعون أعقاب السجاير ويدخنونها، وذلك أثر من آثار فقر بيئتهم، وضعف رقابة الآباء عليهم لغيابهم وراء الصيد طويلًا.
أعددت عدتي للسفر إلى أيسلنده، ثم عدت إلى برجن ثانية، ومنها إلى أزلو، وقمت مبكرًا إلى جوتنبرج، وكانت تبدو النجاد تجللها الغابات، والوهاد تكسوها الخضرة وتزينها الجداول والنقائع، وما كدنا نبلغ نصف الطريق حتى انفسحت السهول المنزرعة، وغابت عنا الجبال، فكان المنظر شبيهًا بمناظر حقول مصر المحبوبة، وأخيرًا دخلنا جوتنبرج بعد سبع ساعات ونصف.
(١٥) جوتنبرج
أسسها جستاف أدلف، أسد الشمال وحامي البروتستانتية، وما فتئت تمتد وتتضخم حتى أصبحت اليوم ثانية مدن السويد، سكانها يناهزون ربع المليون، وهي تعدل أحسن مدن أوروبا وأرقاها نظامًا وتنسيقًا. يسترعي النظر بها نظافتها التامة، وكثرة متنزهاتها، وضخامة أبنيتها، وامتداد مرفئها الذي يغص بالسفن الضخمة، ويموج بالحركة التجارية، والمرفأ لسان من البحر في غير استقامة تنسلخ عنه شعاب ضيقة في شكل قنوات يشق أنحاء المدينة، وأظهرها اثنتان دائريتان إحداهما داخل الأخرى تعبرها القناطر العديدة، وتشقها زوارق الرياضة في غير حصر.
وبالمدينة عدة ميادين تتوسطها التماثيل التي أظهرها تمثال جستاف أدلف منشئها، ومن مبانيها الفخمة دار البريد والمتحف الملكي، وبه أحسن مجموعة من الفن النوردي بفرعيه الحفر والتصوير. وفي الجزء الشمالي من المدينة تبدأ قناة جوتا المشهورة التي تصل بين أكبر مدينتين في السويد: ستكهلم وجوتنبرج، طولها ٣٤٧ ميلًا، ثلثاها يتألف من بحيرات وأنهار طبيعية، والثلث من عمل الإنسان. ومجموع الأهوسة التي أقيمت بها ٩٥، بفضلها ترفع السفن إلى علو ٩١٫٥ مترًا فوق سطح البحر. أما المناظر على ضفافها فسحرية تأخذ بالألباب؛ إذ تراها تحيطها الربى، تكسوها الغابات، ومجرى القناة بين ذلك ينقبض تارة وينفرج أخرى، وهو يتمايل بحيث تكاد الأشجار تلمس السفن في بعض البقاع.
وحول المحطة أقيمت مجموعة مصانع كبيرة غالبها لصنع الآلات وصهر الحديد الغفل، وعندها أكبر مصانع العالم لاستخراج السلولوز «خشبين للنسيج» من الخشب، وتتعدد هناك القناطر التي تشرف على المساقط المائية الجميلة. والفرع الخاص بالملاحة قد أخلي من منحدراته وزُوِّد بأربعة أهوسة كبيرة جعلته صالحًا لمرور السفن التي يبلغ عددها في السنة خمسة آلاف. هذا ومجموع المياه التي تتسرب من تلك الأهوسة نحو ١١٠ ألف لتر في الثانية. وقد نسق القوم متنزهات بديعة حول هذا المكان، وأقاموا أنزالًا عدة تجعل المقام هنا أمنية كل سائح يود الاستمتاع الكامل والهدوء العميم.
(١٦) أيسلنده: بلاد الجليد والنار
وسرعان ما أخذت السفينة تترنح، وظلت شدة الموج في اطراد إلى صباح السبت حين بدت جزائر فارو البركانية في صخور شاهقة جرداء تكسو بقعًا منها خضرة لا يكاد يستقيم لها عود، وهي في مجموعها سبع عشرة جزيرة يقطنها عشرون ألفًا، ومعنى كلمة فارو «الأغنام» في لغة القوم؛ ذلك لأنها أغنى جزائر المنطقة بالمرعى.
