أسلوب الرجل الأبيض
قلت، وأنا أدخل إلى كوخ إيبيتس العجوز: «كل ما أريده أن أطهو طعامي على نارِكما، وأبِيتُ ليلتي تحت سقفكما»، وكان إيبيتس ينظر إليَّ بعينَين غائمتَين ووجه خالٍ من التعبير، بينما الْتفتَت إليَّ زيلا بوجهٍ متجهم وهمهمة مزدرية. كانت زيلا زوجة إيبيتس، ولم يكن هناك أحدٌ يقطن في يوكون ألذع منها لسانًا، ولا أصعب منها إرضاءً. ولم أكن أنا لأتوقف عندهما لو كانت كلابي أقل تعبًا أو كانت بقية القرية مأهولة. لكن كان هذا الكوخ وحده هو ما وجدتُه مأهولًا، ومن ثَم كنت مضطرًّا إلى أن آوي إليه.
بين الحين والحين كان العجوز إيبيتس يحاول تصفية ذهنه المشتَّت، وكان بريق الذكاء يلمع أحيانًا في عينَيه، ويغيب أحيانًا عنهما. وعلى سبيل حسن الضيافة، استفسر عدة مرات في أثناء تحضيري لطعامي عن صحتي، وحالة كلابي وعددهم، والمسافة التي قطعتها اليوم. وفي كل مرة كان وجه زيلا يزداد تجهُّمًا وهمهماتها تزداد ازدراءً.
لكني أقرُّ بأنه لم يكن هناك من شيء يدعو إلى الابتهاج من جانبهما. إذ كانا كلاهما جاثمَين بالقرب من النار، في أواخر حياتهما، كانا طاعنَين في السن وذاويَين وعاجزَين، عصف الروماتيزم بهما، وقرصهما الجوع، وعذَّبَتهما رائحة قلْي اللحم الوفير معي. أخذا يهتزَّان إلى الأمام والخلف بطريقة بطيئة وبائسة، وكان إيبيتس يطلق تأوُّهًا خفيضًا بانتظامٍ كل خمس دقائق. لم يكن تأوُّهه من الألم بقدر ما كان من تعَبه من الشعور بالألم. كان يرزح تحت ثِقل هذه الحياة، لكنه يرزح أيضًا تحت ثِقل الخوف من الموت. كانت محنته تلك هي محنة العجزة الأبدية، هؤلاء الذين فارقَتهم متعة الحياة، ولم تصِل إليهم الرغبة في الموت.
حين نشَّ اللحمُ في المقلاة، لاحظتُ أن أنف العجوز إيبيتس يرتجف وينتفخ وهو يشمُّ رائحة الطعام. توقف الرجل عن الاهتزاز إلى الأمام والخلف بعض الوقت ونسي أن يتأوَّه، فيما لاحت على وجهه نظرة تنمُّ عن الفطنة.
أما زيلا فأخذت تهتزُّ بشدة أكبر، وللمرة الأولى عبَّرَت عما بها من ألمٍ في عواء قصير وحاد. رأيت أن سلوكهما كان أشبه بسلوك الكلاب الجائعة، وما كنت لأتعجَّب لو نما لزيلا ذيلٌ وضربت به على الأرض كما تفعل الكلاب. سال لُعاب إيبيتس قليلًا، وكثيرًا ما توقف عن التأرجح ليميل نحو الأمام، ويمد أنفه المرتجف قريبًا من مصدر إثارة حاسة التذوق لديه.
وحين مرَّرتُ إلى كلٍّ منهما طبقًا من اللحم المقلي، تناولاه بشراهة ونهَم، فعَلَت أصوات أفواههما؛ أصواتُ قضم اللحم بأسنانهما الثلمة وأصوات التقاطهما للأنفاس بعناء، مصحوبة بأصوات الهمهمة والضغضغة. بعد ذلك، حين أعطيت كلًّا منهما قدحًا من الشاي الساخن، هدأت الأصوات. وعَلَت وجهَيهما نظرات الرضا والارتياح. إذ أرخت زيلا فمها العابس بما يكفي لأن تعبِّر عما بها من ارتياحٍ بتنهيدة. لم يعد أيٌّ منهما يتأرجح إلى الأمام والخلف، وبدا أنهما دخلا في حالة من الوداعة والسكون الرائق. ثم اغرورقَت عينا إيبيتس بالدموع، وعلمتُ أن حزنه ناجم عن شفقته على ذاته. وعرفت من البحث الطويل عن غليونَيهما أنهما أمضيا وقتًا طويلًا من دون تبغٍ، وبدا الرجل عاجزًا بسبب تَوقه إلى تناوله، لذا اضطُررت إلى أن أشعل غليونه لأجله.
