العلم القديم

ليس هذا بحثًا في الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية في الحضارة القديمة؛ ونعني ﺑ «القديمة» تلك الحضارة التي سبقت الحضارة اليونانية الكلاسيكية والتي تركزت بالدرجة الأولى في مراكز حضارية ثلاثة معروفة: مصر، والعراق، والهند. وإنما نعرض هنا لقضية تطوُّر العلم والتكنيك وعلاقة هذا بالتطور الاجتماعي والاقتصادي والفكري على وجه الخصوص؛ غير أنه من المعترَف به اليوم أن مسألة تطوُّر العلم لم تكن، وليست، ولن تكون معزولة عن التنظيم الاجتماعي القائم بأي حال من الأحوال. فالعلم هو بصورةٍ ما الوليد الشرعي للبيئة الاجتماعية التي ينشأ فيها. وبدون هذا الواقع المادي المتمثل في العلاقات الاقتصادية والطبقية في المجتمع يستحيل فهم منشأ العلم وتطوره. وبدون دراسة تأثير الفكر العلمي ونتائجه العملية يستحيل أيضًا فهم التطور الاجتماعي ذاته فهمًا سليمًا.

ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن المنابع الأساسية للمعرفة البشرية تتمثل في تطوُّر قوى الإنتاج من ناحية، وتطوُّر الصراع الطبقي من ناحية أخرى. ومن المنبع الأول نشأت وازدهرت مجموعة العلوم التي نسميها «العلوم الطبيعية»؛ تلك المجموعة التي يلتقي كل المفكرين حول وصفها بالعلم والتي تتضمَّن علومًا كالطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات والطب. وترتبط بهذه العلوم كذلك علوم التكنيك كالهندسة الميكانيكية والصناعات الكيميائية … إلخ. ومن المنبع الثاني نشأت وازدهرت مجموعة العلوم التي نسميها «العلوم الاجتماعية» كالاقتصاد والتاريخ وعلم النفس وعلم الاجتماع … إلخ. ولما كانت هذه العلوم ذات مدلول اجتماعي وطبقي واضح، لم يكن من السهل أن يتم أي اتفاق بين المشتغلين بقضايا الفكر على موقفٍ واحد من هذه العلوم.

على أن هذا التقسيم في حقيقة الأمر ذو طابع أكاديمي إلى حد كبير؛ إذ تظل بعض المعارف البشرية الأساسية كالرياضيات والفلسفة تستلهم ازدهارها من المنبعين الأساسيين معًا. ومن المسلَّم به أن الرياضيات القديمة قد تولَّد تطورها المباشر أولًا من الاحتياجات الاقتصادية والوضع الاجتماعي دون أن يكون لهذا صلة مباشرة بقوى الإنتاج وأدواتها. ولقد جاءت الفلسفة بمثابة الاحتضان الأعلى للعلوم الطبيعية والاجتماعية معًا ولم تكن صادرة عن أحدهما فحسب.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فليس من السهل، ولا من السليم حتى، في العلوم الطبيعية أن نعزل تأثير تطوُّر قوى الإنتاج وأدواته عن تأثير تطوُّر الصراع الطبقي؛ إذ يوضح تاريخ العلوم الطبيعية عمومًا وتطوُّر هذه العلوم في العصر الحديث بالذات تأثير قضايا الصراع الطبقي وما نتج عنه من أفكار ونظريات على تطوُّر العلوم الطبيعية، ولا سيما في قضايا المجتمع والنظريات الهامة التي قامت على أساسها التطورات الخصبة في علوم الطبيعة والأحياء والإحصاء على وجه الخصوص. وحسبنا أن نشير إلى أن نظرية الكم الحديثة والقديمة في علم الطبيعة قد تأثرت إلى حد كبير بالفلسفة الوضعية التي نمت وازدهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وأن هذا التأثير الضخم لهذه الفلسفة على علم الطبيعة في نظرياته الأساسية ما زال قائمًا. وحسبنا أيضًا أن نشير إلى علم الوراثة والاختلافات القائمة اليوم بين المشتغلين بهذا العلم كثمرة نموه في عالم يتميز بالصراع الطبقي الحاد وبنظرياته في الوراثة الاجتماعية.

على أن هذا ليس موضوع بحثنا. ولسوف نتعرض لهذه القضايا بالتفصيل عندما نتناول مسألة النظرية العلمية والمنهج العلمي عمومًا. وإنما أردت هنا أن أؤكد جانبًا واحدًا، وهو الصلة الوثيقة بين العلم والمجتمع؛ وأن أؤكد على وجه الخصوص أن هذه الصلة معقدة الجوانب وليس من السهل دائمًا تحليلها إلى مركباتها الأساسية وخيوطها الأولى. ولقد أردت من ذلك أن يكون واضحًا، ولو في عجالة، أنه لا سبيل لفهم تاريخ العلم القديم دون أن يوضع هذا العلم في ظل إطار اجتماعي واقتصادي معين؛ إطار يحدد الحياة الاجتماعية وآلات الإنتاج ومصادر الغذاء الأساسية والانقسام الطبقي في المجتمع والتيارات الفكرية السائدة فيه. وبدون هذا الإطار العام يستحيل أن تكون لدينا صورة ذات مغزًى للعلم ونتائجه؛ يستحيل أن نفهم لماذا تطورت علوم وتخلَّفت أخرى، لماذا تقدَّمت علوم معينة في اتجاهٍ خاص ولم تتقدَّم في اتجاه آخر؛ بل يستحيل حتى عند دراسة العلم الواحد لماذا تقدَّم فرعٌ من فروعه وظل آخر متخلفًا.

