مدرسة فيثاغورس

الرياضة ضد التجريب

يقال: إن فيثاغورس من أصل فينيقي وإن كان قد استقر في كريتون في جنوب إيطاليا. كان فيثاغورس من مواطني جزيرة ساموس الأصليين التي كانت مركزًا تجاريًّا مزدهرًا. وقد استطاع ديكتاتورها بلوقراط أن يحطم سلطة أرستقراطية الأرض وأن يدير المدينة بمساعدة طبقة التجار، ومن أجل مصلحتهم أدخل تحسينات عدة على مرفأ ساموس. وعندما غزا الفارسيون أيونيا بأسرها ترك فيثاغورس حوالي ۵۳۰ق.م. جزيرة ساموس وهرب إلى كريتون، وهي مدينة قريبة من ساموس كانت ذات مركز تجاري هام. وكان فيثاغورس سياسيًّا نشيطًا ارتبط بطبقة التجار واشتد تأثيره في محيطه الجديد من الناحية السياسية والدينية إلى درجة أن المؤرخ الأستاذ جورج طومسون يقارن وضعه بوضع المصلح البروتستانتي كلفن في جنيف.

وفي العادة يقرُّ المؤرخون لتاريخ الفكر اليوناني بوجود نزعتين متميزتين قبل أفلاطون: النزعة الطبيعية البحتة، أو المادية كما يسمونها أحيانًا، والنزعة المثالية التي نشأت بظهور فيثاغورس في الغرب.

ومن غرائب المدرسة الفيثاغورية التي اتسمت تاريخيًّا بالطابع الديني والرياضي الحاسم، أن ترتبط كذلك في مراحلها الأولى بالتجربة العلمية التي أدَّت أجلَّ الخدمات في تاريخ العلم. ففيثاغورس مثلًا ليس هو مؤسس التقليد المثالي فحسب، بل هو واحد من أعظم العلماء اليونانيين. وهو ليس رياضيًّا فحسب بل هو أحد العلماء التجريبيين، ومن خلال التجربة استطاع أن يكتشف أسس الهارموني في الموسيقى. ولقد لعب بعض تلاميذه دورًا تجريبيًّا هامًّا في علم التشريح مستخدمين منهج الملاحظة والتجربة؛ ولذا يبدو غريبًا أن تعرف المدرسة الفيثاغورية تاريخيًّا بأنها المدرسة المثالية.

والحقيقة أنه من الضروري أن نميِّز بين أمرين هامَّين: فيثاغورس نفسه وتلاميذ عصره، وهم مع اهتمامهم بدراسة الرياضيات ونزعتهم المثالية الواضحة في الفلسفة كانوا كذلك رجال تجريب اشتغلوا في مجالات مختلفة مثل علم الصوت والحيوان والطب؛ وبين المدرسة الفيثاغورية كما تطورت بعد ذلك، هذه المدرسة التي استقرت على النزعة المثالية فحسب وأهملت التجربة تمامًا بل وحقَّرت من شأنها.

لقد كانت الجماعة الفيثاغورية في منشئها رابطة أخوة دينية تهتم بممارسة الزهد ودراسة الرياضيات في عصر تميز بالهزيمة المؤقتة لليونانيين على يد الفرس، وكان مطلوبًا من كل عضو من أعضاء هذه الجماعة أن يحاسب ضميره بينه وبين نفسه. ويتميز الاتجاه الفيثاغوري بأنه وجد في الرياضيات مفتاحًا للغز هذا الكون وأداة لتنقية الروح. ومن المؤكد أن هذا هو الاتجاه الذي ساد المدرسة الفيثاغورية طيلة العصر اليوناني، بدليل أن بلوتارخ قال بوصفه من أنصار المدرسة الفيثاغورية.

إن وظيفة الهندسة هي إبعادنا عن المحسوس والفاني إلى المعقول والخالد. فتأمُّل الخالد هو غاية الفلسفة، كما أن تأمُّل الغوامض هو غاية الدين.١

وهكذا فإن الفيثاغوريين هم أصل الموقف الديني تجاه الرياضيات، وإن كانوا على الأقل في المرحلة الأولى من مدرستهم يحرصون على التطبيقات العملية للرياضيات، كما يتضح ذلك من تأثير هم على تخطيط المدن وتصميمها، وكما يتضح من حقيقة موقفهم القائم على أساس تقدير الفنون العملية واعتبارها جهودًا ذكية للتعاون مع الطبيعة لخير الناس وصالحهم. ومع: أن الفيثاغوريين الأوائل كانوا يعتبرون العدد المبدأ الأول للعالم، إلا أنهم كانوا يقولون بأن العدد يعبِّر عن قوته في كل الحرف والفنون كذلك.