سألتهما: «لماذا تعيشان وحدَكما في هذه القرية؟ هل مات الجميع؟ هل اجتاح القرية وباءٌ ما؟ ألم يبقَ سواكما على قيد الحياة؟»
هزَّ العجوز إيبيتس رأسه وهو يقول: «كلا، لم يحُل علينا وباء. لقد خرج الجميع لصيد اللحم. ونحن طاعنان في السن، أرجُلنا لا تقوى على المشي، وظهْرانا لا يقويان على حمل معدات التخييم ولا عناء الطريق. لهذا بقِينا هنا، ننتظر عودة الشباب باللحم.»
صاحت زيلا بحدَّة: «وماذا إن عاد الشباب باللحم؟»
ارتجف وهو يقول وقد ملأ الأمل صوته: «لعلَّهم يعودون بلحمٍ وافر.»
أردفت هي بحدة أكثر من ذي قبل: «وحتى لو عادوا بلحمٍ وافر. فيم سينفعك هذا وينفعني؟ إنما هي حفنة من العظام نقرضها بأسناننا الثلمة. أما شحوم الحيوان وكليتاه ولسانه … فستذهب كلها إلى أفواه غير فمي وفمك أيها العجوز.»
طأطأ إيبيتس رأسه، وانتحب في صمتٍ.
قالت المرأة صارخة وهي تسدِّد نحوي نظراتٍ شرِسة: «ليس هناك من يصطاد اللحم من أجلنا.»
كان أسلوبها يحمل في طيَّاته اتهامًا، فهززتُ كتفي في إشارة إلى أنني لم أكن مذنبًا بالجريمة المجهولة المنسوبة إليَّ.
«ليكن في علمك أيها الرجل الأبيض أن مَن على شاكلتك هم السبب في هذا، أن الرجال البيض جميعهم هم السبب في أنني وزوجي لا نحصل على اللحم في كِبَرِنا، ونعيش في البرد من دون تبغٍ.»
قال إيبيتس متجهِّمًا بنبرة أكثر إنصافًا وصرامة: «كلا. لقد أوذينا، نعم؛ لكن الرجال البيض لم يقصدوا أذيَّتنا.»
فصاحت تسأله: «وأين موكلان؟ أين ابنك القوي موكلان؟ وأين السمك الذي كان يأتي به دومًا حتى تأكله؟»
هزَّ العجوز رأسه.
«وأين بيدارشيك، ابنك الفتِي؟ ذلك الصياد البارع، لطالما أحضر لك شحوم حيوانات الأيل والوعل وألسنتها الشهية المجفَّفة. لا أرى هنا شحمًا ولا ألسنة مجفَّفة شهية. تظلُّ أيامًا لا يدخل جوفك شيء من الطعام، ويطعمك رجل من قوم بائسين كاذبين.»
قاطعها إيبيتس بنبرة عطفٍ: «كلا، ليس البِيض بكاذبين. البيض يقولون صدقًا. البيض يقولون الصدق على الدوام.» ثم توقَّف الرجل ينظر حوله يبحث عن كلماتٍ تخفِّف من حدة ما سيقول. «لكنهم يقولون الصدق بأساليب مختلفة. اليوم يقولون الصدق بأسلوبٍ، وغدًا يقولون الصدق بأسلوبٍ آخر، ولن نستطيع أن نفهمهم، ولا أن نفهم أساليبهم.»
قالت زيلا بحسمٍ: «اليوم يقولون الصدق بأسلوبٍ، وغدًا يقولون الصدق بأسلوبٍ آخر، أي إنهم يكذبون.»
أكمل إيبيتس في إصرارٍ: «لن نفهم البيض.»
بدا أن اللحم والشاي والتبغ قد أعادوه إلى الحياة، فتمسَّك أكثر بالفكرة خلف عينَيه الغائمتَين اللتين أضعفَهما العمر. اعتدل الرجل في جِلسته بعض الشيء. وذهبت عن صوته نبرة الشكوى والتذمُّر وحلَّت محلها نبرة قوية وإيجابية. والتفتَ إليَّ باعتدادٍ، وخاطبني كما يخاطِب الندُّ ندَّه.
شرع إيبيتس يقول: «عيون الرجل الأبيض ليست مغلقة. الرجل الأبيض يرى كل شيء، ويفكِّر بطريقة رائعة، ويتمتع بحكمة كبيرة. لكن الرجل الأبيض اليوم ليس هو نفسه الرجل الأبيض غدًا، ولا يمكننا فهمه. فهو لا يفعل الأشياء بالأسلوب نفسه طوال الوقت. ولا يمكن لأحدٍ أن يتوقع الأسلوب الذي سيتخذه في المرة القادمة. أما الرجل الهندي فهو يفعل الشيء نفسه بالأسلوب نفسه طوال الوقت. وكذلك الأيل فهو ينزل من أعالي الجبال حين يحل الشتاء. والسلمون يأتي في الربيع حين يذوب الجليد من النهر. إن كل شيء يفعل كل شيء بالأسلوب نفسه، والهندي يعرف هذا ويفهمه. لكن الرجل الأبيض لا يفعل كل شيء بالأسلوب نفسه، ولذا لا يعرف الهندي أسلوبه ولا يفهمه.
