مدرسة ميليتس الطبيعية
على الطرف الإيجي لأرض الأناضول، في أيونيا، كانت الظروف في القرن السادس قبل الميلاد تتميز بوقوع السلطة السياسية في يد أرستقراطية تجارية. وكانت هذه الأرستقراطية مشغولة جدًّا بإنجاز تنمية سريعة للحرف والتكنيكات التي يتوقف عليها ازدهارها. ولم تكن ظاهرة العبودية قد تطورت إلى الحد الذي يجعل الطبقة الحاكمة تنظر بازدراء إلى التكنيك، ولا كان الفصل الحكام وأشكال الإنتاج ظاهرًا بالشكل الذي كان عليه الحال بعد ذلك أيام أفلاطون وأرسطو. كانت الحكمة عملية ومثمرة، وكانت مدينة ميليتس — حيث ولدت الفلسفة الطبيعية — هي أكثر المدن اليونانية ازدحامًا بالعمل؛ إذ كانت المدينة الأم لعدد من بين أكثر المستعمرات على سواحل البحر الأبيض وفي البحر الأسود. وكانت ميليتس متصلة بحضارة العراق القديمة عن طريق البر، وبحضارة مصر القديمة عن طريق البحر. ولقد أسَّس الأيونيون مستعمرات على طول البحر الأبيض من مارسيليا ونابولي وصقلية غربًا حتى سواحل البحر الأسود شرقًا. وعندما أبعدتهم هجمات الفرس عن مواطنهم الأصلية في اتجاه الاقتراب من البحر الأسود، أصبحت مستعمراتهم بدورها مراكز للتجارة والثقافة. ولهذا فمن المقبول أن يُدخل مؤرخو العلم عديدًا من فلاسفة هذه المرحلة الذين أتوا من مدن مختلفة في نطاق واحد. لقد كان طاليس من المدينة الأم ميليتس، وكان هيراقليطس من المدينة المحاورة أفيسس، وكان فيثاغورس المهاجر من ساموس مستقرًّا في مدينة كريتون في جنوب إيطاليا، كما أن من المفهوم أن نضع إيمبدوقليس (وهو من صقلية) ضمن مجموعة الفلاسفة الأيونيين.
ومع أننا لا نتعرض هنا بشكل أساسي لدراسة الفلسفة اليونانية، إلا أنه لم يكن ثمة فصل على الإطلاق في المدرسة الأيونية بين العلم والفلسفة. والحقيقة أن الذي يميز المدرسة الأيونية في بحثها عن تفسير للكون هو محاولة إيجاد تفسير له من داخله؛ أي إيجاد تفسير للكون يستمد جذوره من الحرف والفنون ومن محاولة الإنسان الجريئة لفهم قوانين الطبيعة. وهذا وحده كافٍ لإصباغ الصفة العلمية على هذه المدرسة بصرف النظر عن النتائج المحددة التي توصلت إليها. ولقد أضعف من قيمة هذه النتائج المحددة أن هذه المدرسة لم تستشعر الحاجة الملحة إلى إدخال العدد والكم في محاولتها الجريئة؛ أي في إدخال الرياضيات ضمن إطارها.
لقد تحرر فلاسفة هذه المدرسة من الخرافات القديمة وتفسيراتها للطبيعة، وكان رجالها وثيقي الصلة بالنشاط العملي والاهتمام بالمشاكل الموجودة في مدنهم وبالحرف والفنون؛ ولذا كانت طرق تفكير هم المطبقة في نظرتهم إلى الطبيعة مشتقة عادةً من اهتمامهم الفعال بالشئون العملية.
في هذا العصر، وفي هذه البيئة التي تميزت بالبناء السياسي البسيط، وبالديمقراطية اليونانية المزدهرة، سقطت هيبة التقاليد؛ إذ لم يكن لدى الحكام ما يجعلهم مؤقتًا يحسون بضرورة الحكم عن طريق الخرافة. وهكذا أصبح من الضروري التمرد على الإجابات القديمة للأسئلة الخالدة عن الكون ومنشئه وكيفية عمله، والبحث عن إجابات جديدة.