والذين يدرسون العلم القديم يعرفون أن علم الحساب بالذات هو الذي قفز في مبدأ الأمر القفزة الأولى. لماذا الحساب بالذات؟ لأن الوضع الاقتصادي آنذاك كان يحتِّم على الكهان القابضين على ناصية المعابد — إذ هي المراكز الاقتصادية والعلمية الكبرى — أن يحصروا الماشية التي يسلِّمونها للرعاة، وأن يحصروا السلفيات التي تعطي للكهان الآخرين، والمحاصيل التي يتسلَّمونها من المزارعين والمرفوعة كهدايا وقرابين إلى الآلهة. وكل هذا لم يكن من الممكن حصره عن طريق عمل إشارات على العصيِّ كما كان يفعل البدائيون. وبمعنًى آخر لقد ظهرت في فترةٍ من فترات التطور البشري مشكلة «الأعداد الكبيرة»؛ الأمر الذي يدعو بالضرورة إلى التوفير في الرمز. ومن هنا كان من المحتم اجتماعيًّا أن يتطور علم الحساب وأن يكون لهذا التطور صلة وثيقة باختراع الكتابة ذاتها. ولقد أدَّت الحاجة إلى تطوير الآلات (مثل الفأس والإزميل والقارب) إلى إدراك أهمية الدقة في «القياس»؛ إذ إن الإنسان البدائي في انتقاله الحضاري كان في حاجة إلى «مقياس» يقيس عليه كل فأس جديدة يصنعها، وكل لوح خشب جديد يضعه في قارب. وإذا كان الأمر كذلك كان من المحتم اجتماعيًّا أن تنشأ المقاييس والموازين. وهذا بدوره لا بد أن يؤدِّي إلى ظهور أجزاء الوحدة، سواء أكانت هذه الوحدة طولًا أم وزنًا. وهكذا نشأت قضية «الكسور». إن تطوُّر الكسور في علم الحساب يرتبط ارتباطًا منطقيًّا بعمل حضاري أساسي هو تطوُّر أدوات الإنتاج وآلاته وأساليب المواصلات.

فإذا تعرَّضنا للفلك وجدنا أن هذا العلم ارتبط في منشئه ارتباطًا وثيقًا بالحاجة القصوى إلى تنظيم الزمن على مدار السنة وعلاقة هذا بالزراعة ومواسمها والفيضان وموعده ومواسم ولادة الحملان والحيوانات المستأنسة كما ارتبط كذلك بالتجارة والحاجة إلى توجيه القوافل في البر والبحر. وتلك بالدرجة الأولى قضايا تتعلق بالوضع الاقتصادي: التجاري والزراعي. غير أنه من الإسراف أن ننسب تطوُّر علم الفلك إلى هذه الاعتبارات فحسب؛ فالأفكار الدينية التي كانت قائمة آنذاك وثيقة الصلة أيضًا بتطور علم الفلك، والطقوس الدينية السائدة وأفكار البعث بعد الموت والحاجة إلى إيناس الميت بالضوء الطبيعي في قبره. كل ذلك كان عاملًا هامًّا في تطوير علم الفلك الذي لم يكن منفصلًا آنذاك عن التنجيم. وإذا درسنا بناء الهرم الأكبر مثلًا نجد أنه قد صُمِّم بحيث يسمح لضوء نجم «الشعرى» Siruis أن يسقط متعامدًا على أحد أسطح الهرم فينفُذ من خلال فتحات التهوية إلى مخدع الملك لكي يؤنس عليه وحشته. ولقد أوضح هوجبن١ هذه الحقيقة كما أشار إلى أن اختيار الشعرى بالذات شروقه الاحتراقي يبشِّر ببدء العام المصري وفيضان نهر النيل الذي يجلب الخير والرخاء للمزارعين. وغني عن البيان أن هذا العمل الكبير كان من المستحيل إنجازه بدون دراسة النجوم وبحث مسارها على طول السنة، كما أنه لم يكن ممكنًا بدون تقدُّم كبير في فن البناء وفن الرياضيات. وهكذا تتآزر العوامل الاجتماعية والاقتصادية مع عوامل فكرية ودينية لتسهم في دفع علمٍ كعلم الفلك.

فإذا تعرضنا للطبِّ وجدنا أن طبيعة التطور الطبي مرتبطة تمامًا بغريزة المحافظة على الحياة عند كلِّ فرد منذ الإنسان البدائي، غير أن القفزة الحقيقية في الطب (ولا سيما الجراحة) ارتبطت بالانقسام الطبقي الذي كان الطابع المميز للعصر البرونزي ووجود طبقة أرستقراطية تتمثل في الملك والنبلاء والكهنة والكتَّاب؛ تلك الطبقة التي لا تعمل مباشرة في الإنتاج الزراعي بل تعيش على فائض من المدينة. وفي مواجهة هذه الطبقة توجد طبقة أخرى مَسُودة تتمثل في الجماهير المشتغلة بالزراعة والعاملين في الحرف والصيادين. ولقد كان من نتائج هذا الانقسام الطبقي أن تفرغت الطبقة الحاكمة، وسهَّل هذا على بعض أبناء هذه الطبقة تخصيص حياتهم لبحث ما عُرف بعد ذلك بالعلوم «النبيلة»؛ تلك العلوم التي كُتبت على أوراق البردي وجاءت نتيجة نوعٍ من إعمال الفكر والبحث.

ولقد كان الطب من هذه العلوم، وكان من الطبيعي أن يتم تشجيع الدراسة الطبية في مثل هذا المجتمع لصالح الأرستقراطية. كذلك كان من الطبيعي أن يتجه مثل هذا المجتمع الطبقي إلى غزو البلدان المجاورة بحثًا عن توسيع فائض الإنتاج الزراعي وزيادته وعن المعادن اللازمة للحرف كالنحاس والقصدير … إلخ. ومن هنا كثرت الحروب بين مصر القديمة وجيرانها مثلًا. وهذا في حدِّ ذاته — جنبًا إلى جنب مع الأعمال العمرانية الكبرى كالأهرام وخلافه، في ظل أوضاع طبقية محددة وتكامل فكرة الدولة — كان لا بد أن يؤدِّي إلى اهتمام بالجراحة؛ لكثرة الحوادث وتعدُّدها في العمل الحربي أو البقاء السلمي. ولعل اعتبارات الحوادث كانت أكثر إلحاحًا، ولعل الجراحة كانت خاضعة للتجريب المباشر وأيسر من البحث الطبي الباطني في مجتمعٍ تحْكمه مفهومات عقائدية معينة عن الروح والجسد. وربما فسَّر هذا التقدُّمَ النسبي للجراحة عن الطب آنذاك.