التبغ شيء رائع. يمكن أن يكون طعامًا للجائع. ويجعل من الرجل القوي أكثر قوة، ويجعل الغاضب ينسى غضبه. كما أن له قيمة. قيمته كبيرة جدًّا. يمكن للهندي أن يقدِّم سمكة سلمون كبيرة مقابل ورقة واحدة من التبغ، ثم يمضغ الهندي التبغ وقتًا طويلًا. عصارته هي المفيدة، فحين تسري عصارته في الحلق تجعل المرء يشعر بشعورٍ جيدٍ. لكن الرجل الأبيض! حين يمتلئ فمه بالعصارة، ماذا يفعل؟ تلك العصارة، ذات القيمة العالية، يبصقها وتضيع في الثلج. فهل يحب الرجل الأبيض التبغ؟ لا أعرف. لكن إن كان يحب التبغ، فلماذا يبصق ما به من قيمة ويضيِّعها في الثلج؟ هذه حماقة كبيرة، ولا أجد تفسيرًا لها.»
توقَّف الرجل ونفخ في غليونه ووجد أنه انطفأ، فمرَّره إلى زيلا، التي زالت أمارات الحنق من الرجل الأبيض عن شفتَيها من أجل أن تضعهما حول ساق الغليون. وبدا أن إيبيتس عاد إلى الغوص في شيخوخته من دون أن يقصَّ القصة، فقلت سائلًا:
«ماذا عن ابنَيك موكلان وبيدارشيك؟ ولماذا تبقى أنت وزوجتك العجوز من دون لحمٍ في نهاية حياتكما؟»
نشَّط الرجل نفسه كأنه يستفيق من النوم، وبذل جهدًا من أجل أن يعتدل في جلسته.
وقال: «ليس من الجيد أن تسرق. وحين يسرق الكلب اللحم منك تضربه بالعصا. هذا هو القانون. هذا هو القانون الذي وضعه الرجل للكلب، ولا بد للكلب أن يعيش وفقًا للقانون، وإلَّا فسيقاسي من ألم العصا. أما حين يسرق الرجل من الرجل لحمًا أو زورقًا أو زوجة، فإن الرجل يقتله. هذا هو القانون، وهو قانون جيد. ليس من الجيد أن يسرق الرجل، ولذا فإن القانون يقول أنْ يُقتَل الرجل الذي يسرق. ومن يخرق القانون لا بد أن يعاني. والموت معاناة كبيرة.»
سألته: «لكن إن كنت تقتل الرجل إن سرق، فلماذا لا تقتل الكلب؟»
نظر إليَّ إيبيتس العجوز في تعجب طفولي، بينما هزَأت زيلا من عبث سؤالي.
وقال إيبيتس كأنه يتنازل ليبيِّن لي: «هذا هو أسلوب الرجل الأبيض.»
بادرَتْه زيلا: «بل تلك هي حماقة الرجل الأبيض.»
فقلتُ في هدوء: «إذن دعي إيبيتس العجوز يعلِّم الرجل الأبيض الحكمة.»
«لا يُقتَل الكلب لأنه يجرُّ زلاجة الرجل. أما الرجل فلا يجر زلاجة الرجل، لذا يُقتَل الرجل.»
غمغمتُ: «أوه!»
أكمل العجوز إيبيتس يقول: «هذا هو القانون. والآن اسمع أيها الرجل الأبيض، سأخبرك عن حماقة كبرى. هناك هندي. اسمه موبيتس. سرق موبيتس من الرجل الأبيض رطلَين من الدقيق. ماذا يفعل الرجل الأبيض؟ أيضرب موبيتس؟ كلا. أيقتل موبيتس؟ كلا. ماذا يفعل مع موبيتس؟ سأخبرك أيها الأبيض. لدى الرجل الأبيض بيتٌ. يضع الرجل الأبيض موبيتس فيه. البيت له سقف جيد. والجدران قوية وسميكة. ويصنع لموبيتس نارًا حتى يتدفَّأ. ويعطي موبيتس الكثير من الطعام ليأكله. يعطيه طعامًا جيدًا. لم يتناول موبيتس من قبل في حياته طعامًا بهذه الجودة. فهناك لحم مقدد، وخبز، وحبوب لا تنتهي. يقضي موبيتس وقتًا رائعًا.
