أولًا: الوضع الاقتصادي والاجتماعي

الحضارة اليونانية هي حضارة عصر الحديد التي أعقبت مباشرة حضارة الوديان الثلاثة: مصر، وبابل، والهند. وهي التي عُرفت باسم حضارة عصر البرونز، وقد تعرَّضنا لها بالتفصيل في القسم الأول.

وحين نقارن حضارة عصر الحديد نجد أنها كانت أكثر حروبًا وأشد اضطرابًا إلا أنها كانت أكثر مرونة وأبعد انطلاقًا من الناحية الفكرية. ومن المسلَّم به تاريخيًّا اليوم أن عصر الحديد لم يقدم من الناحية التكنيكية إنجازات ضخمة كالتي ميزت عشية العصر البرونزي؛ تلك الإنجازات التي حققت، عن جدارةٍ، الثورة الصناعية الأولى في تاريخ البشرية، ولم تأتِ بعدها ثورة صناعية في مستواها من الناحية الكيفية إلا في القرن الثامن عشر بعد الميلاد؛ غير أن هذه الحقيقة لا تمنعنا من ملاحظة أن الإنجازات التي حققها الحديد إنما قامت على أساس توفر معدن رخيص نسبيًّا هو الحديد؛ ومن هنا كانت هذه الإنجازات أوسع انتشارًا لا من الناحية الجغرافية فحسب، بل بين الطبقات الاجتماعية كذلك.

وتنحو معظم الدراسات الأوروبية في هذا المجال إلى التركيز على عصر الحديد في منطقة البحر الأبيض المتوسط، وهي التقليدية لليونانيين والرومانيين. ويقدم برنال١ لذلك سببين:

أولهما: أن معرفتنا الحالية عن الحضارة اليونانية أفضل من معرفتنا بحضارات الهند والصين الممثلة. وثانيهما أن مساهمات الصينيين والهنود وتطبيقاتهم الخلاقة — كالبوصلة والبارود والطباعة — قد جاءت في أعقاب المساهمات العلمية الأساسية لليونانيين في الرياضيات والفيزياء والكيمياء وفي تطبيقات هذه العلوم.

ولقد تعرَّضنا في الجزء الأول كيف أن البرابرة الذين اكتسحوا حضارة عصر البرونز كانوا في أول الأمر عاجزين عن إقامة دول مستقرة في أراضيهم الأصلية. ولقد ساعدت على هذا عزلتهم النسبية، وحقيقية أن أراضيهم كانت مملوءة بالغابات والإستبس الجاف. ومن هنا كان ينقصهم توفر الظروف المادية الضرورية لشكل مستقر من أشكال الزراعة؛ غير أن هذه الظروف بدأت تتغير بعد ذلك نتيجة اتساع اتصال البرابرة بحضارات عصر البرونز وانتقال الملكية الفردية والأسلحة إلى مجتمعات البرابرة الطبقية، في حوالي ١٥٠٠ق.م.

ولقد دعم من هذا الاتجاه بشكل حاسمٍ اكتشافُ واستخدام معدن جديد، هو الحديد. وحتى اليوم لا نستطيع أن نحدد على وجه اليقين أول مكان توفر فيه هذا المعدن؛ غير أن بعض المؤرخين يرجحون أنه اكتُشف لأول مرة في جنوب القوقاز في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ولا شك أن انتشار الحديد بكميات وافرة جغرافيًّا، وسهولة صناعته نسبيًّا، قد أنهيا بالفعل احتكار مدنية الوديان القديمة في مصر وبابل.

ويرى برنال٢ أن اعتبارين هامَّين قد عجَّلا هذه العملية: أولهما ظهور الفارس الممتطي صهوة جواده قادمًا من أراضي الإستبس بعد استئناس الحصان لأول مرة في التاريخ. وثانيهما ما أعقب تقدُّم صناعة الحديد من تحسُّن سريع في بناء وعمل السفن؛ وهو الأمر الذي كانت له نتائج خطيرة في مجال التجارة البحرية.