وفي الساعة الثامنة من مساء الأحد ألقت الباخرة مراسيها في جزائر «فستمانوي»، على مقربة من ساحل أيسلنده الجنوبي، ويقطنها نحو ٣٥٠٠ من الناس، وهي أكثر صخرية وجدبًا من سالفتها. يعشش في أجحارها طير الماء بكثرة غريبة، وتسبح أسرابه فوق الماء زرافات، وفي مواسم معينة يصطاده القوم لينتزعوا عنه ريشه الثمين، ثم يجمعون البيض من أوكاره. وتلك تجارة رابحة لديهم.
جدت الباخرة في السير إزاء الشاطئ الجنوبي لأيسلنده، وكان يبدو في سلسلة صخرية وطيئة تشرف من ورائها أكبر ثلاجات أوروبا «فتناجكول» في بريق وضاء، وبعد عشر ساعات دخلنا فيورد ركيافك بين رُبًى شاهقة، تقام المدينة الهادئة على جوانبها الداخلية، وكان الجو دافئًا مشمسًا جميلًا أذكرني بأيام الشتاء الدافئة بمصر على غير ما كنت أتوقع أن ألاقي في مثل تلك البلاد القاصية.
(١٦-١) ركيافك
عاصمة أيسلنده، واسمها مشتق من كلمتين معناهما الجون ذو الأبخرة؛ ذلك لكثرة الفوارات التي تصعد البخار من حولها، والتي استرعت أنظار أول نزلائها فأطلق عليها هذا الاسم. والمدينة صغيرة هادئة تُئوي من السكان عشرين ألفًا، وهم خُمس سكان الجزيرة كلها. بها طريقان رئيسيان في امتداد المدينة وبمحاذاة الشاطئ، وتقام بها أكبر بيوت السكنى ودور الحكومة والمحال التجارية. أما الطرق الباقية فضيقة غير مرصوفة تعلو وتهبط بين مكان وآخر.
والمدينة على وجه العموم نظيفة خفيفة الروح يمكن للإنسان أن يجوب كل أرجائها في أقل من نصف يوم، وذلك ما فعلته أول يوم حللتها، وليس بها من الميادين والمتنزهات إلا شيء لا يستحق الذكر، وغالب أبنيتها من الحديد المُجزَّع يكسوه الخشب من الداخل. ومن الغريب أن مواد البناء تستورد كلها من الخارج، ولا يستخدم الصخر إلا قليلًا رغم كثرته في البلاد، ولعل سبب ذلك شدة صلابة صخورها البركانية ورداءة طرق المواصلات وغلوها.
راقني من دورها العامة: متحف الفن الجميل، وبه مجموعة قيمة للمثال والمصور الأيسلندي المبدع «أينار جونسون»، الذي صمم بناء المتحف بنفسه، وأقامته له الحكومة، وبه يعرض منتجاته الفنية. وخير ما تتجلى عبقريته في مبتكراته الطريفة الفكرة، فكل قطعة تمثل عدة معانٍ رغم صغرها، وهي في أسلوب لم يسبقه إليه غيره، وهو لا يفسر معنى القطع إلا بكلمة واحدة فقط؛ كأن يكتب تحتها: «البعث أو العدل أو التطور»، ويدع للناس حرية تفسير ما ترمي إليه. والإنسان لمجرد النظر يستبين مغزاها في جلاء تام. والمثال لا يزال يقطن جانبًا من المتحف، وتمهره الحكومة راتبًا شهريًّا. هذا وقد سرَّ القوم أن أدون اسمي في سجل الزائرين كأول مصري حل تلك البلاد.
بعد ذلك قصدت دار المتحف الأهلي، وبه مجموعة قليلة من آثار قديمة لمختلف البلاد ومن بينها مصر، واسترعى نظري هناك لوحة كتب عليها بالعربية: الجاهل عدوكم ولو كان صديقًا، وتحتها حديثان شريفان؛ وهما: اطلب العلم من المهد إلى اللحد، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت، وتحتها إمضاء السعيد المصري تلميذ البكري. وكان تزاحم القوم حول تلك القطعة كبيرًا، فكانت هذه فرصة لي أن أشرحها لمن كان يفهم الإنجليزية منهم، وأحدثهم قليلًا عن مصر. ولعل أكثر المعروضات قيمة في نظري القسم الخاص بالأدوات المنزلية الخشبية من صنع النورديين الأقدمين.