هناك قفلٌ كبيرٌ على الباب كي لا يهرب موبيتس. هذه أيضًا حماقة كبيرة. فموبيتس لن يهرب أبدًا. فالطعام موجود في ذلك المكان طوال الوقت وبكثرة، وهناك أغطية دافئة، ونارٌ تدفِّئه. سيكون موبيتس أحمق لو هرب. وموبيتس ليس بأحمق. يظل موبيتس في هذا المكان ثلاثة أشهر. لقد سرق رطلَين من الدقيق. ومن أجل هذا رعاه الرجل الأبيض وأحسن رعايته. وأكل موبيتس الكثير من الأرطال من الدقيق، ومن السكر، ومن اللحم المقدد ومن الحبوب من دون حدٍّ. كما شرب موبيتس أيضًا الكثير من الشاي. وبعد ثلاثة أشهر فتح الرجل الأبيض الباب وأخبر موبيتس أن عليه أن يغادر. لا يرغب موبيتس أن يغادر. فهو كالكلب الذي أُطعِم في مكان واحد وقتًا طويلًا. يريد أن يظلَّ في هذا المكان، ويريد الرجل الأبيض أن يُبعِد موبيتس. لذا يعود موبيتس إلى قريته، ويكون سمينًا جدًّا. هذا هو أسلوب الرجل الأبيض، ولا يمكن فهمه. إنها لحماقة، حماقة كبرى.»
ألححتُ في سؤالي: «لكن ماذا عن ابنَيك؟ ماذا عن ابنيك القويَّين وما تجده من جوعٍ في شيخوختك؟»
بدأ إيبيتس: «كان هناك موكلان.»
فقاطعته الأم قائلة: «كان رجلًا قويًّا. كان في إمكانه ضرب الماء بالمجداف ليلًا ونهارًا ولا يتوقف من أجل أن يرتاح. كان خبيرًا بطبيعة السلمون والمياه. كان حكيمًا للغاية.»
كرَّر إيبيتس وهو يتجاهل مقاطعتها له: «كان هناك موكلان. في الربيع ذهب إلى يوكون مع الشباب ليقايض في كامبل فورت. هناك متجر بذلك المكان به الكثير من بضائع البيض، وبه تاجر اسمه جونز. كما كان هناك معالج روحاني من البيض، مَن تطلِقون عليه مبشِّرًا. وهناك في كامبل فورت أيضًا مياه عنيفة، يختنق هناك نهر يوكون وتصبح مياهه سريعة، وتندفع تيارات المياه في هذا الاتجاه وذاك، وتتلاقى معًا، وتتشكَّل دوامات، وتتغيَّر التيارات باستمرارٍ وتتغيَّر صفحة المياه، بحيث لا تبقيان على الشكل نفسه أبدًا. وموكلان ابني، لذلك هو شجاع …»
فقاطعته زيلا متسائلة: «ألم يكن والدي رجلًا شجاعًا؟»
أقرَّ لها إيبيتس: «كان أبوكِ شجاعًا»، كما يفعل شخص عازم على أن يحافظ على السلام في المنزل بأي ثمن. «موكلان ابنكِ وابني، لذلك هو شجاع. وربما لأن والدكِ كان شجاعًا للغاية، كان موكلان شجاعًا للغاية أيضًا. فكل إناء ينضح بما فيه. وقد ورث موكلان قدرًا هائلًا من الشجاعة، ولذا فاضت منه.
كان الشباب خائفين كثيرًا من المياه العنيفة في كامبل فورت. لكن موكلان لم يكن خائفًا. ضحك موكلان ضحكة قوية، ها! ها! وتقدَّم نحو المياه العنيفة. لكن الزورق انقلب حين التقت تيارات المياه. وسحبت دوامةٌ موكلان من رجله، فظل يدور ويدور وينزل وينزل، ولم يرَه أحد بعد ذلك.»
ناحت زيلا: «ولداه! يا ويلتي! كان ذكيًّا وماهرًا، وكان أول ذريتي!»
قال إيبيتس بعد أن صبر على المرأة لتأخذ مساحة لتنوح على ابنها: «أنا والد موكلان. أخذتُ قاربًا وذهبت به إلى كامبل فورت لأُحَصِّل الدَّين!»
قاطعتُه قائلًا: «الدَّين! أيُّ دَين؟»
جاءت إجابته: «الدَّين في رقبة جونز، التاجر الكبير. هذا هو قانون السفر في البلدان الغريبة.»
هززتُ رأسي تعبيرًا عن جهلي بكلامه، ونظر إليَّ إيبيتس بعطفٍ، بينما نظرَت إليَّ زيلا بازدراء كعادتها.