ومن الضروري قبل الاستطراد في دراسة عصر الحديد أن نقول كلمةً حول طريقة صناعة هذا المعدن في ذلك الزمان. فمن المعروف تاريخيًّا أن الحديد الذي استُخدم إبان تلك الحضارة كان يتم صنعه بعملية اختزال في درجة حرارة منخفضة في أفران صغيرة مصنوعة من الطين، وذلك؛ وذلك باستخدام الفحم النباتي. والمعقول بداهةً أن البشرية قد احتاجت إلى زمن طويل لفهم أسرار هذه الصناعة، ومرت بمراحل عديدة من التجربة والخطأ حتى استقرت على طريقة الصنع هذه. ومعنى هذا أن عيب الحديد هو الوقت الطويل الذي يحتاجه الإنسان للوصول إلى أسرار صناعته على عكس البرونز. إلا أن للحديد ميزةً على البرونز وهو أن الإنسان ليس في حاجة إلا لأبسط الأدوات في صناعته، فضلًا عن أنه من السهل نسبيًّا تعلُّم هذه الصناعة ونقلها شفاهةً من جيل إلى جيل؛ فأينما يوجد الخشب وأحجار الحديد يمكن صناعته.

ومع ذلك فقد كان للحديد في العصور القديمة عيب واحد لم يتوفر في البرونز؛ ذلك أن القدماء لم يستطيعوا صهر الحديد كما نفعل نحن اليوم؛ إذ إن صهر الحديد يحتاج إلى أفران ذات نيران ضخمة، ودرجة حرارة عالية لم يكن من الممكن توفيرها بأدوات ذلك الزمان. ومن هنا لم يستطيعوا صبَّ الحديد كما كانوا يفعلون في البرونز، وهذا هو بالدقة السبب الذي جعل الحديد عاجزًا عن إزاحة معدن البرونز من المجتمع الجديد. ولن يكون غريبًا أن نتبيَّن من الشواهد التاريخية أن البرونز الذي استُخدم في عصر الحديد كان من الناحية الفعلية أكثر مما كان في عصر البرونز نفسه.

ولقد قامت صناعة الحديد في القِدم على قاعدة طرق الحديد الساخن وسحبه، وهذه الطريقة لا تعطينا أكثر من صلبٍ ضعيف لين. أما الحديد كما نعرفه اليوم فيعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي.

وفي التاريخ كثيرًا ما يحدث التقاء بين عديد من الظروف فيسهل عملية حضارية معينة. وهذا هو ما حدث في حالتنا هذه؛ فقد التقى ظهور الحديد مع عملية تجول وهجرات قبلية واسعة بدأت بنزول البرابرة من شرق أوروبا ومناطق بحر القزوين متجهين إلى منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط في مطلع القرن السابع عشر قبل الميلاد وما بعد ذلك. وفي نفس الفترة حدثت تحركات واسعة للحيثيين والفرس والهنود الآرييين في المناطق الآسيوية. ولما كانت الإمبراطوريات البرونزية القديمة تحتضر في ظل شيخوختها وفساد الحكم، كان من الطبيعي أن تعجز عن مقاومة جحافل البرابرة المسلحين بأفضل الأسلحة، والممتطين صهوة الحيوان المستأنس الجديد؛ أي الحصان.

ويُجمع المؤرخون على أن مراكز التقدُّم الجديد قد انتقلت إلى أطراف الإمبراطوريات البرونزية القديمة، وهو أمر طبيعي باعتبار أن هذه الأطراف في أقرب المواقع جغرافيًّا للبرابرة. وعلى الرغم من أن هؤلاء قد أفلحوا في ضرب المراكز الحضارية القديمة عسكريًّا فإنهم وطَّدوا حضارتهم وطوَّروها خارج هذه المدنيات القديمة أو على أطرافها جغرافيًّا. وهكذا كان الهنود الآريون والفارسيون واليونانيون — ثم بعد ذلك المقدونيون والرومانيون — ورثة المدنيات القديمة لمصر وبابل.

ولقد ساهمت المدنية الجديدة في توسيع نطاق الزراعة بالنسبة إلى عصر البرونز وذلك نتيجة استخدام الفأس والمحراث المصنوعين من الحديد. واتسع نطاق التجارة ولا سيما لدى الدول المطلة على البحر، فأصبحت محور نشاط مئات المدن بدلًا من اقتصادها على عدد بسيط من المدن كما كان الحال في المدنيات البرونزية القديمة.

ومن الناحية الاقتصادية تمت في الفترات المبكرة لعصر الحديد العودة إلى الوحدات الاقتصادية الصغيرة على انقاض انهيار الإمبراطوريات القديمة. ومع أن مدن عصر البرونز كانت تضم مئات الألوف من الناس، إلا أن المدن الأولى لعصر الحديد لم تكن تضم أكثر من بضعة ألوف. ولقد تكونت هذه المدن من مجموعات صغيرة من القرى؛ غير أنه مع انتشار العبودية لم يكد يحل القرن الخامس حتى كانت المدن الكبرى المليئة بمئات الألوف من السكان ظاهرة اجتماعية ملموسة.