وقد كان استعمارها على يد بعض النرويجيين الذين خرجوا على حكم «هارالد» بعد أن نصب نفسه ملكًا على النرويج، رغم إرادة الكثيرين سنة ٨٧٤، وكثير من أولئك المهاجرين فر إلى الجزائر البريطانية، ومنها إلى أيسلنده؛ ولذلك حملوا في عروقهم بعض دم الكلتيين، ولا تزال لغتهم تبدو خليطًا من النرويجية والإنجليزية، وهي عين اللغة التي كانوا يتكلمونها منذ ألف سنة، وكانت إذ ذاك لغة إسكندناوة.
ومنذ سنة ١٩١٨ أصبحت البلاد ملكية دستورية ذات سيادة يرأس حكومتها ملك دانماركة، ودستورها الحالي سُطِّر سنة ١٩٢٠، والوزراء يعينهم ملك دانماركة، لكنهم مسئولون أمام البرلمان، وهم ثلاثة: الرئيس، وهو وزير الحقانية والكنيسة — وهي على مذهب لوثر — ووزير الصناعة والتجارة، ووزير المالية. وأيسلنده دولة محايدة لا جيش لها ولا أسطول، والتعليم فيها إجباري بين العاشرة والرابعة عشرة، وبها جامعة ينتسب إليها مائة وعشرون طالبًا.
أما السكان فهادِئوا الطباع لا يحملون لبعضهم ضغنًا، ينظر الفرد إلى غيره نظرة الزميل المساوي له، رغم ما قد يبدو من ملابسه الرثة وهندامه الوضيع، فترى الرث إلى جانب المتأنق جالسين إلى منضدة واحدة في المقهى، وسحنهم وإن شابهت سكان إسكندناوة إلا أن بها مميزات خاصة؛ كالحمرة الشديدة، والانتفاخ الواضح في العيون مع أهداب يشوبها البياض، مما يقربهم لسكان شمال إسكندناوة وجرينلندة.
أما قاماتهم فكجيرانهم طويلة، وقد كنت أظن أني سأجد بينهم كثيرًا من الأقزام، فإذا بي أنا أبدو قزمًا بينهم، يؤيد ذلك أنني أثناء جولتي في أطراف المدينة الساعة العاشرة مساء التف بي جمع من الصبية وهم يحدقون في وجهي، ثم أخذوا يصيحون جميعًا وهم يشيرون إليَّ «أسكيمو أسكيمو» حتى غبت عن أنظارهم.
وملابس النساء غريبة تسترعي النظر؛ فهن يرسلن شعورهن في خصائل تجدل وراءهن، ويلبسن على الرأس شبه «قلنسوة» سوداء تغطي ناصية الرأس فقط، ولها ذؤابات مدلاة كالشعر المستعار إلى جانب جدائل الشعر الذي لا يقصصنه بل يرسلنه، وعلى أكتافهن تحمل الشيلان الثقيلة السوداء، ويتزرن بملاءات مزركشة زاهية اللون من الخصر إلى القدم. أما رداء الصدر فمن القطيفة الثقيلة الموشاة بالنسيج الذهبي في شيء من الإسراف.
والحكومة تحرم الخمر عدا الجعة المخففة، ويظهر أن القوم كانوا مدمنين من قبل؛ ولذلك لا تزال ترى الناس يُخبِّئون زجاجات الخمر في جيوبهم، ويدخلون المقاهي ويطلبون زجاجة الجعة، ثم يختلسون فترات يملؤون أكوابهم فيها من جيوبهم، متظاهرين أنهم يشربون الجعة فحسب، وأنت تلاحظ هذا في كل مقهى تختلف إليه.
بعد أن أحطت علمًا بالمدينة وما فيها أخذت أقوم برحلات خارجها، وفي هذه تجلت المميزات الطبيعية التي خصت بها أيسلنده. وأجلُّ تلك الرحلات رحلة جلفس وبركان هكلا على بعد مائتي كيلو متر من ركيافك، قطعناها بالسيارة، وما كدنا نخرج من المدينة حتى انفسحت أمامنا متسعات من الأراضي البركانية يكسوها البازلت والصخر البركاني المثقب وهي تعلو وتهبط، ويكسوها في المنخفضات فتات البازلت الذي ينمو به قصير العشب ومن بينه طحلب أيسلنده المشهور في تغذية الأغنام، وفي تركيب بعض الأدوية، وبخاصة الحبوب لشفاء السعال.
وصلنا شلال «جلفس» بعد أن عبرنا عدة مسايل مائية. وهذا الشلال يعد من أكبر شلالات أوروبا وأجملها، غور مسقطه خمسة عشر مترًا، وذروته تبدو في شكل منحدرات سريعة غير منتظمة يرغي عندها الماء في منظر جميل، ثم يهوي إلى أسفله في شكل قوس تتوسطه صخرة تبرز فوق الماء كأنها الجزيرة.