وقال إيبيتس: «انظر أيها الرجل الأبيض. في معسكرك كلبٌ يعضُّ. حين يعض الكلب رجلًا، تعطي أنت ذلك الرجل هدية لأنك تأسف لما حدث، ولأن الكلب ملكك. أنت تدفع. أليس كذلك؟ أيضًا إذا كان الصيد في بلدك صعبًا أو كان الماء عنيفًا، فلا بد أن تدفع. هذه هي العدالة. هذا هو القانون. ألم يذهب أخو والدي إلى بلاد تانانا وقتله هناك دب؟ ألم تدفع قبيلة تانانا إلى أبي الكثير من الأغطية والفرو الفخم؟ كان هذا هو العدل. كان صيدًا صعبًا ودفعت مقابله قبيلة تانانا.
لذا ذهبت أنا إيبيتس إلى كامبل فورت لأحصِّل الدَّين. ونظر إليَّ جونز التاجر الكبير وضحك. أخذ يضحك كثيرًا، ولم يدفع شيئًا. ذهبت إلى المعالج الروحاني، الذي تسمُّونه المبشِّر، وتحدثت معه كثيرًا عن المياه العنيفة وعن المال الذي ينبغي أن يكون من حقي. وتحدث المبشِّر عن أشياء أخرى. تحدث إليَّ عن المكان الذي ذهب إليه موكلان الآن وقد مات. هناك نار كبيرة في ذلك المكان، وإن كان المبشِّر صادقًا، فإني أعرف أن موكلان لن يشعر بالبرد أبدًا. وتحدَّث كذلك عن المكان الذي سأذهب أنا إليه حين أموت. وقال أشياء سيئة. قال إنني أعمى. وهذه كذبة. وقال إنني في ظلام كبير. وهذه كذبة. قلت له إن الظلام والنور يأتيان للجميع، وإن قريتي ليست مظلِمة أكثر من كامبل فورت. قلت له أيضًا إن النور والظلام والأماكن التي نذهب إليها حين نموت، هذه أمور تختلف عن مسألة دفع الدَّين المستحَق بسبب المياه العنيفة. حينها غضب المبشِّر غضبًا عارمًا، وأطلق عليَّ صفاتٍ سيئة من الظلام، وأمرني أن أنصرف. لذا عدت من كامبل فورت، ولم يدفع إليَّ أحدٌ شيئًا، ومات موكلان، وأنا في شيخوختي لا أجد السمك واللحم.»
قالت زيلا: «بسبب الرجال البيض.»
وافقها إيبيتس مُردِّدًا: «بسبب الرجال البيض. وهناك أشياء أخرى بسبب الرجال البيض. كان هناك بيدارشيك. تعامل معه الرجل الأبيض بأسلوبٍ؛ ولكنه تعامل مع ياميكان بأسلوبٍ آخر، رغم أنهما فعَلا الشيء نفسه. يجب أن أخبرك أولًا عن ياميكان، وهو شاب من هذه القرية وصادف أنه قتل رجلًا من البيض. ليس من الجيد أن تقتل رجلًا من شعب آخر. فدائمًا ما تقع مشكلات كبيرة. ولم يكن خطأ ياميكان أنه قتل الرجل الأبيض. كان ياميكان يتحدث دومًا بالكلام الليِّن، ويهرب من المشكلات كما يهرب الكلب من العصا. لكن هذا الرجل الأبيض شرب الكثير من الويسكي، وفي الليل جاء إلى منزل ياميكان وتشاجر معه. لا يمكن أن يهرب ياميكان، وحاول الرجل الأبيض أن يقتله. ياميكان لا يحب أن يموت، فقتل الرجل الأبيض.
وقعت القرية كلها في مشكلة كبيرة. كنا خائفين جدًّا أن نضطر إلى دفع الكثير إلى قوم الرجل الأبيض، فخبَّأنا أغطيتنا وفراءنا، وكل ما لدينا من ثروة، حتى نبدو فقراء ولا ندفع إلا القليل. بعد وقتٍ طويلٍ جاء البيض. كانوا جنودًا، وأخذوا ياميكان معهم. ولْولَت أمه بشدة، وألقت بالرماد على شعرها، لأنها عرفت أن ياميكان سيموت. عرفت القرية كلها أن ياميكان سيموت، وسرَّهم أنهم لم يُطالَبوا بدفع شيء.
كان هذا في الربيع حين يذوب الجليد من النهر. مرَّ عام، ومرَّ الثاني. وجاء الربيع ثانية، وذاب الجليد من النهر. ثم عاد إلينا ياميكان الذي هو ميت، ولكنه لم يكن ميتًا، بل عاد سمينًا جدًّا، وعرفنا أنه كان ينام في فراش دافئ ويأكل الكثير من الطعام. وكان لديه الكثير من الملابس الجميلة ويبدو كالبيض، وتعلَّم الحكمة حتى أصبح زعيمًا في القرية بسرعة جدًّا.