لقد أردت من هذه العجالة السريعة ضرب بعض الأمثلة التي تحتم التعرض للإطار الاجتماعي والاقتصادي ودراسة قوى الإنتاج الأساسية؛ غير أن ثمة فرقًا بين بحث يكتب لهذا الغرض وبين بحث يتناول قصة العلوم الطبيعية وتطورها. ومن هنا آثرت التركيز على إعطاء مقدمة عامة تتناول في إيجاز كامل طبيعة المجتمع القديم وظروفه.

ونحن نواجه هنا عديدًا من الدراسات في هذا الجانب من الموضوع، دراسات قدَّمها علماء الآثار القديمة من ناحية والمشتغلون بتاريخ العلم من ناحية أخرى. وثمة صعوبات عديدة تتعلق بتاريخ كل مرحلة من مراحل الحضارة القديمة والفترة التي عاشتها كل حضارة في قُطر معيَّن. وقلَّما يتفق المؤرخون في ذلك؛ غير أننا سنتتبع الإطار الذي قدَّمه جوردون تشايلد،٢ والتزم به العالم الكبير ﺟ. ب. برنال.٣

ويقوم هذا الإطار في تناول تاريخ ما قبل المجتمع اليوناني على التقسيم إلى أربعة مراحل أساسية متميزة:

  • أولًا: العصر الحجري القديم (من حوالي ۱۰۰۰۰ق.م. إلى ٥٠٠٠ق.م.).
  • ثانيًا: العصر الحجري الحديث (من ٥٠٠٠ق.م. إلى ۳۰۰۰ق.م.).
  • ثالثًا: العصر البرونزي (من ۳۰۰۰ق.م. إلى ۱۲۰۰ق.م.).
  • رابعًا: العصر الحديدي الأول (من ۱۲۰۰ق.م. إلى حوالي ۷۰۰ق.م.).

وأساس هذا التقسيم — كما هو واضح — هو التمييز بين هذه المراحل على أساس المعادن السائدة، أو بمعنًى آخر على أساس خواص قوى الإنتاج. وهذا في حدِّ ذاته اعترافٌ من جانب هؤلاء المؤرخين بأنه لا يوجد ثمة أساس موضوعي أقوى من هذا الأساس.

العصر الحجري القديم

يتميز العصر الحجري القديم بأنه مرحلة جمع الغذاء من الطبيعة مباشرةً وصيد الحيوان والأسماك. ويتكون الغذاء في هذه المرحلة أساسًا من الحبوب التي تنبُت بشكل طبيعي والفواكه والحشائش والجذور. كما أن هذه الفترة تتميز بخروج جماعات بشرية كبيرة نسبيًّا لصيد الحيوانات البرية المتوحشة. فظاهرة الصيد ليست فردية في هذه المرحلة؛ إذ إن الإنسان البدائي كان من المستحيل أن يواجه وحده الحيوانات المفترسة، ولا سيما إذا وضعنا في الاعتبار بدائية الآلات التي يستخدمها الإنسان الأول؛ تلك الآلات التي لم تخرج عن الأدوات الحجرية؛ كالفأس والقادوم والرمح … إلخ. ويُعتبر اكتشاف النار في هذه المرحلة أضخم نصر بشري استطاع الإنسان الأول أن يحققه. بل لعل اكتشاف النار ما زال يُعتبر من أضخم الاكتشافات البشرية حتى اليوم. وإذا استبعدنا جانبًا الآثار المترتبة على هذا الاكتشاف في العصور اليونانية وما بعدها، فربما كان من المناسب أن نذكر هنا كيف أن تطوُّر الكيمياء كتكنيك كان مستحيلًا بدون النار؛ وبمعنًى آخر كان من المستحيل اكتشاف معدن البرونز (وهو سبيكة من معدنَي النحاس والقصدير بنسبة معينة). وبدون اكتشاف البرونز كان من المستحيل أن ينشأ العصر البرونزي أصلًا.

لقد أدَّى اكتشاف النار إلى ظاهرة طبخ الغذاء والحيوان، وهي ظاهرة حضارية جديدة، كما أدَّى إلى شواء الأسماك وسلخ جلود الحيوان وإعدادها كملابس تقي الإنسان برودة الطقس. وصاحَب هذا ظهور بعض الأدوات البدائية المرتبطة بالطبخ والطعام مثل السِّلال والدِّلاء، وأدوات أخرى من لوازم الصيد كالشِّباك والحبال.

أما من الناحية الاجتماعية فيقوم هذا المجتمع على مجموعات اجتماعية صغيرة متفرقة، يقوم فيها النساء عادة بجمع الفاكهة والحبوب والجذور، ويقوم فيها الرجال بصيد الحيوان، ويعيش الكل حياة المشاع البدائية. ولما كان الرجال يخرجون للصيد ويغيبون وقد لا يرجعون ويتزاوجون مع نساء العشائر الأخرى، كانت النساء هنَّ العنصر الدائم في كل عشيرة، وهنَّ ضمان استمرارها؛ ولذا كان الأطفال يُنسبون إلى الأم لا الأب، وهو ما يُعرف اليوم باسم العشيرة الأموية. ويطلق على هذه الجماعات أحيانًا اسم العشيرة «الطوطمية»؛ إذ كانت كل عشيرة تستخدم لها «طوطمًا» خاصًّا من الحيوان النافع أو النبات، وتستخدم الرقص والسحر باعتقاد أنه بهذا يمكن تشجيع الحيوان أو النبات على التكاثر أو الازدهار. وفي ظل مجتمع يعيش فيه الإنسان متطفلًا على الطبيعة الجامحة نشأ السحر كي يعوض فجوات عجز التكنيك البدائي. وفي مثل هذه المجتمعات البدائية تكون طقوس حفلات الصيد ودفن الموتى ظاهرةً اجتماعية أساسية.

