الرحيل!
كانت شمس هذا اليوم الشتوي كاملة الاستدارة، وأشعتها الذهبية تغمر الزمانَ والمكان كلَّه، وكان الصمت يعمُّ الكهف السري حين انفتحَت بوابته الصخرية العملاقة ودلفت من المقر سيارةُ الشياطين المجهزة التي ستُقلُّهم إلى المطار للتوجه بعدها بالطيران المباشر إلى «فرنسا». كان الشياطين في هذه الأثناء قد أتموا الاستعداد، وقد وقف «أحمد» مودعًا المجموعة المسافرة وعيناه تكسوهما علامات الحزن الممزوجة بالسعادة … فهي المغامرة الأولى التي ينطلق فيها الشياطين بدونه.
كان «خالد» أول من صَعِد السيارة «الميني باص» المجهزة، وتلاه «باسم» ثم «رشيد» و«مصباح»، وأخيرًا «زبيدة»، ورافقتها حتى السيارة «إلهام»، وقد صاح «أحمد» وهو يناديها ضاحكًا: اهبطي أيتها الشيطانة، ولا داعيَ للتزويغ، وضحك الشياطين جميعًا على مزاح «أحمد» في نفس الوقت الذي هبطت فيه «إلهام»، وانغلق باب السيارة أتوماتيكيًّا، بينما انفتحت البوابة الصخرية ليغادر رجال المجموعة المكان الذي هدأ بعد أن تلاشى هدير السيارة وهي تشقُّ الطريق وتطوي الأرض باتجاه المطار.
مرَّت ساعتان إلا ربعًا قضَتها السيارة بسرعتها المتوسطة حتى شارفَت المطار، وهبط الشياطين منها بسرعة، وتوجَّهوا إلى الطائرة التي كانت تستعدُّ للإقلاع، ولم تمضِ دقائق حتى تعالَى صوتُ محركها العملاق، ثم بدأت السير ببطء على الممر الطويل، وازدادَت سرعتُها تدريجيًّا حتى وصلَت لأقصى سرعة، وتركَت أرض المطار لترتفع في الفضاء الرحب حتى اختفَت ومعها أزيزُها العملاق. كانت الساعة تشير إلى الواحدة ظهرًا حين هبطَت الطائرة العملاقة في مطار «ديجول» … ﺑ «فرنسا» … كانت السماء صافية والجو معتدلًا، ولم تستغرق إجراءات الخروج سوى ثوانٍ معدودة تلاقى فيها رجال المهمة الصعبة ﺑ «كانتونا» العميل الذي يعرفه الشياطين جيدًا إثر اشتراكه معهم في أكثر من مهمة، وكانت مهمة «كانتونا» اصطحاب الشياطين في رحلة قصيرة لحين موعد إقلاع الطائرة المتجهة إلى «كولومبيا» في العاشرة مساءً … وقضى الشياطين نهارهم في زيارة معالم «باريس» السياحية، وقد وقفوا طويلًا أمام برج «إيفل» العملاق، ورأوا «قوس قزح» الذي تمرُّ السيارات بأسفله في مشهد بديع، وقد تناولوا ساندويتشات «الهامبورجر» الباريسية الشهيرة، واشتروا بعض القبعات، ثم صحبهم «كانتونا» إلى إحدى الحدائق المنتشرة في قلب «باريس» عاصمة النور والموضة؛ حيث قضوا بقية الوقت في التأمل ومشاهدة أسراب الحمام وهي تحلِّق في الجو جماعات تذهب وتعود في تسلسل محكم يقوده من حين إلى آخر أحدُ ذكور الحمام القوية.
كانت الساعة تُشير إلى التاسعة حين صاح «خالد» منبهًا الشياطين عن اقتراب موعد السفر إلى «كولومبيا»، نهض الشياطين بسرعة مع كلمات «خالد»، وتوجهوا ومعهم «كانتونا» إلى العربة «الستروين» الفرنسية، واتجهوا إلى نفس المطار «شارل ديجول» ليصلوا في العاشرة إلا ربعًا؛ حيث كانت الحركة في المطار على أشدِّها إثرَ استعداد أكثر من طائرة للإقلاع.