ونحن لا نعرف على وجه القطع كم هو مقدار الرياضيات التي بها ندين لفيثاغورس شخصيًّا. فمن المؤكد أن نظريته عن المثلث القائم الزاوية كانت معروفة كقاعدة عملية عند المصريين القدماء. ولما كان فيثاغورس قد زار مصر قيل إنه أخذ منها أساس نظريته، كما أخذ منها فكرة تناسخ الأرواح. وسواء كان فيثاغورس هو الناقل أو المبتكر فإن الرابطة التي أقامتها مدرسته بين الرياضة والعلم والفلسفة لم تضِع بعد ذلك أبدًا.

لقد رأى فيثاغورس في الأعداد مفتاح فهم الكون؛ إذ ربط الأعداد بالهندسة مبينًا كيف أن المثلثات والمربعات يمكن تركيبها من نقط مرتبة ترتيبًا مناسبًا. ولما كان الخط المستقيم يتحدد تحديدًا كاملًا بنقطتين عليه، كما يتحدد المستوى بثلاث نقط، ويتحدد الحجم في الفراغ بأربع نقط، اتجه فيثاغورس إلى اعتبار الكون كامنًا في هذه الأعداد.

كذلك أدخل فيثاغورس القياس في الفيزياء؛ وبذلك ربط بين العدد وهذا العلم عندما اكتشف أن الأوتار التي تربطها علاقة تناسب طولي بسيط تُحدث أنغامًا ذات فترات موسيقية منظمة. وهذا بدوره أدَّى إلى ربط الهارموني في الموسيقى بالنِّسب العددية؛ وبالتالي بالأشكال الهندسية. وسنعود إلى هذه المسألة فيما بعد تفصيلًا.

الفيثاغوريون إذن يعيدون كل شيء إلى العدد، وكانوا يربطون بين الأعداد والأشكال الهندسية، أو في الحقيقة بين الحساب والهندسة؛ غير أنه كان للنقطة عندهم كيان، وللخط المستقيم عرض، وللسطوح عمق. وعندما تضاف النقط تصبح خطوطًا، وعندما تضاف الخطوط تصبح سطوحًا، وعندما تضاف السطوح تصبح حجومًا. وهكذا يمكن بناء العالم من الأعداد ۱، ٢، ٣، ٤؛ ولذا فليس غريبًا أن العدد عشرة — وهو مجموع هذه الأعداد — كأن قوة الهية جبارة. وينبني على هذا أن نظريتهم في الأعداد لم تكن بالنسبة لهم مسألة رياضية فحسب، ولم تكن فيزياء فحسب بل كانت دينًا كذلك.

وربما كان من المفيد، لتوضيح هذه المطابقة بين الأشياء والأعداد، أن تقدم الطريقة التي درس بها الفيثاغوريون هذه الأعداد (وهي ما يسمى بطريقة الأعداد المصورة)؛ فهم يمثِّلون الأعداد المثلثة هكذا.

والأعداد المربعة هكذا:

والأعداد المضلعة هكذا:

وهكذا حدثت المطابقة بين الأعداد والأشياء، وحدَّد هذا نظرتهم إلى الكون.

لقد قدَّم الفيثاغوريون بهذه النظرية للأعداد أسُس الفصل بين التكنيك والفلسفة، ونظرية الثبات وعدم التغير التي حبذت التأمل وعمقت من احتقار العمل اليدوي في مجتمع ازدادت فيه ظاهرة العبودية اتساعًا وانتشارًا وبدت الأيدي العاملة وكأنها تُغني عن الحاجة إلى الابتكار في الفنون والحرف، في مجتمع ران فيه الغم على القلوب واليأس على النفوس نتيجة هزيمة اليونانيين على يد الفرس. ومن هذه الزاوية فالمدرسة الفيثاغورية ردة على اتجاهات المدرسة الأيونية. لقد بدت الرياضة لهم وكأنها تقدِّم، لا تفسيرًا أسهل من تفسير الأيونيين للأشياء فحسب، بل هي تحتفظ بالروح بعيدة عن شوائب الاتصال بالأرض في عالم اشتدت تناقضاته وارتبطت فيه فكرة احتقار العمل اليدوي بانتشار العبودية.

ليس غريبًا إذن أن تأخذ الرياضيات هذا الطابع الديني، وأن يُعتبر الباحثون في هذا المجال حفظة سر إلهي لا يجوز إفشاؤه ويقدم هوجبن٢ أمثلة عديدة وطريفة في هذا الاتجاه؛ فقد قسم الفيثاغوريون أنفسهم إلى جمعيات سرية. ولقد قيل إن أحد تلاميذ المدرسة الفيثاغورية — وهو هيباسوس — مات غرقًا في الحمام لأنه أفشى سر اكتشاف جسم منتظم له اثنا عشر وجها يضاف إلى قائمة الأجسام المنتظمة المعروفة آنذاك.