والقيمة العظمى للمرحلة الأولى للفكر اليوناني تكمن في محاولة الإجابة عن كل الأسئلة القديمة بطريقة بسيطة ومحددة فهي محاولة لصياغة نظرية عن العالم — كيف صنع وكيف يعمل — بدلالة ما يجري على الأرض؛ أي بدلالة الحياة العادية والحرف والعمل؛ ولهذا فمن الواجب أن نرفض هنا كل ادعاءات الذين حاولوا أن يصوروا هذه الفترة وكأنها فترة التأمل الخيالي، فترة التفكير الشاعري. ولو أردنا أن ننصف هذه المدرسة وأن ننصف الحقيقة التاريخية لقلنا إن الشيء الأصيل في المدرسة الأيونية هو أنها لم تعترف بأي تفرقة حاسمة نهائية بين جوانب الكون المختلفة. وعندما حاولت أن تفسر غرائب الكون وظواهر السماء فعلت ذلك بدلالة ما هو موجود على الأرض؛ أي بدلالة الأشياء المعتادة والحرف والتكنيكات. إن مفتاح عقلية هذه المدرسة هو الاعتقاد في التناظر بين العمليات الطبيعية والعمليات التكنيكية؛ ولذا سجلت هذه المدرسة على يد الذريين نجاحًا ما زالت له آثاره الخالدة على حياة البشر حتى اليوم. وهذه هي الفترة التي عرفت الازدهار الاجتماعي والسياسي، فترة ازدهار التجارة والثقة في قدرات الإنسان والأمل الكبير في المستقبل، الفترة التي شهدت الإنجازات الهامة والابتكارات التكنيكية المدهشة؛ كالمنافيخ التي كانت ضرورية لرفع درجة الحرارة في صناعة المعادن وكاوية اللحام التي اخترعها جليسوس، والمستوى المائل والمخرطة والمسطرة والمفتاح وطرق جديدة لسبك البرونز … إلخ. وكان الفلاسفة الأيونيون وثيقي الصلة بكل هذه الحرف والفنون.
كان طاليس — وهو أول فلاسفة هذه المدرسة — فيلسوفًا ورياضيًّا ورحالة وتاجرًا استطاع بذكائه أن يشتغل بتجارة الزيتون وأن يحقق أرباحًا ضخمة، وقد أراد من هذا أن يضرب المثل على أنه ليس رجل تأمُّل فحسب بل رجل عمل كذلك.
العالم من الداخل
يُعتبر طاليس أول الفلاسفة اليونانيين التقليديين، وإليه تُنسب نظرية أن كل شيء كان في الأصل ماء، ومن الماء انفصلت الأرض والهواء والأشياء الحية. ويبدو أن هذه الفكرة كانت في الأصل خرافة سومرية شائعة؛ غير أنها كانت أمرًا مقبولًا في بلاد تقع في وديان الأنهار مليئة بالمياه، وكان الشيء المهم فيها هو انتزاع أرض الزراعة من براثن المستنقعات. ولهذا يمكن القول إن لهذه الخرافة القديمة أصلها المادي تمامًا. وإلى هؤلاء الذين يظنون أنها فكرة غبية ينبغي أن نذكر أنه حتى أوائل القرن العشرين كان كثير من العلماء يعتقدون أن الهيدروجين — وهو كما نعرف يكون ثلثَي الماء — أصل كل شيء في العالم.
إن مادية طاليس تكمن في اهتمامه بالطبيعة، ورفضه للافتراضات الميتافيزيقية التي أُدخلت لتبرير المجتمع الطبقي. إنها ليست مادية ميكانيكية، وإنما هي مادية تتميز بأن كل المادة عندها شيء حي.
ولقد قدَّم طاليس صورةً عن العالم تقوم على أن الأرض قرص مستوٍ يطفو على الماء، وأن ثمة ماءً فوق رءوسنا ومن حولنا — وإلا فمن أين يأتي المطر؟ — وأن الشمس والقمر والنجوم هي بخار في حالة اشتعال وإضاءة، وأنها تسبح فوق رءوسنا في عالم من الماء. وبالطبع نحن ننظر اليوم إلى هذه الصورة كشيء ساذج إلا أنه لا ينبغي أن ننسى أن طاليس قد حاول بهذه النظرة أن يعطي صورة متجانسة لعدد من حقائق المشاهدة، وهو بهذا قد قام بمحاولة علمية.
كان طاليس رحَّالة زار مصر من بين ما زار، واكتسب من زيارته معرفة طيبة بالهندسة، فأنجز تطبيقات عديدة تتعلق بمساحة الأراضي.
وقيل إنه استطاع قياس طول الهرم الأكبر بحيلة ذكية؛ إذ انتظر حتى وقت النهار الذي أصبح فيه ظله هو يساوي طوله، ثم قاس ظل الهرم الأكبر، وهو طبعًا يساوي ارتفاع الهرم. ولو صحت هذه الرواية لكان معنى هذا أن طاليس كان على علم بقاعدة المثلثات المتشابهة في الهندسة، وهي القاعدة التي تنص على أنه إذا تساوت الزوايا المتناظرة في مثلثين فإن الأضلاع المتناظرة تتناسب.