كانت الطائرة المتجهة إلى «كولومبيا» من نوع «الجامبو» الصغيرة، وصَعِد الشياطين ليأخذوا أماكنهم فيها، بينما ودَّعهم «كانتونا» الشاب الفرنسي الأشقر بعلامات النصر، وسرعان ما أُغلقت أبواب الطائرة، وانطلقَت لتغادر أرض مطار «باريس» متوجهة إلى «كولومبيا».
عندما وصل الشياطين إلى المطار … في قلب العاصمة … كان الجو ملبدًا بالغيوم، والسحب تحجب وجهَ السماء، وهواء بارد صفح وجهَ الشياطين وهم يهبطون من سُلَّم الطائرة … متجهين إلى صالة رقم ٢ المعدَّة لاستقبال القادمين … كان «خالد» أول مَن هبط من الطائرة، وتبعَته «زبيدة» ثم «مصباح» و«رشيد» وأخيرًا «باسم».
رمق «خالد» من بعيد «كازان» كما قال لهم رقم «صفر»، كان قويَّ البنية أصلعَ الرأس تمامًا ذا ذقن صفراء وكثيفة … كان يرتدي «تي شيرت» أبيض وبنطلونًا من الجينز الأسود، وممسكًا بكلب صغير أبيض اللون ذي شعر طويل … اقترب منه «خالد» وأشار للكلب بيده اليمنى، ثم رفع أحد أصابع يده اليسرى، وأكمل سيرَه وخلفه بقية الشياطين.
وما إن انتهى الشياطين من إجراءات الخروج حتى تهافت عليهم سائقو التاكسيات، وأخذوا يسألونهم عن وجهتهم، بينما اقتربَت بمحاذاتهم سيارة سوداء كبيرة كان من الواضح أنها من نوع «كاديلاك» الأمريكية لضخامتها.
وأطل من نافذة السيارة قائدها وأخذ ينادي على الشياطين ثم صاح: ماي نيم «ألوفس»، عرف بعدها الشياطين أنه السائق المقصود، فاتجهوا ناحية السيارة، وركبَت «زبيدة» ومعها … «باسم» و«رشيد» و«مصباح» في المقعد الخلفي، بينما جلس «خالد» بجانب «ألوفس» الذي انطلق بالسيارة، وضحك وهو يرحب بالشياطين قائلًا بلكنة إنجليزية: مرحبًا بكم … وتوقَّف فجأة، واستأذن الشياطين لشراء علبة تبغ من محلٍّ صغير توقَّف أمامه.
سأل «خالد» «ألوفس»: إلى أين نتجه الآن؟
فقال «ألوفس»: إلى فندق «النجمة الحمراء» كما قيل لي … ثم ضحك وهو يردِّد: لا تكن قلقًا يا صديقي!
سارت السيارة «الكاديلاك» السوداء في الشارع الرئيسي للعاصمة «بوجوتا»، ثم انحرفَت بعد النُّصْب التذكاري المقام في وسط الشارع العريض … أمام أحد الفنادق المتوسطة توقَّفَت السيارة وهبط الشياطين منها تباعًا … كان الفندق مكوَّنًا من خمسة طوابق، ولكنه كان يتسع أفقيًّا عندما لمعَت أضواؤه المختلفة الألوان لتُفصح عن هويته «النجمة الحمراء»، ولم يكَد الشياطين يخطون ببهو الفندق حتى وجدوا أمامهم «كازان»، كان يبتسم وهو يُشير لهم بعلامة معناها: كلُّ شيء معدٌّ لكم … وسرعان ما اقترب من الشياطين عمال الفندق، فحملوا حقائبهم واتجهوا ناحية المصعد الذي سرعان ما أُضيئَت أنوار شاشة صغيرة، وتوقَّف عن الصعود أمام الرقم ٤، وهذا معناه أن الشياطين يسكنون في الدور الرابع … انفتح باب المصعد بعدها وحمل عاملو الفندق حقائب الشياطين، وتوجهوا إلى الغرف التي خُصِّصت لهم وكانت بأرقام: ١٠٠٠، ١٠٠٢، ١٠٠٤.