وكان تلاميذ فيثاغورس يقيمون صلاة غريبة للأعداد السحرية ويخاطبون العدد أربعة قائلين: «باركْنا أيها العدد السماوي الذي خلق الآلهة والناس. أنت أيها الرباعي المقدس الذي يضم أصل ومنبع هذا الخلق المتدفق إلى الأبد.» وواضح أن سر هذه الأهمية الخاصة للعدد أربعة إنما يعود إلى أنه رمز الحجوم التي تقوم في الفضاء؛ أي إنه رمز الفضاء نفسه.

كان الفيثاغوريون يتمادون في عملية المناظرة بين الأعداد والأشياء التي في هذا العالم. فالأعداد الفردية مذكَّرة والأعداد الزوجية مؤنثة. والعدد واحد ليس عددًا في ذاته بل هو مصدر كل الأعداد؛ ولذا اتخذوه رمزًا للتعقل، والعددَ اثنين رمزًا للرأي، والعدد ثلاثة رمزًا للقدرة الجنسية (ربما لأن عدد أعضاء التناسل عند الذكر ثلاثة) والعدد أربعة رمزًا للعدل، والعدد خمسة رمزًا للزواج؛ لأنه يتكون من أول عدد مذكر (وهو العدد ٣) وأول عدد مؤنث (وهو العدد ٢).

وكان الفيثاغوريون يعتقدون أن أسرار الألوان تُعرف من صفات العدد خمسة، والبرودة من صفات العدد ستة، وسر الصحة في العدد سبعة، وسر الحب في العدد ثمانية (وهو حاصل العدد ٣ الذي يرمز للقدرة الجنسية إلى العدد خمسة الذي يرمز للزواج) وسر الأرض يستقر في المجسم السداسي، وسر النار في شكل الهرم، وسر السماوات في المجسم ذي الاثني عشر ووجهًا.

وعندهم أن من الأعداد البهي الكريم والكئيب المضجر. والأعداد التامة بهية وكريمة لأنها نادرة الوجود، أما الأعداد القبيحة الرديئة فكثيرة جدًّا. ويُعرف العدد التام بأنه الذي يقبل القسمة على أعداد صحيحة يكون مجموعها مساويًا للعدد التام نفسه. وأولها العدد ٦ وثانيها العدد ۲۸ (١ + ٢ + ٣ = ٦، ١ + ٢ + ٤ + ٧ + ١٤ = ٢٨). ولقد أمضى نيوماخوس الإسكندري المنتمي إلى المدرسة الفيثاغورية الحديثة وقتًا طويلًا حتى اهتدى إلى العددين التامين التاليين؛ وهما ٤٩٦، ۸۱٢٨، ثم بذل جهدًا خارقًا للحصول على العدد التام التالي (نحن نعرف اليوم أنه العدد ٣٣,٥٥٠,٣٣٦) فلم يوفَّق فاستاء من هذا كثيرًا.

والأعداد عند الفيثاغوريين هي أخلاق أيضًا. سئل فيثاغورس يوم عن تعريفه للصديق فقال: «صديقك من كان صورة منك مثل العددين ٢٢٠، ٢٨٤.» وتفسير ذلك أن الأعداد الصحيحة التي يقبل العدد ٢٨٤ القسمة عليها (وهي ١، ٢، ٤، ١٤٢) مجموعها ۲۲۰. والعكس صحيح أيضًا فالأعداد الصحيحة التي يقبل القسمة عليها مجموعها ٢٨٤.

وكل هذه الدراسات النصف غيبية النصف رياضية كانت ذات فائدة كبيرة في تطوير نظرية الأعداد بعد ذلك. وكما كانت دراسة الفيثاغوريين للمجسمات — وخصوصًا إثبات أنه لا يوجد من المجسمات ذات السطوح الخماسية غير المجسم الاثني عشر والمجسم العشرين — هي التمهيد الأول للنظرية الحديثة في Theory of Groups المجموعات كذلك كانت دراسة الفيثاغوريين للأعداد الأولية … إلخ، هي التمهيد الأول لنظرية الأعداد Teohry of Numbers والتامة، بمعناها الحديث.

