بارمنيدس
لقد بدأ التمييز بين العقل والحواس في الظهور على يد المدرسة الأيونية ذات الفلسفة الطبيعية، فقد كان عمل هذه المدرسة يتضمَّن عنصرين في الحقيقة: عنصر الملاحظة، وعنصر الفكر. ومن الطبيعي أن تحتاج هذه المدرسة لتفسير ظواهر الحواس إلى ابتكار نظام من الأفكار المجردة مهما بدت هذه الأفكار قريبة من الواقع كفكرة الصلابة أو السيولة والتكثيف أو التبخير، وفكرة الثقل إلى آخره. وفي بعض الأحيان تكون الحواس خادعة؛ ولذا يلزم إعمال الفكر لضمان اتزان أحكامنا من خلال الحواس. ولقد كان هيراقليطس أول من عبَّر عن الوعي بهذه الحقيقة بقوله: «العيون من من والآذان شهود سيئة للناس إذا لم يستطع العقل تفسير ما تقول.»
من هذا التمييز كان من الطبيعي أن ينشأ الخلاف حول أيهما — العقل أم الحواس — هو الطريق إلى فهم الطبيعة دون أن يخطر على بال الكثيرين أن الجمع بين كليهما ضروري إذا أردنا هذا الفهم. ولقد قدمنا أن الفيثاغوريين الأوائل لعبوا دورًا واضحًا في وضع أسس الفسيولوجيا التجريبية، وانتهوا بالتجربة إلى اكتشاف العصب البصري وإدراك أن المخ هو الجهاز المركزي للحواس. وإلى منجزات الفيثاغوريين الأوائل في هذا الميدان وجِّهت نيران نقد الفلاسفة الذين اعتقدوا في البحث عن الحقيقة بالفكر البحت بعيدًا عن أدلة الحواس.
ولقد قاد هذا الهجوم مؤسِّس المدرسة الإيطالية بارمنيدس (من مدينة إيلي من جنوب إيطاليا) الذي كتب بالشعر كتابين: «طريق الصدق»، «وطريق الرأي». وفي الكتاب الأول قدم طبيعة الواقع باعتبار أنها مؤسسة على الفكر تأسيسًا كاملًا، وفي الكتاب الثاني عرف النظام الفيثاغوري الذي يدافع عن الملاحظة والمشاهدة ورفضه.
ولقد كان من الطبيعي أن يتعرض هيراقليطس لهجوم حاد من هذه المدرسة. فهو يقول: إن كل شيء يتغير، وبارمنيدس يقول: كل شيء لا يتغير. وهيراقليطس يقول: الحكمة ليست إلا فهم الطريقة التي يعمل بها الكون، وبارمنيدس يقول: إن الكون في الحقيقة لا يعمل على الإطلاق ولكنه ثابت تمامًا. أما الحركة والتغير والتنوع التي تبدو للحواس فهي ليست إلا أوهامًا.
لم يكن عند بارمنيدس دليل حتى يكون موقفه مقنعًا لغيره من الناس، ولا كان من الممكن أن يعتمد على الاتصال المستمر بالواقع للحصول على دليل ينفعه؛ غير أنه كانت لديه حجة بدت منطقية في وقت كان المنطق الشكلي قد بدأ يثبت أقدامه ويكسب احترامًا. والحقيقة أن حجة بارمنيدس (ومن بعده تلميذه زينون الإيلي الذي قدم المفارقات الشهيرة) قد لعبت دورًا هامًّا في تأسيس المنطق الشكلي، وأثارت أبحاثًا خصبة في الفلسفة والرياضيات والفيزياء.
لقد بدأ بارمنيدس بفكرتين عامتين متناقضتين: الوجود واللاوجود، ما هو موجود وما هو غير موجود. وهاتان الفكرتان تشملان كل ما يحدث في الكون. ثم قدم بارمنيدس قضيتين بسيطتين: ما هو موجود موجود، وما هو غير موجود غير موجود. وإذا قُبلت هاتان القضيتان فمن المستحيل أن نُدخل التغير والحركة أو التنوع في الكون. فالكون لا يمكن أن يقبل التغير ما لم يُخلط بشيء آخر: اللاوجود. ولما كان اللاوجود غير موجود، فليس هنالك في الوجود غير الملاء الكامل.
لقد قدم بارمنيدس مبدأ «إما … أو» الذي لعب دورًا بارزًا في صياغة المنطق الشكلي بعد ذلك، والذي قامت على أساسه كل الهندسة الإقليدية. فالمثلث إما أن يكون قائم الزاوية أو غير قائمها، والخط المستقيم إما أن يوازي مستقيمًا آخر أو يقطعه، والعدد إما أن يكون عقليًّا أو لا عقلي … إلخ. وهذا المبدأ في المنطق الشكلي هو المعروف بالمبدأ الثالث المرفوع.