أما من ناحية المنجزات الفكرية والثقافية فلا يوجد في هذه المرحلة غير رقص الطقوس والأغاني والموسيقى التي تصاحب الطقوس في حفلات الصيد والموت والتعميد. كما شهدت تلك المرحلة أولى المحاولات لتقليد الطبيعة من ناحية الرسم والنحت وأولى المحاولات في استخدام الأعشاب للعلاج الطبي وفي الجراحة. وينبغي أن نشير أخيرًا إلى نشأة اللغة المنطوقة. ويُجمع المؤرخون على أن عمليات الصيد الجماعية تستحيل بدون الإيماءة أو الكلمة. وقد لا نعرف متى بدأ الكلام بالدقة غير أنه لا بد أن يكون حديثًا نسبيًّا؛ إذ توضح الدراسات البيولوجية أن جهاز التنسيق بين اليد والعين يشغل جزءًا كبيرًا من المخ، وهو لا يزيد عن أن يكون امتدادًا طبيعيًّا لهذا الموروث من القردة. أما جهاز التنسيق بين الأذن واللسان فهو صغير وحديث نسبيًّا كما يرى برنال الذي يؤكد أنه يستحيل ظهوره وتثبيت وضعه وراثيًّا إلا بعد ظهور المجتمع.

العصر الحجري الحديث

ويتميز هذا العصر بنشأة القرية كظاهرة اجتماعية جديدة في اتجاه الاستقرار. ولقد تم هذا نتيجة اتجاه الإنسان إلى الزراعة. ويُعتبر الانتقال إلى الزراعة الظاهرة الأساسية المميِّزة للعصر الحجري الحديث عن العصر الحجري القديم. ولقد كان من الطبيعي أن يصاحب ظهور الزراعة ظاهرة استئناس الحيوان بهدف استخدامه للطعام الدائم من ناحيةٍ والانتفاع من صوفه لعمل الملابس من ناحية أخرى. وفي هذا العصر استُخدم المحراث لأول مرة في الزراعة، كما بُنيت الصوامع لتخزين الغذاء الناتج من الأرض، واستقرت الزراعة في أماكن محددة. وحول هذه الأماكن كان من الطبيعي أن تنشأ الوحدة الاجتماعية الجديدة: القرية.

أما من ناحية الأدوات والآلات فقد ظل الإنسان البدائي يستخدم الفئوس الحجرية وإن كانت صناعة هذه الفئوس قد تقدَّمت، كما عرف الإنسان طواحين اليد والنجارة البدائية إلى حدٍّ كبير، وتلك ظاهرة جديدة في الانتفاع من أخشاب الغابات. كما تميزت هذه الفترة بظهور أدوات الزينة المصنوعة من الذهب المحلي أو النحاس.

ومن الناحية الاجتماعية تميزت حياة القرية بنشأة بيوت الطين والمنازل الخشبية وبحفلات الزواج التي تُعرف باحتفالات الخصوبة والتي كان يُستخدم فيها التزاوج البشري بطقوس خاصة بهدف تشجيع المحاصيل على التكاثر واسترضاء الطبيعة وإغرائها. كما أصبحت احتفالات الأمطار والحصاد من الظواهر الاجتماعية المميِّزة لهذا العصر.

أما من ناحية العمليات الصناعية فأهم ما يميز هذه المرحلة صناعة الفخار من الصلصال باستخدام الدولاب الخزفي وتجفيف الصلصال في أفران ذات درجة حرارة عالية بحيث يأخذ اللون البني المعروف، كما تتميز هذه المرحلة بظهور صناعة الغزل والنسيج اليدويَّين. ومن الناحية المنزلية كان من الطبيعي أن يصل الإنسان إلى منتجات الحبوب؛ ونعني بذلك الخبز، كما اكتُشفت صناعة الجعة (البيرة).

وكلما زاد الإنتاج الزراعي وأصبحت الأمور أكثر استقرارًا بدأت الفوارق الاجتماعية في الظهور وإن كانت لم تأخذ صورتها الحاسمة إلا في أواخر هذا العصر؛ الأمر الذي أدَّى إلى الانتقال إلى العصر البرونزي.

أما من ناحية المنجزات الفكرية والثقافية فقد كان من الطبيعي أن يصاحب الاهتمام الكبير بالزراعة وتربية الحيوان اهتمامًا مكافئًا بالتقويم السنوي؛ فقد اكتشف الإنسان أن للزراعة مواسم على مدار العام، وأدرك من ملاحظته وتجربته أن لكل محصول موسمًا خاصًّا به إما في الشتاء أو الصيف أو الربيع أو الخريف، ولحظَ الإنسان العلاقة بين هذه المواسم الزراعية وحركة النجوم في السماء ووضع وطول ظل الأجسام على الأرض. كما كان من الطبيعي أن يصاحب الاستقرار في القرية واستقرار العمل الزراعي الاهتمام أيضًا بمعرفة طول النهار والليل في كل يوم على مدار السنة. ومن هنا كان الاهتمام بالفلك الذي لم يكن من الممكن أن يوضع بينه وبين التنجيم حدٌّ فاصل آنذاك.