ويزكي هذه الرواية عن طاليس ما هو معروف عنه بأنه استطاع تحديد بُعد السفينة في البحر، وذلك بطريقة رصدها من مكانين مختلفين على البر، على أن يتم تحديد البعد بدلالة زاويتَي الرصد وطول المسافة بين المكانين المختلفين.
وكان طاليس أيضًا يعرف بعض الحقائق عن الدائرة. فلم يكتفِ بمعرفة أن قطر الدائرة ينصفها فحسب بل أثبت ذلك أيضًا. ومن الروايات المشهورة عنه تنبؤه بالكسوف؛ وهذا يدل — إن صح — على إلمام كبير بالمعلومات الفلكية التي كانت معروفة في مصر وبابل قبل ذلك. ومما يدعم هذا الاعتقاد ما هو معروف عن طاليس من أنه قد استعار من الفينيقيين تحسينات عدة في فن السفر بالبحر عن طريق مراقبة النجوم.
ثم جاء أنكسماندرس (من ميليتس أيضًا)، وقدَّم نظرية أكثر تفصيلًا عن الكون وأشد عمقًا، وهي مشتقة في حقيقتها من صانع الفخار ودكان الحداد.
كان أنكسماندرس يقول بأن العناصر الأربعة التي يتكون منها الكون هي كما يلي: الأرض (أي التراب) في المركز، وهي أثقل العناصر، والماء الذي يغطيها، والضباب فوق الماء، ثم النار التي تحتضن الجميع. فالنار تسخن الماء فتؤدِّي إلى تبخيره، وهذا بدوره يؤدِّي إلى ظهور الأرض الجافة من ناحية وتزايد حجم الضباب من ناحية أخرى. ولقد تزايد الضغط على الكون إلى نقطة الانفجار، وبانفجاره اتخذ شكل عجلات من النار محاطة بأنابيب من الضباب تدور حول الأرض والبحر. والأجسام السماوية التي نراها ليست سوى ثقوب في هذه الأنابيب تطل منها النيران الداخلية. وبهذا المفهوم اعتبر أنكسماندرس أن الكسوف هو قفل كلي أو جزئي لثقب من الثقوب.
وواضح من هذا الاستعراض السريع أن الأهمية الخاصة لعنصر النار والدور الذي تلعبه لا يمكن إلا أن تكون مشتقة من حرف وتكنيكات وفنون العصر حيث تلعب النار دورًا حاسمًا في صناعة الفخار وفي الحدادة.
ولقد ظن أنكسماندرس أن السمكة — كشكل للحياة — قد سبقت الحيوانات الأرضية، وأنه وفقًا لذلك كان الإنسان في يوم من الأيام سمكة، وأنه عندما ظهرت الأرض الجافة كيَّفت بعض الأسماك نفسها للحياة على صورة الإنسان.
لقد كان أنكسماندرس صاحب منطق كذلك. ومن خلال اعتراضه على فكرة طاليس تم بعض التقدُّم في المنطق؛ إذ لماذا يصر طاليس على أن الماء هو أصل كل شيء؟ ولماذا لا يكون التراب أو الضباب أو النار هي الأصل ما دامت كل العناصر تتحول بعضها إلى بعض؟ أليس من الأفضل أن نقول إن العناصر الأربعة هي أشكال مشتركة لمادة غير محددة؟ ثم كيف نقبل فكرة طاليس القائلة بأن الأرض ترتكز على الماء؟ إذ على أي شيء يرتكز الماء نفسه؟ الأفضل أن نقول إن العالم معلَّق بشكل مستقر في الفضاء، وأنه يظل حيث هو «بسبب بعده المتساوي عن كل شيء». أي إن أنكسماندرس ادَّعى بأن الأرض — ما دامت في مركز الكون — فهل تظل ساكنة إذ لا يوجد سبب يدعوها لأن تتحرك في اتجاه دون اتجاه آخر.
ولقد رد أرسطو فيما بعد على هذا المنطق محاولًا تسفيهه بقوله: إنه إذا كان هذا صحيحًا فإن رجلًا موجودًا في مركز دائرة، يوجد طعام عند نقط مختلفة من محيطها، سوف يموت جوعًا؛ لأنه لا يوجد سبب يجعله يفضل هذا الجزء من الطعام على ذاك ما دامت أبعاده متساوية عن كل أجزاء الطعام. وهذه الحجة تعود إلى الظهور مرة أخرى في الفلسفة المدرسية في القرون الوسطى لا فيما يتعلق بالفلك وإنما فيما يتعلق بالإرادة الحرة. وهي تعود إلى الظهور حديثًا في حكاية «جحش بوردان» الذي كان عاجزًا عن أن يختار بين زكيبتين من التين موضوعتين على مسافتين متساويتين يمينًا ويسارًا؛ وبذلك مات من الجوع.
