مقدِّمة
ليس القصد من هذه الرسالة أن نأتي على ذكر تاريخ فلسطين، من القرن الأول الهجري إلى القرن الرابع عشر، وإنما نقتصر على ذكر بعض الذين تولَّوا الحكم والإدارة في فلسطين، أو في أهم مدنها على توالي العصور.
وقد كانت فلسطين، في عهد الخلفاء الراشدين، تؤلِّف جُنْدًا (كورة) وكان عليها أمير، وكان في أهم مدنها عاملٌ أو حاكم، وكان للجند أمير أشبه بالقائد العسكري اليوم.
وتبعت في عهد الأمويين دمشق الشام، وفكَّر سليمان بن عبد الملك أن يتَّخذ القدس عاصمة، وكانت الرملة (وهي مدينة أموية عربية). ذات شأن خاص، وظلَّت كذلك في عهد الفاطميين والمماليك.
وحاول المتوكل العباسيّ أن يتخذ من دمشق عاصمة للعباسيين وجربها مدةً قصيرةً، ولكن مناخها لم يعجبه فعدل عنها.
وكانت حكومة البلاد في العصور الإسلامية الأولى تشتمل على بيت المال (الخاصة والعامة) وديوان الشرطة (كان رئيسها يُعرف بوالي الشرطة أو صاحب الشرطة)، وديوان الجند، وديوان الخراج، وديوان البريد، والقضاء، والحسبة، والإنشاء، والترسُّل، والمواريث، والمرتجع، وديوان الزِّمام (مراقبة الحسابات) وديوان التوقيع، وديوان الضياع، وديوان الجوالي، وديوان الأَيتام والأَوقاف … إلخ.
ويشاهد أَنه كان في عهد المماليك (من القرن ٧–١٠ الهجري) أربع وظائف رئيسية في إدارة الحكم في فلسطين، أولاها نائب السلطان، ثم ناظر الحرمين (القدس والخليل) وكان يجمع بين هاتين الوظيفتين أحيانًا، وشيخ المدرسة الصلاحيَّة، والقضاة على المذاهب الأربعة.
ولما جاءَ العهد العثماني تبعت فلسطين دمشق، ثم صيدا، فعكا، ثم التحق قسم منها بولاية بيروت (من شمالي نهر العوجا إلى اللبن فالأردن شرقًا)، وأصبحت القدس متصرفيةً مستقلةً تخابر نظارة الداخلية مباشرةً.
وكان رجال الحكم يُعرفون بالأمير، أو النائب، أو العامل، أو الكافل أو الوالي، وكان في المدن في العهد العثماني، متسلِّم، أو مدير أو قائمقام، أو متصرف، أو والٍ.
ولسنا نتعرَّض في هذا البحث إلا إلى الذين تولَّوا الحكم، سواءٌ أكان مركز الإدارة العامة المدينة، أو دمشق، أو بغداد، أو القاهرة، أو الآستانة.
وليس في الإمكان أن نسجِّل أسماء جميع رجال الحكم والإدارة لفقدان المصادر، ولكننا نرجو أن نكون قد أتينا على ذكر أهم الأُمراء والحكَّام، من عهد الخلفاء الراشدين إلى القرن الرابع عشر الهجري.
ويرى القارئ أن فلسطين أصبحت مقاطعة مصرية، في عهد أحمد بن طولون، والإخشيديين، والفاطميين، والمماليك البحريين، والبرجيين، والعلويين (١٨٣٠–١٨٤٠م) ثم عادت إلى حظيرة الدولة، الدولة العثمانية، حتى سنة ١٩١٧م.
وفي القرن الخامس الهجري غزا الصليبيون سوريا وفلسطين، وملكوا القدس سنة ٤٩٢ﻫ، وظلوا فيها حتى سنة ٥٨٣ﻫ، يوم فتحها صلاح الدين، ثم تطورت الحالة في عهد المماليك، وملكها الصليبيون مدة قليلة، وعادوا فخرجوا منها وظلوا كذلك إلى أن قضى عليهم قضاءً مبرمًا الظاهر بيبرس (١٢٦٠–١٢٧٧م) ومن بعده الملك المنصور قلاوون (١٢٧٩–١٢٩٠م) وولده الأشرف خليل (١٢٩٠–١٢٩٣م) ولم تقم لهم قائمة بعد ذلك.