وهذا المبدأ الأخير في المنطق الشكلي الذي لعب دورًا خصبًا في البناء الداخلي للرياضيات لا يمكن أن يصلح كنقطة بدء في فهم العالم الخارجي. وإذا أردنا تفسير التغير كان من الضروري أن نعترف بأن الشيء يمكن أن يكون هو ونقيضه في نفس الوقت؛ أي أن نعترف بالمنطق الجدلي.
وعلامَ يمكن أن نؤسس اعتراضنا على حجة بارمنيدس؟ لا شيء سوى مناقضتها لكل خبرة؛ فهي منهج في التفكير يرفض الاتصال المستمر بالواقع. ومن هنا كان تحذيره الدائم من الاعتماد على الأذن أو العين أو اللسان. وهكذا يجد الفكر عند بارمنيدس نفسه في تناقض مع الفعل؛ أي مع الحياة. ولهذا رأى الكثيرون أن مدرسة بارمنيدس تعبِّر عن مرحلة جديدة من فصل الفلسفة عن جذورها الحقيقية في الحياة العملية.
إن القول بأن العالم المادي الظاهر المليء بالحركة لا بد أن يكون وهمًا، ليس إلا تعبيرًا واضحًا عن الفكر المثالي المتطرف الذي كان بمثابة احتجاج صارخ على ما فعلته الفلسفة الأيونية عندما طردت الآلهة اليونانية من الطبيعة. وفضلًا عن ذلك فمن خلال تبنِّيها لفكرة الأحادية الثابتة دافعت هذه الفلسفة في الحقيقة عن حق أقلية اجتماعية تحكم بالحق الإلهي.
ولقد تلقف هيجل منطق بارمنيدس ودحض براهينه، بإبراز أن فكرة الوجود المناقضة لفكرة العدم تؤدِّي إلى فكرة الصيرورة. غير أن هيجل قصر الدياليكتيك على عمليات الفكر فحسب دون اعتراف بالعالم الخارجي كشيء موضوعي.
إن أفكار بارمنيدس المؤسَّسة على المنطق الشكلي قد أدَّت إلى قبول فكرة الملاء الكامل في الكون؛ أي إلى رفض الفراغ في الفيزياء. ولقد كان لهذا الموقف الذي أكده أرسطو بعد ذلك أسوأ الأثر على تطوُّر علم الفيزياء، وكان على البشرية أن تنتظر القرن السابع العشر الميلادي حتى يثبت تورشلِّي بتجربته المشهورة وجود «الفراغ».
مفارقات زينون الإيلي
ولو كان المكان متصلًا؛ فالعدَّاء لا يمكن أن يصل إلى هدفه أبدًا؛ فإذا كان في منتصف المسافة، فسيستغرق زمنًا ما لقطع نصف المسافة الباقية، وإذا كان في نصف المسافة الباقية، فسيستغرق زمنًا لقطع نصف نصف المسافة الباقية، وهكذا إلى ما لا نهاية.
ولنبحث الآن بشيءٍ من التفصيل قضيتَي السهم والعدَّاء.
تقوم حجة زينون في مسألة السهم على أنه لمَّا كان السهم ببساطة في كل لحظة حيث هو، فلذا فهو دائمًا في حالة سكون. وبالطبع يمكن الرد على هذه الحجة بالقول بأن السهم حيث هو في لحظة معينة، ولكنه في مكان آخر في لحظة أخرى، وهذا بالدقة ما يكون الحركة؛ غير أن القضية ليست بهذه السهولة؛ فالحقيقة وراء منطق زينون افتراض الانفصال في المكان، وهذا الانفصال يعني أن هناك نقطة ونقطة تالية لها. وفي هذا المفهوم بالدقة يكمن خطأ زينون. وإذا تجنبنا افتراض أن الحركة أيضًا غير متصلة، أمكننا تجنُّب مشكلات زينون، ويمكن أن نمثل مفهوم الحركة المتصلة بالشريط السينمائي حيث يوجد عدد لانهائي من الصور وحيث لا توجد أبدًا صورة تالية؛ لأن عددًا لانهائيًّا من الصور يأتي بين أي صورتين.
وكذلك نفس الشيء بالنسبة لمفهوم المكان. فلا توجد لكل مستقيم نقطة تالية لها أبدًا؛ لأنه بين أي نقطتين على الخط المستقيم يوجد عدد لانهائي من النقط. وقد يبدو هذا القول صعب القبول في مبدأ الأمر، إلا أنه اليوم أساس كل الإنجازات العظيمة في التحليل الرياضي الحديث.