وكان يحكي أشياء غريبة عن أسلوب الرجل الأبيض، لأنه رأى الكثير من البيض وسافر كثيرًا في بلاد البيض. في البداية أخذه الجنود البيض وسافروا مسافة طويلة في النهر. سافروا في النهر حتى وصلوا إلى آخره، حيث يصبُّ في بحيرة أكبر من الأرض كلها وبحجم السماء. لم أكن أعرف أن نهر يوكون نهر كبير بهذه الدرجة، لكن ياميكان رآه بعينيه. ولم أكن أظن أن هناك بحيرة أكبر من كل الأرض وبحجم السماء، لكن ياميكان رآها. كما حكى أيضًا أن ماء تلك البحيرة كان مالحًا، وهذا غريب ولا نفهمه.
لكنك أيها الأبيض تعرف كل هذه الأعاجيب بالفعل، ولذا لن أزعجك بقصِّها عليك. سأخبرك بما حدث لياميكان فقط. أعطى البيض ياميكان الكثيرَ من الطعام الطيب. كان ياميكان يأكل طوال الوقت، وطوال الوقت كان هناك المزيد من الطعام. وقال ياميكان إن البيض يعيشون تحت الشمس، حيث الكثير من الدفء، وأن الحيوانات لديها شعر لا فرو، وأن النباتات تنمو وتكبر لتصبح دقيقًا وحبوبًا وبطاطس. ولا يكون هناك جوع أبدًا تحت الشمس. دائمًا ما يكون هناك طعام. لا أعرف. لكن ياميكان قال هذا.
وإليك شيئًا غريبًا حلَّ بياميكان. لم يؤذِه البيض قطُّ. بل أعطَوه فراشًا دافئًا في الليل والكثير من الطعام الشهي. وأخذوه عبر البحيرة المالحة الكبيرة كالسماء. وذهب على متن القارب الناري إلى البيض، أو ما تسمونه القارب البخاري، لكن هذا القارب كان أكبر من القارب البخاري الذي سافروا به عبر يوكون عشرين مرة. وهذا القارب مصنوع من الحديد، لكنه لا يغرق. وهذا ما لا أفهمه، لكن ياميكان قال «لقد سافرت على متن القارب الحديدي مسافة بعيدة؛ وانظر! ما زلت حيًّا.» كان قاربًا حربيًّا للبيض، وكان عليه الكثير من الجنود.
وبعد نومٍ كثيرٍ في أثناء الرحلة، ومُضي وقتٍ طويل جدًّا جدًّا، وصل ياميكان إلى بلدٍ ليس به جليد. لا أصدِّق هذا. فليس من المعتاد ألَّا يكون هناك جليد في فصل الشتاء. لكن ياميكان رأى ذلك. كما أنني سألت البيض وقالوا نعم، لا يوجد جليد في ذلك البلد. لكنني لا أصدق، والآن أسألك إن كان الجليد لا يسقط أبدًا في ذلك البلد. كما أريد أن أسمع اسم ذلك البلد. سمعت الاسم من قبل، لكني أريد سماعه ثانية، لأرى إن كان هو نفس الاسم؛ وبهذا سأعرف إن كان ما سمعتُ كذبًا أم صدقًا.»
نظر إليَّ العجوز إيبيتس نظرة توَّاقة. كان مستعدًّا لمعرفة الحقيقة بأي ثمن، رغم أنه كان يرغب في أن يظلَّ محتفظًا بإيمانه بالمعجزة التي لم يرها من قبلُ قطُّ.
فأجبتُه: «أجل، ما سمعت هو الصدق. ليس هناك جليد في ذلك البلد، واسمه كاليفورنيا.»
غمغم إيبيتس: «كا…ﻟﻴ…فور…نيا» مرتين أو ثلاثًا وهو يستمع بإمعانٍ إلى مقاطع الكلمة تخرج من بين شفتَيه. وأومأ برأسه مُقرًّا. ثم قال: «أجل، هو نفس البلد الذي قال عنه ياميكان.»
قدَّرتُ أن من المرجَّح أن مغامرة ياميكان وقعت في الأيام الأولى، أوَّل ما أصبحت ألاسكا تحت حيازة الولايات المتحدة. وربما أن جريمة القتل تلك — التي وقعت قبل وضع قوانين إقليمية ورسمية — أُخِذَت إلى الولايات المتحدة ليُنظَر فيها أمام محكمة فيدرالية.
أكمل العجوز إيبيتس يقول: «حين كان ياميكان في تلك البلاد التي لا جليد فيها، أخذوه إلى منزلٍ كبيرٍ يتحدث فيه الكثير من الناس. تحدث الناس وقتًا طويلًا. كما سألوا ياميكان أسئلة كثيرة. وبعد مدة أخبروا ياميكان بأنه لا يواجه المزيد من المشكلات. لم يفهم ياميكان، لأنه لم يعانِ قطُّ أيَّ مشكلة. طوال الوقت كانوا يجعلونه ينام في مكان دافئ، ويعطونه الكثير من الطعام.