والآن ننتقل إلى مساهمة المدرسة الفيثاغورية في علم الفلك. لقد كان فيثاغورس، على الأرجح، أول من فكَّر بأن الأرض كروية. ولكن أسبابه فيما يُظن كانت جمالية هندسية أكثر منها علمية. ومع ذلك فقد وجدت بسرعة الأسباب العلمية، فإن شكل ظل الأرض في حالات الكسوف القمري أعطى الفيثاغوريين أدلة حاسمة على كرويتها. بل لقد مضوا أبعد من ذلك فاعتبروا الأرض أحد الكواكب وليست مركز الكون. ويقال: إن تلاميذ فيثاغورس عرفوا منه أن نجوم الصباح ونجوم المساء هي نفس الشيء. كما اعتقدوا أن كل الكواكب بما في ذلك الأرض تتحرك في دوائر، لا حول الشمس وإنما حول نار مركزية افترضوا وجودها. لقد اكتشف الفيثاغوريون أن القمر يدير نفس الوجه للأرض، واعتقدوا بذلك أن الأرض دائمًا تدير نفس الوجه للنار المركزية. ولقد ظنوا أن مناطق البحر الأبيض تقع في وجه الأرض الذي لا يواجه النار المركزية، ولذا لا يرى اليونانيون هذه النار. وكان يُظن أن الشمس تشرق بفعل الضوء المنعكس من هذه النار. وبالإضافة إلى الأرض فثمة جسم افتراضي آخر هو الأرض المضادة «على نفس البعد من النار المركزية». ولقد دعم هذا الغرض عندهم سببان: أحدهما علمي، والثاني مشتقٌّ من صوفيتهم الرياضية. والسبب العلمي هو المشاهدة الصحيحة بأن خسوف القمر يحدث أحيانًا عندما تكون الشمس والقمر فوق الأفق. ونحن نعرف اليوم أن هذه الظاهرة تعود إلى الانكسار الضوئي الذي لم يكن معروفًا لديهم آنذاك؛ ولذا ظنوا أن الخسوف لا بد أن يكون نتيجة ظل جسم آخر غير الأرض، وهو ما سموه بالأرض المضادة. أما السبب الثاني المشتق من صوفيتهم الحسابية، فهو أن الأرض، والأرض المضادة، والنار المركزية، والشمس، والقمر، والكواكب الخمسة، تكوِّن أجسامًا سماوية عشرة، والعدد عشرة هو عدد صوفي عند الفيثاغوريين.

وتُنسب هذه النظرية الفيثاغورية في الفلك إلى فيلالاوس الذي عاش في آخر القرن الخامس قبل الميلاد. وعلى الرغم من أنها نظرية خيالية وغير علمية جزئيًّا، فإنها هامة تمامًا؛ إذ إنها تتضمَّن الجزء الأكبر من الجهد التصوري اللازم لفهم الفرض الكوبرنيكي.

ولم ينسَ الفيثاغوريون نظرتهم الهندسية والعددية وهم يبحثون في علم الفلك. ولقد قدمنا كيف أن فرضهم عن النار المركزية والأرض المضادة مشتق من نظرتهم الصوفية إلى العدد عشرة. ولقد كانوا متأثرين أيضًا في الفلك بالهندسة عندما قرروا أن الأجسام الثانوية هي كرات كاملة تامة بالمعنى الرياضي، وأنها تتحرك في دوائر تامة. ثم تمادوا إلى أبعد من ذلك إذ افترضوا أن بُعد الأجسام السماوية عن النار المركزية تناظر أطوال النوتة في السلم الموسيقي.

لقد ذهبت إذن أنابيب نار أنكسماندرس إلى غير رجعة، وحلَّ محلها فلك هندسي بحت يستهدف تحديد وضع الأجسام السماوية المقدسة عند الفيثاغوريين. ومع إيجابية هذا الفلكي الفيثاغوري في المراحل الأولى إلا أن بطليموس قد استفاد مع الأسف بالجانب غير العلمي في هذه النظرية فحوَّلها إلى نظامه المعقَّد المشهور الذي لم يهاجم جديًّا حتى القرن السادس عشر الميلادي. ولقد كانت أعمال نيوتن القائمة على أساس إدخال مفهوم القوة لتفسير حركة الكواكب ضربة شديدة لنظام بطليموس ونفيًا واضحًا لها. غير أن من الغريب أن النظرية النسبية لأينشتين جاءت في القرن العشرين مستبعدةً مفهوم القوة بالمعنى النيوتوني ومقدمة علم الفلك في صورة هندسية.