بدأت العودة إلى ركيافك في طرق متلوية وعرة كانت سببًا في انفجار إحدى عجلات السيارة التي لبثنا نصلحها ساعة كاملة وسط المطر الهاطل والبرد الزمهرير، وما كدنا نسير قليلًا حتى وقفت إحدى البطاريات عن العمل ولم تستطع السيارة ارتقاء بعض الطرق الصاعدة ذات الليات والمطاوي العجيبة، فلجأنا إلى نزل صغير في الطريق — وأمثال هذه كثيرة هناك — وطلبنا سيارة أخرى بالتليفون وصلتنا بعد ساعتين، وفي الساعة الحادية عشر مساء كنا على أبواب ركيافك، وكان ضوء النهار واضحًا بحيث تسهل القراءة فيه؛ لأن الظلام هنا نادر بين يونيه وأغسطس حين يظل الضوء بعد الغروب إلى أن يتصل بضوء الفجر صباحًا. وقد كنت أكتب مذكراتي هذه الساعة العاشرة مساء ولما تغرب الشمس، بل كان شعاعها الذهبي يكسو أعالي المنازل.
وكثيرًا ما يضايق هذا الضوء المتواصل السائحين ويقلق راحتهم في النوم. أما الأهلون فقد اعتادوه، على أنك لا تنسى أنهم إبان الشتاء، وبخاصة في ديسمبر ويناير يدفعون ثمن هذا غاليًا حين لا يرون ضوء الشمس إلا ساعة أو ساعتين، وضوء الشفق إلا ثلاث ساعات أو أربع، فكأنهم يلبثون أيامهم هذه في ظلام دامس يزيده ضغثًا ما يصحبه من برد زمهرير.
(١٦-٢) رحلة ثنجفلر
وهو المكان الأثري التالد الذي كان يعقد فيه برلمان أيسلنده، أقدم برلمانات العالم. أما الطريق إليه فغاصٌّ بالفوارات ذات الأبخرة المتصاعدة، وبمسايل المياه ذات الجنادل والشلالات والخوانق، وبسهول اللافا البركانية التي تنبسط إلى مد البصر، والمكان نفسه شعري في تكوينه، ترى به كتل اللافا ومدرجاتها تتشعب في نواحٍ عدة تشقها الخوانق بعيدة الغور، دافقة الماء، ذات الجنادل والشلالات الرهيبة، والوهاد والنجاد تتعدد من حوله فتكسبه تنويعًا يذهب بالملل.
وبعد أن تصادق الأغلبية على ما سمعت ينصرف الناس. ويثابر الأعضاء على اجتماعاتهم هناك، وتحضير مشروعات القوانين للسنة المقبلة. وهنا أقيم مهرجان العيد البرلماني بمناسبة مرور ألف عام على هذا النظام التشريعي الديمقراطي، وحضره خلق كثير من جميع بلاد العالم — بلغ عددهم يوم افتتاح الحفل ستة وثلاثين ألفًا — من بينهم كثير من الأمراء والوزراء. وكان غالب السائحين يأوون إلى مجموعة الأنزال والبيوت الخشبية الصغيرة التي أقيمت هناك، بحيث كان يخيل للإنسان أنها مدينة ثابتة تموج بجماهير السكان.
أتممت تطوافي في نواحي المدينة بشيء من التنقيب، فراقتني بها بحيرة ضحلة ترصف جوانبها، ويتخذها القوم مسبحًا في الصيف، وإذا ما حل الشتاء جمد ماؤها فأضحت ملعبهم المحبوب يمرحون فوقها بمزالقهم. والانزلاق فوق الجليد خير ألعابهم الشتوية التي تنشط جسومهم وتدفئها، وقد أقاموا حولها مخازن للثلوج التي تنفعهم في إعداد السمك، والتي يكسرونها من البحيرة. وعجيب أن يستوردوا الثلج أحيانًا من إنجلترا.