لكن بعد ذلك أعطَوه طعامًا أفضل بكثيرٍ، وأعطَوه مالًا، وأخذوه إلى أماكن كثيرة في بلاد البيض، ورأى ياميكان الكثير من الأشياء التي يصعب على إيبيتس فهمها، لأن إيبيتس عجوز ولم يسافر كثيرًا. بعد عامين عاد ياميكان إلى القرية، وأصبح زعيمها، وكان حكيمًا جدًّا إلى أن مات.
لكن قبل أن يموت، جلس معي كثيرًا إلى ناري، وتحدث معي عن الأشياء الغريبة التي رآها. وكان ابني بيدارشيك يجلس معنا إلى النار ويسمع؛ وكانت عيناه تتسعان دهشة من الأشياء التي يسمعها. وذات ليلة، بعد أن رجع ياميكان إلى بيته، وقف بيدارشيك شامخًا وضرب صدره بقبضته، وقال: «حين أصير رجلًا، سأسافر إلى أماكن بعيدة، سأذهب حتى إلى البلاد التي ليس فيها جليد، وأرى الأشياء بنفسي».»
قاطعَته زيلا في فخرٍ: «سافر بيدارشيك كثيرًا إلى أماكن بعيدة.»
وافقها إيبيتس متجهمًا: «صحيح. ودائمًا كان يعود ليجلس إلى النار ويتوق إلى السفر إلى أماكن أخرى بعيدة وغير معروفة.»
قالت زيلا: «وكان دائمًا ما يتذكَّر البحيرة المالحة الكبيرة كالسماء والبلاد المشمسة التي ليس بها جليد.»
وقال إيبيتس: «وكان دائمًا يقول «حين أصير رجلًا كامل الرجولة والقوة، سأذهب وأرى بنفسي إن كان كلام ياميكان صحيحًا».»
قالت زيلا: «لكن ليس هناك طريقة للذهاب إلى بلاد البيض.»
تساءل إيبيتس: «ألم ينزل إلى البحيرة المالحة الكبيرة كالسماء؟»
وأجابت زيلا: «ولم تكن ثمة طريقة لعبور البحيرة المالحة.»
قال إيبيتس: «إلَّا على متن القارب الناري الخاص بالبيض، والمصنوع من الحديد والأكبر من عشرين قاربًا بخاريًّا في نهر يوكون.» ثم عبس في وجه زيلا، التي كانت شفتاها الذابلتان تشرعان في الحديث ثانية، فأجبرها على الصمت. وأكمل يقول: «لكن البيض لم يسمحوا له بعبور البحيرة المالحة على متن قاربهم الناري، وعاد يجلس بجوار النار ويتطلع إلى البلاد المشمسة التي لا جليد فيها.»
فصاحت زيلا التي لا يمكن إسكاتها: «لكنه رأى القارب الناري الحديدي الذي لا يغرق في البحيرة المالحة.»
قال إيبيتس: «نعم، ورأى أن ياميكان كان صادقًا فيما قال إنه رآه. لكن لم يكن هناك طريقة يمكن بها لبيدارشيك أن يسافر إلى أرض البيض المشمسة، فأصابه السقم والإعياء كأنه رجلٌ عجوز، ولم يعد يبتعد عن النار. لم يعد يذهب إلى اصطياد الحيوانات ليأتي باللحم …»
واندفعت زيلا تقول: «ولم يعد يتناول اللحم الذي يُقدَّم له. كان يهزُّ رأسه، ويقول: «لا أريد إلا أن آكل طعام البيض وأصير سمينًا مثل ياميكان».»
أكمل إيبيتس يقول: «ولم يعد يأكل اللحم. وازداد ما به من إعياء فتحوَّل إلى سقمٍ كبير حتى ظننت أنه سيموت. كان سقمه في رأسه وليس في جسده. أصيب بالسقم في رغبته. فأخذت أفكر، أنا إيبيتس أبوه. لم يعُد لديَّ أبناء غيره، ولا أريد أن يموت بيدارشيك. إن سقمه في رأسه، وليس هناك إلا طريقة واحدة لشفائه. لا بد أن يسافر بيدارشيك عبر البحيرة الكبيرة كالسماء إلى حيث لا يوجد جليد، وإلا فسيموت. ففكرت كثيرًا، ثم وجدت الطريقة التي سيسافر بها بيدارشيك.
ذات ليلة، وحيث كان جالسًا بالقرب من النار وقد ازداد سقمه وكان مطأطئ الرأس، قلت له: «يا بني، لقد عرفت طريقة لك تذهب بها إلى أرض البيض.» فنظر إليَّ وكان وجهه منفرج الأسارير. قلت له: «فلتذهب حتى كما ذهب ياميكان.» لكن بيدارشيك كان سقيمًا ولم يفهمني. قلت له: «اذهب وجِد رجلًا أبيض واقتله كما قتل ياميكان الرجل الأبيض. حينها سيأتي جنود البيض وسيأخذونك كما أخذوا ياميكان عبر البحيرة المالحة إلى أرض البيض. وحينها ستعود مثل ياميكان سمينًا، وستكون قد رأيت الكثير من الأشياء وعرفت الكثير من الحكمة.»