وعلى الرغم من أن الفيثاغوريين قد بعدوا في الفيزياء والفلك بشكل عام عن الوقائع بإحلالهم صوفية العدد محل المعرفة التجريبية، فإن هذا لم يمنع المدرسة الفيثاغورية في أولى مراحلها على وجه الخصوص من اللجوء إلى التجريب المباشر في بعض الأحيان كما هو الحال في الموسيقى والطب. وأقرب مثال على ذلك هو قصة «فيثاغورس» نفسه من الموسيقى، وهي، وهي قصة يرويها بيوثيوس Boethius في القرن السادس بعد الميلاد، ويميل المؤرخون إلى تصديقها؛ فقد مرَّ فيثاغورس على دكان حداد يومًا وسمع أصوات المطارق وهي تنهال على السندان. وظن فيثاغورس أولًا أن اختلاف الأصوات يتناسب مع قوة الرجال، فطلب منهم تبادل المطارق فلم تتغير الأصوات. واستنتج فيثاغورس من ذلك أن التفسير ينبغي أن يبحث في المطارق ذاتها، ووزن فيثاغورس المطارق الخمسة فوجد أن وزن أربعة منها هي ۱۲، ۹، ۸، ٦. أما الخامس الذي كان يُفسد النغم فلم تكن له أي علاقة عددية بالمطارق الأخرى. وبهذا استنتج فيثاغورس أن النغم يتحقق عندما تكون العلاقة بين المطارق هي علاقة الوسط الحسابي أو الوسط التوافقي. يقال: إن ﺟ هو الوسط الحسابي للمقدارين أ، ب إذا كان ﺟ = ب + ا / ٢، ويقال: إن ﺟ هو الوسط التوافقي للمقدارين أ، ب إذا كان ١ / ب + ١ / ا = ٢ / ﺟ واضح هنا أن العدد ٩ هو الوسط الحسابي للعددين ١٢، ٦، وواضح أيضًا أن العدد ٨ هو الوسط التوافقي للعددين ۱۲، ٦، ويمكن للقارئ أن يتحقق من هذا بسهولة. ولقد أسرع فيثاغورس إلى منزله حيث أجرى تجارب جديدة على أوتار مهتزة فوجد أن النوتة المعطاة تتناسب مع أطوال الأوتار.
وأخيرًا يجدر بنا أن نشير إلى أبحاث ألكمون Alcamaeon أحد تلاميذ فيثاغورس، الذي حاول أن يبرز الأساس الطبيعي لخبرة الحواس، فوضع بذلك أساس علم وظائف الأعضاء؛ فقد قام بتشريح العديد من الحيوانات حية وميتة. واكتشف ضمن أشياء عديدة العصب البصري، وانتهى إلى النتيجة الصحيحة بأن المخ هو الجهاز المركزي للحواس كما أعطى وصفًا دقيقًا للسان.

أزمة الفيثاغوريين

في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أصيبت المدرسة الفيثاغورية بصدمة علمية أدَّت في النهاية إلى انهيارها؛ إذ أصابت هذه الأزمة صميم موقف الفيثاغوريين من الأعداد. لقد تصور الفيثاغوريون النقطة باعتبارها نقطة ذات كيان، ذات مقدار؛ ولذا فمن الطبيعي أن يكون عدد النقط في الخط المستقيم محدودًا، وهذا ما افترضه الفيثاغوريون حتى وإن لم تكن لديهم فكرة واضحة عن هذا العدد بالضبط. وينبني على هذه الفكرة بالذات الربط الوثيق بين الحساب والهندسة؛ فلكل خط مستقيم عدد صحيح يرتبط به (هو عدد النقط المكونة له)؛ وهو ما نعبِّر عنه بطول هذا الخط المستقيم. ومعنى هذا أن النسبة بين طول الوتر وطول ضلع المثلث في المثلث القائم الزاوية ا ب / ا ﺟ لا بد أن يكون نسبة بين عددين صحيحين؛

أي كسر اعتيادي، وهو ما نعبِّر عنه بالعدد النسبي؛ فالعدد النسبي إذن هو ما يمكن التعبير عنه على صورة م / ن حيث م، ن أعداد صحيحة.

ولكن إذا فرضنا مع الفيثاغوريين أن لدينا مثلثًا قائم الزاوية فيه ضلعان متساويان؛ أي ا ﺟ = ب ﺟ، فوفقًا لنظرية فيثاغورس في المثلث القائم الزاوية يكون:

وإذا اعتبرنا أن طول ا ﺟ هو وحدة القياس فمعنى ذلك أن:

ومن هنا كان من الطبيعي أن يتساءل الفيثاغوريون عن طول ا ب، النسبي الذي إذا رُبِّع أعطانا ٢. ولقد بُذلت جهود ضخمة للحصول على هذا العدد. وفي النهاية بدت الكارثة عندما اكتشف الفيثاغوريون ببرهان جبري بسيط أن هذا العدد العقلي غير موجود!

ويعنينا هنا أن نقدم هذا البرهان؛ إذ إن فهم هذه المسألة هو الجزء الأساسي من أزمة الفيثاغوريين.

نفرض جدلًا أن جذر العدد ٢ يمكن التعبير عنه في صورة عدد نسبي م / ن حيث م، ن أعداد صحيحة. وسنفترض أنه لا توجد بين م، ن أي عوامل مشتركة. فإن وُجدت يمكن اختصارها قبل بدء البرهان.