إن السمة المميزة لعصر الحديد هي أنه أول عصر في التاريخ أصبح فيه إنتاج السلع هو العنصر السائد والضروري للنشاط الاقتصادي. ويعتقد المؤرخون المحدثون أن العامل الحاسم في هذه الظاهرة هو استخدام العبيد على نطاق واسع في الزراعة والمناجم بدلًا من استخدامهم كخدم في المنازل كما كان الحال غالبًا في عصر البرونز. وشيئًا فشيئًا اتسعت ظاهرة العبودية حتى أصبحت الشكل السائد للعمل ولهذا درجنا تاريخيًّا على تعريف الحضارة اليونانية بأنها حضارة عصر الحديد للعبيد على الرغم من أن العبودية كظاهرة كانت معروفة في العصر البرونزي.

وهكذا انقسم المجتمع إلى أحرار وعبيد وأصبح العمل اليدوي شيئًا محتقرًا لدى اليونانيين كما عبَّر عن ذلك أفلاطون وأرسطو وإقليدس وأرشميدس، وأضحى العمل الفكري المنزه عن الأغراض العملية هو الشيء الوحيد الجدير بالمواطن اليوناني الحر. ويقال تاريخيًّا إن تلميذًا لإقليدس، بعد أن استمع إلى درس من دروسه، سأله ماذا يكسب بتعليم الهندسة؟ فاستاء إقليدس واستشاط غضبًا ونادى عبدًا وقال له: «أعطِ هذا الشاب ثلاث قطع من النقود ما دام مصرًّا على أن يكسب مما يتعلم.»

وفي مثل هذه المجتمعات التي تميزت بالتجارة البحرية الواسعة وبالحاجة المستمرة إلى العبيد كأيد عاملة، يكون من الطبيعي تصبح الحروب ظاهرة مميزة لمثل هذه المجتمعات. والتاريخ مليء بأحداث ومواقع حربية عديدة؛ كما تميزت هذه المجتمعات في مراحل زمنية عديدة بصراع داخلي حادٍّ بين الطبقات الاجتماعية المختلفة وعلى وجه الخصوص بين أرستقراطية الأرض وبين الفلاحين المعدمين الذين كانت تُنزع ملكيتهم باستمرار. وفي مثل هذه الظروف دخلت طبقة التجار النامية كعنصر وسيط في هذا الصراع واستطاعت في عديد من الأحيان الاستيلاء على السلطة. وكل هذا أدَّى بالطبع إلى ظاهرة جديدة هي ظاهرة اشتغال المواطن اليوناني بالسياسة التي ميزت المدن اليونانية الكبرى. وشيئًا فشيئًا ظهرت في الحضارة اليونانية الأنظمة السياسية المختلفة: الأوليجاركية، والطغيان، والديمقراطية.

ومن واجبنا أن نحدد ماذا تعني الديمقراطية اليونانية بالضبط؟ إنها بالدقة النظام السياسي لحكم طبقة التجار التي اتخذت موقفًا وسطًا في الصراع الاجتماعي الحاد بين كبار ملاك الأراضي، والفلاحين. ولقد ساعد على هذا تعاظم نفوذ التجارة في منطقة جغرافية تطل على البحر في وقتٍ كانت فيه الزراعة فقيرة نسبيًّا وتقتصر في أغلب الأحيان على كروم العنب وأشجار الزيتون. وهذا هو السبب في أن التجارة الخارجية الواسعة كانت ذات أثر كبير في موازنة الأساس الاقتصادي للمدنية اليونانية. ولم تكن هذه التجارة تقتصر على الكماليات كما كان الحال في عصر البرونز، بل كانت تتناول في المحل الأول السلع التي يستخدمها المواطن العادي. ويقدم برنال أمثلةً على دور الزراعة بالقياس إلى التجارة في المجتمع اليوناني، وهو يشير على وجه الخصوص إلى حاجة أثينا الملحة إلى القمح حتى إنها اعتمدت على صادراتها من الفخار وزيت الزيتون والفضة للحصول على غذاء لثلاثمائة ألف من سكانها.