كانت غُرَف الفندق متوسطة الحجم، وحوائطها مطلية باللون الأصفر اللامع الذي أظهر أن الفندق أُعيد تجديده، وكانت كل غرفة بها سريران ومنضدة طعام لشخصين، بالإضافة لدولاب حائط كبير.
واتجه «خالد» إلى شرفة الغرفة، ثم فتحها، وأخذ يراقب نظام الحجرات، وكيف أنها تتصل ببعضها البعض بمجرد عبور الشرفات المتلاصقة.
قال «خالد» بلهجة تقترب من لهجة القائد: والآن علينا ترتيب نظام الغرف، على أن تقوم «زبيدة» بتثبيت أجهزة الاتصال جيدًا بين الحجرات الثلاث حتى يمكننا التعامل مع أي أحداث طارئة وبسرعة … أكمل «خالد»: «زبيدة» ستأخذ الغرفة رقم ١٠٠٠، و«باسم» و«رشيد» الغرفة رقم ١٠٠٢، وأخيرًا أنا و«مصباح» في الغرفة الأخيرة رقم ١٠٠٤، ولنُسرع الآن لحمل حقائبنا والتوجه إلى أماكننا.
لم تستغرق ترتيبات النوم وقتًا طويلًا، وسرعان ما غطَّ الشياطين بعدها في نوم عميق … ليُوقظَهم رنينُ الجرس المتقطع في الصباح الباكر … كان المتحدث على الطرف الآخر «كازان»، وفي كلمات مختصرة قال: لعلكم أفقتم من جراء الرحلة الطويلة … ليلة سعيدة … سنلتقي اليوم في «النادي الدولي» في الرابعة، ستستقلون تاكسيًا من أسفل الفندق، فقط اطلبوا من السائق التوجه بكم إلى النادي … وهناك سيكون كلُّ شيء معدًّا لاستقبالكم، ولكم تحياتي … وانتهَت المكالمة السريعة بين «كازان» و«خالد».
انطلق بعدها الشياطين للاغتسال، تناولوا بعدها طعام الإفطار، وقضوا بقية وقتهم في التنزُّه حول فندق «النجمة الحمراء» ومشاهدة التليفزيون «الكولومبي» حتى اقتربت الساعة من الثالثة والنصف حين استعد الشياطين للتوجه إلى «النادي الدولي» لمقابلة «كازان»، كان الجو يميل إلى البرودة حين استقل الشياطين التاكسي متجهين إلى «النادي الدولي»، وكانت الخطة كما رسمها «خالد» تقتضي بأن يتفرقوا بمجرد نزولهم من التاكسي، على أن يتقدم «خالد» بمفرده، ومن خلفه «زبيدة»، ثم يدخل بقية الشياطين واحدًا بعد الآخر.
كان «خالد» يرتدي بذلة أنيقة من اللون الأزرق، وقد وضع سيجارًا ضخمًا بين أسنانه كما يفعل زعماء العصابات وبعض الطبقات الغنية … ومن ورائه «زبيدة» وهي تحمل حقيبة جلدية ضخمة، بينما ارتدى بقية الشياطين الملابس الجلدية السوداء، وقد تسلَّح كلٌّ منهم بمسدس كاتم للصوت، وقد حمل كلٌّ منهم علبةَ المسحوق السحري الذي يُحدث سحاباتٍ كثيفةً تحجب الشيطان عن الرؤية تمامًا، بينما هو يرى الآخرين بسهولة.