وقف بيدارشيك بسرعة، وتحسَّس مسدسه بيده. سألته: «إلى أين أنت ذاهب؟» فقال لي: «لأقتل الرجل الأبيض.» ورأيت أن كلماتي كان لها وقعٌ جيد في نفس بيدارشيك، وأنه سيصبح على ما يرام ثانية. كما رأيت أن رأيي كان حكيمًا.
كان هناك رجل أبيض يأتي إلى هذه القرية. لا يبحث عن الذهب في الأرض، ولا يسعى للحصول على الفراء في الغابة. كان طوال الوقت يبحث عن الحشرات والذباب. وهو لا يأكلها، إذن لماذا يبحث عنها؟ لا أعرف. كل ما أعرفه أنه رجل أبيض عجيب. كما كان يبحث عن بيض الطيور. وهو لا يأكل البيض. بل كان يُخرج كل ما داخل البيضة ولا يُبقي إلا قشرتها. وقشر البيض ليس صالحًا للأكل. لكنه لا يأكل القشر، بل يضعه في صناديق مبطَّنة بقماشٍ ناعم حتى لا ينكسر فيها. كان يصطاد الكثير من الطيور الصغيرة. لكنه لا يأكل هذه الطيور. بل كان يسلخها ويضعها في صناديق. كما كان يحب العظام. والعظام ليست صالحة للأكل. وكان هذا الأبيض العجيب يحب العظام القديمة التي يخرجها من باطن الأرض.
لكنه لم يكن رجلًا أبيض قويًّا، وعرفت أنه سيموت بسهولة كبيرة؛ لذا قلت لبيدارشيك: «يا بني، هذا هو الرجل الأبيض الذي ينبغي لك قتله.» وقال بيدارشيك إن رأيي سديد. لذلك ذهب بيدارشيك إلى مكان يعرف أن فيه الكثير من العظام في الأرض. فحفر وأخرج الكثير من تلك العظام وأتى بها إلى مخيم الرجل الأبيض العجيب. وابتهج الرجل الأبيض للغاية. وأشرق وجهه كالشمس، وابتسم بسعادة كبيرة وهو ينظر إلى العظام. وحين انحنى نحوها ليفحصها، ضربه بيدارشيك على رأسه بقوة بالفأس ضربةً واحدةً، فسقط الرجل الأبيض ومات.
قلت لبيدارشيك: «والآن سيأتي جنود البيض ويأخذونك معهم إلى الأرض المشمسة، حيث ستأكل الكثير من الطعام وتصبح سمينًا.» فأصبح بيدارشيك سعيدًا. كان قد شُفيَ من سقمه بالفعل، وجلس إلى جوار النار ينتظر قدوم الجنود البيض.»
ثم التفتَ العجوز نحوي، وصاح في شراسة: «كيف كنت سأعرف أن أسلوب البيض لا يكون أبدًا واحدًا؟ كيف كنتُ سأعرف أن ما يفعله الرجل الأبيض أمس لن يفعله اليوم، وأن ما يفعله اليوم لن يفعله غدًا؟» وأخذ إيبيتس يهزُّ رأسه في أسًى. وأكمل: «لا يمكن فَهم البيض. فبالأمس يأخذون ياميكان إلى الأرض المشمسة ويجعلونه سمينًا من كثرة الطعام. واليوم يأخذون بيدارشيك … ثم ماذا يفعلون به؟ سأخبرك ما فعلوه به.
سأخبرك، أنا إيبيتس، أبوه. أخذوا بيدارشيك إلى كامبل فورت، وربطوا حبلًا حول عنقه، وحين لم تصبح رجله على الأرض، مات بيدارشيك.»
ناحت زيلا: «ولداه! يا ويلتي! لم يعبر البحيرة الكبيرة كالسماء، ولم يرَ الأرض المشمسة التي لا يأتيها الجليد.»
قال العجوز إيبيتس بنبرة حزينة: «لهذا لا يوجد أحد ليصطاد لي اللحم في شيخوختي، وأجلس جائعًا بالقرب من النار لأخبر قصتي للرجل الأبيض الذي قدم لي الطعام والشاي اللذيذ والتبغ لغليوني.»
وقالت زيلا صارخة: «بسبب الأناس البيض الكاذبين البائسين.»
فقال العجوز بإيجابية هادئة: «كلا. بل بسبب أسلوب الرجل الأبيض، الذي لا سبيل لفَهمه، ولا يكون أبدًا واحدًا.»