فالاعتبارات العملية والنزعات الدينية كانت مختلطة. وإذا الفلك ظل مختلطًا بالتنجيم حتى أواخر عصر النهضة، أدركنا صعوبة فصل الفلك بالذات عن علوم التنجيم في عالم يدين فيه الإنسان بفكرة الولاء لإله بدائي موجود في السماء يحرِّك الكواكب والنجوم كما يشاء.

ولقد شهد العصر الحجري الحديث بداية ظهور النماذج والأشكال الهندسية لأول مرة، وتلك خطوة كبيرة في رقيِّ الذوق البشري من ناحية، وفي مبدأ ظهور الهندسة من ناحية أخرى. كما استطاع الإنسان لأول مرة أن يبدأ أولى محاولاته في التجديد وفي إبداع أفكاره الأسطورية عن أصل الخليقة.

العصر البرونزي

إن الاتجاه إلى الزراعة كان لا بد أن يؤدِّي إلى إثارة مشاكل معقدة عديدة، وفي مقدمة هذه المشاكل مشكلة الري بالذات. فتنظيم الزراعة والاتجاه إلى توسيعها أثار بالضرورة الحاجة المتزايدة إلى الماء ورفعه إلى الأرض المرتفعة عن مستوى الماء، وإلى شق قنوات صناعية للري وأخرى للصرف. ولعل هذا العصر هو بدء العهد الحضاري الحقيقي بمشاكله المعقدة. ولقد واجه الإنسان هذه المهمة الحضارية المعقدة بشجاعة فائقة، واستطاع أن ينجز أعمالًا تبدو مدهشة بالقياس إلى مستوى المعرفة القائم آنذاك.

ولقد أدَّى حل مشاكل الزراعة واتساع الإنتاج فيها إلى ظهور فائض الإنتاج، وهذا أدَّى بدوره إلى أول انقسام اجتماعي وطبقي واضح؛ ففي العصر البرونزي انقسم المجتمع إلى طبقتين: طبقة سائدة تعيش على فائض الإنتاج، وطبقة مَسُودة تعمل في الزراعة والحرف.

إن مشاكل الزراعة والري المعقدة كانت في حاجة لحلها إلى تنظيم اجتماعي أرقى كثيرًا مما كان قائمًا في العصر الحجري الحديث، وإلى جهود اجتماعية لا تقتصر على عشيرة أو عشيرتين من العشائر القديمة. والحقيقة أنها كانت في حاجة إلى نوع من التنظيم المركزي؛ إذ إن هذه الأعمال الإنشائية الكبيرة كانت بالضرورة تستدعي ظهور فكرة الدولة، التي تأخذ على عاتقها تنفيذ هذا كله. وكان من الطبيعي أن يصاحب الانقسام الطبقي ظهور الدولة التي تتولى نيابةً عن المجتمع تنظيم الري والزراعة ثم تحولت بعد ذلك لتحمي مصالح الطبقة الحاكمة الجديدة. ولسنا نبالغ إذا قلنا إن حاجة مصر القديمة إلى تنظيم مركزي للري كانت العامل المباشر في ظهور بذرة الدولة.

وفي مثل هذه الظروف التاريخية كان من الطبيعي أن تتحول عدة قرى متجاورة إلى مدينة بالمعنى الحضاري المعروف. إن الفارق بين المدينة والقرية يكمن في أن معظم سكان المدن ليسوا مشتغلين بالزراعة ولا منتجين للغذاء، وإنما هم حرفيون وتجار وعمال ورجال إدارة. وقبل أن تنشأ المدينة فمن الضروري أن يكون مستوى التكنيك الزراعي كافيًا كي يعيش سكان المدن (غير المنتجين زراعيًّا) على فائض إنتاجه. ومعنى هذا أن من الضروري أن تكون ظاهرة المدن قد أتت في أعقاب الانقسام الاجتماعي القائم على أساس توفر فائض الإنتاج. فالمدينة إذن هي نتاج من نتائج الحضارة وليست سببًا لها.

وإذ نشأت المجتمعات الطبقية وتم الانقسام الاجتماعي، كان من الطبيعي أن تأتي هذه المجتمعات بكل منتجاتها المعقدة المادية والفكرية والروحية: الآلهة والمعابد، الملوك الكهنة الذين ينتمون إلى الآلهة أو لعلهم آلهة على الأرض، الملكية الخاصة بمعناها الذي نعرفه وتعرفه الدولة، ملكية الأرض أو المحصول والماشية. وفي أعقاب الملكية الخاصة يأتي القانون الذي أخذ صورته الراقية فيما عُرف باسم قانون «حامورابي» ببابل؛ والديون التي هي ظاهرة مصاحبة للملكية الخاصة، وأخيرًا الكتابة التي لا يمكن فصلها أبدًا عن ظاهرة الملكية الخاصة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى اتجه الاستغلال الإنتاجي لا إلى الزراعة فحسب، بل إلى الآلات المعدنية اللازمة للزراعة والصيد والنقل. ولقد أدَّى اكتشاف المعادن، وعلى وجه الخصوص النحاس، إلى نظام استغلال المناجم والتعدين. ولقد عرف العصر البرونزي معدنين أساسيين: النحاس والقصدير. ومنهما اكتشف الإنسان بخبرته أن مزج هذين المعدنين في درجة حرارة معينة (وبنسبة ۱۲ ٪ للقصدير) يؤدِّي إلى معدن جديد هو البرونز، وهو أصلب من النحاس وأجمل شكلًا وله درجة انصهار أقل؛ الأمر الذي يسهِّل إعادة صياغته وتشكيله دائمًا. واستُخدم هذا المعدن في صناعة الفأس والمقص المعدني والإزميل، كما استُخدم في عمل أسلحة الصيد والحراب والدروع الواقية، وفي صناعة القوارب كذلك.