ويتبين من هذا أن فلسطين ظلَّت مقاطعة مصرية تُحكم من القاهرة، وتتأثر بمدنية الدُّول المصرية وثقافتها قرابة ٦٥٧ سنة، أَضف إلى ذلك أنها أصبحت مصريَّة مرَّة أُخرى، في عهد محمد علي باشا الكبير، يوم فتحها إبراهيم باشا، وبقي حاكمًا فيها من (١٨٣٠–١٨٤٠م).
فنظم أمورها، ووطد الأمن، ونشر العدل، وحكم البلاد حكمًا فعليًّا. فكان عهده مبدأ تنبّه ويقظة سبق النهضة الحالية، بل وضع أُسسها.
وفي عهد العثمانيين غزا نابليون فلسطين سنة ١٧٨٩م، واحتلَّ إبراهيم باشا المصري فلسطين وسوريا.
ولم يقتصر حكم إبراهيم باشا على إصلاحات إدارية ومالية واسعة النطاق، على الرغم من اشتغاله بالحروب والثورات، ومحاربة رجال الإقطاع في البلاد، وعلى نشر العدل والمساواة بين أهل البلاد، بل تعدَّى ذلك إلى إصلاحات عمرانية، كترميم حمامات طبرية، وأسوار عكا، وبناء القلاع على الطريق بين القدس ويافا، وبناء القشلاقات لإيواء العساكر محافظةً على الأمن.
ثم إن الحكم المصري، الذي لم يطل أكثر من عشر سنين، قد ترك آثارًا أُخرى أجلّ من جميع ما ذُكر، ذلك أن كثيرين من عساكر إبراهيم باشا، وقوَّاده، وموظفيه لم يبرحوا البلاد، كما أن هذا الحكم قد جذب المئات، بل الألوف من المصريين للسكنى في فلسطين، وإنك لتتبين هذا في العروق والقبائل والعائلات المصرية التي استوطنت غزة، ويافا، والرملة، واللد، ونابلس، والقدس، والخليل، وقرى فلسطين من أدناها إلى أقصاها، ولا تزال هذه العروق تحمل الأسماء المصرية والسِّحن المصرية إلى يومنا هذا.
وفلسطين بلاد لها خطورتها في نظر العالم الإسلامي، من الناحية الدينية، لوقوع أولى القبلتين وثالث الحرمين فيها، ولكونها مشرفة بإسراء الرسول، وقد كانت ولا تزال تحتلُّ مركزًا رئيسيًّا في التاريخ العربي الإسلامي، وهي بمثابة القلب من البلدان العربية.
وقد كانت منذ البدء موقعًا لأهم المعارك التاريخية الفاصلة، ففيها كانت واقعة أجنادين واليرموك، وفيها حدث طاعون عمواس، واستشهد فيها مئات من الصحابة والتابعين الكرام، وفيها قضى العباسيون على الأمويين (قرب نهر أبي فطرس-العوجا). وفيها اندحر الصليبيون في حطين على يد صلاح الدين، وفيها هُزِم التتار، وفرّوا هاربين في معركة عين جالوت في مرج ابن عامر، وتخلَّصت البلاد من شرهم.
وفيها كُسر نابليون على أسوار عكا، فلم يعد في مقدوره أن يصبح إمبراطورًا للشرق، وفي فلسطين تقرر مصير الدولة العثمانية في الحرب الكبرى الأولى (١٩١٤–١٩١٧م).
وإننا لنرجو أن يُتاح لنا الوقت؛ لأن نتوسع في هذا البحث في فرصة أُخرى، وإنما قصدنا الآن أن نأتي على ذكر ناحية خاصة غامضة من نواحي تاريخ البلاد، ولسنا ندَّعي أننا أتينا على ذكر جميع الحُكَّام والولاة ورجال الحكم، وإنما أثبتنا هنا أهم أولئك الرجال الذين كانت لهم اليد الطُولى في تسيير دفَّة الحكم في هذه البلاد، على توالي العصور.