والآن ننتقل إلى قضية العدَّاء، أو قضية «أخيل والسلحفاة» كما هي معروفة تاريخيًّا. وقد يكون من المفيد أن نقدم مثالًا عدديًّا لتوضيح فكرة زينون.
سنفترض للتبسيط أن أخيل، في سباقه مع السلحفاة يجري بسرعة تساوي عشرة أمثال سرعتها، وسنفترض كذلك أن السلحفاة تبدأ السباق مع أخيل وهي متقدِّمة عنه بمسافة مائة ياردة مثلًا.
يحاول زينون أن يثبت أن أخيل لن يلحق بالسلحفاة أبدًا بمنطق على هذا النحو: إذا جرى أخيل مائة ياردة فسيصل إلى نقطة بدء السلحفاة، وفي هذه الأثناء تقطع السلحفاة عُشر المسافة التي قطعها أخيل؛ أي تسبقه بعشر ياردات.
ويجري أخيل هذه الياردات العشر، وفي أثناء ذلك تجري السلحفاة عشرها؛ أي تسبق أخيل بياردة واحدة. فيجري أخيل هذه الياردة، وفي نفس الوقت تقطع السلحفاة عُشر ياردة، أي تسبق أخيل بعُشر ياردة. فيجري أخيل هذه العُشر ياردة، وفي أثناء ذلك تقطع السلحفاة عُشر عُشر الباردة، فتسبق أخيل بمسافة جزء من مائة جزء من الياردة. وهكذا إلى ما لا نهاية.
ولهذا أراد زينون أن يثبت أن أخيل يقترب تدريجيًّا من السلحفاة، ولكنه لا يصل إليها أبدًا.
ومن الطبيعي أن اليونانيين، بما في ذلك زينون نفسه، كانوا يدركون أن أخيل قد سبق السلحفاة فعلًا. ولكن الذي حيَّرهم هو أين المغالطة في هذا المنطق؟
لقد عقد المشكلة لدى اليونانيين أنهم لم تكن لديهم لغة رمزية رياضية، ولا رموز عشرية للأعداد كما هو الحال لدينا اليوم، ولو كانت لديهم هذه اللغة الرمزية لسهلت عملية كشف المغالطة؛ غير أن القضية في جوهرها ليست قضية رموز.
لقد كان اليونانيون يعرفون الحقيقة الصحيحة؛ أنه إذا تراكمت أعداد كبيرة على أعداد أكبر منها فإن الكوم الناتج يستمر في التزايد بسرعة بدون نهاية ما دمنا نستمر في الإضافة أبدًا. وقياسًا على ذلك ظن معاصرو زينون أنه في إمكاننا أيضًا إضافة كميات أصغر فأصغر بلا نهاية أيضًا، وأن الفرق الوحيد هو أن التزايد اللانهائي في الحالة الثانية سيكون أبطأ منه في الحالة الأولى، وفي هذه النقطة بالذات تكمن مغالطة زينون.
ولنبدأ الآن في التعبير بصورة جبرية عن مجموع المسافة التي يقطعها أخيل حتى يلحق بالسلحفاة من الواضح أنها (بالياردات): ١٠ + ١ + ١ / ١٠ + ١ / ١٠٠ + ١ / ١٠٠٠م + ١ / ١٠٠٠٠ + … وهكذا إلى ما لا نهاية.
ومن زاوية أخرى يمكننا أن نصل إلى نفس النتيجة بقولنا إن أي مسافة محدودة الطول يمكننا تقسيمها إلى عدد لانهائي من الأقسام الصغيرة جدًّا، وأن المغالطة تحدث عندما ندَّعي أن عدد هذه الأقسام هو نفسه طول المسافة المحدودة الطول. ونفس الشي ء يمكن أن يطبق على الزمن المحدود بين لحظتين معينتين، الذي يمكن تقسيمه إلى عدد لانهائي من المراحل الزمنية الصغيرة جدًّا. وفي هذه الحالة تحدث المغالطة عندما نخلط بين الزمن المحدود وعدد أقسامه اللانهائية.
وهذه القضية تُعتبر من أهم مجالات البحث في الرياضيات الحديثة، وعلى وجه الخصوص في فروع التحليل الرياضي الحديث، وهي من نوع المشاكل التي يتكرر ظهورها باستمرار في كافة علوم الرياضة التطبيقية كالميكانيكا والإحصاء والفلك … إلخ.