ولما أن قاربت شاطئ البحر رأيت القوم نساء ورجالًا وصبية يعدون محصولهم من الأسماك، فبعضهم ينشره للتجفيف، والبعض ينظفه ويعده للتمليح، والبعض يجمعه في كومات كأنها التلال تغطى بالأقمشة الثقيلة ثم تعبأ بعدُ في الصناديق. ومهنة الصيد وإعداد السمك على اختلاف أنواعه هي المورد الرئيسي للبلاد؛ ولذلك تجد أغنياءهم ومتوسطي الحال منهم يمتلكون زوارق ويستأجرون الفقراء ليخرجوا بها للصيد لحسابهم في مواسم معينة، بعضهم إلى فيوردات شمال أيسلنده وغربها، والبعض إلى بحار جرينلندة التي تبعد عن بلادهم بمائتي ميل فقط.
وقد رأيت طفلًا وفي جعبته نحو العشرين سمكة يزيد طول الواحدة على قدم، وهو ما زال يثابر على صيده ولم يعدُ العاشرة من عمره. وطبيعي أن يصبح السمك أشهى طعام لديهم يُطهَى على أشكال منوعة، وأينما حللت قدِّم إليك، ويغلب أن يكون مسلوقًا، وإلى جانبه إناء من الزبد السائل، وآخر من البطاطس المسلوقة، وقد كان هذا من سوء حظي؛ لأنني أعاف السمك على وجه العموم.
أدى بي السير في الأطراف القاصية من المدينة إلى الفوارات التي يستخدم القوم ماءها الحار في غسل ملابسهم، وقد أقيمت حول العيون التي لا تحصى شباك الحديد كي تقي الغاسلات أن يهوين إليها. والبخار يتصاعد من جميع جوانبها إلى عنان السماء، وتسمى تلك الجهة في عرفهم «لوجارنار»، ولكثرة ما يصعد من بخارها بدأ القوم يعدون الأنابيب الضخمة لنقل البخار إلى المدينة، واستخدامه في تدفئة المساكن. وقد بلغ من استفادة بعض السكان من تلك الحرارة أنهم يطهون لحمهم وينضجون خبزهم بواسطتها؛ كأن يوضع اللحم أو العجين في إناء، ثم يدفن أسفله في الأرض، فلا تلبث الحرارة أن تؤتي أثرها فيه وتنال منه كثيرًا.
وعجيب أن يطلق على تلك الجزيرة اسم أيسلنده أو أرض الجليد، ولقد كان من نكد الطالع — كما خبرني أحد أبنائها — أن حملت هذا الاسم الذي يناقض الواقع، وينفر السائحين أن يختلفوا إليها. وتلك التسمية ترجع إلى سنة ٨٦٥ حين حلها أول أبناء الجنس الأبيض المسمى «فلوكي فلجردارسون» من النرويجيين، نزل فيورد «برايدا» في الشمال الغربي من الجزيرة، ثم تخطاه شمالًا فانكشفت أمامه أجوان تغص بالجليد ذهبت قطعانه ضحية بردها القارس؛ لذلك وصم الجزيرة كلها بهذا الاسم المنفر، رغم أنها أصبحت فيما بعد مقره ووطنه.
إلى ذلك يضاف جمال الألوان السماوية عند مغرب الشمس ومشرقها، فما تكاد تتعاقب الألوان البديعة عند الغروب خلال ساعة أو ساعتين حتى يرى الأفق الشرقي وقد بزغ نوره في ألوان جديدة وضاءة تغاير سابقتها، بحيث لا يستطيع المرء أن يميز الفارق بين الصباح والمساء. أما المناظر الطبيعية الشائقة الرهيبة، ففي مقدمتها ميادين اللافا والسدود البركانية، التي تدل على مبلغ أثر برودة الجو ومفاجأتها للحمم المتوهجة عندما كانت تلفظها شقوقها وبراكينها التي تبلغ المائة عدًّا.
ومن ثلاجات أيسلنده ما يذوب جليده فيملأ الأودية، ويطرد ماؤه ألسنة الجليد إلى أعلى بقوة قد تكسر كتلًا منه تهوي إلى الوهاد المجاورة، وتلحق بها أضرارًا جسامًا.
وبالجزيرة كثير من العيون الكبريتية أشهرها يقع إلى جنوب ركيافك، وفي شمال الجزيرة وفي بعضها يصعد الكبريت ثم يتدفق في الشقوق المجاورة فيعلوها البخار الكثيف، ويكسو المنطقة بصبغة منوعة الألوان، وإلى جانبها ترى عيونًا تقذف بالأوحال الحارة، وكل أولئك له علاقة بالبراكين القريبة؛ إذ لوحظ أنها تزيد نشاطًا عندما تهدأ الحركات البركانية، وتهدأ إذا نشطت تلك البراكين. وهذا يشبه تمامًا ما رأيته في عيون سلفتارا الكبريتية شمال نابلي بإيطاليا؛ فهي تنشط إذا هدأ فيزوف والعكس بالعكس.
