مقدمة

ما قصدت يومًا في حياتي أن أنشر كتابًا عن العلم في الحضارات القديمة الثلاث (مصر – العراق – الهند)، أو في الحضارة اليونانية، ولم يكن ذلك أملًا من آمال حياتي؛ لأنني قدَّرت دائمًا أن مثل هذا العمل في حاجةٍ إلى دراسةٍ وتخصُّص قد يستغرق سنواتٍ طويلةً لا تسمح بها مشاغلي الأخرى.

ولكني كنت دائمًا توَّاقًا إلى دراسة التراث العلمي العربي بالذات وجمع كل ما يقع تحت يدي منه من كتبٍ أو مخطوطاتٍ؛ بأمل أن أنشر يومًا من الأيام كتابًا قيِّمًا عن هذا الموضوع. وكنت دائمًا أفكِّر أننا أسرى المجهود الأوروبي والأمريكي في هذا الشأن، وأن هذا عارٌ من ناحية، وأمرٌ تشوبه الشكوك من ناحية أخرى. فنحن أحقُّ أن نبذل في هذا المجال جهدًا أكبر من جهد العلماء والمستشرقين الأوروبيين؛ لأنه تراثنا وليس تراثهم، وهو أحق أن يكون محلَّ اعتزازنا نحن، ومصدرًا من مصادر إلهامنا، لا سيما متى عرفنا أن أوروبا في عصر النهضة قد استفادت من هذا التراث فائدةً عظمى في تقدُّمها. ومن المحزن أن نرى معظم المخطوطات العربية عن هذا التراث الموجودة في الجامعات والمتاحف والمعاهد الأوروبية والأمريكية قد نُهِبت من بلاد العروبة في أجيالٍ سابقة ونُقِلت إلى هناك، مع أنها كانت مطبوعة أو منسوخة أصلًا في بلادنا!

ولكني كنت أدرك أن هذه الدراسة التي أطمع في إنجازها هي عملٌ شاقٌّ إذا أراد الإنسان أن تكون شيئًا له قيمته وليس تكرارًا وترديدًا لما هو مكتوب في الكتب الصغيرة المعروفة أو حتى في الكتب الكبيرة العربية التي تكتفي بالتسجيل السريع لخلاصة إنجازات العلماء العرب الأوائل دون أن تُعنى بالتعمق في المادة العلمية ذاتها، ودون أن تضع هذه المادة العلمية في إطارها الصحيح من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية للمجتمع الذي نشأت فيه.

وفي ظني أن دراسة المنجزات العلمية وحدها، معزولةً عن بقية العناصر المادية والفلسفية التي تؤثِّر في المجتمع وتتأثر به، إنما هي دراسة قاصرة لم تعد مقبولة اليوم، بعد هذا التطور الكبير الذي اجتازته مناهج البحث وطرقه، حتى كادت تستقر على أهمية الدراسة القائمة على الترابط بين العوامل المادية والفكرية المختلفة، التي تتفاعل بعضها مع بعض وتشكل الظواهر؛ الأمر الذي يجعل عزل أحد هذه العوامل ودراسته وحده أمرًا محفوفًا بالمخاطر فيما يتعلق بالنتائج. على هذا الأساس بدأتُ، بعد استعراض ما لديَّ من مادة علمية، في دراسة عديدٍ من المراجع العربية والأجنبية العلمية والتاريخية والفكرية دراسةً متأنيةً مسجلًا ملاحظاتي المرتبطة بالمادة العلمية بالذات.

ولكن المضيَّ في الدراسة والبحث أقنعني بضرورة الرجوع إلى الحضارة اليونانية؛ إذ إن كبار العلماء من العرب كانوا على علمٍ واسع بالإنجازات اليونانية في العلوم والفلسفة؛ ولذا فإن من المستحيل أن نفهمهم جيدًا، وأن نقيِّم أعمالهم وإنجازاتهم دون أن نفهم ونقيِّم منجزات هذه الحضارة ولو على سبيل الإجمال.

وعندما بدأت دراستي للحضارة اليونانية وجدت نفسي مندفعًا رغم أنفي إلى حضارة الوديان الثلاثة القديمة (النيل – الفرات – السند) لفهم دين الحضارة اليونانية لهذه الحضارات الثلاث. وهكذا بدأ الموضوع بالتراث العربي فوجدتني مؤقتًا غارقًا في دراسة حضارات سابقة على هذا التراث كمقدمةٍ ضرورية لدراسته وتقييمه.

واستغرق مني هذا العمل الأخير ما يقرب من عام عُنيت فيه أن ألخِّص كل قراءاتي وأنسق بينها وأدون ملاحظاتي عليها وأضيف إليها من فكري. ثم بدأت أعيد كتابة كل هذا على هيئة فصول؛ لفائدتي الشخصية. وعندما انتهيت من هذه المهمة تركت هذه الفصول وعدت إلى مهمتي الأصلية في دراسة التراث العلمي العربي وتجميع كل مادة فيه أمكنني الوصول إليها.

غير أن بعض الأصدقاء الذين اطلعوا على هذه الفصول رأوا في نشرها عملًا مفيدًا للدارسين يوفر عليهم شيئًا من الجهد في تجميع المادة العلمية ويُطلعهم على منهجٍ من مناهج البحث قد يكون جديدًا على بعض القراء. ورغم تردُّدي في بداية الأمر في قبول هذا الرأي فإني اقتنعت في نهاية الأمر بوجهة نظرهم ووافقت على نشر هذا الجزء منفصلًا؛ بأمل استفادة قراء العربية منه.

وليس هذا بالطبع اعتذارًا عن دراسة عميقة للتراث العلمي العربي أرجو أن أوفَّق في كتابتها ونشرها عندما أنتهي منها، وإنما هو بمثابة إرهاص. وإذا أحسن القارئ الظن بي قلت إن نشر هذا الجزء عن الحضارات القديمة واليونانية هو بمثابة عربون ووعد بنشر الدراسة الأهم؛ والتي هي أمل كبير لي عن التراث العلمي العربي، والسلام.

١٧/مايو/١٩٦٧م
عبد العظيم أنيس

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