وبمثل هذه الأهمية الخاصة للتجارة، وفي ظل مثل هذا الصراع المحتوم، كان من الطبيعي أن تتمكن الطبقة الجديدة (التجار والصناعيين) من السيطرة على الحكم في عديد من المدن اليونانية، وأن تأتي معها بالسلام والازدهار المؤقت وبنظام الديمقراطية السياسية. في بدء القرن السادس ق.م. دُعي التاجر سولون لإنقاذ أثينا من المأزق اليائس الذي وقعت فيه خلال الصراع الحاد بين كبار ملاك الأرض والفلاحين. ولقد قدَّم سولون بديلًا اقتصاديًّا للأرض يسمح بسحب الفلاحين الفقراء للمدينة؛ ونعني بذلك إدخال التكنيكات الصناعية في أثينا واشترط على كل أثيني أن يعلم ولده حرفة. وهكذا أصبحت أثينا مدينة صناعية وتجارية في قلب منطقة زراعية، وتحولت إلى نظام الديمقراطية السياسية ودولة عُرفت باسم دولة المدن؛ إذ نشأت حول المدن المختلفة في المراحل الأولى للحضارة اليونانية دولٌ مختلفة حول كل مدينة من المدن المزدهرة.

وثمة كلمةٌ عن وضع المرأة في مجتمعات عصر الحديد؛ فقد أدَّى المجتمع العبودي إلى تدهور الوضع الاجتماعي والاقتصادي للمرأة بشكل لم يسبق له مثيل في أسوأ فترات عصر البرونز. ومُنعت النساء في أوج ازدهار الديمقراطية اليونانية من الاشتغال بالمسائل العامة، وحُجزن بالمنازل للعمل اليدوي حتى صار وضعهن أقرب إلى وضع العبيد.

وإذا تعرَّضنا للتطورات التكنيكية الأساسية للمدن اليونانية، نجد أنه في المراحل الأولى لحياة هذه المدن لم تحدث تطورات حاسمة من النوع الذي حدث عشية عصر البرونز، وإن كان تزاوج الرياضة اليونانية بالتكنيك المصري والسوري القديم قد أدَّى إلى اكتشافات هامة كالبكرات والروافع المائية والمضخات والمخرطة والمستوى المائل … إلخ. ومن الناحية الكيميائية يُعتبر التوسع في إنتاج الزجاج وابتكار أصناف راقية منه هو أهم عمل كيميائي أنجزته الحضارة اليونانية. وصحيح مصر في عصر البرونز قد عرفت صناعة الزجاج؛ غير أنه كان من الكماليات ولم ينتشر استخدامه إلا في الحضارة اليونانية.

ولسنا هنا في مجال التعرض لقصة التكنيك والحرف والفنون في الحضارة اليونانية؛ فلسوف نعرض لذلك في حينه؛ غير أنه من المهم أن نقول الآن إن الفنون والحرف والتكنيك (وخصوصًا السلمية منها) لم تتقدَّم إلا في المراحل الأولى من الحضارة اليونانية. وهي المراحل التي تميزت بسيطرة طبقة الصناعيين والتجار وحكمهم للمدن. وفي هذه الفترة لم يكن ثمة فصل بين العلم، وقد ظل هذا هو الوضع حتى عصر بركليس في منتصف القرن الخامس ق.م. وإذ سيطرت هذه الطبقة الجديدة كان من الطبيعي أن تكون طريقة تفكيرها هي السائدة. ولم تتردد هذه الطبقة، عندما كانت مطمئنة لسيادتها السياسية، في استهجان التفسيرات الميثولوجية القديمة للطبيعة، وحاول ممثلو هذه الطبقة أن يُحِلُّوا محلها تفسيرات للكون مشتقة من خبرتهم الحرفية على الأرض ومن محاولاتهم الدائبة لتقليد الطبيعة.

المراحل المختلفة للحضارة اليونانية

يمكن تقسيم تاريخ العالم المتحدث باليونانية إلى ثلاث مراحل:

  • أولًا: مرحلة دول المدن الحرة التي أسلفنا الحديث عنها؛ وهي تلك المرحلة التي أنهاها فيليب المقدوني وولده الإسكندر، في القرن الثالث قبل الميلاد:
  • ثانيًا: مرحلة السيطرة المقدونية التي بدأت بالإسكندر، واجتُثت آخر بقاياها بضم الرومانيين مصر إليهم إثر موت كليوباترا عام ٤٣ق.م. وهي المرحلة التي تُعرف تاريخيًّا باسم العصر الهيلِّيني.
  • ثالثًا: مرحلة الإمبراطورية الرومانية، وهي التي يعنينا منها القرون الثلاثة أو الأربعة الأولى بعد الميلاد.
وتسمى المرحلة الثانية من هذه المراحل بالعصر الهيلِّيني. لقد غيَّرت حياة الإسكندر السياسية القصيرة العالم اليوناني فجأةً كما يوضح برتراند رسِل.٣ ففي عشر السنوات الأولى فتح الإسكندر آسيا الصغرى وسوريا ومصر وبابل وفارس وسمرقند والبنجاب. وفي ثلاث معارك حاسمة دمر الإسكندر الإمبراطورية الفارسية التي كانت أعظم إمبراطورية عرفها العالم آنذاك. وليس من شك أن تدهور الأوضاع الاجتماعية والنزاع العنيف بين المدن الكبرى الذي أدَّى بالإسكندر إلى الاتجاه إلى الغزو الخارجي كمحاولة يائسة للإبقاء على الأوضاع الاقتصادية السائدة ولتغطية التناقضات الطبقية المحتدمة، وساعد على هذا أن المقدونيين كانوا ذوي تقاليد حربية بارعة كما كانوا متفوقين في أسلحتهم. ولعل هذا هو السبب في انتصار الإسكندر على البلدان الأخرى مع أن جيوشه لم تكن كبيرة جدًّا. ولقد كان الإسكندر يدرك أن قواته التي فتحت هذه الإمبراطورية الواسعة أعجز من أن تحافظ عليها بالقوة. ومن هنا حاول أينما توغَّل أن يؤسِّس مدنًا يونانية يُحيي فيها مؤسسات اليونان الفكرية والسياسية مع نوع من الحكم الذاتي. ولقد كانت سياسته تقوم على الوفاق مع الجماعات المغلوبة في المدى البعيد؛ ومن هنا شجع الإسكندر التزاوج بين اليونانيين والأهالي المحليين، كما شجَّع الامتزاج بين اليونانيين والبرابرة؛ غير أن هذا الوضع كان لا بد وأن ينتهي بموت الإسكندر نفسه؛ ولا سيما أن أحد ولديه كان طفلًا عند موته والثاني لم يكن قد وُلد بعد. وعلى الرغم من أنه كان لكلٍّ منهما أنصار فإنه في الحروب الأهلية التي تلت موت الإسكندر استُبعد الاثنان تمامًا. وفي النهاية وُزعت إمبراطوريته بين عائلات ثلاث من قواده. ويمكن أن نقول تقريبًا إن أحدهم أخذ الأجزاء الأوروبية من الإمبراطورية، والثاني أخذ الأجزاء الأفريقية، والثالث أخذ الأجزاء الآسيوية. ولقد كان الجزء الأوروبي من نصيب أنتيحونس، والجزء الأفريقي من نصيب بطليموس الذي جعل من الإسكندرية عاصمة له. أما سيليس Seleucus الذي أخذ آسيا بعد عدة حروب فقد كان مشغولًا بمعاركه إلى درجة أنه لم يتخذ له عاصمة ثابتة وإن تحولت أنطاكية بعد ذلك إلى عاصمة لأسرته الحاكمة.
وفي ظل إمبراطورية الإسكندر كان هنالك سخط اجتماعي واسع وخوف لدى الحكام من الثورة؛ إذ هبطت أجور العمال الأحرار نتيجة المنافسة مع عمال الشرق الأرقَّاء، كما ارتفعت أسعار الضروريات. ويستشهد رسِل٤ بمقالٍ هامٍّ للأستاذ تارن Tarn عنوانه المسألة الاجتماعية في القرن الثالث قبل الميلاد. إذ جاء في هذا المقال أنه في المعاهدات المبرمة عام ٣٣٥ق.م. بين الإسكندر ودول عصبة كورنث، نص على أن من واجب مجلس العصبة وممثل الإسكندر أن يتأكدا من عدم وجود أي مصادرة للملكية الشخصية أو تقسيم للأراضي، أو إلغاء للديون، أو عتق للعبيد في أي مدينة من مدن العصبة.

ومن المعروف أن كثيرًا من العمال الأحرار اتجهوا إلى العمل كجنود مرتزقة عندما وجدوا أجورهم غير كافية للضروريات. ومهما بدت حياة الجندي المرتزق في مثل هذه الإمبراطورية مليئةً بالمشاقِّ والأخطار، إلا أن لها مغرياتها أيضًا؛ فقد توجد أحيانًا فرصة نهب مدينة غنية من المدن الجديدة أو فرصة الاشتراك في عصيانٍ مجزٍ. ولقد كان لهذه الظاهرة أوخم العواقب على حياة الإمبراطورية المقدونية؛ إذ فتحت باب المغامرة على مصراعيه، وجعلت الانقلابات والانقلابات المضادة العسكرية أمرًا عاديًّا في حياة أجزاء الإمبراطورية المختلفة.