دقائق معدودة قضاها الشياطين في ارتداء ملابسهم، وهبطوا بسرعة درجات الفندق على الأقدام بدلًا من استعمال «المصعد» تحسبًا للمراقبة التي قد يتعرضون إليها برغم أن لا أحد يعرفهم في العاصمة «بوجوتا» سوى «كازان» عميلهم.
أمام «النادي الدولي» توقَّفَت السيارة التي تنقل الشياطين، وهبط «خالد» منها بسرعة ببذلته الزرقاء الأنيقة، وسارَت خلفه على مسافة قريبة «زبيدة» وهي تحمل الحقيبة الجلدية السوداء، بينما دخل بعدها «مصباح»، وبعده بدقائق قليلة دخل «باسم» ثم «رشيد»، وكان «النادي الدولي» هادئًا تمامًا، وقد دل مظهرُه الضخم جدًّا أنه ملكٌ لطبقة الأغنياء أو رجال الأعمال.
كان «كازان» في استقبال «خالد» وسكرتيرته «زبيدة»؛ حيث قادهما إلى إحدى المناضد الخالية، وقد جذب «كازان» كرسيَّين، وصاح وهو ينحني ويرحب ﺑ «خالد»، في نفس الوقت الذي تلاقت عيناه بعيون آخرين كانوا يجلسون بالمنضدة القريبة منهم.
فَهِم «خالد» بسرعة حديثَ النظرات، وكان من الواضح أن «كازان» يقوم بدور التعارف بين «خالد» وجالس المنضدة … وأومأت «زبيدة» برأسها وتلاقَت عيناها بعينَي «خالد» لتؤيد ما خطر بباله أو ما يُفكر فيه.
تحدَّث «كازان» بلكنة إنجليزية غير سليمة وبصوت هادئ: إنني أقوم بتنفيذ الأوامر فقط … واليوم سوف يتم التعارف المتفق عليه بينك وبين مستر «رومايرو» وهو تاجر أقمشة قديم حوَّل نشاطه إلى تجارة «البن» التي تشتهر بها دول أمريكا اللاتينية وخاصة «البرازيل»، وهزَّ «خالد» رأسه موافقًا، وابتسم ﻟ «كازان» وقال: لا بأس … وعسى أن يتم الاتفاق على السعر المطلوب في أقصر وقت.
لم يكَد يُكمل جملته حتى فوجئ بأحد الرجال يقترب منه، ثم ينحني ليُحيِّيَ «خالد»، ووقف «كازان» على الفور، وصاح وهو يُشير بيده إلى «خالد»: مستر، وقبل أن يُكمل … ردَّ «خالد» على الفور «كردغلي» سوري الجنسية، كان «خالد» يتحدث بثقة وبلغة إنجليزية سليمة … وابتسم الرجل وهو يرحب ﺑ «خالد» قائلًا: مرحبًا بكم مستر «كردغلي» ماي نيم «رومايرو»، ثم سحب كرسيًّا وجلس عليه، ثم نظر إلى «زبيدة»، وقال: متى نتفق عزيزي مستر «كردغلي»؟ فقال «خالد» وهو ينظر له: وقتما تريد مستر «رومايرو»، وإذا أردت الآن فليس لديَّ مانع.
فضحك «رومايرو» وقال: لا تستعجل يا صديقي؛ فلدينا متسع من الوقت، و«سولا» — وأشار إلى «كازان» — يعرف أين أتحدث وكيف أتفق، ثم أكمل: إنني أردت رؤياك هنا فقط قبل أن نتفق على أي شيء، ثم أكمل وهو يضحك: مجرد تعارف لا أكثر … وعلى كل حال سأُبلغ «سولا» متى سألقاك. ووقف «رومايرو» على نحوٍ مفاجئ، ثم قال وهو ينصرف: ربما عن قريب … ثم ختم حديثه قائلًا: وقت سعيد. واتجه إلى حيث كان يجلس ومعه مجموعة ليست بقليلة من الرجال كانت تنظر إلى «خالد» بعيون يملؤها التساؤل!