إن الفوائد الاجتماعية والاقتصادية لمعدن كالبرونز كانت لا بد أن تؤدِّي إلى محاولة الدول الجديدة للهجوم على المناطق المملوءة بالمعادن من نحاس وقصدير وذهب. وكان هذا إيذانًا ببدء الحروب على نطاق واسع نسبيًّا. ومن هذا الاعتبار من ناحية واحتياجات الري المركزي من ناحية أخرى، كان من الضروري أن تُنشأ الطرق وأن تُمهَّد. وصاحَب هذا لأول مرة في التاريخ استخدام العجلة الدائرية في الانتقال. ولما كانت بعض الحيوانات كالحصان قد استؤنست، ظهرت العربة التي يجرُّها الحصان باعتبارها وسيلة الانتقال الجديدة والنشاط الحربي. ويذكر المؤرخون كثيرًا عربة رمسيس؛ بَيد أن هذه العربة اكتشاف متأخر في مصر؛ إذ إن المواصلات في مصر اعتمدت أساسًا لفترة طويلة على الملاحة النهرية لقرب المدن من مجرى النيل.٤

ولقد أدَّت الحروب إلى هزيمة دول وانتصار أخرى. وهكذا نشأت الإمبراطوريات القديمة، وكان طبيعيًّا أن تؤدِّي المعارك الحربية إلى العودة بألوف الأسرى الذين تمت الاستفادة بهم في الزراعة وأعمال أخرى كثيرة. إنما أدَّى هذا كله إلى ظهور ظاهرة العبيد كإحدى الظواهر الملازمة لظهور هذه الإمبراطوريات، وكأحد العوامل التي أدَّت — جنبًا إلى جنب مع غزو البرابرة من الخارج — إلى تقويض هذه الإمبراطوريات في نهاية الأمر.

أما من الناحية المدنية البحتة، فقد شهدت المدن الجديدة نشأة الطوب الني واستخدامه جنبًا إلى جنب في بناء المنازل المتعددة الأدوار، كما شهدت فرش هذه المنازل بالأثاث الخشبي المركَّب من أجزاء متعددة وظهور الكراسي الخشبية والأسرة والمناضد والفخار اللامع، وعمل البيرة والنبيذ بالمعابد على نطاق واسع نسبيًّا. ويمكننا أن نقول إن أدوات الحضارة المنزلية بمعناها الحقيقي هي من مميزات هذا العصر.

أما من ناحية المنجزات الفكرية والعلمية فقد كانت عديدة، ولسوف نعود إليها بالتفصيل فيما بعد. وحسبنا أن نشير هنا إلى بدء ظهور الرموز التصويرية وألواح الحسابات المصنوعة من طين الصلصال والتي استطاعت أن تصمد أمام كل عوامل الفناء حتى تم اكتشافها منذ سنين قليلة. وحسبنا أن نشير كذلك إلى الشعور بالحاجة القصوى إلى التسجيل، بالتالي اختراع الكتابة التي يعتبرها البعض أخطر اختراع تم في الحضارات القديمة.

يقول جوردون تشايلد:٥

إن اختراع الكتابة — كما نعرفها اليوم — يمثِّل في الحقيقة مرحلةً في التقدُّم البشري. وقد يبدو لنا — نحن المعاصرين — أن أهمية هذا الاختراع تكمن في أنه يقدم لنا فرصة النفاذ إلى صميم أسلافنا المتحضرين بدلًا من محاولة استنتاج هذه الأفكار من مخلفاتهم الناقصة. ولكن المغزى الحقيقي للكتابة يتمثل في أن هذا الاختراع قد قُدِّر له أن يحول المعرفة البشرية تحولًا ثوريًّا. وعن طريق الكتابة أمكن للإنسان أن يخلِّد تجربته وأن ينقلها مباشرة إلى معاصريه الذين يعيشون بعيدًا عنه وإلى أجيال لم تولد بعد. إنها الخطوة الأولى لرفع العلم فوق حدود الزمان والمكان.

على أنه من الضروري أن نحذَر المبالغة في قيمة المخطوطات البشرية الأولى كوسيطٍ للنشر. فالحقيقة أن الكتابة لم تُخترع في أول الأمر لهذا الهدف الإنساني العظيم. إن الكتابة لم تنشأ إلا لتفيَ بالاحتياجات العملية الأولى في إدارة المؤسسات (المعابد). ويحكي لنا المؤرخون من علماء الآثار القديمة أن الكتابة السومرية والمصرية المبكرة كانت وسائل فجَّةً للتعبير عن الأفكار، وأنه حتى بعد مرحلة تبسيط في الكتابة استمرت لأكثر من ألفَي عام ظلَّت الكتابة المسمارية مثلًا تستخدم مئات الأشكال التعبيرية المختلفة. ولذا كانت مهمةُ تعلُّم القراءة والكتابة تدور حول حفظ هذه القوائم الضخمة من الأشكال والرموز، حتى إن الكتابة المصرية القديمة (سواء أكانت الهيروغليفية أم اللغة المختزلة الهيراطيقية) كانت تستخدم أكثر من خمسمائة شكل ورمز المعروفة باسم الإيديوجرامات والوصفيات.

يقول جوردون تشايلد:٦

في مثل هذه الظروف كانت الكتابة أمرًا صعبًا وحرفة متخصصة تُكتسب بالتدريب الطويل. وظلت القراءة مغامَرةً سحرية يتم الحصول عليها بالدراسة الطويلة. وقليلون هم الذين كان لديهم الفراغ أو الموهبة للنفاذ إلى أسرار الكتابة. وفي الواقع كانت الكتابة مهنة أقرب إلى مهنة التعدين أو النسيج أو الحرب. ولكنها مهنة تتمتع بوضع ممتاز وتقدِّم إمكانيات التقدُّم نحو الوظيفة والسلطة والثروة. وأصبح التعلم منظورًا إليه لا باعتباره مفتاحًا للمعرفة، ولكن باعتباره خطوة نحو الازدهار والمركز الاجتماعي.