ومما زاد الأوضاع سوءًا ازدياد نفوذ المعابد من الناحية الاقتصادية؛ إذ كانت هي القائمة بأعمال البنوك؛ فهي تملك احتياطي الذهب وتسيطر على السُّلف التي تُمنح للأفراد. ومن الأمثلة المعروفة تاريخيًّا أن معبد أبولُّو كان يقدم القروض بفائدة ١٠ ٪ وأحيانًا بفائدة أكبر من ذلك.

أما المدن الجديدة التي أنشأها الإسكندر فقد افتقدت تقاليد المدن اليونانية القديمة على الرغم من أنها كانت على قدرٍ من الحكم الذاتي. ولقد كان هذا أمرًا طبيعيًّا؛ إذ كان مواطنوها من أصول مختلفة غير متجانسة، وكان الكثير من هؤلاء مغامرين في طابع حياتهم يشبهون إلى حدٍّ كبير المستوطنين الأوروبيين في روديسيا أو جنوب أفريقيا. وهكذا يمكن القول إنه باستثناء مدينة الإسكندرية لم تكُن أي مدينة من مدن الإسكندرية وحدة سياسية قوية. أما الظروف التي ساعدت على استثناء الإسكندرية في هذا المجال فعديدة. منها التاريخ الحضاري الطويل لمصر، والدور الذي لعبه البطالسة كأسرة مالكة قوية فيها والإحساس العام لدى العالم الهيلِّيني بأهمية بقاء الإسكندرية بما في ذلك متحفها العظيم مناره في عالم الفكر والعلم.

ولقد زاد الطين بلَّة تأثير الخرافة البابلية على اليونانيين، وهبط التنجيم على العقل الهيلِّيني كما يهبط الوباء على سكان جزيرة معزولة فيفتك بهم فتكًا. وفي مثل هذه الظروف تتم عادةً ظاهرتان مترادفتان وإن بدتا غريبتين: أولاهما التدهور العام في الأخلاق الاجتماعية، وثانيهما اتجاه الفلسفة من بحث الطبيعة والكون إلى التركيز على بحث الأخلاق. والحقيقة أن التاريخ الحضاري يقدم لنا دائمًا الشواهد على أنه ما من فترة تاريخية تركَّز فيها اهتمام الفلاسفة على الأخلاق إلا وكانت فترة تدهور اجتماعي واضح. إنها فترات يأس الإنسان من السيطرة على الطبيعة عن طريق فهمها وإدراك قوانينها الأساسية، وتأكيد سيادته على الأرض. وهذا الحكم العام ينطبق على الفترة التي نحن بصددها؛ ففي آخر العصر الهيلِّيني لم تعد الفلسفة حاملة المشعل الذي يتقدَّم عددًا من الباحثين عن الحقيقة، بل صارت كما يقول البعض أقرب إلى عربة الإسعاف التي تسعى في ذيل معركة الوجود الإنساني تجمع الموتى وتلم الجرحى.

عن الأخلاق الاجتماعية فيكفينا أن ننقل هنا نص ما جاء في كتاب رسِل٥ في هذا المجال:

لقد بدا أنه لا فائدة في التوفير إذا كانت كل مدخراتك يمكن أن تُنهب، ولا فائدة في الأمانة إذا كان الإنسان الذي تعامله بها يغشك، ولا معنى للالتزام بمبدأ ثابت إذا كان كل هدف لا أهمية له أو لا فرصة له في النجاح. والرجل الذي تنبع فضائله من ذكاء دنيوي خالص سيصبح في مثل هذا العالم مغامرًا إن كانت لديه الشجاعة، وإلا فإنه سيحاول البحث عن الخرافات كوسيلة لقتل الوقت.

١  برنال: «العلم في التاريخ»، الطبعة الثانية، ١٩٥٧م.
٢  برنال: «العلم في التاريخ»، الطبعة الثانية.
٣  برتراند رسِل: «تاريخ الفلسفة الغربية».
٤  رسِل: نفس المرجع السابق.
٥  رسِل: نفس المرجع السابق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