تلك بعض المميزات التي خصتها بها الطبيعة رغم صغرها، وكأنها قد أشفقت على أهلها في موطنهم النائي الذي يمس الدائرة القطبية، فسخرت لهم جانبًا من تيار الخليج الدافئ الذي يضرب في سواحلها الجنوبية والغربية؛ فيقيها شر طغيان الثلوج عليها من البحار القطبية؛ ولذلك أمنت مياه ثغورها الجنوبية والغربية من التجمد حتى في أقسى أيام الشتاء.
ويرى الكثيرون أن أيسلنده مصحة صيفية — وبخاصة في يوليه وأغسطس — لأن هواءها رائق قليل الأوساخ؛ بفضل ندرة سكانها، وإقفارها من الشجر، وانتظام هبوب الرياح العكسية التي تجدد لها هواءها، ولطول أمد ضوء الشمس صيفًا، ذاك الضوء الذي يظل في المتوسط عشرين ساعة كل يوم ويطهرها من الأدران والأوبئة. إلى ذلك تضاف بعض المركبات المعدنية المفيدة التي تصعدها فواراتها العديدة وأوزون البحر الذي تأتي به أنسمتها البليلة.
أقلعت بنا الباخرة ليرا عائدة إلى برجن، وما كادت تخرج إلى عرض المحيط حتى أخذت تتمايل، واشتد من حولها الموج، وعاودني وكثير من المسافرين مرض البحر، فلزمت مرقدي حتى رست على جزائر فستمانوي في صباح اليوم التالي، وظلت راسية ست ساعات تحمل وسقها من الأسماك.
وقد جبت أرجاء الجزيرة ذات الصخور المشرفة والبراكين الخامدة التي تسلقنا أحدها بعد جهد كبير، ثم عدنا إلى الباخرة واستأنفت سيرها، وألقت مراسيها في جزائر فارو ساعة واحدة، ثم برحتها، وكان البحر هائجًا يكاد موجه يخلع الأفئدة، ويهد قلب الشجاع، بلغ من شدته أن كان بعض رفاقي على سطح الباخرة فعَلَتْ موجة سطح السفينة وغسلتها، ودفعت بصاحبي ومن معه إلى الجانب الآخر منها، وصدمته صدمة ألقت بنظارته إلى اليم، وكادت تودي بحياته.
والحق أن عظمة البحر المائج وروعته لتثير في الإنسان مشاعر سامية، حين تتجلى القدرة الإلهية، ويتضاءل جبروت الإنسان أمامها، وتعوزه الحيلة رغم ما أوتي من ذكاء وفطنة. ينظر من حوله فلا يرى إلا الماء الغاضب يمتد إلى الآفاق، وقبة السماء تنطبق عليه، والسفينة بينهما لا حول لها ولا قوة تحت رحمة المقادير تأتي بها ما تشاء. موقف يزيد إيمان المرء، ويوثق اعتقاده في الله جل وعز.
لبثت طوال أيام العودة ملازمًا الفراش لم أتذوق خلالها طعامًا ولا شرابًا، فكانت أيامًا مريرة عليَّ، وما كادت شواطئ النرويج تبدو على بُعد حتى عاودتني الحياة. وهنا ذكرت موقف كولمبس ورجاله، وأحسست بما شعروا به حين أن كاد يُيْئِسهم غياب البر عنهم أمدًا طويلًا.
أخيرًا دخلنا فيورد برجن ولبثنا نسير فيه ثلاث ساعات. وقد غيرنا زمن ساعاتنا في تلك الرحلة مرتين؛ الأولى: عند الوصول إلى جزائر فارو، حين كان زمنهم يتقدمنا بساعة كاملة زدناها نحن في ساعاتنا، والثانية: عندما وصلنا برجن. هذا في الإياب، وقد فعلنا عكس ذلك في الذهاب.
إلى هنا أختتم كلمتي راجيًا أن أكون قد وُفِّقْتُ فيما قصدت إليه من إعطاء حضرات القراء فكرة صادقة عن أوروبا: فضائلها ومثالبها؛ لعل لنا فيها أسوة وعبرة. والله ولي التوفيق.