وواضح من هذا أن طبقة الكتَّاب التي نشأت ارتبطت ارتباطًا عضويًّا بالطبقة الحاكمة، وواضح كذلك الصلة بين اختراع الكتابة وتطوُّر الوضع الطبقي في هذه المجتمعات، ومن الضروري أن نشير هنا أيضًا إلى الصلة الوثيقة بين اختراع الكتابة وتطوُّر علم الحساب، وإن كنا سنعود إلى هذا بالتفصيل فيما بعد.

وقد يكفي الآن أن نشير إلى تقدُّم علم الحساب والهندسة؛ هذا التقدُّم الذي لا ينفصل عن الوضع الاقتصادي والحاجة الملحة إلى تسجيل أرقام الدخول الزراعية إلى المعابد والسلفيات وعدد القطعان التي تسلَّم للرعاة للرعي ثم لإعادتها بعد ذلك إلى أراضي المعبد. وكل هذا لم يكن من الممكن أن يعتمد فيه على ذاكرة الكاتب أو الكاهن، ولا كان من الممكن اللجوء فيه إلى أساليب الترقيم العددي المباشر كما كان يفعل الإنسان البدائي. وفضلًا على ذلك فارتقاء الأساطير والطقوس الدينية وظهور فكرة البعث بعد الموت والحياة التي تمارسها روح الميت في قبره، كل ذلك كان من شأنه أن يعطي أهمية خاصة لبناء الأهرامات الكبيرة. وهذا أدَّى بدوره، مع اهتمامات أخرى مباشرة إلى تركيزٍ خاص على علم الهندسة.

وفي العصر البرونزي تم اكتشاف التقويم الشمسي بعد أن كان الاعتماد مركَّزًا على التقويم القمري الذي أثبت عدم صلاحيته في تحديد مواسم الزراعة والفيضان. وتقدَّم علم الفلك، كما ظهرت لأول مرة ظاهرة احتراف الطب كمهنة متخصصة في يد الكهنة.

وفي ختام هذا الاستعراض السريع للعصر البرونزي ينبغي أن نؤكد مسألتين أساسيتين:

  • أولًا: أن العصر البرونزي هو عصر الانقسام الطبقي الواضح لأول مرة في تاريخ البشرية بما استتبع ذلك من نتائج اجتماعية وسياسية خطيرة وفي مقدمتها نشوء الدولة.
  • ثانيًا: أن العصر البرونزي هو ما يمكن أن نسميه بحقٍّ عصر الثورة الصناعية الحقيقية؛ تلك الثورة التي بدأت في أواخر العصر الحجري الحديث وآتت أُكُلها في العصر البرونزي. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن البشرية لم تشهد ثورة صناعية ثانية بعد ذلك إلا في القرن الثامن عشر الميلادي. وقد يبدو هذا الكلام من صيغ المبالغة؛ غير أنه الحقيقة بعينها؛ فكل الحضارات التي قامت بعد ذلك حتى القرن الثامن عشر الميلادي كانت من الناحية الصناعية بالقياس إلى عصر البرونز تمثِّل فوارق في الكم لا الكيف أبدًا.
يقول فارنجتون٧ مشيرًا إلى الثورة الصناعية التي بدأت في العصر الحجري الحديث:

عندما يُدرس التاريخ كما ينبغي كي يفهم الإنسان القصة الحقيقية للمجتمع البشري كأساسٍ لحياته الفكرية، سيكون العرض المفصل الواقعي لطبيعة هذه الثورة العظيمة في سيطرة الإنسان على بيئته درسًا من أهم الدروس الأساسية. وسيتآلف العلم والورشة والمحاضرة والمكتبة لجعل مغزى هذين الألفَي عام الحيوية يرسب في أعماق الوعي التاريخي للبشرية. فهذه الثورة التكنيكية هي الأساس المادي للحضارة القديمة. وفي تاريخ الإنسان لا يوجد تغيُّر يمكن مقارنته فيما بين هذه الثورة والثورة الصناعية في القرن الثامن عشر.

العصر الحديدي الأول

لقد كان اكتشاف خامِ الحديد عنصرًا محولًا في التطور الاجتماعي؛ إذ أدَّى وجود الحديد ووفرته إلى توافر آلات أصلب وأدوات وأسلحة معدنية أكثر وأشد رخصًا، وإلى ظهور أجهزة حربية أشد تعقيدًا. وساعدت صناعة هذه الأدوات على تزايد العمل في إزالة الغابات وإعداد هذه الأرض في الزراعة، واستخدام المحراث على نطاق واسع. كما أدَّت إلى ظهور المضخات لرفع الماء وعجلات المياه وإلى استخدام الروافع، كما أدَّت زيادة التبادل التجاري إلى تحسين صناعة السفن. وهذا العصر هو عصر اكتشاف صناعة الزجاج على نطاق واسع، وإن كان ثمة شواهد تدل على استخدام الزجاج في العصر البرونزي بمصر، كما كانت صناعة الأدوية السائدة والأصباغ من شواهد عصر الحديد الأول وعلاماته.٨

ومن الأدوات المعدنية الجديدة كان من الطبيعي أن توضع الأسس الأولى في علوم الطبيعة والميكانيكا. ومن صناعة المعادن والأصباغ كان من الطبيعي أن توضع اللبنات الأولى في علوم الكيمياء والصناعة الكيميائية.