م /  ن =
وبتربيع الطرفين نجد أن: م٢٢ = ٢
أي إن م٢ = ٢ ن٢ (١)

ومعنى هذا أن م ۲ عدد زوجي؛ إذ إنه ضعف عدد صحيح. وإذا كانت م ۲ عدد زوجي، فلا بد أن م نفسه عدد زوجي كذلك. لنفرض إذن أن م = ٢ ك حيث ك عدد صحيح بالتعويض عن م في المعادلة (۱) نجد أن:

٤ ك٢ = ٢ ن٢
أي إن ن٢ = ٢ ك٢
ومعنى هذا أن ن٢ عدد زوجي؛ لأنه ضعف عدد صحيح ويترتب على هذا أن ن نفسه عدد زوجي أيضًا.

وبهذا أثبتنا أن كلًّا من م، ن عدد زوجي؛ أي إنه يوجد عامل مشترك بينهما. وهذا يناقض الفرض الذي بدأنا به وهو أنه لا توجد عوامل مشتركة بين م، ن.

هكذا يمكن أن نرى أنه لا يمكن وضع في صورة عدد نسبي؛ وبالتالي فلا يوجد عدد نسبي إذا ضُرب في نفسه أعطانا العدد ٢. ومن هنا كانت تسمية بالعدد اللاعقلي،   Irrational Number، وهي تسمية تُنسب أصلًا إلى الفيثاغوريين.

ولقد كان أمام الفيثاغوريين أحد طريقين للخروج من هذا المأزق: فإما أن تكون فكرة القياس غير حقيقية، أو أن يوسع مفهوم العدد ليتضمَّن الأعداد غير العقلية. ولقد اتجه الفيثاغوريون إلى قبول الحل الأول، وعمَّق هذا من مثالية المدرسة الفيثاغورية التي أعطت بذلك مدرسة بارمتيدس الإيطالية أسلحتها الحاسمة في الهجوم على العالم المادي. ومن الناحية الرياضية البحتة كان من الطبيعي أن تؤدِّي هذه الأزمة وطريقتهم للخروج منها إلى إبعاد فكرة القياس عن الهندسة، والبحث عن براهين مستقلة للنظريات الهندسية؛ أي إلى العزل بين الحساب والهندسة والاكتفاء بدراسة الهندسة من الناحية الوصفية العامة أو بحث قضية العلاقات العامة بين الحجوم. أما أن يكون الحساب هو الخيط العام الذي يربط دراسة الهندسة، فقد أُقفل هذا الباب الخصب مؤقتًا، ولم يُفتح إلا على يد ديكارت في القرن السابع عشر عندما بدأت دراسة المدرسة الجبرية الحديثة.

وهذه النتيجة في حدِّ ذاتها كان لها أسوأ الأثر على تقدُّم علم الجبر. وكل المؤرخين لتاريخ العلم اليوناني يدهشهم دائمًا تعثر علم الجبر في الحضارة اليونانية وضآلة التقدُّم الذي تم على يد ديوفانتس في مرحلة متأخرة جدًّا، على الرغم من الإنجازات المدهشة التي تمت في فرع الهندسة. والحقيقة أن لهذا التخلف في علم الجبر أسبابًا عديدة، منها افتقار لغة رمزية رياضية يستحيل تقدُّم علم الجبر بدونها، ومنها أيضًا الأزمة الفيثاغورية التي أدَّت إلى عزل علم الجبر عن أحد منابعه الخصبة ونعني بذلك الهندسة.

ومن الطبيعي أن يتساءل المرء: لماذا اتجه الفيثاغوريون إلى الحل الأول للخروج من المأزق ولم يتجهوا إلى الحل الثاني؟ يبدو السبب يكمن في حقيقة إدراكهم أن قبول الحل الثاني كان يتضمَّن في حقيقة الأمر التخلي عن فكرة العدد المحدود من النقط في الخط، وقبول أن كل خط مستقيم محدود يتضمَّن في داخله عددًا لانهائيًّا من النقط، بشرط أن نقبل الفرض الإقليدي عن النقطة التي تُعرَّف بأنها تشغل موقعًا في الخط ولا تشغل حجمًا.

ولما كان هذا يعني انهيار النظام الفيثاغوري بأكمله، كان من الطبيعي أن يبتعد الفيثاغوريون عن الحل الثاني. ولسنا هنا في مجال لومهم؛ إذ من السذاجة أن نظن أن الغرض الإقليدي عن النقطة قد أنهى هذه المسألة. فنحن نعرف أن أزمات رياضية عدة قد ثارت بعد ذلك وكانت مترتبة على هذا التعريف. ونحن نشير على وجه الخصوص إلى المفارقات التي أثارها كانتور Cantor الأزمنة الحديثة حول ما يترتب على هذا التعريف من أن جزء اللانهاية يساوي كل اللانهاية. ولقد أثارت هذه المفارقات أبحاثًا رياضية خصبة لا مجال للتعرض لها هنا.