ثم جاء أنكسمينس، آخر مدرسة ميليتس، وهو لم يكن راضيًا لا عن تفسير طاليس ولا أنكسماندرس؛ إذ بدا له أن هاتين النظريتين لا تفسران كيف أن التغيرات الكمية تنتج تغيرات كيفية. أي كيف يتحول الضباب إلى مطر. ومن هنا نادى أنكسمينس بأن الضباب هو الشكل الأساسي للأشياء، وقال بأن هذا الضباب يصبح أصلب وأثقل كلما زادت الكمية التي تصر منه في مكان معين. ولقد أوحت إليه بذلك مراقبته لعمليات التبخر والتكثف في السوائل. ولقد أجرى أنكسمينس بعض التجارب لتدعيم وجهة نظره القائلة بأنه عندما يخف الضباب يصبح نارًا، والضباب المكثف يصبح ماء أولًا، ثم ترابًا بعد ذلك. وقد اعتقد أنكسمينس أن التبخير يرتبط بالحرارة وأن التكثيف يرتبط بالبرودة.
وقد تبدو وجهة نظر أنكسمينس خطوة إلى الوراء بالقياس إلى أنكسماندرس، إلا أنه في الحقيقة ساهم مساهمة إيجابية في الفلسفة الطبيعية بمحاولة تفسير — لأول مرة — كيف أن التغيرات الكمية تنتج تغيرات كيفية.
وبهذا نختتم الحديث عن مدرسة ميليتس. ويهمنا أن نؤكد مسألتين قبل أن نترك هذه المدرسة. فثمة تقدُّم واضح من طاليس إلى أنكسماندرس إلى أنكسميندس. فالأول يجمع كل الظواهر المتعددة فيردها إلى مبدأ واحد هو الماء والثاني لا يختار — كمبدئه الأول — شيئًا مرئيًّا كالماء وإنما مادة غير محددة. وهذا يُدخل أنكسماندرس لأول مرة الفكرة العلمية الصحيحة وهي أن العالم المادي حولنا لا يقتصر على ما نراه ونلمسه فحسب. والثالث يتناول قانونًا أساسيًّا من قوانين الديالكستيك؛ ونعني بذلك العلاقة بين التغيرات الكمية والتغيرات الكيفية.
غير أن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة لم يستطيعوا أن يقدموا تفسيرًا للتغير المستمر في الأشياء وأسبابه. وتلك بالدقة المشكلة التي شغلت هيراقليطس (من مدينة أفيسس التابعة لأيونيا أيضًا).
ويُعتبر هيراقليطس فيلسوف التغير بحق، وهو أول تعبير واضح عن الفلسفة الجدلية في تاريخ البشرية. إن هيراقليطس — في محاولته لتفسير التغير — اختار النار باعتبارها المبدأ الأول. وواضح أن سر اختياره للنار هو أنها العنصر الفعال في كثير من العمليات الطبيعية والتكنيكية. ويمكن تلخيص مبدئه في جملة واحدة: «كل شيء ينساب».
إن أهمية مدرسة ميليتس تكمن في أنها حاولت أن تضع فروضًا علمية لا صلة لها بالأخلاق ولا بالرغبات الذاتية أو الاجتماعية. ولهذا اتجه روادها في تفكيرهم نحو عالم ديناميكي من التحول المستمر المتبادل للعناصر المادية. وعلى الرغم من أن الصورة التي قدموها تبدو لنا اليوم شديدة السذاجة فإن من الواجب أن ندرك أن أهمية هذه المدرسة تكمن لا فيما حققته بالفعل، وإنما فيما حاولت تحقيقه. وسندرك قيمة هذه المدرسة متى عرفنا أن معظم الفلاسفة الذين جاءوا بعد ذلك اتجهوا إلى التركيز أكثر فأكثر على النظام الطبيعي الاستاتيكي للعناصر وتصوروها كجزء ثابت غير متغير من تركيب العالم. وهذا النظام الاستاتيكي كما قدَّمه أفلاطون وأرسطو بعد ذلك قد انتهى بهما إلى المكافأة بين العالمين الطبيعي والاجتماعي، وما دامت الطبيعة ثابتة غير متغيرة فلا بد أن يظل المجتمع كذلك؛ أي أن يظل الأحرار أحرارًا والعبيد عبيدًا، وأن تظل الطبقات الدنيا خاضعةً للطبقات العليا.
لقد كانت الحاجة ملحة إلى إدخال العدد والكم في الفلسفة.