أما من الناحية الاجتماعية فقد اتسم هذا العصر بوجود فائض إنتاج وآلات قابلة للتبادل التجاري على نطاق واسع؛ ومن هنا ازدهرت المدن التجارية التي كانت المراكز التجارية الكبرى في العصر القديم والتي مهدت للحضارة اليونانية القديمة؛ تلك الحضارة المعروفة كحضارة عصر الحديد. وفي هذا العصر كان من الطبيعي أن تبدأ ظاهرة الاشتغال بالسياسة، وأن تنمو البذور الأولى للنظريات السياسية التي انتهت إلى فكرة الجمهوريات. بل وأن تنشأ حكومات جمهورية تساند طبقة التجار الجدد، وأن يشتد ساعد الصراع الاجتماعي فتنشأ ثورات العبيد؛ تلك الطبقة التي أصبحت الطابع الاجتماعي المميز لعصر الحديد. ولما كانت الحاجة إلى الأيدي العاملة أكثر إلحاحًا عن ذي قبل، كان من الطبيعي تصبح الحروب ظاهرة عامة بين المدن المختلفة، وأن ينشأ في بعض هذه المدن حكم «البلوتوقراطية». وهذه الظروف الاجتماعية كانت في الحقيقة الأساس الواسع لنشأة العلوم الاجتماعية بمعناها الحقيقي في تلك الفترة. ومن الصحيح أنه قد نشأت في العصر البرونزي ثورات اجتماعية ذات شكل ديني من مصر وبابل (ثورة أخناتون مثلًا)؛ غير أن هذه الثورات لم تدم طويلًا ولم تحقق شيئًا من أهدافها في نهاية الأمر. وسنعود لتناول هذا الموضوع بالتفصيل فيما بعد.

أما عن المنجزات العلمية والفكرية الأساسية لعصر الحديد المبكر فحسبنا أن نشير إلى نشأة الحروف الأبجدية في صورتها المبسطة نسبيًّا، وإلى ظهور النقود المعدنية كظاهرة مرتبطة باتساع التجارة بين المدن، وإلى نشأة الأدب والفلسفة كتعبير عن وضعٍ طبقي محدَّد. وفي هذه الظروف تطورت العلوم العقلية Rational Sciences تطورًا كبيرًا؛ على وجه الخصوص الرياضيات والفلك والطب؛ تلك المجموعة من العلوم التي سُمِّيت أحيانًا بالعلوم النبيلة Noble Sciences والتي جاء نموُّها وازدهارها على يد الطبقات السائدة المتفرغة للبحث والدراسة والتسجيل والكتابة.

إن أهمية عصر الحديد الأول تكمن في أنه همزة الوصل بين حضارات أودية الأنهار العظمى (النيل – الفرات – السند) التي ازدهرت في العصر الحجري الحديث وبين الحضارة اليونانية الكلاسيكية التي مثَّلت أوج ازدهار عصر الحديد. وتلك الحلقة يتعامى عنها كثير من المفكرين والباحثين الأوروبيين الذين يحاولون تصوير الفكر والعلم اليوناني القديم باعتباره ثورةً لا صلة لها بما قبلها لا من ناحية العلم والتكنيك ولا من ناحية الفلسفة. وتلك أكذوبة كبيرة تنفيها الدراسة المنصفة لتاريخ هذه المرحلة. فأيًّا كانت مزايا العلم والتكنيك عند اليونان إلا أن من المحقق اليوم أنه استمرار وتطوير للعلم والتكنيك القديم. وقد لا نعرف كل الوسائل التي تمَّ بها انتقال علم وثقافة حضارة الوديان الثلاثة العظيمة إلى اليونانيين، إلا أن من المؤكد أنها انتقلت إليهم وأنهم عرفوها واستفادوا منها فائدة ضخمة.

يقول فارنجتون:٩

على الرغم من أننا ما زلنا في حاجة إلى ضوءٍ أكبر لمعرفة طرق انتقال العلم من الحضارات القديمة إلى اليونان، فإن من حقِّنا أن نقول وفق مستوى معرفتنا الحالي إن اليونانيين مدِينون للحضارات القديمة، لا بالتكنيك فحسب، وإنما بمجموعة لها وزنها من المعرفة العلمية. وسنظل نتحدث عن اليونانيين على وجه التأكيد باعتبارهم الذين استطاعوا أن يجعلوا من معارف شعوب الشرق القديمة التجريبية والمتناثرة نظامًا علميًّا منطقيًّا محكمًا. ولكن عندما نقارن منجزات اليونانيين بمنجزات مَن سبقوهم يكون من الأنسب أن نصف الفارق على أنه فارقٌ في الكم لا في الكيف. ولا ينبغي لنا أن نصف بالمعجزة ما لا يعدو أن يكون مرحلةً رائعة في تطوُّر تاريخي متصل.

١  لانسلوت هوجبن: الرياضة للمليون، الفصل الأول «الرياضة فيما قبل التاريخ».
٢  راجع جوردون تشايلد في كتابين: «الإنسان يصنع نفسه»، و«ماذا حدث في التاريخ».
٣  راجع ﺟ. ب. برنال في كتاب: «العلم في التاريخ».
٤  يشير تشايلد في كتاب «ماذا حدث في التاريخ» إلى أن أحمس، مؤسس الدولة الحديثة، استخدم عند طرده للهكسوس من مصر عام ١٥٨٠ق.م. المركبة الخفيفة التي تجرها الخيل، وهي أصلًا أداة حربية آسيوية. وباقتباس هذه المركبة ظهرت العربة ذات الدولاب لأول مرة في وادي النيل.
٥  جوردون تشايلد: «الإنسان يصنع نفسه»، راجع فصل الثورة في المعرفة البشرية.
٦  راجع جوردون تشايلد: «الإنسان يصنع نفسه»، نفس الفصل السالف ذكره.
٧  فارنجتون: «العلم عند اليونان»، راجع الفصل الأول «دين العلم اليوناني لحضارات الشرق الأدنى القديمة».
٨  راجع كتاب موري: «مصر ومجدها الغابر»، ص١٥٥ بخصوص الزجاج.
٩  فارنجتون: «العلم عند اليونان»، راجع الفصل الأول السالف ذكره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