تقييم الفيثاغوريين

كيف يمكن أن نقيِّم المدرسة الفيثاغورية إذن بشكل عام؟ لقد كان لهذه المدرسة من الناحية الفلسفية أسوأ الآثار بإقحام الغيبية في العلم، وإحلال صوفية العدد محل المنهج التجريبي. إن الجانب الصوفي في الفيثاغورية يربطها بأسرار النحلة الأورفية، وهي من بقايا سحر المجتمع القديم، والتي أصبحت وسيلة للهرب من الواقع القاسي المر لعصر الحديد، في الفترة إلى تميزت بهزيمة اليونانيين على يد الفرس وانتشار العبودية بشكل بدا كأنه ظاهرة أبدية. وعندما يرين اليأس على النفوس يهرب الناس من الواقع ويبحثون عن عزاء خارج هذا الواقع. ولقد نادى الفيثاغوريون بفكرة تناسخ الأرواح، وهدف العبادة عندهم هو الهرب من دورة الحلول في جسد آخر عن طريق خبرات صوفية عامة، وعن طريق التأمل الصوفي والإنسان في حالة الوجد.

ولقد أدخل الفيثاغوريون فكرة التطهر من خلال المعرفة البحتة الناجمة من التأمل السلبي. وأغراهم بهذا بحثهم في الهندسة، واكتشافاتهم التي بدت لحظة ظهورها وكأنها لا صلة لها بعالم الواقع، بل وكأنها نوع من الكشف الصوفي. ومن هنا تبدو خطورة المنهج الرياضي وحده. فالمعرفة الرياضية تبدو أكيدة ودقيقة ونموذجية وصالحة للتطبيق في العالم الواقعي. والأخطر من ذلك أنها تبدو وكأن الإنسان يحصل عليها بالفكر المجرد، بالتأمل السلبي، دون حاجة إلى المشاهدة أو الملاحظة التجريبية؛ ولذا ظُن أنها تقدِّم مثالًا يسمو على المعرفة التجريبية. وعلى هذا الأساس فالفكر أسمى من الحدس، والحدس أثمن من المشاهدة، وإذا كان عالم الحواس لا يتلاءم دائمًا مع المعرفة الرياضية، فهذا عيب عالم الحواس لا عالم الرياضيات.

ولقد عبر أفلاطون بعد ذلك عن هذه الفكرة خير تعبير عندما قال: إن رواد الألعاب الأولمبية يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أنواع: الذين يذهبون للشراء والبيع، والمتنافسون، والنظارة. وهو يعتبر أن النوع الأخير أرقى من النوعين الآخرين، وهذه الفكرة عن العلم البحت كعملية تأمل قد عاشت حتى اليوم في عصرنا.

ومن هذه الزاوية يمكن القول إن المدرسة الفيثاغورية قد وجهت ضربات عنيفة للمنهج العلمي، حتى ولو كان ذلك قد صدر في زمن متأخر عن فترة حياة فيثاغورس نفسه.

على أن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من تأكيد الجانب الإيجابي في المدرسة الفيثاغورية؛ ونعني به النتائج الفعلية التي حققوها في علوم الرياضيات بما في ذلك نظرية فيثاغورس نفسه من المثلث القائم الزاوية، ونظريتهم الرياضية في علم الصوت وأبحاثهم في نظرية الأعداد المثلثية التي لعبت دورًا هامًّا في نظرية الاحتمالات على يد باسكال في القرن السابع عشر الميلادي، وأخيرًا دراساتهم في الحجوم المنتظمة التي مهدت لنظرية المجموعات الحديثة، وفي جمع المتسلسلات بأنواعها المختلفة؛ تلك الأبحاث التي طرحت قضية جمع المتسلسلات حتى وإن لم يفلحوا في حلها.

وبالإضافة إلى ذلك أسَّس الفيثاغوريون إمكانية تناول الكميات الطبيعية باختزالها إلى عددٍ وقياس، كما هو واضح من دراستهم لعلم الصوت. وهي طريقة عامة قدمت وما تزال تقدِّم وسيلة متصلة لتوسيع دائرة سيطرة الإنسان على الطبيعة، على الرغم من أنها طُبِّقت خارج نطاقها السليم.

ولقد أسَّس الفيثاغويون طريقة البرهان الرياضي بالاستنباط Deduction ابتداءً من مصادرات Postulates معينة: ونحن نعتبر أن هذا المنهج هو أشد وسائل تعميم الخبرة قوة، وبقدر ما هو قيِّم في الرياضيات، إلا أنه استُخدم منذ ذلك الحين في خدمة الفلسفة المثالية لبرهنة سخافات ملموسة ابتداءً من مصادرات واضحة. والحقيقة أن الفيثاغوريين باشتغالهم بالبرهان الهندسي قد وضعوا اللبنات الأولى للمنطق الشكلي Formal Logic الذي صاغ أرسطو بعد ذلك قوانينه الأساسية. وعلى الرغم من أننا سنتعرض للمنطق الشكلي في حينه عند تناول أرسطو، فإنه يعنينا هنا أن نؤكد أمرين:
  • أولًا: أن المنطق الشكلي يستبعد فكرة التناقض من المنهج الرياضي. ولذا فهو يقوم على معاداة مفهوم التناقض الذي هو السمة الأساسية في المنطق الجدلي Dialectical Logic ويُعبر المنطق الشكلي عن هذا في المبدأ الثالث المرفوع؛ وهو المبدأ الذي يؤكد أن الشيء إما هو أو نقيضه. فالخط المستقيم إما يوازي مستقيمًا آخر أو يقطعه، والمثلث إما أن يكون قائم الزاوية أو غير قائمها … إلخ. ويُعرف هذا المبدأ أحيانًا بمبدأ «إما … أو».
  • ثانيًا: أن المدرسة الرياضية قد حاولت أن تدفع بكافة التناقضات القائمة في المفاهيم إلى نقطة البدء؛ أي إلى الأوليات Axioms التي تبدأ منها، والتعريفات كذلك.
والفيثاغوريون — بالقضايا التي طرحوها — لم يلعبوا دورًا هامًّا في تأسيس المنطق الشكلي فحسب؛ ذلك المنطق الذي اعتمدت عليه العلوم الرياضية مدة طويلة ولا سيما الهندسة. بل إنهم لعبوا دورًا هامًّا — حتى ولو لم يحسوا ذلك — في إدخال المنطق الجدلي في الرياضيات؛ ذلك المنطق الذي هو في صلب الرياضيات الحديثة، فنحن نعرف اليوم أن الخط المستقيم محدود وغير محدود في آنٍ واحد، ولا يزعجنا هذا التناقض، والعدد اللاعقلي يعرف اليوم بدلالة الأعداد العقلية، ولا يزعجنا هذا أيضًا. إن الفيثاغوريين لم يدركوا خصوبة القضية التي أثاروها من زاوية أن الخط المستقيم محدود طولًا أي قياسًا وغير محدود من ناحية عدد النقط المكونة له. والغريب أنهم عندما أرادوا تحديد القيم التقريبية ؛ لجئوا إلى طريقة هي في صميمها تعريف للعدد غير العقلي بدلالة الأعداد العقلية. وهذه الطريقة هي: ابدأ بالرقمين (۱، ۱) ومنهما تكون المجموعة (۲، ۳)، والعدد الأول يتكون بإضافة ١ إلى ١، والعدد الثاني يتكون من ضعف العدد الأول في القوس الأول مضافًا إليه العدد الثاني نفسه. وبهذه الطريقة نفسها تكون المجموعة الثالثة (٥، ۷) من المجموعة الثانية. وبالاستمرار في هذه الطريقة تحصل على المجموعات المتوالية الآتية.

(۱، ۱)، (۲، ۳)، (٥، ۷)، (۱۲، ۱۷)، (۲۹، ٤۱)، (۷۰، ٩٩) … إلخ.

فإذا افترضنا أن العدد الأول في أي مجموعة هو ا والعدد الثاني هو ب نجد أنه في كل المجاميع بدون استثناء.

ولما كانت ا تزيد باستمرار فمن الواضح أن ١ / ا٢ يقترب بسرعة من الصفر؛ أي إن ب۲۲ لا يقترب بسرعة من الرقم ٢.
وهكذا فإن ب / ا يقترب بسرعة من . ويمكن التحقق مثلًا أن ٩٩ / ٧٥ قريب جدًّا من . ومعنى هذا أن العدد غير العقلي يعرف من خلال اقتراب أعداد عقلية (٣ / ٢، ٧ / ٥، ١٧ / ١٢، ٤١ / ٢٩، ٩٩ / ٧٠ … إلخ) منه.

أي إن المتوالية ٣ / ٢، ٧ / ٥، ١٧ / ١٢، ٤١ / ٢٩، ٩٩ / ٧٠ … إلخ تحمل في داخلها وجهين متناقضين: العدد العقلي، والعدد غير العقلي معًا.

ولقد لجأ أرشميدس بعد ذلك بقرون إلى براهين — عندما بحث قضية علاقة حجم الكرة بالأسطوانة — تتسم بأفكار مشابهة وتحمل في طيَّاتها في حقيقة الأمر صفة قيامها على قاعدة وجهي التناقض. وسنعرض لذلك عندما نتحدث عن أرشميدس فيما بعد.

١  راجع فارنجتون: «العلم عند اليونان».
٢  هوجبن: «الرياضة للمليون»، الجزء الأول.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